مأساة يغود الجزء الأول : القبيلة، الدولة والثورة


امال الحسين
الحوار المتمدن - العدد: 6527 - 2020 / 4 / 2 - 12:53
المحور: الادب والفن     

تاريخ يغود، إنسان المغرب الأول، منذ مئات آلاف السنين، لا تسعنا في كتابته مجلدات ومجلدات، تشكل فيه حياة مولود، أحد أشكال نتاجه، تعبير عن تجسيد حياة يغود، بشكل من الأشكال. في كل واحد منا، بداخله جزء منه، قليلا كان أم كثيرا، من مأساته، طموحاته، امتداداته، في الزمان والمكان، في حياة كل منا، حيث نشكل نتاج ظهوره. يغود الإنسان، مازال يسافر فينا، عبر الزمان والمكان، كل منا يحمل جزءا منه، عبر أطوار تاريخه، حركته، سيرته الذاتية.
فكرة كتابة سيرة مولود العميقة، راودت المؤلف، منذ مدة طويلة، تحولت إلى مادة، عبر سنوات من عناء السفر بعيدا، في الزمان والمكان، في بلاد يغود، تاريخه، في نقد مادي تاريخي، في عدد من أبحاث ودراسات سياسية، اقتصادية، اجتماعية، وثقافية، تم نشرها.
تطلب ذلك، الغوص في تاريخ المجتمع المغربي وطبيعته، الواقع الموضوعي، الطبيعة الاجتماعية، التي احتضنت مولود، تناقضاتها، في علاقتها بالحركة الاجتماعية بالمغرب.
البحث في حياة مولود، في علاقتها بعائلته، مجتمعه، الأحداث التاريخية، السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، والثقافية التي أطرت زمانه، خلال طفولته، شبابه، كهولته، في علاقته بأسرته التي أسسها، رفاقه، أصدقائه، الآخرين عامة.
عمل تطلب النزاهة، في التعاطي مع المعطيات، التعامل بحياد تام، تجنبا لغلبة الذات على الموضوع، تناول الأحداث، ماديا تاريخا، الوقوف عند التساؤل التاريخي: إشكالية من نحن؟
عمل شاق، ليس في البحث فقط، بل كذلك في انتقاء المعطيات، ربطها بالفترات التاريخية التي أطرتها، تقدير أهميتها، تقييمها، تقويمها، كتابتها. كتابة بشكل فني، في مزج بين الواقع والخيال.

-1-

يغود الإنسان، عاش في الطبيعة، منها انبعث أول مرة، لا تسعفه الحياة أن يعيش بدونها، ارتبط بها، جسد فيها أحلامه، هو جزء منها. اتخذها سبيلا لتحقيق أحلامه، الأرض جزء منها، مكون أساسي في حياته، تعلق بها، أقام عليها الحروب. الأرض حاضنته، علمته الإنتاج والإبداع، يغودا، الأرض التي ظهر بها يغود، انشطر منها أحفاده السمر، الحمر، الصفر، البيض، تعلموا هناك معنى الحياة، صنعوا من الطبيعة كل الأشياء، أبدعوا لغة الكلام، من عمقها. كانت غابة أركًان تغطي أرض يغودا. على طول الساحل الأطلسي، امتداداته بالأطلس والصحراء، هناك تعلم اليغوديون معنى الحياة، تفرقوا عبر الزمان والمكان، في سائر أرجاء العالم، في جميع اتجاهاته، أسسوا الأقوام والأوطان.
حياتهم مقرونة بالأرض والحرية، في حركة دائمة صنعت التاريخ، لما افتقدوهما منذ نشوء الدولة، نشوء الصراع بين أحفادهم، انتشرت الحرب، عم الدمار. الأرض هي الأم بعينها. يغودا أم الكائنات الحية، هناك، حيث عاشت يغودة، من حضنها تمخضت كل الأشياء، في حركة دائمة، سيرورة لا انقطاع فيها، في صراع بين الأضداد لا ينقطع، يصنع أهل يغود التاريخ.
يغود يعانق أركًان، الشجرة الخرافية، أبهرته، استثمرها، أبدع منها كلماته الأولى، صنع لغة الكلام، من صلب ممارسة جمع ثمارها، استلهم منها قاموس الكلام، سمى الأماكن، الأشياء، اكتشف الأسماء والأفعال، صنع اللغة، تمازيغت.
اكتشف يغود الحجر، أبدع في صناعته، نحت أدواته البسيطة، صقلها، منحته قوة هائلة، قوة العمل الدائمة بلا انقطاع، صنع التاريخ، حول مجراه. كل أفراد مجتمع يغودا يشتغلون، يغودة رئيستهم، صانعة مستقبل الأجيال كلها. في عصر المشاعة، جمعت الثمار، خزنتها، نترت بذورها على أرض يغودا، أنتجت ثمارا، صنعت الحياة.
يغود يهوى الصيد، خرج في رحلات بعيدا، حمل أدواته الحجرية، دخل في مغامرات ضد كل الحيوانات، حاربها، قتلها، رجع إلى يغودا الكهف، غانما، لم يفكر في الأرض، يغودا أم الدنيا، كان همه هو الصيد، تعلم لعبة الحرب.
لما اكتشف الأرض، تعلق بها حد الجنون، استأنس الحيوانات، استثمرها، صنع المحراث الخشبي، الأداة التي أبدعت الإنتاج، الثورة الأولى في الحياة. تجاوز جمع الثمار، زرع البذور التي اختزنتها يغودة، من بقايا الثمار، أنتج فائض الإنتاج، اكتشف معنى الإبداع والإنتاج.
يغودة محور مجتمع المشاعة، مئات آلاف السنين مضت، قبل بداية التاريخ، المرأة هي الأرض بعينها، ينبوع الحياة، يحترمها الرجل، يخاف من غضبها. الرجل البدائي يتألم أثناء مخاضها، يعتقد أنه جزء منها لا انفصام بينهما، متعلق بمنبع الحياة، المرأة، في انفصامه عنها انكسار، موت.
يغودة أصل الحياة بيغودا، استمدت قوتها من طبيعتها، من خصبها الذي منح الحياة، جمعت الثمار، خزنتها، صنعت حياة جديدة، الأطفال. حكمت في مجتمع بلا دولة، بلا طبقات، لم تكن في حاجة إلى دستور مكتوب، قوانينها تستمدها من الطبيعة، من أرض يغودا. ألهها يغود، جعلها فوق الإنسان، تاكوشت.
المرأة حكمت الأرض، أكثر بكثير مما حكم الرجل، مئات آلاف السنين، كافية لصنع التاريخ. المرأة صانعة التاريخ، عادلة في حكمها، كيف لا وهي حاضنة شعبها، الرجل بالنسبة إليها جزء منها، لا انفصام بينهما، مهما تقدمت به السن، يعتبر نفسه دائما قاصرا أمامها.
الملكية عدو الأرض، عدو المرأة. خرج الرجل إلى الصيد، حافظت المرأة على وحدة المجتمع، نشأ فريقان:
- فريق مستقر، اجتماعي، يمارس الزراعة ترأسه المرأة.
- فريق متنقل مارس الصيد، الرجال.
المرأة لا تملك إلا الأرض، مقرونة بها، تحرثها بأدوات بسيطة، تخصبها، هي محور المجتمع البشري الأول، الفلاحون المنتجون. لما رجع يغود الصياد من غزوات الغابات، حروب الأدغال، معه غنائمه، فكر في السيطرة على الأرض، انتزعها من يغودة. استعبدها.
غيابه الطويل، في مطاردة الحيوانات، سبب رئيسي في فهمه، مستقل عن المرأة، يملك قوة أكبر من إنتاجها، تحدى أنوثتها، انتفض في وجهها، انتزع منها الأرض، السلطة، بقيت خصوبتها بلا منازع.
انتفض وقال:
ـ كفى من حكم المرأة، كفى من العدل، العائلة أولا، ملكية الأرض ثانيا، المستعبدون ثالثا، المرأة على رأسهم.
امتلك الرجل الأرض، الحيوانات، سيطر على أدوات الصيد، الحرث، بداية عالم العبودية، استعباد المرأة، امتلك المستعبدين، على رأسهم المرأة. امتلك وسائل الإنتاج، العائلة، نصب نفسه رئيسها، الرجل يحكم، حكمه قاس، اضطهد الرجال الآخرين، استعبدهم. تم استعباد المرأة، حولت العبودية مسار التاريخ. نمت ملكية الرجل.
الأرض توسعت، المستعبدون كثر، الحاكم واحد، استغلال المستعبدين، وفر فائض الإنتاج، منازعات الملكية تكبر بين الرجال، الحرفيون صناع أدوات الإنتاج والحرب نشيطون، إمزيلن.
اكتشف يغود الإقطاع، قال:
ـ الدولة هي الحل.
إنها أداة السيطرة الطبقية، قمع طبقة لطبقات، الاقتصاد مركزها، الجيش حاميها، المستعبدون والمرأة خدامها. يغود الإقطاعي سلب السلطة من يغودة.
تاريخ الأمم القديمة حافل بالبطولات، الملاحم، المرأة سباقة إلى الحكم، حكمت، حكمها عادل. المرأة الأمازيغية، ضمن النساء الحاكمات، حتى في عصور قريبة جدا. قبل الإسلام، حكمت تيهيا، المرأة الأسطورة، حيرت عقول العرب، قالوا عنها:
ـ المرأة تحكم؟ الكاهنة.
هكذا نعتها العرب، من منطلق الفكر الخرافي، ينظرون إلى المرأة باحتقار، يتساءلون:
ـ المرأة تحكم ببلاد يغود؟
حول المعتقد عقولهم، حكم الإقطاع والدين، قالوا:
ـ في بلاد تحكمها المرأة، الرجال لا يستحقون الحياة، موتهم أفضل من حياتهم.
هكذا نظروا إلى الحياة، إلى المرأة، اعتقلوها، صلبوها، قتلوا رجالها، اغتصبوا نساءها، احتلوا الأرض، بلاد يغودة، تيهيا تصمد، لم تستسلم.
يغودا، يجوبها جحافل الرحل، طولا، عرضا، يحرقون المحاصيل الزراعية، الخضراء، حتى اليابسة منها. أيادي الغزاة، تجتاحها، جيوشهم، يدمرون الدواوير، يحرقونها. قالها ابن خلدون.
في حياة المجتمعات، في القرون الوسطى، رغم سيادة قانون الغاب، بقيت نساء تحكم، قويات، عازمات على امتلاك السلطة.
ـ العائلة، الملكية الخاصة، الدولة العناصر الإشكالية لكل معاناة الإنسان، قالها إنجلس.
ـ ما دامت الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج قائمة، الصراعات الطبقية لن تزول، تسير في اتجاه تعميق معاناة المرأة، في مجتمع التناحر الطبقي، قالها ماركس.
ـ الرأسمال يحول مجرى التاريخ، يغير استعباد الفلاحين باستعباد العمال، يتغير شكل الاستغلال، يتعمق أكثر فأكثر، يتم استعباد العمال، المرأة أكثر فأكثر. لما توسع، في مرحلة متقدمة من الاستغلال، برز استعمار الشعوب المضطهدة، عبر قوة السلاح، القروض، الأبناك عبارة عن بورصات، قالها لينين.
الأرض، الحرية والديمقراطية هي الحل، للقضاء على معاناة المرأة.
لما انهار حكم القبيلة بمراكش، بلاد يغود، قامت الانتفاضات، الثورات، بالجنوب، الجنوب الشرقي، الشمال، الشمال الشرقي، إنها نتيجة حتمية لحكم القبائل. دولة شبيهة بالإقطاع، سلطة قطاع الطرق، تجاوزها العصر، ارتكزت على استغلال الدين، القومية، الوطنية، انتفاضات، ثورات فاشلة، في جميع بلدان العروبة والإسلام، في مرحلة متقدمة من الرأسمال.
مرت كل الأقوام هنا، ببلاد يغود، الديانات، ما قبل الديانات السماوية، اليهود مروا هنا، قاد المسيحيون الحرب هنا، استهوتهم طبيعتها، طبع أهل يغود السلمي، الأمازيغ أحفاد يغود الأكبر، جاء العرب، غافلين عن تاريخ يغودا، موطن الأحرار.
وصل أحفاد يغود الشرقيين إلى بلاد يغود، مروا إلى الضفة الشمالية لبحيرة يغودا، عاثوا هناك فسادا، ظنا منهم أنهم بجنان الفردوس، بعد حرمانهم من جنان عدن، زمنا طويلا، تفرقوا في الأرض، سقطت إمبراطورية الفساد بالأندلس.
التاريخ في سباق مع الزمان، من تخلف لحظة، أدى ثمنا باهضا لا يقدر، مقياسا بسنوات الضوء المنبعث من أعالي المجرات، الإنسان بالنسبة إليه بقيمة ذرة من غبار الرماد، من بقايا نار حريق غابة يغودا، شجر أركًان، الواقع الموضوعي للغة يغود، الأمازيغية. بلاد يغود في صراعات عبر التاريخ، تمتد في الزمان والمكان، في تناقضاتها:
– بين التهامي قائد قطاع الطرق والباشا حليف الاستعمار، تاريخ طويل من سفك الدماء، في دولة القبيلة.
– بين عبودية الإقطاع وعبودية الرأسمال، قامت ثورتين، ثورة الجنوب الممتدة عبر رمال الصحراء، وثورة الريف الممتدة عبر أرجاء العالم.
– بين شيخ القبيلة الطاغية وعامل بدون أجر، فوقهما سلطة الاستعمار، تكريس للاضطهاد.
– بين حامل السلاح الفتاك ضد المضطهدين وحامل الوصية ضد السلطة.
– بين خيانة القبيلة وتكريس حكم القبيلة، يأتي الشيخ الخائن والشيخ الشهم، المتمرد.
– بين حامل سلاح السلطة وحامل سلاح المعرفة، يأتي باحمد، الفلاح العسكري المتمرد، الرافض لحمل سلاح سلطة الباشا، وأبو مولود المتمرد الحامل للبندقية والقلم، ضد الاستعمار.
– بين امرأة حرة ورجل حر برزت خيانة الشيخ للقضية، كلفت البلاد كثيرا.
– بين إسقاط حكم المرأة، وتكريس سلطة الرجال، مريم وحجو في مفترق الطرق.
– بين الشيخ المتسلط ومولود، قصة صراع طويل، بين قاهر المضطهدين والمدافع عنهم.
– بين الأعمال الشاقة بأوراش المستعمر، امتصاص دم العمال، سقط مولود ضحية تحالف الاستعمار والإقطاع.
تتفرع مأساة مولود، في سفر طويل عبر الزمان والمكان، طيلة قرن، عاش فيه معاناة، رفض الخضوع، قاوم الاضطهاد، حتى النهاية.
مولود شخصية درامية، تداخلت في تكوينها، معاناة إنسان، عاش مرحلتين كبيرتين، من تاريخ نشوء الدولة الحديثة، خلال القرن العشرين، حوالي مئة سنة، من المعاناة، الصراعات، لم تنته إلا بمغادرته هذا العالم. عاش أحداثا أليمة، ألمت بالبلاد، ولد بمدرسة عتيقة، قضى طفولته بجبال الأطلس، بين شمالها وجنوبها، على مشارف توبقال، الجبل الخرافي، بحيرة إفني الخرافية، سلطانها الفقيه سيدي إفني.
مولود الأسطورة، نموذج الإنسان الحر، المصر على الحياة، يشارك الآخرين في معاناتهم، يقاوم سلوكياتهم الانتهازية، يعرف كيف يعيش بقدر ما يملك، يرفض التسول، لم يمد يده يوما سعيا إليها، تمتد إليه أيادي الأخرين، يحثهم على عدم مد الأيادي، تقبيلها، يساعدهم على تجاوز معاناة العيش.
مولود المناضل، الرافض للعبودية، السلطة بالنسبة إليه عدو الإنسان، يرفض التقرب منها، يرفض تقبيل يد السلطان، يرفض الخروج لاستقباله، يصر على الحرية بمعناها الواسع، المساواة بين الناس في الحقوق، قاسي في معاملاته، حتى لا يتنازل عن مواقفه الصلبة.
مات أبوه مسموما، مقتولا، ذلك ما روت أمه، توفي ومولود مازال صغيرا، رافق أمه وثلاث أخواته. ورث معاناة أب صلب معاند، ذاق بدوره مرارة الاستعمار، أصبح أكثر صلابة من أبيه، تشبث بالأرض، ناضل من أجل استرجاعها، تشبث بحقوقه، ناضل من أجلها. يناضل من أجل حقوق الآخرين، المضطهدون.
عاش قصصا كثيرة، مع المرأة، رافقته طيلة حياته، بعد موت أبيه، اغتياله، كما نقلته زينب أمه، أصبح كفيل الأسرة، في سن مبكرة، المدافع عنها، الملتزم بتزويج أخواته الثلاث، لم تستطع أمه المتعلقة بأبيه، حد الجنون، أن تستمر في الحياة في غيابه كثيرا. رغبة في تحميله المسؤولية، حاولت تزويجه من ابنة أختها، رفض زواج العائلة، اقتداء بسيرة أبيه، متعلق بفتاة من القرية، في حفلات أحواش، في ليالي السمر، يغازلها، في تبادل للعواطف، بين المراهقين المحرومين من الحرية.
كانت أمه زينب، بالنسبة إليه كل شيء، مع أخواته الثلاث، بقرية أجدادها، التي قضى بها معظم سنوات طفولته، بعيدا عن قرية أجداد أبيه، التي غادرها أبو مولود، بحثا عن مسجد، عن مدرسة يستقر بهما. هناك ببلدة جميلة بأحواز مراكش الحمراء، المدينة العاصمة، استقر، حيث ولد مولود. بعيدا عن بلدة زوجته زينب، البلدة الجميلة، التي غادرها بعد زواجه، حيث لا يحب الاستقرار كثيرا في مكان واحد.
قال عنه مولود:
ـ كان أبي كثير الأسفار.
حمل معاناة أسرة حزينة، في ظروف الثورة، ضد الاستعمار والإقطاع، ذاق مرارة الرفض، سقط ضحية استغلال العمال والفلاحين، في بداية تشكل الطبقة العاملة، في الجبال والسهول، عاش معاناة الأشغال الشاقة، في سجن كبير، اتسع للجميع، تم فيه استغلال الجميع من طرف أقلية.
سعى إلى حقه في الأرض، الحرية والديمقراطية، لم يتحقق له ذلك كثيرا، انخرط في مرحلة ثالثة من النضال الطويل الأمد، ضد العبودية. همه الوحيد النضال، من أجل استرجاع أراضيه المغتصبة، تعويضاته عن حادثة الشغل، ضد الأعمال الشاقة، ناضل إلى جانب كل المضطهدين.

-2-

أبو مولود، يتنقل بجبال الأطلس، تزوج خارج العائلة، القبيلة، تأثر برواية جده، من عائلة فلاحة عريقة، متشبثة بالأرض والعلم، بعد خسارة تجارتها، استقرت بالأطلس، بضفاف واد متلألئ، ملتقى مياه سيروا الفضية ومياه توبقال الذهبية، بسوس العليا، أزيد من ستمائة سنة. انحدرت من الصحراء، اهتمت بالعلم، المعرفة وزراعة الأرض، تخلت عن التجارة.
نقل رواية العائلة لابنه مولود، الذي أصبح فيما بعد تاجرا، عاش نفس المخاطر، قصة جده السادس مع التهامي، الذي سرق كل أمواله، تجارته، رواية صاعقة، وشمت ذاكرته.
مولود الطفل، يستمتع بروايات أبيه عن أجداده، عن رحلاتهم بين الأطلس والصحراء، قوافل التجارة، من الصحراء إلى الأطلس، سجلماسة، فاس، تلمسان، يركبون مخاطر الطرق. أكثرها مأساوية حكاية التهامي، الذي جاء من المشرق، استقر بواحة صحراوية، هو فلاح ماهر، عارف بأحوال الزراعة، أبهر الفلاحين بعمله الجاد، اعتقدوا أنه يملك قوة خارقة، بركة، من الشرفاء. أصبح إنتاجهم وافرا، يتهافت التجار على شراء منتوجهم.
في فصل الخريف من كل سنة، يتوقف التجار بمحطة استراحة القافلة، حيث يجدونه مع الفلاحين، أبهرهم بحديثه عن قصص الأنبياء، رحلة الشتاء والصيف. يبحث عن موقع في السلطة، عبر الطرق التجارية، قوافل التجار تستهويه، يتعاقبها، يبحث عن مكان بينهم. بعد تفكير عميق، قال:
ـ لما لا أقدم لهم خدمة؟ قوافلهم تتعرض للسرقة، يتعرضون للابتزاز.
جمع مجموعة من الرجال، في خيمته، التي أقامها في ملتقى القوافل التجارية، تداول معهم في الأمر، البلاد تعيش في فوضى، بعد انهيار دولة القبيلة، قطاع الطرق في كل مكان. في الوقت الذي عاش فيه الغرب تحولات كبيرة، الإعداد للثورات البورجوازية، حيث ناضل العمال والفلاحون، من أجل الحرية، سيطرت البورجوازية على الدولة.
في خريف هذه السنة، أثناء وصول التجار، قوافلهم محمولة، استقبلهم، قدم لهم الطعام والشراب، عرض عليهم خدماته:
ـ هؤلاء مجموعة من الرجال الأشداء، قادرون على مطاردة اللصوص، علمتهم الرماية، مجموعة من الرماة، قاماتهم طويلة، أجسامهم صلبة، متينة، عتيدة.
قال ذلك، ينتظر ردهم. استرسل:
ـ جهزت لكم رجال الأمن، لا أريد منكم إلا معروفا قليلا، كسوة، طعام، شراب، خيمة للغرباء، نحميكم، نحمي تجارتكم.
أبهر التجار، ومعهم رئيس القافلة، لاحظوا أن قطاع الطرق اختفوا، طرقهم مؤمنة، حيلة فقط، خطرت بباله. استدرج اللصوص، علمهم القراءة والكتابة، دربهم على القنص، الرماية، أصبحوا جنوده الطائعين، طوعهم لغاية يتوخاها، امتلاك السلطة والمال.
أسس عصابته، قدمها للتجار على أنهم حراس آمنين، أمن لهم الطريق، هم صحراويون من صنهاجة الملثمين، كسب ثقتهم، بنى زاويته في ملتقى الطرق، يتلو فيها القرآن والحديث، تضاعف عدد جنوده. كسب ثقة التجار، وضعوا لديه كل أموالهم، بنى بيت المال، أخرج الزكاة، حج الفقراء إلى زاويته، بنى مدرسة للطلاب، القرآن والرماية. اشتد ساعده، بنى حصنا، قلعته، جنوده يجوبون الواحات، الفيافي والقفار.
حطت القوافل كعادتها، بعد صيف حار، تجمع التجار بقصر الزاوية، فرغت القوافل حمولتها، موادها متنوعة، التمر، الحناء، الريحان، الشعير، الذرة، اللوز، أواني الفضة والذهب.
في رحلتهم الخريفية، عرض عليهم إقامة سوق بزاويته، رفض التجار عرضه، يرددون:
ـ إقامة سوق بالخلاء؟
لم يفهموا ما يريد، بعد عدة محاولات، استطاع إقناعهم، هي مكيدة، من أجل السيطرة على قوافلهم، تمكن من جميع أموالهم، الآن كل سلعهم بيده، تحج كل القبائل إلى الزاوية، يقيم الموسم السنوي في كل بداية فصل الخريف. جمع كل أموال التجار، طردهم من قصره بعد نهاية الموسم، تفرقوا خفي حنين، تاركين وراءهم جميع أموالهم، سلعهم، إبلهم.
وزع بعض الأموال والسلع على جنوده، قطاع الطرق، اشترى الجياد، الأمازيغية الأصيلة والأسلحة، ملأ بيت المال، بنى دولته، دولة القبيلة. يهاجم القبائل المجاورة، يستولي على أراضيها، يطرد الفلاحين، يسمح لهم باصطحاب مواشيهم، إلى أراضي الفلاحين بالقبائل المجاورة، يتم النزاع بينهم، يشتد القتال، يتدخل بقوته لفض النزاعات، يطرد القبائل، يحتل الأراضي، يملك ثروة هائلة وجيشا جرارا. بنى دولة قطاع الطرق، دولة المستعبدين والجواري، سعى إلى حكم كل بلاد يغود. منذ تلك الحادثة، رفض أجداد مولود، ممارسة التجارة، التقرب من سلطة قطاع الطرق، أبو مولود ينقل الوصية لابنه :
ـ إياك والتقرب من السلطة، أساسها قطاع الطرق.
عمل مولود بوصية أبيه، لم يقترب من السلطة، رفضها، نقل الوصية لأبنائه، خسر جده السادس تاجرته، كل أمواله، سرقت منه، فعلها التهامي، رئيس قطاع الطرق، من أجل بناء سلطته، بسطها على جميع الفلاحين. هكذا تم تأسيس دولة القبيلة، استمرت قرونا من الحروب، إخماد الثورات، لم تتطور، بقيت على حالها، انهارت.
في عشية سقوط دولة القبيلة، دولة قطاع الطرق، طلعت مريم بالأطلس، المرأة القائدة، تحدت سلطة الرجال، أزعجت شيوخ القبائل، صنعت الحكم، بنت قلعة سلطة المرأة، اكتشفت مركزها، بنت صروح حكم النساء. حطمت سلطة الرجال، سلطة ركزوها خلال قرون من قهر النساء، تم فيها استعبادهن، إبعادهن عن الحكم، استغلال الدين ضدهن.
مريم، حفيدة يغودة. حكمت، أسست قلعتها، على أرض عارية، بضفة الوادي، يغودة الحاضر. من بعيد، حل أهل يغودا بالأطلس، بنوا حضارتهم، في عصور متقدمة من تاريخ الأمازيغ. المرأة الفولادية، امتطت صهوة فرس أمازيغية، من فصيلة سهول يغودا، حيث غابات أركًان، على طول سواحل الأطلسي، إلى ضفافه الغربية بسهول الميكسيك، بعد انفصال القارات:
ـ أحفاد يغود الأصغر، السمر، الحمر، الصفر، مضطهدون.
ـ أحفاد يغود الأوسط، البيض، معمرون.
ـ يغود الأكبر هنا بهذه الأرض، يغودا، يقاوم الاستعمار.
ببلاد يغود انبعثت امرأة قائدة، مريم، قاهرة الرجال. في أسطورة تكاد تكون خرافية، خرجت من الزاوية، رفضت قيود شيوخها، كلما مرت بذلك المكان، منابع مياه متدفقة، من الجبل الأسطوري، المياه الفضية، من سيروا، الجبل الخرافي، عمر في التاريخ مليوني سنة، تتدفق مياهه سلسبيلا، تستهوي أحفاد يغود، الحاملين للكتاب. مروا هناك زاهدين، تاركين وراءهم أطلال قلاعهم جاثمة، خرابا على قمم الجبال، على طول الوادي المتدفق.
حطت مريم، حفيدة يغود، بذلك المكان، في يوم ربيعي، في طريقها، من الزاوية إلى بلدتها الجبلية، بلدة الزعفران، بنظرة ثاقبة، هندست المكان، حكمة امرأة يغودا، المتحررة من قيود الزاوية.
وقفت في صمت رهيب، نظمت على لسان يغودة:
أعانق الجبل
أصافح الجدول
أداعب الشجر
أخاطب الطيور
أعود أنجلي من ظلمة المكان
في هذا المكان، أبني صرح سلطتي.
حكم المرأة ينبعث من جديد، ببلاد يغود، الرجال حائرون، بالقبيلة والزاوية، حتى النساء حائرات.
المرأة الحاكمة، الأمازيغية، بالأطلس، ملكت رجالا، مستعبدين، كما هو حال جميع الحكام، امرأة صلبة، شجاعة، أبت إلا أن تحيا، حياة ماض عريق، في سفر بعيد، في الزمان والمكان، ماضي تيهيا. استقرت بضفة الوادي المتلألئ، المياه الفضية للجبل الخرافي، دبت الحياة بالمكان، تم تقديس المرأة من جديد، نظمت:
في ذلك المكان
هناك هاهنا
هناك من كان يومن بالقدر
أنا هنا، أبني سلطة المرأة.
مريم اليغودية، رأت في المكان موقع حكمها، بنت القلعة، استهوت شيوخ القبائل، الذين يخافون من غضب الزوايا. الزاوية التي تنتمي إليها قوية، خلفت أربعة أضرحة، خبرتها من داخل الزاوية، تمر عليها، في طريقها إلى بلدة الزعفران، من مر هناك، يقف، يرفع أذرعه، تدرعا للأولياء، دعاء للموتى من عامة الناس.
تمر هناك باستمرار، بعيدا عن الزاوية، كل نساء الزاوية محجبات، ممنوع رؤيتهن، تستحيل رؤيتهن، لا يشتغلن، المستعبدات في خدمتهن، تحدتهن، تحدت شيوخها. تصادف اليهود في طريقها إلى بلدتها، تراهم يمرون بأرض الزاوية، يهبطون من على ظهور بغالهم وحميرهم، يخلعون أحذيتهم، يضعونها تحت أبطيتهم، يمشون حفاة، حتى يتجاوزون أرضها، ينتعلونها من جديد. ممنوع عليهم دخول الزاوية، يحترمون معتقداتها، يقدمون لشيوخها خدماتهم، حرف وتجارة مقابل المال، معاملاتهم، ترتكز على المصلحة، الثقة، يعرفون صاحب ثقة وفاقد ثقة، متشبثون بثقافتهم، بينهم وبين المسلمين، تناول ماء الحياة، كل من تناول منهم جرعة من ماء الحياة، سقطت ثقته.
انتفضت مريم على التقاليد، كسرت قيود الزاوية، طرحتها جانبا، هي على وعي بطقوسها، مطية لحجب الواقع عن المرأة، قيد حريتها، رفضته. الرجال يركعون أمام الزاوية، خوفا من لعنتها، تخلصت منها، أصبحت فوق الرجال، استعبدتهم، جندتهم ضد بعضهم البعض. تيهيا الأطلس تنبعث خارج الزاوية، الشيخ الخائن، يسمع بأمرها، شغلت باله، يجوب الجبال، بعيدا عن الزاوية، يخاف من لعنتها.
الزوايا والقلاع معالم بناها الرجال، كلها خربت، إلا قلعة مريم، مركز السلطة الجديدة، سلطة المرأة، أزعجت الرجال، شيوخ القبائل حائرون، يرون السلطة تفلت بين أيديهم، سلطة الرجال على النساء، المرأة فوق كل الرجال.
النساء يصغين، يتلمسن أخبار القلعة، بالزاوية حائرات، عاشت مريم من حضنها، رضعن جميعهن لبن التقاليد العتيقة، محجبات، ممنوع عليهن الاختلاط بالرجال، لا يعرفن معنى الخروج إلى السوق، اجتمعن بالزاوية للنظر في الأمر:
ـ ماذا ننتظر؟ لابد من التدخل في الأمر، الرجال غير راضين عن هذا الفعل، إهانة لنا، المرأة بين الرجال؟ فوق الرجال؟ هذا حرام، لا يقبله ديننا.
جميع المفاهيم التي ورثتها المرأة عن عصور الظلمات، تنهار اليوم أمامهن، امرأة تقلب مجرى التاريخ، تزيح الغموض عنه، تندر بتغيير قادم يجرف القديم.
الشيخ الخائن، يحترم شيخ الزاوية، يتعلق بالخرافة، مريم تخرج عن طاعتها، يحمل السلاح ضد حكم المرأة. أزعجته سلطتها، جيش الرعاع، يجتاح الوادي، تحت دريعة الدفاع، التصدي لهجوم السواحل الصحراويين. لم يستوعب سلطة المرأة، لم يستسغها، بوعيه الزائف، وجد نفسه بعيدا عن مركز السلطة، البعيد عن بلدته، قلعته، قلعة مريم مركز السلطة الجديدة.
يتربص بسلطتها، من أجل الظفر بحكمها، يدرب العسكر، يهيئ الحركة، من أجل إسقاط قلعة اليغودية الجديدة. في سنوات الجفاف، تكون الصحراء جحيما، المواشي تتضور جوعا، الرحل يبحثون عن المراعي، يتنقلون بمواشيهم، يجتاحون جبال الأطلس، وديانها، مياهها المتلألئة، المرأة تسيطر على الوادي، تجيش الرجال، سلطتها في حاجة إلى مال.
بنت مريم سلطة جديدة، الشيخ الخائن حائر، مهموم، كل الفروض التي وضعها لدعم سلطته انقطعت، السكان اكتشفوا أن تلك الفروض زيف، حيف، ذريعة لتقوية سلطته، صرخ في وجه أعوانه:
ـ لم يبق للرجال وجود. المرأة تحكم؟ هذا عار على جبين الرجال، المرأة، ناقصة عقل ودين. هل تستقيم الحياة أمامكم ؟
بنى أطماعه على حساب الدفاع عن الفلاحين، المرأة اليوم تحكم، لم يكن همه بعد اليوم الدفاع، إنما الهجوم من أجل إسقاط حكم المرأة.
في ليلة صيف حار، بقلعته، جمع أعوانه والفقهاء، أقام الوليمة، على سطح القلعة، ينتشر العسكريون، إمخزنين، يراقبون كل الاتجاهات، بمربط الأحصنة، يقف الفرسان. كل شيوخ القبائل حاضرون، إلا الشيخ الشهم، قاطع الوليمة، معه فقيه البلدة، لم يحضرا المؤامرة.
تم استقبال الوفود، دار الضيافة مفتوحة، اجتمع مع الشيوخ الموالين له، تآمروا على حكم المرأة، قال لهم:
ـ يجب إسقاطه، هذه سابقة في تاريخنا.
تمت تلاوة القرآن، نظم البردة، إخراج المعروف، إكرام الفقهاء، كؤوس الشاي بالزعفران، اللوز المقلي، العسل، السن، الطاجين، لحم الغنم الأطلسي، الدجاج بنكهة الزعفران. شارك الجميع في الوليمة، من أجل نصرته ضد المرأة، حاكمة الرجال، تآمروا عليها في تلك الليلة. حضر الفقيه العلامة، عالم علوم عصره، أعطاهم توجيهاته :
ـ أعبدوا الله، أطيعوا الشيخ، قفوا وراءه، وقفة رجل واحد، ضد المرأة العاصية.
الفقهاء، طلابهم حاضرون، الوليمة غايتهم، اشتموها من بعيد، من أخربيش. حكايات عديدة، تداولها الناس، حول الفقهاء، الأكل بشراهة. قصص كثيرة عن الولائم، تداولها الطلبة بالمقصورة، عن الفقيه فلان، في ليلة كذا، حكايات تم ابتداعها، عن البطنة، عن صاحب المنزل، القصد من الوليمة. تعددت الأسباب والغاية واحدة، إحسان الشيخ إلى الفقهاء، استغلال الدين في السياسة، كل الطرق تؤدي إلى الوليمة، الفقهاء أذكياء، لكنهم تحت قيادة شيخ غبي، يحلم بحكم قلعة مريم اليغودية. البطنة تذهب الفطنة، حكمة العرب.
غاية الشيخ الخائن من الوليمة، إصدار فتوى، بعد دعاء الفقيه، العلامة، القاضي، الناهي، الآمر في كل شؤون الدنيا والآخرة، إلا في شؤون السلطة، هي في يد شيخ ساذج، سخر الدين لصالح السياسة، فهم جيدا هذه اللعبة. الشيخ الخائن يخاطبكم :
ـ اليوم نجمعكم، بقلعتنا، بيت الحكم، العدل، الحق، كل فقهاء قبائلنا، يجمعون على حكم واحد، عدم جواز حكم المرأة، المرأة ناقصة عقل ودين. الفقيه العلامة يكتب الفتوى، يفتح محفظته، ينشر كاغيطا أصفر، يخرج دواة، بيده قلم من قصب. السيف والقرطاس والقلم، قالها المتنبي.
البندقية في يد الشيخ الخائن، رفعها قائلا:
ـ نهي المنكر من الأمر بالمعروف، أنا حاكمكم، يجوز قتل العصاة، خاصة حين يكون العاصي امرأة، يجب رجمها، صلبها.
رفع سلاحه عاليا، سلاحه المذهب، جر الزناد، أطلق طلقات نارية في الهواء.
في تلك الليلة، كل نساء الأطلس، وراء الجدران، خلف القضبان، النساء محجبات، بعيدات عن الأنظار، إلا مريم اليغودية. المستعبدات بقلعة الشيخ الخائن يسترقن السمع، تقام المؤامرة هذه الليلة، لإسقاط حكم المرأة، طلع الشيخ اليوم، حتما يسقط غدا، هكذا نطقت إحداهن، فهمت لعبة السياسة جيدا.
مريم القائدة بقلعتها، تجيش الرجال، تقطع الطريق على السواحل، يتم تأمين الوادي. المرأة تملك السلطة، الأرض، المال والمستعبدين، هكذا حال السلطة في ظل الإقطاع، حتى في ظل الرأسمال، السلطة والاستعباد.
انبعثت سلطة المرأة الأمازيغية من جديد، ليست ناقصة عقل، هي في عقل كامل، قوة جبارة، الحرية زادها، طاقتها، كلما ازدادت حرية المرأة، ازدادت قوتها. خرجت من جحر عائلتها، الفلاحون الملاكون، حاملو علوم عصرهم، من الزاوية، صفات الشهامة مجتمعة في شخصيتها، لما سنحت لها الفرصة، اختلطت بالرجال، فهمتهم، رأت رجال عصرها بالبلدة، حكمهم شيخ جبان، خائن، سيطر على عقولهم، فهمت لعبة السلطة، لعبة الرجال. يغلقون الأبواب على النساء، حتى لا يفهمن معنى الحياة.
خرجت مريم من الزاوية، كشفت لعبة الرجال، استطاعت أن تحكم. الشيخ الخائن، أدرك خطورة الأمر، مركز السلطة تغير، قلعته أصبحت موقعا هامشيا. في تلك الليل، الوليمة، البطنة، نشر الكاغيط، استنفر الجبناء، خاطبهم:
ـ المرأة تحكمكم، ذهب دينكم، ذهبت رجولتكم، لن يكون لنا وجود بعد اليوم.
الفقيه العلامة، عالم علوم عصره، أصدر فتوى:
ـ المرأة للبيت، الرجال للحكم، يحملون السلاح.
الشيخ الخائن غبي، قابع ببلدته، ينتظر غزو رحل الصحراء، السواحل، يقاومهم، يقول انتصر، يجمع المال من الفلاحين، سلطة المرأة فتحت أمامه مجال توسيع حكمه، يريد غزو قلعتها.
فكر الإقصاء، يسود في أوساط الرجال، يسيطر على عقولهم، يتعاملون مع المرأة بالإقصاء المطلق، يتنافسون فيما بينهم في تنفيذه، الرجولة فكر إقصائي. لما حكمت المرأة، استطاع الشيخ الخانن أن يفكر، فهم معنى التحالف ضد المرأة الحاكمة، لم يفهم معنى التحالف معها ضد الأعداء.
المرأة تصنع مركز الحكم، القلعة اليغودية، سبقت عصرها، تنظم الرجال، تستعبدهم، يسهل استعباد الرجال، أدركت ذلك بالزاوية. الرجال ميالون إلى الخيانة، يهابون حرية المرأة، شبحها يطالهم في أذهانهم، يطاردهم، كيف لا وامرأة تحكمهم اليوم.
المرأة نصف الأرض، الملوك يهمشون النساء، خوفا منهن، يحتكرون السلطة. اغتال العرب المرأة الأمازيغية، تيهيا، الداهية كما سموها. يريدون استغلال الأرض، الثروات الطبيعية، يرفضون حكمها، حيرهم، لما اكتشفوه، أخذوا يفسرون أسبابه، مسبباته، لم يفهموا شيئا واحدا، إنها قادرة على تحديهم. يريدون اختصار الطريق، إنه السحر، ساحرة تحكم. في البلاط يؤمنون بالسحر، دواوينهم، وزاراتهم، مليئة بالكواغيط المكتوبة، يعبدون الفقهاء، يمطرونهم مالا، حتى تستقيم أمور حكمهم، هكذا يعتقدون. ما زالوا يحجون إلى مراكش، بحثا عن الفقهاء المشعوذين، يلتمسون بركتهم.
في ليلة الوليمة، بالقلعة، انفرد الشيخ الخائن بالفقيه، العلامة، عالم علوم عصره، الفقهاء يدعون معرفة شؤون الجن والشياطين، يعرفون طقوس استحضارهم، يؤمنون بقصص سيدي إفني، فقيه بحيرة إفني. في تلك الليلة، أمسك الشيخ الخائن يد الفقيه، يده اليسرى، وضع صرة نقود فضية في يده اليمنى، من فضة سيروا، زكًندر، سكها الحزان موشي، لها قيمة مالية في السوق، يتعامل بها التجار في أسواق سجلماسة، تلمسان، فاس، وادي السينغال. قال للفقيه :
ـ أريد حرزا، كاغيطا، يقيني من شر الساحرة مريم، الدعاء فقط لا يكفي.
حكام القبائل يزورون الفقهاء، كلهم طغاة، عقولهم خرافية، في دول القبائل، السلطة والسحر لا يفترقان. رد عليه الفقيه:
ـ أحضره لك بعد صلاة الفجر، أكتبه قبل الفجر، حين ترفع الشياطين أياديها عن الإنس.
أمسك الفقيه صرة النقود، يردد :
ـ صرة من سكة فضة الأطلس، جبل سيروا؟ الجبل الخرافي؟ زكًندر؟
لم ينم الشيخ الخائن تلك الليلة، ينتظر طلوع الفجر.
في اليوم الأول، قبل الوليمة، مستعبدات القلعة، اتجهن صوب الغابة، حملن الشواقير والحبال، قطعن الحطب، جمعنه، على ظهورهن حمولة العربات، في الطريق إلى القلعة، متراصات، يتبادلن الأشعار، ألحان شجية، مدح من صلب المعاناة، على لسان المستعبدات، المضطهدات:
سيدي الشيخ يجمع القبائل
يقيم الوليمة
يزلزل جبال الأطلس
وديانها، هضابها، رجالها، نساؤها
المستعبدات ينحنين، يشتغلن، يتعبن
الفرسان قادمون من الفجاج
الحركة اقتربت، حان سقوط حكم المرأة.
توقف موكبهن، بالباب الخلفي للقصبة، مدخل البهائم والمواشي، حطت الحمولة، الحطب، الزعتر، الشيح، إفسكان. دخلن كعادتهن، تناولن الماء، روين عطشهن، يوم قاسي، مر عليهن، يوم حار، من أيام الصيف، استرحن، شممن الهواء، استرجعن قوتهن، ينتظرهن عمل شاق.
بعد الوليمة، قضت المستعبدات، من أصول إفريقية، ما تبقى من الليل، يجمعن الأواني، الصحن، الكؤوس، يغسلن، ينظفن، قضين ليلة عذاب. المطبخ طيلة النهار، أنوال، الدخان متصاعد، المطابخ التقليدية، معامل، مداخنها بلا صناعة، الدخان لم ينقطع يوم الوليمة بسماء القلعة. إعداد الخبز بالفرن التقليدي، تفرانت، لهب ودخان، المرأة المستعبدة، العارفة بطبخ الخبز، جلست طول النهار، وجهها احترق، من كثر لهب النار المشتعلة.
نساء القلعة محجبات، في حصن حصين، بعيدات عن الشأن السياسي، يأكلن، يشربن، يلدن، لا يشتغلن، لا يخرجن، لا يتعبن، ما دامت هناك مستعبدات، من أصول إفريقية. شغلهن الشاغل، تصفيف شعورهن، دهنه بالزيوت، أركًان، الزيتون، تجميل أجسادهن بالزعفران، اختيار ألبستهن الحريرية، القطنية، الحرير الصيني، القطن المصري، اختيار الحلي، الذهبية، الفضية، العطور الشرقية، السواك الهندي، الاستحمام كل صباح، لا يمسسهن سوء.
لا يستسيغ الشيخ الخائن وجود المرأة بين الرجال، الاختلاط ممنوع، حرام. المستعبدات، كفيلات بالخدمات، لا يحتفلن بالأعياد، لباسهن صوفي، حليهن نحاسية، منازلهن من تراب، ينمن كالمواشي، حصير من دوم، غطاء من شعر الماعز.
قاوم الشيخ الخائن السواحل، استقر أجداده هناك، بتلك القرية، بباب الصحراء، جلب رجالا مستعبدين، الطوارق، من أصول إفريقية، بنى قلعته، ملك الأرض، الأحصنة، المواشي، استعبد الفلاحين، المستعبدون والجواري عقلية الرحل، فكر البدو، المرأة للإنجاب فقط. اليوم، المرأة تقود الحركة، تبني سلطتها على منابع الوادي، تغيرت كل المفاهيم.
عند كل محصول زراعي، في أيام الصيف الحار، تقام ليالي أحواش، نساء القلعة، محجبات، لهن الحق في الفرجة، مشاهدة رقصة أحواش، خليط من المستعبدات، من أصول إفريقية وأمازيغية، فلاحات فقيرات، في ليالي السمر. الشيخ الخائن، يقف بسطح القلعة، يرفع سلاحه عاليا، يطلق طلقات نارية، متتالية، يشتد إيقاع أحواش، غناء الروايس، إعلانا لانتصار قريب. أطلق خمس طلقات نارية تباعا، استعدادا لاغتصاب حكم المرأة، تحت زغاريد المستعبدات، فرحا، استعدادا لاستعباد الرجال والنساء.
عادة الشيوخ، حكام القبائل، أثناء حفلات أحواش، رقصات النساء، يجلسون بالأسطح، لما يشتد الإيقاع، ينزلون، يشاركون في الفرجة، يشدون البنادر، يضربون بلطف، يراقبون صف أحواش، قبل انتهاء الحفل، يختارون فتاة، تلك الليلة، ليلتها، يفضون بكرتها، جارية أخرى، يتم إطلاقها بالقلعة.
في مواسم جني الثمار، حب الملوك، الورد، كل ملكات الجمال، يلتحقن فورا بالقصر، يتم فض بكراتهن، من طرف سيد القصر، يعشن بالقصر، الطعام والجنس، تنقطع صلاتهن بأمهاتهن.
في هذه السنة لم يتم الحفل، بطقوسه، الشيخ الخائن مهمون، عيناه في قلعة مريم، الوليمة عوضت أحواش، الحركة غيرت اتجاهها.
الرياح الشرقية، تهب عادة في هذا الموسم، طقس حار، شبه صحراوي، بباب الصحراء، في اتجاه دول الساحل، حيث مناجم الذهب، هناك يدخل الرحل، السواحل، الصحراويون، أيام الجفاف، هناك تتجه الحركة، اليوم تغير اتجاهها، إلى قلعة مريم اليغودية، لإسقاط حكمها.
الفلاحون يتراقبون، يصغون، ينتظرون، تفرق زوار الشيخ الخائن، الفقهاء، الطلبة، المقدمون، الجواسيس، انتشروا، في الجبال، في الوديان، في الدواوير، يحملون أخبار الوليمة، وليمة اللئام، ضد الوئام، ضد المرأة. المستعبدات في غفلة، جاهلات بقضية المرأة، إلا واحدة فطنة، أدركت أن المؤامرة حصلت، الشيخ الخائن ينتصر اليوم، أكيد يسقط غدا، يصير مستعبد سيد قادم.
اجتمع الشيخ الخائن بمعاونيه، منفردين، تم إغلاق دار الضيافة، يخططون، المؤامرة حلت، اغتيال حكم المرأة، يصب غضبه، لعناته، على زوج مريم :
ـ كيف سمح هذا الرجل لزوجته أن تحكم؟ فعل خارج عن الدين، بدعة، أقرها الفقهاء في فتاويهم.
القلعة هذه الليلة، تقيم صلوات الليل، تسبيحات، تكبيرات. صاح الشيخ الخائن:
ـ ماذا ننتظر؟ قيام الساعة؟ زلزلة الأرض تحت أقدامنا؟ ونحن أحياء؟ لا، لن يمر هذا الأمر، يجب الحسم ضد حكم المرأة.
معاونوه، يصغون، يتأملون كلماته، كلها احتقار، اغتيال لحرية المرأة، الشيخ الخائن يجد ضالته، طريقه إلى الحكم الجديد، الذي اكتشفته المرأة. قبل ذلك، كان حارسا للحدود، يخاف من السواحل. الصحراويون الرحل، يجتاحون المناطق الخضراء من جبال الأطلس، على مشارف سيروا، في أغلب مواسم الحصاد، كانت تقام المعارك، على حدود القبائل، في كل الاتجاهات.
القبيلة تذب بها الحركة، امتلاك الأرض، مشاعة الأرض، الإقطاع، حكم الشيوخ، الأرستقراطية القبلية، التسلح، انتشار السلاح، نشاط إمزلن، كل الحرف تنشط، تستغل من طرف الشيوخ، فقط إسكاكن، اليهود، يتم احترامهم، حرفهم عالية الجودة، ذهب، فضة، نحاس، أواني، أسلحة. الفلاحون الفقراء، يتم استعبادهم، المحظوظ منهم يحمل السلاح، يحمي الشيخ، يكون له شأن بين العسكر، جزء من السلطة على المقهورين، المستعبدون يحومون حول القلعة.
في خريف هذه السنة، سنة مشؤومة، مع حلول موسم جني الزعفران، تسقط حرية المرأة، تحركت الحركة، كل الشيوخ يتآمرون عليها، كل القبائل، إلا الشيخ الشهم، ينتظر ما سيؤول إليه الأمر.
الشيخ الخائن يسيطر على القلعة، يطرد المرأة، مريم اليغودية، يحكم، يعلن سلطته الجديدة، شيخ واحد فقط خارج عن حكمه.
الحيرة بالزاوية، النساء يهمهمن، يتلعثمن، يتساءلن:
ـ سقط حكم مريم، ما مصيرها؟ مصيرنا جميعا، تحت سلطة الرجال.
وجدن في حكم مريم، متنفسا عن سلطة شيوخ الزاوية، أصبحوا مطأطئ الرؤوس، لم يستوعبوا معنى حكم المرأة. شيخ الزاوية يقدم الولاء للشيخ الخائن، يطيعه، يخاف من بطشه، إنه مسعور، يريد التهام كل خيرات المنطقة. يضع مسافة بينه وبين شيخ الزاوية، يسمح له باستغلال مزارعها، كل مزارع الفلاحين استباحها، إلا مزارعها، عقلية خرافية، يستغل الدين، باسم استتباب الأمن، الدفاع عن الفلاحين، من أجل تمويل سلطة القلعة.
في قبيلة زينب، أم مولود، بجبال الأطلس، برزت ظاهرة نسائية، حجو الشيخ. طوعت الرجال، استعبدتهم، جيشتهم لاستعباد بعضهم البعض، لم تكن بحجم قوة مريم. قادت القبيلة، بعد موت شيخها، زوجها، لم تستسغ التنازل عن السلطة، خلعت ثياب الحداد، سرجت فرسها، حملت سلاحها عاليا، طوعت الرجال.
أبو مولود بعيد عن بلدة زينب، شغله الشاغل البحث عن المعرفة، ضد السلطة، عمل بوصية أبيه، سافر بعيدا عن بلدته وبلدة زوجته، استقر بعيدا عنهما، بالأطلس شمالا، بمسجد ومدرسة. بلدة على ضفة واد يتدفق، من جبال الأطلس، بحيرة إفني الخرافية، من أساطير الفقيه سيدي إفني، تصله أخبار المرأة الحاكمة من بعيد، ولد مولود هناك.
حجو، أرملة الشيخ، حملت السلاح حفاظا على حكم القبيلة، بنت صرح سلطة الطفل الشيخ. المرأة القائدة، ترعى ابنها، تشيد صرح سلطته، على حساب معاناة الفلاحين.
أبو مولود من بعيد، يرعى الطفل مولود، يسمع عنها، يعرف جيدا الشيخ، أبو إبراهيم، طغيانه، حقده على الفلاحين.
لما كبر الشيخ الطفل، إبراهيم، اشتد ساعده، حمل السلاح، في صفوف عملاء الاستعمار، قهر الفلاحين الفقراء، طوعهم خدمة للمستعمر، من ضحاياه مولود.

-3-

أبو مولود، يهوى المغامرة، ينتقل خارج بلدته، تعلم علوم عصره، العلوم العتيقة، خرج في قافلة في اتجاه المشرق، تعرف على مشاكل التجار، زار القروان، الأزهر، تعرف على علوم ابن خلدون، رافق القوافل، ترك الأرض لأخيه، الذي يجمع كل المنتوج الفلاحي. يحكي عن الحروب القبلية، مولود الطفل يصغي، الصراع بين القبائل، الشيوخ، قبل دخول الاستعمار، كانت الحركة عنصرا أساسيا في حسم السلطة، تجسد قوة شيخ القبيلة، في صراعه مع باقي شيوخ القبائل، قبل تنظيمها، قبل حسم السلطة، يقوم الكومندو باختراق القلعة المستهدفة، يتم ذلك ليلا، تصل أخبار قلعة مريم، الفقهاء يتبادلون الأخبار، عبر الطلبة المتنقلين، بين المساجد والمدارس العتيقة، بحثا عن العلم والمعرفة.
سقط حكم المرأة، سيطر الشيخ الخائن على القلعة، الشيخ الشهم، ينظر في الأمر، يجتمع مع خيرة جنوده، باحمد العسكري القيادي بجانبه، الخادم يقيم الشاي، أتاي الصحراوي المشحر، فقيه القبيلة يحضر الجلسة، يدون، الأمر يستوجب الحركة، كل الأنظار، تتجه إلى قلعة مريم. رجال الشيخ، من السواحل، صنهاجة الملثمين، الصحراويون، ينطلق نزاع الحكم على القلعة، من جديد.
الشيخ الخائن يسيطر عليها، ما يهدده، خروج الشيخ الشهم عن نفوذه، عدو آخر يولد، عدو حقيقي، يتوعده، لا يستطيع القضاء عليه، شبحه يطارده، لما يهم إلى الفراش ليلا، النوم يغيب عنه، يفكر، في أمر يحيره، لم تنفع معه المساومة، المناورة، الحيل، الإغراءات.
يشتد الصراع حول السلطة الجديدة، التي شيدتها المرأة، مركز جديد للسلطة، الصراع بين الرجال، بين الشيخين، شيخ خائن يسيطر على القلعة، شيخ شهم يريد تنحيته.
باحمد عنصر أساسي في الكومندو، رغم وجود مدرسة عتيقة بالبلدة، العسكريون لا وقت لهم لتلاوة القرآن، الاستماع إلى الأحاديث، مهمتهم الأساسية حراسة القلعة، حماية شيخ القبيلة، توفير شروط السيطرة على السلطة، إخضاع باقي القبائل. قلعة مريم، بين أعين الشيخ الشهم، يضعها هدفا له، همه الوحيد، السيطرة عليها.
في ليلة من ليالي الصيف، اخترق الكومندو القلعة، باحمد ودامبارك، العسكريان بسطحها، المستعبدات منشورات، نائمات هناك، من كثر تعب العمل بالنهار، إلا واحدة، فتحت عينيها. دامبارك يسل سلاحه، يشير إليها، باحمد يحذره:
ـ انتبه، التزم الهدوء، لا ترتكب هذه الحماقة، إنها خائفة، أتركها، هي مستعبدة فقط.
أسرع العسكريان إلى مغادرة القلعة، يرددان:
ـ سرقنا الشيخ الخائن، سرقنا القلعة.
لازمة يرددها العسكريان في رجوعهما إلى قلعة الشيخ الشهم. في الصباح، استقبلهما الشيخ، باحمد يردد :
ـ اخترقنا القلعة، في سطحها مستعبدات نائمات، لو لا واحدة، استيقظت، لجلبنا معنا بعض الأدوات.
ارتاح الشيخ لجرأتهما، شعر بعنفوان القائد المنتصر، أعطى أوامره لإعداد العدة، الحركة قادمة لا محالة، أمر خادمه بإقامة حفل شاي على شرف الكومندو. جهز الخادم الصينية الفضية، المذهبة، المرصعة ببراد فضي مذهب، اثنا عشر كأسا من البلار، الماء يفور من فواهة البابور النحاسي الفضي، حبوب الشاي الصيني، الزعفران، السكر، اللوز البلدي المقلي، في صحن الفاروزي.
كل أواني الشيخ من الفضة والذهب والنحاس، أقام قيم الحفل الشاي، ناول الشيخ أول كؤوس الانتصار، استمع الجمع إلى مغامرات باحمد ورفيقه، شيق في الحكي، يحترمه الشيخ، يتق به، يحكي :
ـ تلك المستعبدة نحس، جر دامبارك سلاحه بسرعة فائقة، هي فقط مستعبدة، مسكينة، فهمت جدا أننا من الكومندو، خائفة، صمتها يدل على تدهور الوضع بالقلعة، هذا دليل على أن سلطة الشيخ الخائن منهارة، لم تجازف بحياتها من أجله، لم تستعد للتضحية، عسكره على غفلة، سرقنا القلعة.
ـ الآن يمكننا أن نطمئن على شروط نجاح الحركة، قلعة مريم أصبحت بين أيدينا، السلطة في يدنا، هكذا رد الشيخ الشهم.
فقيه المسجد، معلم مدرسة البلدة، حاضر في حفل الشاي، ختم الجمع، رفع دعواته، تنبأ بالنصر للحركة القادمة. الشيخ يعطي أوامره إلى:
ـ خازن القبيلة بإكرام الفقيه، قسط من المال، من سكة منجم زكًندر. تعويض الكومندو عن خدماته، نجاحه في المهمة.
ـ قائد العسكر بتجهيز العتاد، الاستعداد للحركة، في اتجاه قلعة مريم.
بعد تناول الغذاء، خرج الجميع في نزهة صيد، جهز الخادم الحصان، السرج الفضي المذهب، الزربية الووزكًيطية، رفع الشيخ سلاحه عاليا، الخماسية المرصعة بالذهب والفضة. انطلق الحياحة، وراء الكلاب، ستون سلوقيا، في اتجاه غابة أركًان، يوم صيد جديد، نشوة الفرحة تغمره، أفراد الكومندو، على أحصنتهم، يراقبون الوضع، يتحسسون أية حركة من بعيد.
يوم مشهود، انتظره الشيخ طويلا، السيطرة على سلطة قلعة مريم، هدف القبيلة. متعة الصيد، من طقوس قادة القبائل، للترويح عن النفس، التخلص من تعب التفكير في الحركة. يتم الإعداد لها مدة طويلة، الشيخ في كامل الاستعداد، المادي والمعنوي، بعد اختراق القلعة من طرف الكومندو.
خرج في طريقه إلى القلعة، توقف الموكب بأول بلدة، بالضفة الجنوبية للوادي، يراقب الوضع، استخباراته نشرت تقريرا، ضرورة السيطرة على البلدة الثانية، بشمال الوادي، قريبة من القلعة، هناك موالون للشيخ الخائن، ضد حكم المرأة.
أرسل إليهم مبعوثا، من أجل لقائهم، رئيسهم يعرف أن قلعة مريم منهارة، بعد انتشار أخبار الكومندو، الشيخ الشهم لا يثق به، يعرفه جيدا، يتطلع إلى قيادة القبيلة، في علاقة مع شيوخ الزاوية، يطوع المستعبدين للشيخ الخائن. يريد استباق الجميع، كسب رضا الشيخ الشهم، قطع مزارع الزاوية، على حصانه، سرج فضي، من صنع حزان الملاح، يتبعه مستعبده، من الطوارق، يمسك بذيل الحصان.
توقف أمام الباب، المستعبد يشد لجم الحصان، حرس الشيخ بمدخل الباب، أمروه بالدخول، اقتادوه إلى سطح المنزل، قيم الحفل يقيم الشاي، على شرف دخول الحركة البلدة، صوت طلقتين بالسطح، سقط الرجل، قتل، المستعبد يرجع إلى بلدته، مشيا على الأقدام، ينشر الخبر، رسالة مضمونها موجه إلى القلعة والزاوية. في المساء، الكومندو يدخل البلدة، يرتب الوضع، يهيئ استقبال الشيخ الشهم، الهدف المركزي قلعة مريم.
في اليوم الموالي، الحركة تدخل البلدة الثانية، الشيخ الخائن محاصر، يلتقط الرسالة، يده اليمنى تسقط، ينسحب من القلعة، تفاديا لسفك الدماء، الكومندو يحتل القلعة، يرتب أمور الأمن، استعدادا لاستقبال الشيخ الشهم، الحركة تدخل القلعة، قيم الحفل يقيم الشاي.
الشيخ الشهم، يريد الجمع بين سلطة القبيلة والزاوية، يسيطر على مزارعها، يحولها إلى فدان واحد، يستدعى شيوخ الزاوية إلى القلعة، يلتقطوا الرسالة جيدا، يجمعون أمتعتهم ليلا، يغادرونها في اتجاه سوس السفلى، بلدة قرب بلدة زينب، أم مولود. يسيطر على الزاوية، ينصب قيم حفل الشاي شيخا عليها، يدق آخر مسمار على نعش اليعقوبيين، البوبكريون على رأسها.
يحظى قيم حفل الشاي بثقة الشيخ، يتابع جميع أخبار القبيلة، عبر مخبرين منتشرين في القبائل الأخرى، تاحكًانت وتاكًزولت، حزبان يفرقان القبائل. هو من البوبكريين، خصم اليعقوبيين، يرى فيه الشيخ خير أمين على الزاوية.
القبيلة تسيطر على الزاوية، توجه جديد، طور جديد في حياتها، ممتلكاتها بيد سلطتها، شيخها الجديد يبني مقرا جديدا، ينقل إليه جميع ما في مقرها القديم، ضمنها خزانتها الغنية بالكتب. أحد شيوخها، معلم مدرستها، يضع بجانبه سبعين مرجعا، في جلسات دروسه للطلاب، كل هذه الكتب القيمة، تمت سرقتها، من طرف رواد دار الكناش، القاضي والعدول، نبه إلى ذلك المختار السوسي لما زارها.
مستعبدو الزاوية في وقت متأخر، بعد موت الشيخ، يدخلون إليها، لا يدركون قيمة هذه الكتب، أعمى الاستعباد عقولهم، لا يفرقون بينها وبين الحطب، يستعينون بها لإشعال النار. الشيخ الجديد، لا يهتم بالعلم، ما يهمه هو إخضاعهم لسلطته، مسؤوليته مراقبة مزارع الزاوية، القلعة تحتاج إلى تمويل، لا يعير الخزانة اهتماما.
لعبت مريم دورا كبيرا في تدمير سلطة الزاوية، ثارت على التقاليد، بنت سلطة جديدة، مركز جديد للحكم، جاء الشيخ الشهم، ركز تهميش الزاوية، نزع المشيخة من اليعقوبيين، وضعها بيد البوبكريين. نجحت الحركة إلى القلعة، سيطر عليها، كما سيطر على الزاوية، بداية تاريخ جديد. قال مقدم طائفة عيساوة، عن قوة الشيخ لما سألته :
ـ بو يضان، صاحب الكلاب؟ يملك ستين كلبا، سلوقيا، لما دخل إلى القلعة، حول مزارع الزاوية إلى فدان واحد، سيطر على جميع أملاكها، تحكم فيها، ضبط مواردها، محاصيلها الزراعية، فرض الضرائب، من أجل دعم سلطته، تم إخضاعها.
تم إسقاط سلطة الزاوية، إيذانا بمرحلة جديدة، يتم التحضير لها، الاستعمار على الأبواب، الشيخ الخائن، يتهيأ، عساه يسترجع سلطته المفقودة، رأى الخيانة طريقا لتحقيقها، فضل عبودية الباشا، ضد الشيخ الشهم، الذي رفض العبودية.
جيوش الباشا منهكة، أنهكتها حرب الجنوب، الثوار صامدون، بقلاع الأطلس الغربية، يتربص الشيوخ الخونة بشرقه، بقلعة مريم، بقصر مراكش يتجمعون، يستغيثون، يستنجدون، يقدمون الولاء. حملوا الهدايا، البنادق المذهبة، الخناجر الفضية، الزرابي الوزكًيطية، العسل الزعطري، أركًان السوسي، زيت الزيتوني الهوزوي، الكًركًاع التفنوتي، اللوز الزكًموزني، الزعفران السكتاني. هداياهم محمولة على جياد أمازيغية أصيلة، يهينها فرسان الخيانة، يقودهم الشيخ الخائن.
الشيخ الشهم مهموم، قلق، لم يخرج إلى الصيد هذا الأسبوع كعادته. يجلس بشرفة القلعة، باحمد يسأله عن همومه، قلقه، يقول له:
ـ يا شيخنا ! لدينا عسكر، قوة لا تقهر، نحصن القلعة، أتريد أن نهاجم الخونة؟ نحن قادرون.
دامبارك يواصل:
ـ نحن على استعداد، نهاجمهم، بمراكش، بتاوريرت، نقيم العدة، نحمل العتاد.
صمت الشيخ، يعلم جيدا أن دور القلعة قد حان، هزيمة الثورة بمدينة الجنوب، هي هزيمته هو، نفسه، أكيد أن قلعة مريم تسقط، أمام عينيه، بين يديه، وصلته أخبار الخونة بمراكش.
أسد الأطلس حائر، لم تعد الحركة تشغله، تهمه، عرف جيدا أن المؤامرة حلت، الباشا محاط بالشيوخ الخونة، برئاسة الشيخ الخائن، الذي ما زال ينتظر دخول القلعة، لا يعرف أنه سيدخلها راكعا، ليس زعيما.
الشيخ الشهم، يفكر، يجيبهما:
ـ هذا الأمر، لا تنفع معه قوة، قاومنا الاستعمار كثيرا، حصنا شرق الأطلس، هاجمنا الباشا بعقر داره، حاصرناه، كنتم رجالا صامدين، فرسانا مقدامين. المقاومة لن تستمر إلى ما لا نهاية، هذا قانون كل الحروب، منذ هزيمة قرطاج، دخول الرومان، استعمرت البلاد، نهاية كل الحروب السلام، هذه المرة، تكلفته غالية، آخر قلاع الأطلس.
يواصل:
ـ يكفينا فخرا، سجل التاريخ، لم نبع فرساننا، قاوم الثوار بالجنوب الغربي، ساندناهم، الخونة بمراكش يتآمرون، باعوا فرسانهم، لن أسمح بهدر دمائكم، قاومتم كثيرا، أنتم فرسان الشهامة، لن أهدر دماءكم، نجعلها نهاية الحرب، بداية حرب باردة تستمر، للحرب نهاية، السلام بداية حرب جديدة.
تأثر باحمد، كثيرا، فهم جيدا كلام الشيخ، لغز حائر، استمرت مقاومة القلعة، مملكة الجنوب اضمحلت، دور القلعة قد حان، لم يعد يستهويه حمل السلاح، السلام ينزعه من يد الشيخ، يضعه بيد الباشا، عميل الاستعمار. لن يستهويه السلاح إن سقطت القلعة، لديه علاقة خاصة بالشيخ، عسكري من كومندو القلعة، كسب ثقته، ليس فقط في حمل السلاح. الانتماء إلى عسكر القبيلة، يشترط معرفة خاصة باستعمال السلاح، تقنية عالية، قوة العقل والجسد، لا تتوفر فيه فقط هذه الصفات، إنما أيضا، خصال أخلاق المخلص للقضية، الحرية، معنى الحياة، لا حياة بدونها، لا تباع، لا تشترى.
اكتسب الرجل الشهامة، من انتمائه الطبقي، الاجتماعي، انتماؤه إلى صنهاجة الملثمين، فلاح من جذور الأطلس، على مشارف الصحراء، أحرار الأطلس الصحراوي، شهامة أسود الأطلس، فهود الصحراء، خصال مجتمعة في الرجل، الأمانة في القول والفعل، لم يرض بحمل السلاح وراء الشيخ.
دامبارك، رفيق باحمد، لم يفهم جيدا خطاب الشهم، لما حط الخونة على الجبل، هرع يخبره، لم يعرف أنه يعلم ماذا يعني ذلك، بكل سذاجة، براءة، العسكري دامبارك يلتمس الأمر، أمر الهجود عليهم ، الشيخ يصمت، لا يجيبه.

- 4-

هناك من الرجال، من لا تستهويه السلطة، يرفضها، يقف ضدها. أبو مولود يكرهها، عمل بوصية أبيه:
ـ لا تتقرب من سلطة قطاع الطرق.
يسافر في رحلات طويلة، خارج بلدته، في رحلته إلى المشرق، مع قافلة التجار، شاهد مخاطر الطريق. تذكر قصة التجار مع التهامي، قائد قطاع الطرق. يبحث دائما عن الجديد، عن أفكار جديدة، مكان جديد، رفاق جدد، تنقل كثيرا، غادر بلدته الصغيرة مبكرا، بحثا عن العلم والمعرفة.
تزوج من امرأة فلاحة، نشاطه العلمي، ساهم في زواجه خارج قبيلته، بعيدا عنها، اكتفى بزوجة واحدة، زينب، أنجب معها مولود وثلاث بنات، ذاك الشبل من ذلك الأسد، صلب، عنيد. من عائلة عريقة، مارست الفلاحة بعد خسارتها في التجارة، تمسكت بالعلم، رفضت خدمة السلطة، استقرت بجبال الأطلس، منذ ستة قرون.
بعد الزواج، غادر البلدة، إلى أحواز مراكش، بلدة جميلة، على ضفاف واد متلألئ، هناك كانت ولادة مولود، خارج بلدة أمه، بعيدا، بمدرسة عتيقة، بدأت طفولته واندلاع الثورة الأولى، بقيت بصماتها بذاكرته، خزنت كل ما كان يسمعه في أحاديث أبيه، عن الاستعمار والثورة.
مولود بالمدرسة العتيقة، يستمتع بأحاديث أبيه، مع أصدقائه، عن دخول المستعمرين، آنفا، الشاوية، بعد انهيار دولة القبلية، دولة قطاع الطرق. الاستعمار في مواجهة ثورة الشيخ حمد، المنبثقة من الزاوية الصحراوية. قامت على أسس القومية، الدين، الولاء، ملك في مملكته، من الجنوب إلى الشمال، على سواعد الفلاحين، انتفاضة حملة السلاح والقلم.
يجلس مولود بجانب أبيه، بعقل ثاقب، طفل ذكي، يستمع إليهم، في حديثهم عن الفرنسيين، المعمرين، الكفار كما يسميهم الفقهاء، أحوالهم، لباسهم، ثقافتهم، دينهم. طفل كبر قبل الأوان، الطفل أبو الرجل.
عاش أطوار الثورة الأولى طفلا، بتلك المدرسة، بأحواز مراكش، أبوه يعلم الطلبة، ما تلقاه من علوم، طالبا المزيد من العلم والمعرفة، في رحلاته، تعرف على عالم أرحب خارج قرية أجداده. قبل دخول الاستعمار، عاشت مراكش في ظل ثورات مستمرة، من أجل الحرية، أدت إلى انهيار الدولة المركزية، دولة قطاع الطرق، التي استمرت قرونا. بعد إسقاط حكم تيهيا، جميع حكام دول القبائل يتخذون الدين مطية، سار التهامي على دربهم بشكل أكثر دموية.
لم تنشأ الدولة شبه الحديثة إلا بعد غزو الاستعمار الفرنسي، نشط حكم شيوخ القبائل في الأطلس والصحراء، نشطت الصراعات بين القبائل، نشأ فريقان، تاحكًانت وتاكًزولت، شبه حزبين متصارعين، انقسم الفلاحون إلى فريقين، حاول الشيخ حمد، قائد ثورة الجنوب، توحيدهم، لم يستطع، واجه الاستعمار بما لديه من مناصرين، انطلاقا من الزاوية الصحراوية، لما دخل مراكش، خلع الباشا.
عمل أبو مولود بوصية أبيه، رفض لقاء الباشا، رفض تقديم الولاء، استقر بجبال الأطلس شمالا، بين فجاج، تتدفق بها مياه بحيرة إفني، من الجهة الشمالية لجبل توبقال، موقع القصة الخرافية للفقيه سيدي إفني، في الجهة الجنوبية توجد بلدة أجداده، وأجداد زينب، زوجته.
أبو مولود، من بين الفقهاء الذين بايعوا الشيخ، تمت طقوس البيعة بمراكش الحمراء، غادرها الباشا، تحالف مع الاستعمار، في حرب ضد ـ ثورية، ضد الشيخ الثائر.
مولود، في رفقة أبيه، لم يفهم معنى حديثه، مع رفاقه، عن الاستعمار، الثورة، الشيخ، الكفار، ذاكرته موشومة بالذكريات، رافقته طيلة حياته الموشومة بالمعاناة، لم تفارقه، لم يفقد ذاكرته في أيامه الأخيرة، يتحدث عن طفولته، عن هذا الحدث بالضبط.
عاش مولود مع أبيه طفولة متقدمة، كبر قبل الأوان، استمع إلى أحاديثه مع أصدقائه عن المستعمرين:
ـ دخل النصارى الشاوية، احتلوا آنفا، الفرنسيون، الكفار، لباسهم مختلف عن لباس المسلمين، يضعون الطرابيش على رؤوسهم، يلبسون أقمصة وسراويل طويلة، لا يلبسون الجلباب والسلهام، ينتعلون أحذية قوية، سباط، كفار دخلوا بلادنا، يجب مقاومتهم.
يشير إلى سلاحه بزاوية أخربيش بالمسجد، لا يفارقه، ورثه أبا عن جد، من ثقافة الأمازيغ. قوي البنية، جريء، لا يهاب السلطة، استمد أنفته من عائلة تؤمن بالحرية، واعية بلعبة الحكم والسلطة، رفضت خدمة الدولة المركزية ومعها دول الحكم الذاتي، ضد أرستقراطية المدينة ومعها أرستقراطية البادية، اهتمت بالعلم والمعرفة وقاية من شر السلطان.
لما دخل الشيخ حمد مراكش، حضر أبو مولود حفل ولائه، الشيخ السلطان، ملك في مملكته، كل الأحرار، يحجون إلى مراكش، يساندون الثورة، يلتمسون قوة الثائر، يقيمون الصلوات، الأدعية، طالبين النصر ضد الكفار المستعمرين، يجندون المجاهدين. يأتي التغيير دائما من الجنوب، هذا ما تعلمه مولود من أبيه، تحقق منه المستعمر، بعد ثورة الجنوب.
الطفل مولود يرحل مع أمه، إلى بلدتها، لم يتسع وقت أبيه لرعايته، انشغل بشؤون الثورة ضد الاستعمار، رفع سلاحه عاليا من أجل الجهاد، ضد الكفار، كما يسميهم الفقهاء، في الوعي القومي المسلح بالدين، الإسلام ضد المسيحية، في غفلة عن تطور الدولة الحديثة بالغرب، من الإقطاع إلى البورجوازية.
بعد اقتراب موكب الشيخ حمد من مراكش، حمل أبو مولود سلاحه، في سبيل حرية البلاد، يرفض سلطة قطاع الطرق، في اشتياق لقاء الشيخ، الذي خلع الباشا، أعلن مراكش عاصمة مملكته، رفع السلاح عاليا في وجه الاستعمار. جمع متاعه في الحين، منح الطلبة الصغار عطلة، صاحب معه الطلاب الكبار، حمل سلاحه، يتبعه هؤلاء، تقدم أمام الشيخ حمد:
ـ أنا من جندك، في الصفوف الأولى، أقاتل الكفار المستعمرين.
أمر الشيخ قائد جيشه، الفقهاء لا يحاربون، هم حملة العلم، سلم العتاد الحربي للطلبة، التحقوا بصفوف الجيش، الأمازيغ صيادون بطبعهم، أثناء رحلاتهم بجبال الأطلس، الصحراء، لا يفارقهم السلاح، بالغابات، بالواحات، موطن الأسود، الفهود، الغزلان، المهاء.
لم تستمر الحرب كثيرا، قوة المستعمر أقوى من جيش المقاومة، الجيوش الفرنسية مدربة على الحرب، تعلموا من الحرب الاستعمارية بالجزائر، طوروا فنون الحرب، أسلحتهم متطورة، فتاكة، في مواجهة جيش غير نظامي، جماهير الفلاحين الحاملين لأسلحة بسيطة، سجل التاريخ انهم قاوموا المستعمر في مهده، رفضوا الخضوع.
لم يقاوموا طويلا، لكنهم أرعبوا المستعمر، سطروا طريق الثورة، أشعلوها مقاومة كالنار في الهشيم. استمرت المقاومة، لم يعرف المستعمر يوما استراحة المحارب، رغم بطشه، جبروته، بقي ضعيفا أمام إرادة الشعب، التي جسدها الفلاحون حملة السلاح. رغم خيانة الباشا، نمت المقاومة، جيلا بعد جيل، ورث الفلاحون حمل السلاح، أبا عن جد، استمرت الثورة، عمت الحرب جبال الأطلس.
قاوم الثوار المستعمر بجيشه المنظم، انهزموا أمام قوة الاستعمار، كل الأحرار منكسرون، لم يستسيغوا انتصار الكفار على المسلمين، كما يقول الفقهاء. لم يفهموا بعد أن لعبة الحرب تغيرت، قوانين الحرب الاستعمارية تطورت.
في دولة القبيلة، دولة قطاع الطرق، كانت الحرب عفوية، رغم شراسة المقاتلين، الأمازيغ، رغم الشجاعة، الإقدام، الجرأة، التضحية، كل هذه الصفات، لم تصمد أمام قوة المستعمر، لا الصلوات، لا الأدعية، لا بركة الشيخ، كل هذه المقومات الأخلاقية، لم تصمد أمام السلاح المتطور، استراتيجية الحرب الجديدة، دولة القبيلة أمام دولة البورجوازية، معادلة متناقضة :
ـ بين عقلية القبائل المتناحرة وعقلية الديمقراطية البورجوازية.
ـ بين الأحزاب القبلية، تاحكًانت وتاكًزولت، والأحزاب البورجوازية.
ـ بين المفهوم القبلي للسلطة والمفهوم الرأسمالي.
ضاعت ثورة الشيخ حمد، الباشا، أتباعه، في تحالف مع الاستعمار، تناقضات دولة القبيلة ودولة البورجوازية، أسقطت الثائر من عرشه، استمرت مقاومة الفلاحين.
تلقى أبو مولود صدمة قوية، بعد هزيمة ثورة الجنوب، أمام الجيش الفرنسي، لم يستسغها، فهم أن تآمر قواد القبائل، الخونة، سبب مباشر، الباشا، أعوانه، كل القواد الخونة تكالبوا على الثورة، طغيانهم يسود، ذلك ما ينتظر مولود الطفل في المستقبل. رجع إلى بلدة زينب، التحق بأسرته الصغيرة، استقر بمدرستها، يعطي الدروس، يقيم الصلوات، يزور بلدته، مسقط رأسه، يخرج مساء، على ظهر فرسه، حاملا سلاحه، يدخل ليلا، يزور العائلة، أبوه على فراش الموت، يخرج قبل الفجر، يتسلق جبال الأطلس، الباشا يتربص بالثوار. في صيف حار، مات أبوه، لم يتمكن من حضور جنازته. في ذلك الصيف، موكب الباشا على مشارف بلدة أبيه، في طريقه إلى قلعة مريم، للقضاء على تمرد الشيخ الشهم.
أسد الأطلس، يواجه عملاء الاستعمار، لم يستطع الباشا اختراق جبال الأطلس، قلعة مريم، سد منيع، حصن حصين، جيوشها تهاجمه، الخونة يتراجعون، أرعبهم، فتح للثوار، جيوش ثورة الجنوب، الطريق لمهاجمة الباشا، بعقر داره، بمراكش.
ـ الثورة تأتي من الجنوب، التغيير يأتي دائما من الجنوب.
الفرنسيون يعرفون هذه المقولة جيدا، مقولة يرددها أبوه على لسان أجداده، يلقنها له، لمسها المستعمر من ثورة الجنوب. لجأ الشيخ حمد إلى مديمة الجنوب، تحصن بها، يتم حصارها من طرف الإقطاع والاستعمار، الشيوخ الخونة يرأسهم الباشا، خرج منها الثوار. هي بداية حصار قلعة مريم، لم تسقط القلعة، مازالت واقفة، شامخة.
التاريخ يعيد نفسه بشكل مأساوي، ذكر المدينة بحصارها الأول، بعد بناء دولة قطاع الطرق، بلاد يغود تنتفض، نصف قرن من إخماد الثورات، آخرها ثورة مدينة الجنوب. في عز بناء دولة قطاع الطرق، حط قائدها على مشارف المدينة، بنى معسكر جيشه الجرار، أحفاد قتلة تيهيا، الأفارقة الطوارق الخونة، استباحوا الأرض، النساء، الجواري، إلا واحدة أعلنها زوجة له. أينما حل، يدمر البلاد، يحتل الأرض، يستعبد الرجال والنساء، يغتصب ملكة جمالها، تصير جارية في قصره.
حصار مدينة الجنوب، ينذر بسقوط القلعة، الشيخ الشهم، أسد الأطلس، حائر، من الشرق، يراقب مملكة الجنوب، الشيخ حمد ملك في مملكته، يرفض الاستسلام، بالجنوب الغربي للأطلس، على شاطئ الأطلسي، ترفع رايات الحرية.
جميع الخونة، ضد الثورة، الشيخ حمد، شهامته، إيمانه بالحرية، الثورة، ضد المستعمر، أعوانه، رفض الاستسلام والخيانة، رفض الجلوس مع الخونة، في طاولة واحدة مع الأعداء، أعداء جماهير الفلاحين. بعد هزيمة الثورة بمراكش، قطع الشيخ وجيشه جبال الأطلس، وصل إلى مدينة الجنوب، اعتصم بها، حط الاستعمار بأحوازها، الشيوخ الخونة يحومون حولها، ينتظرون دخولها. قاوم الثوار تحالف الإقطاع والاستعمار، فئة قليلة صمدت أمام جبروت المستعمر، سقطت المدينة، غادروها.
الشيخ حمد بقلعته بالجنوب، يقدر الفرنسيون قوته، تستمر ثورته، القواد الخونة ينهزمون بالأطلس الصحراوي، بالساحل، الشوط الثاني من ثورة الجنوب ينطلق، تندلع نيران الحرب، بالجنوب الشرقي للأطلس، إلى مراكش يهرع الشيوخ الخونة، يحومون حول دار الباشا، تسللوا، يركعون بالمشوار، يقبلون الأيادي، يطلبون التخلص من أسد الأطلس.

-5-

خبر أبو مولود تضاريس جبال الأطلس، المنطقة الاستراتيجية، الجغرافية الشاسعة، توبقال، سيروا، صغرو، درعة، راس الواد، سوس، الصحراء، لعبت دورا أساسيا في تغيير السلطة عبر العصور، مناطق جبلية، مفتوحة على الهضاب، السهل، الصحراء، ثروات معدنية ومائية هائلة.
حوض سيروا، نتاج بركان مليوني سنة، عبارة عن معادن نفيسة، ليس من سلسلة الأطلس، تضاريس جيولوجية حيوية، في حركتها عبر مئات آلاف السنين، ولادة كنوز الدنيا، ببلاد يغود.
حوض توبقال، بحيرة إفني، قصة خرافية، بطلها الفقيه سيدي إفني، أعلى قمة، ثروات مائية هائلة، تغذي سهل سوس، أحواز مراكش، درعة.
استراتيجية عسكرية مزدوجة، الأطلس والصحراء، سوس العليا تطل على فيافي الصحراء، على بحر الظلمات، المحيط الأطلسي، البحر والجبال.
توفي قائد ثورة الجنوب، تستمر الثورة، رياح مقاومة الجنوب عاتية، من غرب سوس العليا، من شرقه، في كل الاتجاهات، أبو مولود لم يعد يستهويه السفر بعيدا، انقطعت رحلاته، انهزمت ثورة الشيخ حمد، الباشا، يسيطر على مراكش، يتجه نحو آخر قلاع الصمود بالجنوب، قلعة مريم، ضد الشيخ الشهم، المتمرد. موكبه يعبر جبال الأطلس، أدرار ندرن، كناية عن هدير البركان. من تلوات إلى بحيرة إفني، يحط بأسراكً، على قدم توبقال، معقل الفقيه سيدي إفني، تحدثت عنه الروايات المتداولة بين الفلاحين، ساكن البحيرة، سلطان الجن.
مياه البحيرة وفيرة، تجري سلسبيلا، تسلب عقول الفلاحين، تهتز العقلية الخرافية للأمازيغ الأقدمين، اهتزاز الأرض لبركان توبقال، يتداولون قصصا خرافية حول سيدي إفني، حاكم الجن.
بحيرة عميقة، تضرب في أعماق جذور جبل توبقال، تعانق مياه الأطلسي، على إيقاع هدير بركان، ضرب في أعماق الزمان، لفضت الأرض حممها، صنعت سدا منيعا، حجز مياه البحيرة، فتح فوهاته، في أرض عميقة. تخرج المياه من أعماق الأرض، تنتفض، تنساب، على طول فجاج جبال الأطلس، بالوديان المخترقة لسلاسلها. تعانق مياه سيروا، الجبل الخرافي، كنز من كنوز الدنيا، تتناغم مياههما، مجتمعة، تنساب سلسبيلا، في وادي سوس، في اتجاه مياه الأطلسي المالحة.
سيروا، حصيلة بركان هائل، منذ مليوني سنة مضت، تولد عنه خزان هائل من المياه الفضية، على طول الأطلس، هضابه الخصبة، ترسوا عليها ترسبات حمم البركان، أعطت ولادة نبتة الزعفران الذهبية، التي أبهرت يغود ساكن الأطلس. أيادي يغودة، المرأة الفلاحة، تتناولها بلطف شديد، في فصل الخريف، استعدادا لفصل الشتاء، حيث شدة البرد، تداعب زهرة الزعفران، من طلوع الفجر إلى أواخر الليل.
مياه سيروا الفضية، المنبعثة من أعماق الأرض، منذ مليوني سنة، تعانق مياه توبقال الذهبية لتغمر وادي يغودا، يعم الخصب بالسهل، المحفوف بغابات أركًان، الشجرة الخرافية التي ألهمت يغود تركيب لغة الكلام، تمازيغت. أركًان الأرضية المادية لإنتاج اللغة، الثقافة الأمازيغية، في تناغم مع مناجم الذهب والفضة بالأطلس.
جمال الطبيعة، الهائلة، لم يعد يستهوي أبو مولود، قلاع الصمود بالجنوب، تسقط تباعا، الثورة المضادة، تعم بلاد يغود، إخضاع سوس، الأرضية المادية لتمركز الرأسمال في الزراعة، شق الطريق من الأطلسي إلى درعة، إلى مناجم الفضة، تقسيم السهل إلى شقين، بناء ضيعات المعمرين.
توقف موكب الباشا، على مشارف بحيرة إفني، يستحضر روايات الفقيه سيدي إفني، يتقمص شخصيته الخرافية، إدماج الخرافة بالواقع، ترجمها بشكل درامي، في عصر مناقض لعصر الفقيه، في تناقض بين مصالح الفلاحين ومصالح الإقطاع، تنبعث روح الفقيه من جديد، على إيقاع نغمات الاستعمار. الفقيه حاكم الجن، الباشا حاكم الإنس، إدماج الإنس والجن، السلطة والدين، الواقع والخيال. في خطاب، مستلهم من قصة سيدي إفني:
ـ أرسلني سيدي إفني، حاكما عليكم، أطيعوني، أعبدوني، أنا قائدكم الأعلى، أنتم جنودي، أحميكم من الاستعمار.
يتأمل مياه الفجاج الذهبية، المتلألئة، يقف بملتقى الوديان، أمسوزارت، سواقي أيت إكًران. الفلاحون الفقراء، بقدم البحيرة، تحت بقايا حمم بركان توبقال الباردة، الجبل مازال يقذف رماده باستمرار، من أعلى، فوق رؤوسهم، الفلاحون مسلحون، السلاح جزء من ثقافتهم. يطلون من على قمم الجبال، إسك نغري.
على طول هذه القمم، أسكاون، يتم إشعال النار، إنذارا بقدوم الأعداء، الكل حائر، ينتظر، العسكريون المرابطون بالجبال مستنفرون، ينتظرون أوامر الشيخ الشهم، لا يعلمون أن الأوضاع تغيرت، فشلت ثورة الجنوب، ثورة الشيخ حمد، حان دور المتمرد. في خاطب الباشا من وحي سيدي إفني:
ـ أنا جئتكم اليوم، أبشركم، بخبر سيدي إفني، عن الحرية، الديمقراطية، العدالة، المساواة، أحمل وثيقة الحماية، على فوهات المدافع، بيدي اليمنى بندقية، بيدي اليسرى رسالة الاستعمار، أبني لكم حكما عادلا، أحميكم من النصارى، أنا حاكمكم، باسم الحق، أرسلني إليكم سيدي إفني، أحمل رسالته، آمر بالمعروف، أنهى عن المنكر.
في الصيف، تقام حفلات أحواش ليلا، احتفالا بجني الإنتاج الفلاحي، على نغمات ألحان أمازيغية، إيقاع البنادر والطبول، بأيادي الفلاحين. من نغمات تويزي، جمع المحصول الزراعي، بالمزارع والغابات، إلى رقصات أحواش بالنوادر ليلا، حتى الرعاة يحضرون الحفل، يتركون الغنم والماعز بالعزيب، إفغلن، بالمناطق الفسيحة الممتدة بأعالي الجبال، أكًدال، موطن الأسود والفهود الأطلسية.
بعد تناول العشاء، خبز شعير، عسل، سمن، كؤوس الشاي، كسكس الشعير، لبن البقر، التين والعنب البيئي الطبيعي، يقام الحفل، أحواش العازبات. فتيات موشحات رؤوسهن بحلي من الفضة، ورد الغنباز، عبق الحبق، لباسهن ألوان زاهية، حذاء ناعم، إدوكان، بأرجلهن، يرقصن، برشاقة فائقة، على نغمات الطموح، طموح بناء أسرة، أم أطفال. كل فتاة، تبرز أنوثتها، قدرتها على الإنجاب، مسؤولية البيت، في وسط صف أحواش، جميعهن على قامة واحدة، الصغيرات يتعلمن الرقصة، يقفن بجانبي الصف. فتيات بجمال أمازيغي، في رشاقة، كسبنها من طبيعة المنطقة الخضراء، المياه الذهبية المتدفقة، من أعلى الجبال، إلى طلوع الفجر، يستمر احتفال موسم صيف معطاء. الفتيان يتراقبون، شطحات الفتيات، أصواتهن الملائكية. عندما يبلغ الفتى أشده، يبرز قوته، يحمل السلاح، يقتحم الغابات، استعدادا لتحمل المسؤولية، يخرج لصيد الأسود والفهود، حمل السلاح جزء من ثقافة الأمازيغ.
الصيف يحمل معه خيراته الطبيعية، الشعير، اللوز، الكًركًاع، الحليب، اللبن، الجبن، العسل، أركًان، خيرات طبيعية، تداعبها أيادي الفلاحات الفقيرات، أياد نظيفة. المرأة الفلاحة تعمل طول السنة، بالمزارع، البيت، الغابة، بلا كلل، تنتج، تصنع طعاما، لأفراد العائلة، للضيوف، للضيف مكانة عالية في ثقافة الأمازيغ.
بعد ليلة بيضاء، قضاها الجميع مع نغمات أحواش، النساء يتوجهن إلى المطبخ، أنوال، لإعداد الفطور، أزكيف، للرجال والأطفال، تتسابق الفتيات إلى المزارع، يرجعن قبل اشتداد أشعة الشمس الصيفية. فتيات عازبات، عليهن حقوق للأبقار، صغار الغنم والماعز، يحملن العشب الأخضر، إلى الزريبة، على ظهورهن كالعربات، في مجموعات، بين المزارع، على إيقاع نغمات، ألحان أمازيغية، شجية حينا، فرحة أحيانا، نشوة الحياة الطبيعية، ببوادي بلادي.
رغم المعاناة، القهر، التهميش، تسري في عروقهن، نشوة الحياة الطبيعية، الخالية من التصنع، بدمائهن الزكية، بعرق جبينهن، على سواعدهن، يعشن، يلدن، يرضعن، يربين أطفالا، على التعاون، التضامن، تيويزي، الإخلاص للجماعة، في أفراح الزواج، الميلاد، الأعياد، يلتمسن قيمة الحياة، الطبيعة، البراءة، التلقائية، الاختلاط البريء، من أجل بناء أسرة.
كل أبواب المنازل مفتوحة، كل المنازل ترحب بالقادمين، من العائلة، الأقارب، الأصدقاء، الضيوف، الغرباء، للجميع مكان، في قلب العائلة الأمازيغية، قلوب مفتوحة، رحبة، ثقافة أمازيغية، حرية طبيعية، الأمازيغ أحرار بطبعهم. دخل الاستعمار، فقدت كل هذه المفاهيم معانيها الطبيعية.
لم يستسغ الباشا طبيعة أمازيغ توبقال، أحرار ببلادهم، ثقافة الحرية، طبيعة المنطقة الخلابة، يراها، بعين جشع المستعمر، رقصة أحواش، لم تستهوه، رغم نغمات نسائية ملائكية، تحت أصوات خرير المياه المتدفقة، سلسبيلا، إنما هدفه الأخير، قلعة مريم. يقف بأسراكً، مركز توبقال، يعلن إخضاع بلدة سيدي إفني، في طريقه إلى قلعة مريم. قضى ليلة أحواش، يفكر في إخضاع الشيخ الشهم، يرتشف كؤوس الشاي، يتناول اللوز المقلي، العسل، السمن، خبز الشعير، يفكر في القضية.
الخيرات الطبيعية، من طبيعة توبقال، لم تستهوه، هدفه الذي يشغله هو إخضاع الأطلس، القضاء على تمرد الشيخ الشهم، استكمال خريطة استعمار الجنوب، قضى ليلته يفكر في هذا الأمر. كل أنظاره، تتجه إلى القلعة، هناك شيخ مهموم، الشهم المتمرد، يريد وضع حد لحكمه، يتربص به الشيوخ الخونة. الشيخ الخائن يسعى إلى الحكم من جديد، يتلمس من تقديم ولائه طريقا إلى القلعة، يدق أبواب الفلاحين، يعاهدهم بالرخاء في عهد الاستعمار.
سار الموكب في اتجاه القلعة، توقف ببلدة أبي مولود، منطقة استراتيجية بالأطلس، مطلة على سهل سوس، أعلن إخضاعها، على مشارف راس الوادي. هناك، بملتقى مياه سيروا الفضية ومياه توبقال الذهبية، على مشارف مسقط رأس أبي مولود، المتعلق بالحرية حد السفر بعيدا، في الزمان والمكان، قال عنه مولود:
ـ يحب الحرية، الاطلاع على ثقافة الآخرين، يسافر كثيرا.
موكب الباشا براس الوادي، يستقبله خليفته، يقيم له استقبالا ملكيا، حفاظا على موقعه في السلطة، على نغمات رقصات المستعبدين، إسمكًان، تعبيرا عن سيادة العبودية، يقدم الولاء، التعاون للقضاء على تمرد الشيخ الشهم.
الباشا يصل إلى الجبل، فوق القلعة، يراقبها، حوله الشيوخ الخونة، في خيمته، يرسل إلى الشيخ الشهم وفدا، يحمل رسالته، من أجل الصلح، مكيدة، خديعة. تناول الشهم الغداء، جمع رجال القلعة، أخبرهم:
ـ أذهب إلى الباشا، دون سلاح، إن رجعت، لن أتسلم السلطة تحت إمرته، أرجع إلى بلدتي، الفلاحة والحرية، إن اعتقلني، قتلني، لا تحاربوه، لا أريد هدر دمائكم، أذهب وحدي، تبقى القبيلة. حكمه أكيد، يكون قاسيا، ثمن حريتكم يكون أغلى، لا تحاربوه الآن، لا معنى لحرب خاسرة، علموا أولادكم معنى الحرية، الأرض أثمن من الحرية، لا تتركوا الأرض، لا تبيعوها، أرضكم، حريتكم، ضعوها بين أعينكم. سيأتي يوم الحرية، لا تترددوا، احملوا سلاحكم، تسلقوا الجبال، كونوا أحسن قدوة في القتال، علموا أولادكم الرماية، ترقبوا ذلك اليوم. لا تتأثروا بسقوط القلعة، إن دخلها اليوم، أكيد يخرجها غدا، الغد ليس ببعيد، الحرب مستمرة، من أجل يوم الحرية، أودعكم، لن أحكم بعد اليوم.، ما لا أعرفه، هل أموت اليوم أم غدا؟
لم يستسلم الشيخ الشهم، اعتقله الباشا، لم يعرف مصيره، قبره، لم يدرك الشيوخ الخونة أنهم باعوا أنفسهم، خانوا سلطة القلعة، التي بنتها المرأة، لن يكون لهم شأن بعدها. مستعبدون، يعانقون الوشاية، يقيضون حريتهم، الخيانة مهنتهم، يتربصون بعضهم ببعض، القبائل مستعبدة. بوعيهم العفوي، الزائف، لم يستطيعوا إدراك هدف الاستعمار، تحالفه مع الإقطاع ضد الفلاحين، يعتقدون أنهم ناجون من بطشه.
استطاع الباشا خداع المتمرد، في الخيمة التي بناها، معه الشيوخ الخونة، دخل الشهم وحيدا، اعتقله، نفاه، قتله، لم يعرف قبره. قال له العسكري دامبارك، قبل أن يذهب:
ـ يا شيخ ! أأمرنا أن نسحقهم.
يعرف الشيخ جيدا القوات المرابطة هناك، ارتباطها بالاستعمار، فضل تقديم نفسه، يعلم جيدا أن الصلح مع الأعداء، مكيدة، فضل التضحية بنفسه، وقاية لقبيلته. يعرف أنها نهايته، لا يمكن للحر أن يعيش في ظل حكم الأعداء، إما أن يكون أو لا يكون.
دخل الشهم الخيمة، بدون سلاح، لا معنى للحرب، في شروط تندر بالهزيمة، هكذا يكون الأحرار، اغتنم الباشا الفرصة، قبض على الرجل، كبله، أمام الشيوخ الخونة. لم يدركوا أن في هذا الفعل، احتقارهم، اعتقالهم، استعمارهم، لا يفهمون هذه الأمور.
يعتقد الشيخ الخائن، أن الباشا ساذج، عفوي، أن يعتقل أكبر الشيوخ، في منطقة المقاومة ضد المستعمر، ويقدم له الحكم هدية لخيانته. رجع الخائن إلى بلدته، حقيرا، غاب الشهم عن الأنظار، لم يعرف مصيره، مات شهيدا.
باحمد قائد عسكري، طويل القامة، قوي البنية، أجداده من صنهاجة الملثمين، القادمين من الصحراء، إحكًان، يتعاطون التجارة، استقروا ببلدة الشيخ الشهم، يتنقلون بين الأطلس والصحراء. اعتزل العمل العسكري، رفض سيطرة الباشا، سلم السلاح، فضل الفلاحة على الخضوع، شهامة الرجل، أدرك أنه لا معنى لحمل السلاح، بعد اعتقال القائد الشهم، الرافض للاستعمار.
تم القضاء على ثورة الشيخ حمد بالجنوب، تم احتلال قلعة مريم، آخر معاقل المقاومة بسوس العليا، الطريق مفتوح أمام المستعمر. لم يفهم الشيخ الخائن معنى الاستقلال، فتح الباب أمام الاستعمار، من الجنوب الغربي إلى الجنوب الشرقي، من المحيط الأطلسي إلى درعة، إلى حدود الجزائر المقاومة، من أجل الوصول إلى خيرات الجنوب الشرقي، المعادن الثمينة هناك، اليوم يتم استغلالها.
في بداية نشوء الطبقة العاملة، بالمدن والبوادي، بالمناجم والأوراش، أكبر مشاريع هذه الأوراش، تعبيد الطرق، يراقبها العسكر الفرنسيون، مولود من العمال المضطهدين، المشتغلون بها بدون أجر، يتم استعبادهم في معسكرات الاستغلال.
تم اعتقال الشيخ الشهم، احتلال قلعة مريم، سقطت شهامة القبيلة، فتح الباشا الطريق للاستعمار، الآذان صاغية، العقول حائرة:
ـ ذهب الشيخ، ذهبت قوة القبيلة، ذهب الشهم. كان يملك ستين سلوقيا، عند خروجه للصيد، تهتز الجبال، الأشجار ترتعش، مياه الوادي تولول، ذهب الشهم، أخباره، أسراره، مصيره، قبره.
رفض باحمد الخضوع لسلطة الباشا، رجع إلى بلدته، يساعد الفلاحين على تنظيم مياه السقي، صارم، ديمقراطي، محترم من طرف الجميع. يستمتعون بحكاياته حول الحركة، يحكي مغامراته العسكرية، من كومندو الشيخ الشهم، لا يهاب الموت، شعاره، المثل الشعبي الصحراوي:
ـ من يركب الجمال لا يهاب الكلاب.
وضع باحمد سلاحه:
ـ لن أحمل السلاح بعد اليوم، سلاحي الجديد، الفلاحة والحرية.
وضع الرجل سلاحه، انصرف إلى بلدته، فضل الفلاحة على الخيانة، تقبيل الأرض على تقبيل الأيدي، لم يتعلم من الشيخ الشهم الركوع، تعلم رفع الهامات، عاليا، السلاح في وجه الطغاة، عاليا، حارب الخونة، لم يرض بحمل السلاح بعد نفي القائد. رجع إلى بلدته، عائلته عريقة، من صنهاجة الملثمين التجار، استقروا بها بعد تأسيس دولة قطاع الطرق، الزراعة نشاطهم الأساسي، التجارة ثانوية، عانى أجداده من تداعيات التهامي، قائد قطاع الطرق. مفارقة تاريخية، بين التهامي والباشا، تاريخ من التناقضات:
– بين الفلاحين الأحرار، حملة السلاح، والتجار الإقطاعيين، شيوخ سلطة دولة قطاع الطرق.
– بين الفلاحة والتجار، قامت سلطة القبائل والزوايا، الصراعات الحزبية، المذهبية والقبلية، البوبكريون واليعقوبيون ، الحكًونيون والكًزوليون.
– بين حزبي تاحكًانت وتاكًزولت ضاعت ثورة الجنوب، آخر قلاعها تسقط، قلعة مريم، غاب الشيخ الشهم.
باحمد يضع سلاحه، بقيت رواياته الشيقة حول الحركة، يحترمه الفلاحون، يشكل توزيع مياه السقي مصدر الصراعات، في عهد الشيخ الشهم، سادت سلطته حتى في توزيع النوبات، يعرفونه جيدا، وجدوا فيه الخلاص لمشاكلهم. أمين على منبع المياه، خزانه، تافراوت، لا يتجاوز أحد النظام الذي يضعه، يقضي ليلته بالمنيع، الكل ينضبط. وجد ضالته في خدمة الفلاحين، أمزال، القائم على تنظيم النوبات، عوض حمل السلاح بممارسة الفلاحة، تشبع بالحرية، وجد في الفلاحة خير وسيلة للوصول إليها.
في دولة قطاع الطرق، من حمل السلاح يكون سيد نفسه، المستعبدون خاضعون لسلطة أحفاد التهامي، لما دخل الاستعمار، تغيرت كل المفاهيم، سلطة الباشا تسود، تحولت قلعة مريم، دخلها الخونة.
في عهد الشهم، باحمد العسكري، همه الوحيد حمل السلاح، الاعتناء به، تنظيفه من البارود، إطلاق الرصاص، استعدادا للمواجهة المفترضة. الاعتناء بالحصان، تدريبه بالجبال، الهضاب، الوادي، استعدادا للحركة، اليوم، لديه كامل الوقت للتفكير في الزواج، في الأسرة. استقر ببلدته، اندمج مع الحياة المدنية، قرر الزواج، كل الفلاحين يساندونه، يقدمون الهدايا، أقاموا حفلا لائقا بالرجل، يرون فيه قدوة في المعاملة.
تزوج، اهتم بالفلاحة، الوسيلة الوحيدة لكسب لقمة العيش، في بلدته، بين جنان الزيتون، اللوز، غابة أركًان، المياه الفضية المتدفقة، من حوض سيروا، الجبل الخرافي. لحياته معنى أرقى، اندمج في المجتمع والطبيعة، في ظل قوانين دقيقة، منحت حياة الفلاحين، امتدادا في الزمان والمكان. حياته تتخذ مسارا جديدا، يجمع منتوجه الفلاحي، كل أسبوع، في اتجاه السوق الأسبوعي، العيش رغيد، وفرة المياه، منحت وفرة المنتوج الزراعي.
أصبحت أسرته متعددة، ثلاثة أولاد وبنت واحدة، فاطمة، حمل معه صفات شهامة الشيخ، في طبعه، علاقته مع أبنائه، زوجته، الفلاحين، خصومه، أعدائه.
نظرته إلى الحياة كبيرة، انطلاقا من تاريخه الحافل، بالمغامرات، الحركة، الحروب، الصيد، حفلات الانتصار، تاريخ جعله ينظر إلى الأشياء بكل بساطة، حسب مكانتها، في أمور تقرير المصير، مصير القبيلة. يصدق عليه قول المتنبي :
ـ وتصغر في عين الكبير العظائم.
في ظل قيادة الشيخ الشهم، واجه أعتى سلطة قبلية، الباشا، حاكم درعة تافيلالت، لم يمسسه نفوذه، لم يصل إلى قلعة مريم إلا بدعم قوة الاستعمار. اليوم، يعيش باحمد حياة بسيطة، في بساطتها معنى أرقى وأشمل، حياة رجل شهم، لم يخن القضية، ظلت ترافقه مدى حياته، حركاته، علاقاته، أنشطته، في المزارع وغابات أركًان. يجلس قرب مسجد البلدة، يتجمع حوله الفلاحون، يعطي توصياته حول نوبات الماء:
ـ لا أريد أن أرى المياه تضيع، من ضيعها يؤدي ثمن يوم عمل، من تجاوز حصته يعوضها مضاعفة، لن أتسامح مع المخالفين.
يحدد أوقات النوبات اليومية، ينطلق الفلاحون إلى الجنان، يمر بالمنبع، يراقب حالة السواقي، يعطي نصائحه للمتهاونين، يعرفهم جيدا، يركز عليهم أثناء المراقبة.
هكذا يقضي أيامه، في خدمة الفلاحين، من عائلة فلاحة، يتعامل معهم كباقي المستفيدين من المياه، بالمساواة، الصرامة، الانضباط، عند جنى كل محصول زراعي، يتوصل بنصيبه. يتنقل بين بلدته والزاوية، التي أصبحت مركزا تجاريا، تعرف على مولود، التاجر، ترسخت علاقاتهما، تحولت إلى علاقات عائلية.

-6-

تزخر المنطقة بعدة زوايا، أهمها زاوية مريم، بلدة قريبة من قلعتها، مركز السلطة الجديدة، مركز نزاع القبائل على الزعامة، حلم الشيخ محند هو السيطرة عليها، القضاء على الشيخ الخائن.
الشيخ الخائن خرافي التفكير، يقدس الزاوية، لم يستسغ، حكم المرأة، مريم الثائرة على استعباد الرجل للمرأة، حاربها، سيطر على القلعة. لما خلعه الشيخ الشهم، خلع معه شيخ الزاوية، عين مكانه خادمه، قيم حفل الشاي، سيطر على جميع ممتلكاتها، عرف جيدا دورها في قمع العقل، توظيف الدين في السياسة، كسر قدسيتها.
شيخ الزاوية، يقدم الولاء للباشا، يهدى له مستعبدة، من جذور إفريقية، طالبا العفو للمستعبدين اللاجئين بالزاوية، خوفا من بطشه، سكنوا بكهوفها.
الشيوخ المطرودون من الزاوية، يتسابقون لتقديم الولاء للباشا، مسالمون، لا يحركون ساكنا، يميلون أينما اتجهت الرياح، يخافون، لا يتحملون سياط الجلادين، ما دام المستعبدون من الفلاحين الفقراء، في خدمة القصبة، الأمور ميسورة.
تحول موقع الزاوية، منزل الشيخ، قيم حفلات الشاي للشهم، رئيس الزاوية، أحكامه قاسية، يعامل الفلاحين الفقراء معاملة المستعبدين، يضاهي خليفة الباشا، ترك له مسافة، ما دام أنه يضعهم رهن إشارته، يكون في خدمة سلطة الاستعمار. طوع الفلاحين الفقراء، ضربهم، إطلاق ألقاب عليهم تحط من كرامتهم، أسماء أجداده مقدسة، لا يحق للمستعبدين تسميتها لأولادهم، من سبق له أن سمى أحد أبنائه باسم منها، أطلق عليه لقبا خشنا، حتى لا يسمعهم ينادون بأسمائهم، من خالف الأمر يعاقب.
نصب الباشا، خلفاء، شيوخ، أعوان، إمخزنين، كلهم طغاة في تعاملهم مع الفلاحين، يراقبونهم، يطاردونهم، يعتدون عليهم بلا سبب، المهم إخضاعهم، ويل لمن سولت له نفسه رفع صوته، يجب طاعته، خدمته، تقديم الفرض، خدمة دار القصبة :
ـ أولا عند بناء القصبة، الكل يؤدي الفرض، العمل بالتناوب، واجب، دون أدنى أجر، حتى الحمير والبغال، عليها أداء الواجب، كل من يملك دابة، يؤدي واجبا عنها، خدمة، عمل، بناء دار الباشا.
ـ ثانيا عند كل إنتاج فرض، الدجاج، البيض، الحليب، اللبن، الخضر، الحبوب، لكل حركة فرض خاص بالباشا، الخلفاء، الشيوخ، المخزنية، يتمادون في استخلاص الفروض، يضيفون حصصهم.
بين سلطة خليفة الباشا بالقصبة، شيوخه، أعوانه، المخزنية، جواسيسه، وشيخ الزوايا، يعيش المستعبدون، الأفارقة الأصل، أحفاد المستعبدين، الذين تم استقدامهم، في عهد دولة قطاع الطرق، حياة الاضطهاد.
القواد الإقطاعيون من أصل أمازيغي وعربي معا، شيوخ الزوايا الأمازيغ والعرب، كل هؤلاء يجتمعون، في استغلال الأمازيغ الأحرار، الأفارقة المستعبدون، تحالف الاستعمار والإقطاع، ضد الفلاحين الفقراء.
قبائل الأطلس من القبائل الحاسمة في السلطة بمراكش، التغيير دائما يأتي من الجنوب، منطقة استراتيجية في الحرب، تمتد شرقا إلى حدود درعة، غربا إلى سوس السفلى، من راس الواد إلى حدود مراكش شمالا، جبل توبقال، جنوبا جبل سروا، امتدادات الصحراء، منطقة استراتيجية في حسم السلطة.
القلعة والزاوية، ركنان أساسيان في السلطة الجديدة، العسكري والأيديولوجي، القبيلة والدين، السيطرة على الإنسان والطبيعة، الثروات الطبيعية، قوة عمل العمال، الحرفيين، الفلاحين، لتمويل سلطة شيخ الشيوخ ركيزة الحكم الذاتي، حتى المناجم يتم استغلالها، عملية سك العملة، صناعة الأواني، الحلي، الأسلحة، اليهود بارعون في صناعتها.
شيخ القبيلة يتحكم في جميع الثروات الطبيعية، يتعاون معه باقي الشيوخ بمختلف القبائل الخاضعة له، نصيب الزوايا مضمون، تقام الزاوية بقرار من القبيلة، بأمر من الشيخ، يتم تعيين شيخ الزاوية من طرفه.
أحد شيوخ الزاوية بنى مسجدها الجديد، مدرستها العتيقة، خزانتها، خزانين للماء، مطفية للطواري، تمتلئ قبل مرور المياه إلى الخزانين:
ـ الأول للرجال، تربطه قناة بدار الوضوء، بني بتقنية عالية، لنقل الماء عبر قناة، مرورا بتفضنة للتسخين.
ـ الثاني للنساء الخادمات، المستعبدات، تخزين مياه الشرب والطبخ.
يتم توزيع الأدوار بالزاوية:
ـ المرأة خادمة الرجل، المستعبدات يقمن بجميع الأعمال، الرجال للصلاة، النساء للمطبخ، المستعبدات، نساء الزاوية لا يشتغلن.
فقيه الزاوية، معلم المدرسة، يسافر إلى المشرق، لزيارة الكعبة، يرافقه ثلة من طلبته الأذكياء، يتركهم بالأزهر، مهمتهم نسخ جميع الكتب الجديدة، في الشريعة، الفلسفة، التاريخ، الرياضيات، الفلك، جميع علوم عصره. يحملها معه عند رجوعه، يزود بها خزانة المدرسة، قال عنها المختار السوسي :
ـ أخاف على خزانة الزاوية.
صدق تنبؤه، سرقت من طرف روادها، القاضي والعدول، مروا بها من دار الكناش، مكتب اجتماعاتهم، هناك يتم توثيق العقود وأشياء أخرى.
بعد خروج مريم من الزاوية، كسرت أعراف الزاوية، حطمت جزءا كبيرا من سلطتها، بنت مركز السلطة الجديدة، قلعة القبيلة الجديدة، المرأة تثور على التقاليد، إنجاز كبير حققته، نساء الزاوية محجبات، المرأة تحكم، تملك المستعبدين، العسكر، تبني السلطة.
شيخ الزاوية يراقب الوضع بقلق شديد، المرأة من صلب العائلة، حملة العلم، أيت القاضي، الفقهاء، قضاة القرون الوسطى، بنوا الزوايا. طبيعة المكان، الوادي، المزارع، استهوت أنظار القضاة المارين هناك، بنوا قلعهم الخاصة، على قمة الجبال، بضفتي الوادي.
أسقط الشيخ الخائن حكم المرأة، دخل القلعة، لم يفكر في السيطرة على الزاوية، همه الوحيد، امتلاك سلطة القبيلة، سرق الحكم من المرأة. قلعتها في موقع استراتيجي، منفتح إلى الشرق عبر المنعرجات الجبلية، إلى الغرب عبر المزارع، الممتدة على طول الوادي، على ضفتيه جنان خضراء، مخضرة طول السنة.
الزاوية، أسسها اليعقوبيون، يتربص بها البوبكريون، الشيخ الشهم قائدهم، بعد تأسيس دولة قطاع الطرق، كان شيوخها موالين لسلطانها، تزامنت واندلاع ثورات الأمازيغ، نصف قرن من الثورات. تأتي مكانتها بعد سلطة القبيلة، سلطة شيخ الزاوية بعد سلطة شيخ القبيلة، الذي يعينه.
ذلك ما تم بزاوية مريم، بعد إسقاط سلطة الشيخ الخائن، طلع الشيخ الشهم، طرد شيوخ الزاوية، نصب شيخا جديدا، قريبا منه، القيم على حفل الشاي.
استقر اليعقوبيون قرب بلدة زينب، وقتا طويلا، وجدوا هناك أرضا خضراء، لم يستطيعوا مقاومة الشيخ الشهم، يعرفون قوته جيدا، تعاونوا مع الشيخ الخائن، اليوم تنحى عن السلطة، شيوخ الزاوية بطبعهم الاتكالي، لا يستطيعون حمل السلاح، ينتظرون خدمة الآخرين، المستعبدون.
عاشوا بعيدا عن الزاوية، أسسوا هناك طقوسا جديدة، تحميهم من سلطة الشيخ حجو، ينتظرون الرجوع إلى زاوية مريم، المرأة التي بنت القلعة، تآمروا عليها، رفضوا سلطتها، خونوها، استباحوا دمها، اليوم جاء دورهم، سقط الشيخ الخائن، المخلوع، فقدوا سلطة الزاوية إلى الأبد.
بين سلطة مريم وسلطة الشيخ الشهم، سقطت سلطة الزاوية، تحول مجرى التاريخ بالمكان، لن تعود أيام الرخاء، طال انتظارهم، تسارعت الأحداث، غير الاستعمار مسار التاريخ، حول الزاوية إلى مركز تجاري، تقاليدها بقيت، أصبحت مهمشة.
عائلة شيخ الزاوية، أناس كسلاء، لا يعملون، لا ينتجون، عائلة تتلقى الهدايا، تأكل، تشرب، تنام، تستيقظ، تستعبد عائلات أخرى تشتغل، الفلاحون الفقراء بدون أرض.
بالزاوية حياة الاستعباد، خدمة للإقطاع والاستعمار، في الصباح الباكر، مع طلوع الفجر، تستيقظ تدر، المرأة المستعبدة، من أصول إفريقية، الطوارق. تنام بفضاء قريب من الزريبة، شبه بيت، يحتوي على حصير من دوم، غطاء من شعر الماعز، أدوات فلاحية، المحراث الخشبي، العتلة، الفأس، المناجل، القفف، الشواري، البردعة، الحمار مربوط قرب الباب. هناك تنام تدر، زوجها يدر، أبناؤهما الثلاثة، بشبه بيت، بجواره بيت ثاني، به ثبن، كومة حطب.
تدر، الفلاحة الفقيرة، يتم استعبادها بالزاوية، تستيقظ، تقف، تهنهن، تخاطب يدر، لسانها أمازيغي، لكنتها إفريقية، تحمل بعض الحطب، جمعته من غابة الزاوية، بالأمس، حملته على ظهرها كالعربة، تسرع إلى المطبخ صباحا، أنوال، المطبخ التقليدي، تشعل النار، في التنور، تسخن الماء، للوضوء والطعام.
يدر زوجها، المستعبد، يدخل أنوال، يحمل المقراج، يضعه بالمياضي، مكان الوضوء، ماء ساخن، يدق باب بيت نوم شيخ الزاوية، بهدوء:
ـ نعم سيدي، ماء الوضوء.
ينتظر خروج الشيخ، يدر:
ـ صباح الخير سيدي.
يدخل بيت السيد، يجمع الأفرشة، زرابي ووزكًيطية، أغطية من صوف الغنم، حرير صيني، قطن مصري، يفتح النوافذ، تطل على مزارع الزاوية، ينثر العطور بالبيت، يهيئ مكان الصلاة. يتوضأ الشيخ، يخرج من المياضي، يدر يردد:
ـ صباح الخير، نعم سيدي.
الشيخ يدخل البيت، يصلي، يستغفر، تسبيحات، تسبيحات، على الطريقة التجانية، الورد التجاني بيده، يحرك شفتاه. يدر، يجهز طاولة الفطور للشيخ، أزكيف:
ـ صباح الخير، نعم سيدي.
يتناول الشيخ الطعام، بشره، بنخوة، بنشوة، يقف يدر ينتظر، أوامر السيد، شيخ الزاوية، عن حال الزاوية، عن المزارع، عن المنتوج والغلال، عن حصيلة الزيارات، تربعيين، عبارة عن هدايا، زرع، مواشي، دراهم، يحملها زوار الزاوية، يقدمونها للشيخ، يتبركون بها، يطلبون البركة، الشفاء.
تدر، بعد تقديم الفطور لسيدات الزاوية، تحمل قفة كبيرة، على ظهرها، تسرع نحو جنان الزاوية، لتخفيف معاناتها، تطلق ألحانا شجية، أغاني أمازيغية، بصوت خفيف، شجي:
السلام عليك سيدي الشيخ
في قصرك أنت مريح
تدر في خدمتك تتعب
إلى الغابة تحمل الحطب
إلى الجنان تحمل العشب
للمواشي والحمار بالزريبة
حتى الحيوانات في انتظاري.
ترجع المسكينة، على ظهرها حمولة العربة، في الزريبة، تنتظرها الحيوانات، البقرة، الغنم، الماعز، الحمار، الدجاج، الكلب، القطط، الكل ينتظر خدمات تدر.
يدر، يهيئ مكان الفسحة، خارج البيت، يطل على المزارع الفسيحة، يجهز الصينية الفضية، البراد الفضي، كؤوس البلار، الشاي الصيني، النعناع، اللوز البلدي المقلي بصحن من الفاروزي، الماء يفور في البابور، قيم الشاي يتربع، ينتظر حضور شيخ الزاوية. يتقدم الشيخ، يقف القيم، يسلم على الشيح، يجلس بجانبه، يحاول تقليد طقوس الشيخ الشهم، بشكل هزلي، يضيف إليها إهانة المستعبدين، خادم الباشا، عميل الاستعمار.
قدم له يدر كأس الشاي:
ـ نعم سيدي.
ينحني أمامه، يسأله الشيخ، عن حال المزارع، عن الإنتاج:
ـ نعم سيدي، المياه وافرة، الخيرات ناضجة، الشعير، الفواكه الصيفية، حل موسم الحصاد.
يعد يدر الفرس، السرج الفضي المذهب، الزربية الوزكًيطية، يشد لجامها، يساعد الشيخ على الركوب، يسير أمام الفارس، يتبعهم قيم الشاي، يراقب أحول المزارع، في جولة استطلاعية، النساء المستعبدات، بالجنان يجمعن العشب، يقفن، ينحنين، يسلمن على الشيخ.
يعطي الشيخ أوامره:
ـ غدا الحصاد.
يدر ردد:
ـ نعم سيدي.
ينطلق يدر إلى المستعبدات، يعلمهن بالأمر، غدا صباحا باكرا، إلى جنان الزاوية، كعادتهما، تستيقظ تدر ويدر، من المطبخ إلى الزريبة. يفك يدر قيد الحمار، يحمل عتاد الحصاد، يدق منازلهن، مستعبدات من أصل إفريقي، ينطلقن إلى الحصاد، تويزي، المزارع الأولى في الحصاد، هي مزارع الزاوية. أراضي معطاء، مياه الري وافرة، النساء المستعبدات، الفلاحات الفقيرات، خادمات الشيخ وعائلته، يكدحن، بدون أجر. يعشن في أكواخ، حياة المواشي، يلبسن، يأكلن، يشربن، أكلهن من بقايا أكل نساء الزاوية، يعملن بالمنازل والمزارع.
قضى يدر، وبعض المستعبدين، يوم عمل شاق، ينقل الحصاد، من المزارع إلى نادر الزاوية، يجلس الشيخ بمدخل المنزل، أغكًمي، قيم الشاي بجانبه، يتربع، الصينية أمامه، يحكي له نكات حول المستعبدين، يضحك الشيخ، من ألقابهم، من حكاياتهم، حكايات مصطنعة، للحط من كرامتهم.
في المساء، يتناول الشيخ الكسكس، اللبن، يخرج، يتفقد حصاد الشعير بالنادر، هذه السنة، معطاء، يردد قيم الشاي، يدر ينحني أمام الشيخ:
ـ نعم سيدي.
يعطي الشيخ أوامره، غدا درس الحصاد، يدر يردد:
ـ نعم سيدي.
في المساء، يدر يدق منازل المستعبدين، جاء دورهم، أكواخهم، بها بعض أدوات الطبخ، حصير من دوم، أغطية من شعر الماعز، أدوات الفلاحة، الحمير تسكن معهم، حتى الحمير في ملكية الشيخ، يرعاها المستعبدون، موعدنا غدا، نادر الزاوية،
في الصباح الباكر، المستعبدون والحمير، مجهزون، من الطقوس السنوية، موسم الدرس، الشيخ يريدها أن تكون جاهزة هذا اليوم، الدرس، فصل الشعير عن التبن، الشعير للزاوية، التبن للحمير.
أثناء جمع المحصول السنوي، كل المستعبدين يشتغلون، الخادمات بالزاوية، إعداد الطعام، طعام ليس كطعام الشيخ، طعام المستعبدين بالنادر، الكل يعمل، يجمع المحصول، ينقل الأكياس، على ظهور الحمير. يتجنبون قلق الشيخ، يرهبهم، يعذبهم، بسبب تافه، عندما لا يرضيه عمل أحدهم، يعطي أوامره، جلده، في أسوأ الأحوال، حتى مشارف الموت.
تدر، ترتدي ملحفا أزرق، على رأسها ثوب، لقضيب، يداها محجرتان، العمل الشاق، بالغابة، بالمزارع، يداها قويتان، طبيعة العمل الشاق، أفقدت يديها أنوثتهما، الطبيعة أعطت يديها شكلا آخر، صفة الرجل، كل النساء المستعبدات بالزاوية، كلهن في صفة الرجال، بالمطبخ، بالزريبة، بالمزرعة، بالغابة، معاناة، تعب، تحقير، إهانة.
تجلس سيدة البيت، زوجة شيخ الزاوية، عائلة الزاوية تجتمع بأسراكً، فسحة وسط المنزل، مفتوحة على الهواء، غير مسقفة، تدر واقفة تردد:
ـ نعم للا.
سيدة البيت، في مرح، في هزل، بعد تناول الفطور، في استهزاء من تدر، تحكي عن جدة تدر، قصصا خرافية، تهينها، تضحك العائلة، هزل العائلة المالكة، استهزاء من المستعبدات، تعطي الأمر بإقامة الحفل، بمناسبة الحصاد، تدر تردد:
ـ نعم للا.
تدر بأسايس، مكان إقامة رقصة أحواش، بعد الحصاد والدرس، جمع المحصول والغلال، تعم الفرحة بالزاوية، حتى المستعبدون والمستعبدات، يعبرون عن فرحتهم، إن لم يفعلوا يغضب الشيخ، تنزل العقوبة على رؤوسهم، التعذيب، الجلد.
سيدة البيت تأمر، تدر تستجيب:
ـ نعم للا.
تقام ليلة أحواش، في أسايس، مكان فسيح أمام دار الزاوية، نساء الزاوية يجلسن بسطح الدار، يطل على أسايس، بعد وجبة العشاء، يقام أحواش.
تعبر تدر عن أنوثتها، تلبس ثيابا خاصة بالأفراح، ملحاف بألوان زاهية، قضيب أحمر، حذاء أحمر، إدوكان، كل المستعبدات يلبسن هذا اللون، تدر ونساء أخريات مستعبدات، في خدمة الزاوية، في خدمة عائلات الشيخ الممتدة، في أناقة، في فرجة، فرحة الزاوية. يحمل الرجال، المستعبدون، الطبول، البنادر، النار مشتعلة، تسخين الطبول والبنادر.
ترقص النساء، على ألحان شجية، رقيقة، صوت الأنوثة، يعلو، أغاني مدح، مدح الشيخ، مدح سيدة البيت، الفرح بوفرة المحصول، الغلال. رغم العبودية، الفن يبرز، بقوته، بطبعه، بتعدد مصادره، الإفريقية، الأمازيغية، العربية.
شيخ الزاوية، حاكم البلدة، يجلس على كرسيه المذهب، أمامه ورد الغنباز، الحبق، في إناء كبير، يحمل بندرا، يدق بلطف، الشيخ يشاركهم أحواش، تتناوب الراقصات أمامه، تقديرا، احتراما، طاعة، خوفا، بطشه مخيف، كل الأنظار تتجه نحوه، بجانبه قيم الشاي، جالس على الحصير، يقدم له كأس الشاي، الشيخ في نخوة، نشوة الفرح، كل المستعبدين في خدمته. في أحواش رموز الاستعباد بارزة، بين الشيخ والمستعبدين، يتقدم الليل، يغادر الشيخ المكان.
يستمر أحواش إلى طلوع الفجر، يوم جديد من المعاناة يحل، إلى المطبخ، إلى الغابة، إلى المزارع، نعم سيدي، نعم للا.
تستمر الحياة، تستمر العبودية، على جماجم المستعبدين والمستعبدات، في أمل منهم يوما أن تتوقف، تزول.
الزاوية، وجه آخر للحياة، المتعة، الفرجة، الموسيقى، تعددت الثقافات، الأمازيغية، الإفريقية، العربية، فصل الصيف، فصل المواسم، كناوة، عساوة، الرما، أحواش، موسم زيارات الزاوية، كل طائفة تحتفل بموسمها، كل البلدات المجاورة لها، تصغي، تنتظر، تترقب أخبار المواسم، في شهر غشت، شيخ الزاوية، يتحكم في كل شيء، يوقع على تواريخ المواسم.
كناوة، مستعبدو الزاوية، ينتظرون موسم الحصاد بشغف كبير، مجموعة تحمل الطبول، القراقش، تجوب دواوير المنطقة، تجمع نصيبها من الغلال، الشعير، اللوز، الدجاج، الماعز، السكر، الدراهم.
في يوم الخميس، من شهر غشت، تخرج الطائفة، رجالا، نساء، أطفالا، يدقون الطبول، القراقش، ترفع الأعلام، ألوان مختلفة، تساق البقرة، أمام المسير، حتى البقرة لها طقوسها، تتزين بألوانها، على نغمات كًناوة، يسير الجميع، من الزاوية إلى مكان الذبح.
شجرة ذات أشواك، فصيلة الشوكيات، السدرة بالهضبة، يدور حولها الجميع، دورات عدة، تنسل السكاكين، تبدو البقرة مهووسة، مع كثرة الدوران، ضرب الطبول، تحريك القراقش، كل ذلك يؤثر عليها، تفشل، تنهار قوتها، تركع عند أول محاولة لإسقاطها، تسقط، يذبحها شيخ كًناوة، يتسابق الكًناويون، يشربون جرعات من دم البقرة، يلتمسون الشفاء، البركة، دعاء الشيخ.
الجزار، معاونوه، يحملون البقرة، إلى الجنان، بعيدا عن صوت الطبول والقراقش، البخور مشتعلة، العطور تفوح، يبدأ الحفل، رقصة كًناوة، شيقة، نغماتها قوية، ألحانها، نغماتها، كلماتها، مزيج من الأمازيغية، الإفريقية، العربية، تختلف ألحانها، حسب الحضرة، تتأثر النساء، كل واحدة حسب حضرتها، جنييها، مالكها، الذي مسها، ترى النساء، يفقدن وعيهن، صرخات، هنا وهناك، يضربن بأيديهن، يسقطن عند تغيير اللحن، مزيج من الفن، السحر، الخرافة، العقد النفسية، معاناة العبودية.
شيخ كناوة يحظى بمكانة بالزاوية، ورث المشيخة، عن جده، مستعبد، اشتراه شيخ الزاوية الجد الأكبر، منذ قرون، حمل معه ثقافة إفريقيا، حولها زمان القهر إلى موسم كًناوة، بالزاوية.
نساء عائلة الشيخ، سيدات الزاوية، محجبات، لا يخرجن في موكب الذبيحة، حفل اليوم الأول يقام بعيدا عنهن، ينتظرن فرجة اليوم الثاني بشغف، يستمر حفل الذبيحة، تتخلله الزيارات، الشعير، اللوز، السكر، الدجاج.
كل حسب ما وعد به الشيخ سرا، الشيخ الخرافي، عندما يقع شخص في ورطة، أزمة، يستغيث، يطلب العون من الشيخ، الشيخ الوهم، السري، لا يرى، معه دائما، في حركاته، في سكناته، في نومه، في أحلامه، يستعين به، يعده بهدية، ذبيحه، مال، غلة، يحملها، في اليوم الأول أو الثاني أو الثالث، من موسم كًناوة، يزور الشيخ، يطلب دعاءه، قضاء حاجاته.
لما كان طفلا، حمله أبوه على ظهره، إلى الموسم، لأول مرة يزور، يوضع الطفل على أحد الطبول، يصرخ على نغمات الدق على الطبول، هكذا يكون ضمن الطائفة، يحمله أبوه كل موسم، يزور، يتبرك، يقدم الهدية، يرث هذه العادة عن أبيه، يورثها لأطفاله.
ينته الحفل، تستمر المعاناة، العبيد بالمزارع، بالقصبة، بدار المخزن الجديدة، التي يبنيها المستعمر، كل طموح المستعبدين هو التحرر يوما، يعتقدون انهم من عائلة شيوخ الزاوية، يغضون الطرف عن معاناة أجادهم، لكنهم ينتفضون في كل مناسبة، بلا شعور، العبودية وصمة عار على جبين الإقطاع، لا يمكن محو آثارها السيئة، مهما طال الزمان، تبقى راسخة.

-7-

تأثر أبو مولود بوفاته الشيخ حمد، لم تنته الحرب، هو على يقين أن الثورة تمتد على طول البلاد، ثورة الريف، تعطيها نفسا جديدا، الأنظار تتجه إلى الريف، الانتصارات، هزيمة الأعداء، يلتقي الثوار في السرية، أعوان الباشا يتربصون بهم.
انقطع عن زيارة بلدته، لم تعش أمه طويلا بعد وفاة أبيه، فارقت الحياة دون أن يودعها، لم يستطع حضور جنازتها. تمت مصادرة جميع أراضيه، أخوه الوحيد، ذو شخصية ضعيفة، لم يستطع الصمود أمام طغيان أعوان الباشا، سلم أخوه كل ممتلكاته للأعداء، خوفا من بطشهم. عاش غريبا، بعيدا عن مسقط رأسه، لا يفارقه السلاح، في نومه، بالبيت، بالمسجد، بالمدرسة، في كل مكان، ينتظر الموت في كل حين.
أتاه الموت، لكن بشكل مفاجئ، من الأيادي التي لم ينتظر منها ذلك، وضعوا السم في طعامه، عند زيارة بلدته، بعد غياب طويل، تناول الطعام، بيض، زيت زيتون، خبز شعير، خرج من الدار، توجه إلى المقبرة، ترحم على أبيه وأمه ليلا، انطلق عبر الجبال إلى المدرسة. في الطريق، اشتد عليه الألم، في تلك الليلة، من ليالي الشتاء، زينب لم تر النوم، بيض الغدر، آخر طعامه، في الفجر لفض أنفاسه الأخيرة. توفي شهما، واقفا كالشجر، ترك أربعة أطفال صغار، مولود وثلاث بنات.
على مولود أن يدبر أموره، أصبح رب البيت، القائم على حماية أمه وأخواته، مات من كان يواجه شيخ القبيلة، طغيانه، يخاف من الفقيه. الاستعمار على الأبواب، الباشا يسخر شيوخه ضد الفلاحين، تعلم من أبيه مقولة مشهورة لدى السلاطين :
ـ التغيير يأتي دائما من الجنوب.
الباشا رمز سلطة الإقطاع، على عرشه بمراكش، خليفته بالقصبة، ابنه، يتم امتصاص دم، عرق المستعبدين، الطوارق، الأفارقة الأمازيغ، بدعم من الاستعمار الفرنسي:
ـ باسم نشر حقوق الإنسان، مبادئ الجمهورية الديمقراطية، الحرية، المساواة، الأخوة، أخوة بطعم الاستعمار، مساواة باسم الميز العنصري، حرية بلذة عبودية الرأسمال، عصر عبودية الرأسمال، على فوهات المدافع، على جثث الفلاحين.
خمدت المقاومة، تحت رمادها نار مشتعلة، في انتظار رياح الثورة الثانية، لتندلع كالنار في الهشيم. لم تستسغ فرنسا وإسبانيا وجود تجربة ديمقراطية بالريف، تهدد استراتيجية الاستعمار، استغلال الإنسان والطبيعة. لم تستسغ إسبانيا هزيمتها.
من الجنوب إلى الشمال، من الأطلس إلى الريف، انبعثت الثورة من جديد، سي موحند، أسد الريف، قوة خارقة، وحد القبائل، قضى على الخلافات، على الأحقاد، الثورة ضد الاستعمار، هدفه هزيمة الغزاة، قيام الدولة المستقلة.
درس في الثورة، العالم جميعه يصغي، يترقب بلاد يغود من جديد، فنون حرب جديدة، فئة قليلة هزمت فئة كثيرة. جيش منظم ينهار بأكمله، كبار ضباطه، الشمال أنقد ماء وجه الجنوب، الثورة تستمر على طول الثغور، بالأطلس والصحراء، تتألق بالريف.
صحيح أن ثورة الجنوب فشلت، لكنها استنهضت الثورة بالبلاد كلها، قالها الفرنسيون، وضعوا أمامهم رأس الشيخ حمد، لم يستطيعوا الوصول إليه، احتضنه الأطلس والصحراء، موطن الأسود والفهود. ثورة الجنوب أعطت للمقاومة معنى أعمق، معنى الصمود أمام العدو.
ثورة الريف أعطت للمقاومة معنى أرقى، معنى استراتيجية الحرب الجديدة، تدمير دولة القبائل، قيام الدولة الوطنية الديمقراطية الشعبية، جمهورية الريف أساسها الحرب الشعبية، على فواهات المدافع تم بناؤها.
قامت ثورة الريف، سي موحند قائدها، ثائر رفض خدمة المستعمر، استثناء ثوري. ثورة متقدمة، تزامنت مع اتجاه الثورة عالميا، من الغرب إلى الشرق، لكن ثورته لم تتجاوز في أول الأمر حد القومية، المرتكزة على الدين، لم يكن يعرف أسد الريف، أنه يبني أسس ثورة المضطهدين. كل الدول الاستعمارية تجتمع بطنجة، المدينة المستعمرة دوليا، كلها حائرة، تردد على لسان الاستعمار:
ـ لا مفر، إنزال الآلة العسكرية ببلاد يغود، كل قوانا، جيوشنا، يجب تدمير الثورة بالريف، ثورة المضطهدين، لا بد من تدميرها.
الفلاحون متشبثون بالأرض، تناحروا حولها، دافعوا عنها، فشلوا في الثورة الأولى، قامت الثورة الثانية، استمرت المقاومة المسلحة بشكل متطور، طورها القائد عالميا، أسد الريف، أسطورة ثورة الفلاحين المضطهدين، فشلت، لكنها وضعت أسس الحرب الشعبية.
عزيمة الثوار تكبر، تجربة جديدة من المقاومة المسلحة تولد بالريف، درس في المقاومة المسلحة الشعبية، ينتشر خبرها بالعالم، كل قادة التحرر الوطني بالعالم، ينظرون إلى الريف، الثورة الريفية، دولة الريف المستقلة، على فوهات البنادق. بالشمال الثوري، جمهورية الريف، ترفع بنودها عاليا.
ترفع الأعلام، انهزام ثاني أكبر جيش مستعمر، العدو الجار، المؤامرة بطنجة، التحالف الفرنسي الإسباني، ضد دولة الريف، ضد الحرية، الديمقراطية، فرنسا تحاصر الريف من الجنوب، من الشرق، تعقد تحالفا مع إسبانيا، تهاجمان شعب الريف، تدمر تجربته الثورية، تبيد الرجال، النساء، الأطفال، الأسلحة الكيماوية، تحرق الإنسان، الطبيعة، القائد الشهم، يقدم نفسه للعدو الفرنسي.
جميع مناطق مراكش تنتفض، ثورة الجنوب شرارتها، ما زالت جبال الأطلس في غليان، تحمل السلاح في وجه الاستعمار، الباشا يحكم قبضته بالجنوب، سد منيع ضد الثورات، اليوم السلطة بالقصبة في خطر، أعلنها الشيوخ الخونة، وعدهم بزيارتها، لحسم السلطة هناك.
جميع الخونة، عبر التاريخ، أغبياء، بلداء، يقودهم، ضعفهم الفكري، الإدراك، الإرادة، ضعفهما، يقودهم إلى الخيانة، يرون في الخيانة، طريقا سهلا، قصيرا، للوصول إلى السلطة، الوصول إلى الحكم منبطحين، مطأطئ الرؤوس، وصوليون، انتهازيون، يقبلون الأيادي، حتى أخمس أصابع الأرجل، يبيعون كرامتهم، بدون مقابل، ثقافتهم وشاية، جرأتهم كذب، لا يجرؤون على رفع الهامات.
دفعت الخيانة، الشيخ المخلوع، أن يصبح مستعبدا، أمام الباشا، لا يرى في الحياة إلا العبودية، يعجز عن رؤية شهامة الشيخ حمد بالجنوب، ملك في مملكته، شهامة أسد الريف، الشيخ الشهم. بين الثورة والثورة المضادة، بين الحرية والعبودية، يقف الشيوخ الخونة، صامتين، ينتظرون قدوم عميل الاستعمار، إلى القصبة، حيث يقيم خليفة الباشا هناك، بعد تكسير حكم المرأة، مريم اليغودية، بعد اعتقال الشيخ الشهم، الخونة يعبدون العميل.
الشيخ الخائن تقوده غباوته، إلى الاعتقاد أنه ما زالت أمامه فرصة حكم القصبة، ينتظر الإنصاف من كبير الخونة. أخبار ثورة الريف تنتشر، استمرار ثورة الجنوب، معقل تمرد الشيخ الشهم، غير مؤمن، مجال خصب للثورة، يعرف ذلك جيدا، هناك مناصرون للثورة، الخونة، لا يفقهون في الحرية شيئا، مستعبدون ينتظرون.
تم إخماد نار الثورة بالشمال، القضاء على ثورة أسد الريف، القضاء على جمهورية الريف، تدمير تجربة جديدة، تؤسس للدولة الوطنية الديمقراطية الشعبية.
حكم تحالف الاستعمار والإقطاع، كسر الثورة الريفية، أسد الريف وضع السلاح، استقر بالمشرق، بمنفاه، عيونه على الريف، على المقاومة، تكبر رؤيته، تشمل العالم، التحرر الوطني العالمي.
الباشا يتابع هذه الأحداث، المخابرات الفرنسية، تزوده بجميع المعلومات، الأخبار، المخططات، فكرة واحدة أمام المستعمر، يرددها:
ـ يجب تدمير فكرة الثورة ببلاد يغود.
الثورة بالجنوب، ثورة الشيخ حمد، انتشرت كالنار في الهشيم، عمت البلاد ملكت عقول الفلاحين الفقراء، ما زالت فوهات البنادق ترفع عاليا، الباشا يحكم تاوريرت، القصر، القصبة، ثالوث الثورة المضادة، بالأطلس، معقل الاضطهاد، بأيادي الخونة، الشيوخ الخونة، يفتحون الطريق أمام الاستعمار الفرنسي.
هزيمة هاتين الثورتين ليس أمرا عاديا، إنما هو درس من دروس التاريخ العميق. في التناقض:
ـ بين الفكر المادي الذي استغل العلم ضد الإنسانية، والفكر المثالي الذي وظف الدين في السياسة.
ـ بين قوة العلم واستغلالها في التدمير، وفشل أخلاق الدين في الظفر بالانتصار.
ـ بين قوة المشروع الاستعماري، وضعف المشروع القومي.
ـ بين مشروع الوصول إلى الثروات الطبيعية، وانهيار مشروع دولة الإقطاع.
ـ انهار الفكر المثالي أمام الفكر العلمي.
مضمون القومية، يتخذ الفكر الديني قوة غيبية، في قيادة المقاومة ضد الاستعمار، نتيجة قصر النظر في فهم الواقع الموضوعي، تجاهل التحولات الجديدة في مجرى التاريخ، بروز الدولة الحديثة، فصل الدين عن الدولة، تطور القوى المنتجة بفضل تقدم العلم، انهيار علاقات الإنتاج الإقطاعية المرتكزة على الفكر المثالي، صعود البورجوازية، سيطرة الرأسمال على الدولة.
غزو الاستعمار للشعوب المضطهدة، لم يتم فقط بسبب القوة العسكرية، تطور الأسلحة، إنما هو نتيجة قوة الدولة الحديثة المعتمدة على العلم، ضد دولة بقايا الإقطاع المعتمدة على الفكر المثالي.
ـ في الصراع بين العلم والدين، انتصر العلم.
في ظل تحالف الإقطاع والاستعمار، تم إخضاع الشعوب لسيادة المستعمر، اضطهادها، نشر عبودية دولة الرأسمال. تم استعمار البلاد، بقيت الطقوس الدينية، التقاليد، العادات، الأحقاد بين القبائل، طغيان رؤساء العائلات على باقي أفراد العائلة.
ـ يتم استغلال المجتمع والطبيعة.
أسد الريف، مرجع حركات التحرر الوطني عالميا، بالمنفى، موقع المقاومة والتحرر ببيته، قادة العالم يزورونه، يلتمسون نصائحه، توجيهاته، تكتيكاته الحربية، استراتيجية الثورة في البلدان المضطهدة، مات لينين بالشرق، ظهر محرر الشعوب المضطهدة بالغرب، حرب التحرير الشعبية تولد ببلاد يغود.
المقاومة تكبر بالجنوب، تمتد ضد المستعمر الإسباني، الثوار يساندون ثورة الريف. تسير الثورة في اتجاه الصحراء، الجنوب الشرقي، يحقق الثوار ملاحمة تاريخية، ضد تحالف الاستعمار الفرنسي ـ الإسباني والإقطاع.
تنهزم ثورة الريف، يتم محاصرة الثوار بالشمال، تستمر ثورة الجنوب، تتم محاصرة الجيوش الفرنسية ـ الإسبانية بالصحراء، الثوار مرابطون بالجبال، تهدأ فوهات البنادق، في هدوء يسبق العاصفة، استعدادا للمرحلة الثالثة من الثورة، بعد نضج نضال الطبقة العاملة بالمدن والبوادي، بالمناجم، المعامل، الضيعات.
قائد الثورة الريفية بالمنفى، يبني حركة التحرر الوطني، الوجه الآخر لتنظيم المقاومة، في إطارها العالمي، الطريق الثوري، الكفيل بتحرر الشعوب المضطهدة.

-8-

تابع الباشا تطورات الحرب الاستعمارية على الريف، يرتعد من شرارة ثورة الجنوب، يتحرك إلى القصبة، يتوقف ببلدة أبو مولود، خليفته هناك، مسك المنطقة، بيد من حديد، يقيم ليلة أحواش ن تمغرين، على شرفه، يتآمرون، يتبادلون الحديث عن الشمال الثوري، طلوع رايات الثورة عاليا، جمهورية الريف، أمير ثورة الريف، شرارة الشيخ حمد، ملك ثورة الجنوب، ملك على عرشه، يرفع السلاح عاليا، تستمر الثورة.
يعطي أوامره لخلفائه، حذرهم من الشيوخ الخونة، تشديد الخناق على المناطق، الحرب تستمر بالجنوب، جبال الأطلس تقاوم، نغمات سمفونية الثورة، على ألحان الحرية والديمقراطية، البنادق بالجنوب، بالصحراء، بالجنوب الشرقي، يكرس الباشا اضطهاد السكان بالأطلس، حكم سيطرته، خلفاؤه يضطهدون الفلاحين، بتاوريرت، القصبة، درعة، تفلالت.
بنى قصبته بجانب قلعة مريم، بناية عالية، ضخمة، تعبيرا عن قوة سلطته، خليفته، ابنه بالقصبة، تسلم مفاتيح أكبر منطقة جبلية بالأطلس، شرق سوس العليا، الرافضة للاستعمار في عهد أسد الأطلس، الشيخ الشهم، آخر شيوخ قلعة مريم، الذي عين آخر شيوخ الزاوية.
عدد كبير من العائلات، تعمل بالقصبة، بالمزارع، بالزواية، خدمة الأسياد، الطغاة، بدون أجر، عهد العبودية الإقطاعية، بقايا الإقطاع في ظل الاستعمار. من أجل تركيز عبودية الرأسمال، يشكل القواد الإقطاعيون، شيوخ الزوايا، العمود الفقري للاستعمار، استغلال ثروات البلاد.
بعد رحيل الشيخ الشهم، الخليفة يصول، يجول، بجبالها، وديانها، مزارعها، غاباتها، مياهها، يروي عطش سنوات الحرب، حرب ضد - ثورية، ضد ثورة الجنوب، غاب الأسد عن غابته، الخونة يصولون، يجولون. الأمازيغي اليغودي يهوى الرماية، في الغابة، صيد الأسود بالأطلس، الفهود بالصحراء، الشيخ قائد قلعة مريم يغيب، حتى الأسود تموت بالضعف، الحماية تغلب السبع، قالها العرب.
دار الباشا بمراكش، كل قصباته، في حاجة إلى العمال، إلى التمويل، كل دوار يعطي فرضا، أيام عمل، أموالا، أشياء عينية، غلالا، مواشي. بكل قبيلة شيخ، بكل دوار مقدم، سلطة الإقطاع تنتشر، الرعب يعم، ويل لكل من أشارت إليه أصابع الشيخ، المقدم، المخزني، الجواسيس ينتشرون، حتى في صفوف النساء، في أواسط العائلات.
كان الشيوخ الخونة ينتظرون الفرصة، فرصتهم الضائعة، في الحكم، كبيرهم الشيخ الخائن، الساذج، يسعى إلى عطف باشا مراكش، حاكم الجنوب، عميل الاستعمار. سذاجة الشيخ الخائن، تقوده إلى الحلم بحكم قلعة مريم، بعد غياب الشيخ الشهم، أصبح يحلم بالسلطة في ظل الاستعمار، الباشا، يعرفه جيدا، لا يصلح للحكم، سبق أن أسقطه الشيخ الشهم، ليس أهلا بثقته، نصب خليفته من أقربائه، لا يثق في الشيوخ الخونة، من بين خلفاء القصبة أحد أبنائه، من صلب عرقه، دمه.
عدة أشياء تغيرت بقلعة مريم، خرج منها الأحرار، دخلها الخونة، في فترة الاستعداد لدخول الاستعمار، ما زالت ثورة الجنوب بباب الصحراء، الاستعمار يتقدم من الجهة الغربية إلى الجنوب الشرقي، مركز الثروات المعدية. بعد سقوطها، خليفة الباشا يطوع الفلاحين، عمالا بورشات شق الطرق، بجبال الأطلس، على طولها وعرضها، ليس من أجل عيون الفلاحين، بل لسرقة المعادن، عبر الأطلسي، لتنمية الرأسمال.
خليفته، ابنه، جيل آخر، غير جيل الباشا، تربع على القصبة، مركز السلطة الجديدة، كل الدواوير، رجالا، نساء، دوابا، يؤدون الفرض، أيام عمل بدون مقابل، ويل لمن تخلف عن أداء الفرض:
ـ واجب الفرض، تموين سلطة القصبة.
أثناء زيارة المخزني للعائلة، لأخذ الفرض، يدخل إلى الزريبة، يختار الأجود من كل شيء، حتى في طعامه، ديك بالغ، البيض، الزبدة، السمن، اللوز، العسل، أركًان، الزعفران. سلطة الباشا في حاجة إلى تموين.
الخليفة بالقصبة، يقيم الليالي، ليالي أحواش، الشيوخ الخونة يتنافسون، يتبارون في إقامة أحسن ليلي أحواش، في مساء كل ليلة، يحشدون، فتيات، أمازيغيات، جميلات، يلبسن اللباس التقليدي، ملحاف مطرز، ثوب ناعم على رؤوسهن، ملفوف على شعورهن، متدلي على ظهورهن، الرأس موشوم، بحلي من فضة معادن سيروا، زكًندر.
اليهود، إسكاكن، بارعون في صنع الحلي، في مجمعاتهم، الملاح، حرفيون، نشطون، يصنعون جميع الأدوات النفيسة، حتى النقود، من الفضة، الشيوخ الخونة، زبائنهم المفضلون، يحترمونهم يؤدون الثمن جيدا، لا يكلفهم ذلك شيئا، الفقراء هم الذين يؤدون كل هذه الأموال، بالعمل بالمزارع، بالمنازل، بالقصبات، المنتشرة بالقبائل، مجتمع الأسياد والمستعبدين.
الشيخ يملك الأحسن من كل شيء، المزارع، المواشي، الجياد، البغال، بوشفر، الخماسية، أواني الفضة، كل ذلك على حساب قوة عمل الفلاحين الفقراء، عصر العبودية الجديدة، باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
الباشا يستعين في حكمه، بالفقهاء، بالزاوية، نصب فقيه القصبة قاضيا، القضاء في خدمة الإقطاع، في إصدار أحكامه، تحرير عقود ممتلكاته، يستعين بالعدول، أعوان القاضي، يستعين بموشي، الحزان لتوفير ماء الحياة، دوري التاجر الفرنسي لتوفير أحسن الخمور، من خمور بوردو. خليفة الباشا، ابنه، حاكم القصبة، يقضي لياليه، في فرجة أحواش ن تمغرين، تمزيغين، من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.
تمادى في الليالي الحمراء، لا يستيقظ إلا بعد الزوال، رياح الغربي نخرت دماغه، أصبح مدمنا، منحرفا، ينتظره المتقاضون، أمام القصبة، منذ الصباح الباكر، بعد سفر طويل ليلا، طيلة الصباح، الشيوخ الخونة حائرون، في هذا الأمر، يستقبلهم بالمساء، بالليل إقامة أحواش، أنهكهم، لم يستطيعوا مواصلة خدماتهم، لا يستمتعون بالراحة.
الشيخ الخائن يلتقط اللحظة، فكر في الأمر، قال :
ـ هذه فرصتي الأخيرة، طريقي إلى القصبة مفتوح، لن أفوت فرصتي.
مازال يحلم بحكم القلعة، ينتظر أن يخلع الباشا الخليفة، ابنه، من صلب دمه، ليمنح له مفاتيح القلعة، شيخ غبي، لا يعرف كم يبلغ ثمن ذلك.
ما أروع القصبة، زارها الفنان، الرايس الحاج بلعيد، وصفها في أغنيته المشهورة، رائعته "أسيف ن سكتان" وادي سكتانة.
قضى الشاعر الفنان ليلة أحواش، هناك بالقصبة، بعد رحلته بوادي إسكتان، جاب دواوير الوادي، أبهره جمالها، غنى عن المكان، عن القصبة، صور جمال الطبيعة، تصويرا فنيا يبهر السامعين.
غنى عن جمال القصبة، النوافذ، الزليج، الشرفات، انبهر الفنان، في تلك الليلة، ليلة أحواش، الألحان الأمازيغية، بالصوت الأنثوي، جمال الأنوثة، في نغماتها، ألحانها، انبهر الرايس الحاج بلعيد، صور انبهاره، في صور شعرية جمالية، غاية في البلاغة، غاية في الخيال، يعتذر، يتساءل، يستنجد. يعبر عن تعلقه بالمكان، ترفض قدماه المشي، يخاطب رأسه، عقله، يطلب منه الوقوف، أن يبيعه، تعلق بحب جديد.
جمال الطبيعة، رقصة أحواش، أمازيغيات، فتيات جميلات، جمال طبيعي، جعل الفنان يخاطب عقله، يخاطب رأسه، تصور رائع لمكان جميل، على لسان الرايس الحاج بلعيد، الفنان الأمازيغي.
قصيدة، من عمق التعبير العفوي، لفنان موهوب، يغني، يشعر، دون سابق إصرار، يتفاعل مع المكان، جاب دواوير سوس، تجمعات الأمازيغيين. منذ طفولته، ببلدة تهلا الجميلة، بملاحها الكبير، تجمع كبير لليهود بالجنوب، تعلم العزف على الرباب، على يد الفنانين اليهود، أصبح معلم أغنية سوس.
الشيوخ الخونة منبهرين، في تلك الليلة، قمة جمال الموسيقى الأمازيغية، فنان كبير، سافر إلى باريس، التقى الفنانين الكبار هناك، أعجبوا به، فنه، ألحانه، شعره، روائعه، غادر القصبة بعد تلك الليلة، في طريقه إلى بلدته، تبعه نحس الشيوخ الخونة، فقد حنجرته. تم التخلص منه، دس السم في الطعام، طريقة خفية يستعملها الأعداء ضد خصومهم، أسهل طريقة، سلكها أحد الشيوخ الخونة، لم يستسغ تجاهل الفنان له، عدم زياته بقصبته، أرسل وراءه من يدس في طعامه السم، فقد الفنان حنجرته الذهبية، فقد كل ما يملك، مات الفنان مسموما، في روايات لأهل البلدة.
اجتمع الشيوخ الخونة، على مائدة الشيخ المخلوع، يتشاورون في الأمر، خاطبهم:
ـ لم يعد لدينا وقت للتفرغ لأحوالنا، حكم قبائلنا، أصبحنا مستعبدين، لم يعد الفرق بيننا وبين عامة الناس.
كان الشيخ الخائن، في عهد الشيخ الشهم، يخرج من بلدته، حاملا وشايته إلى الباشا، يمتطي بغلا، أنثى قوية، في اتجاه مراكش، وراءه مستعبده، يشد بذيلها، يجري وراءها، يتوقف في الطريق، يستريح عند شيخ خائن آخر، حليفه، يقضي ليلته هناك. يتآمران على الشيخ الشهم، يودعه صباحا، يمر بغابات جبال الأطلس، على ضفاف الوديان المتلألئة، الباشا ببلدته، في راحة، خارج مراكش. يمر بدوار السور، به أكبر ملاح، أكبر تجمعات اليهود، يشتري أحسن الحلي، أواني فضية، خماسية مرسعة بالفضة، هدايا للباشا، يلتمس لقاءه.
يشد المستعبد البغل، يربطها، يشد سلاح الشيخ، خماسية، ينتظر أمام الباب، البواب، ينحني أمام الباشا، سيدي، شيخ من القصبة، يحمل الهدايا والزعفران، يدخل، يقدم التحية باحترام شديد:
ـ سيدي الباشا، كل شيوخ القصبة في انتظارك، يقدمون الولاء.
يعقد الموعد، يطلب الحماية ضد الشيخ الشهم، هكذا تآمر عليه، اليوم أصبح مستعبدا. يقطع الشيخ المستعبد، نفس المسافات، حاملا الهدايا، يمشي وراءه الشيوخ الخونة، يحملون الهدايا، يعتقد أنها فرصته الأخيرة، ليحصل على غايته، ينتظر دائما الفرصة، للوصول إلى حكم القلعة. يقدم الولاء للباشا، هذه المرة يخاطر، يجازف، لقد مل من ممارسة خليفة الباشا بالقصبة، الليالي الحمراء، أحواش، السهر، الخمر، ماء الحياة، الجواري، كل فتاة، غير محظوظة، في صف أحواش، تجذب أنظاره، تلتحق بالخادمات، جارية أخرى، مستعبدة أخرى.
هو أمازيغي بن الباشا، حليف الاستعمار، إقطاعي، يسيطر على الأرض، يستغل الفلاحين، يستعبدهم، حتى مياه سيروا الفضية، جلبها، حرم الفلاحين من السقي، غرس المستعبدون أشجار اللوز، على طول وعرض القصبة.
المستعبدون يعملون، يحرسون، يقدمون جميع الخدمات، الشيوخ الخونة، يستعبدون، يملكون مستعبدين، أصبحوا اليوم مستعبدين، يطلبون العفو من الباشا، الاطلاع على الأمر، يقدمون الولاء، الهدايا، ينحنون أمامه، يطلبون عرض مشكل السلطة بالقصبة، الباشا ينتفض:
ـ السلطة ؟ لديكم خليفتي، من صلب دمي، ابني.
الشيخ الخائن:
ـ لا بأس سيدي، إننا نخاف على السلطة، على الخليفة، لهذا حضرنا أمامك، خوفا من ضياع السلطة بين يديه، أعداؤك يتربصون به.
هناك موالون للشيخ الشهم، غير راضين على حكم الباشا، معارضون، حاربهم، سخر الشيوخ الخونة، المستعبدون، يراقبونهم، يمنعونهم من استغلال أراضيهم.
لما علم الباشا بالأمر، قدر موقفهم، استضافهم، أمر خادمه:
ـ جهز دار الضيافة، هؤلاء الناس ضيوفي.
يرد الخادم:
ـ نعم سيدي.
يردد الشيوخ الخونة:
ـ نعم سيدي.
دخل الشيوخ الخونة، بعد عناء كبير، مكثوا يومين أمام القصر، ينتظرون دورهم، نفذ كل طعامهم، حتى الشعير، التبن، أخيرا، هم في قصر الضيافة.
تناولوا عشاء ملكيا، كؤوس الشاي، تأكد الباشا من غباء هؤلاء الناس، أوفياء لقاهرهم، يقدرون من يهينهم، يتربصون بجيرانهم، بعائلاتهم، يضربون المسافات، يحملون الهدايا، ينحنون، يركعون، يعبدون الباشا.
هذه الليلة، قضاها الباشا في حيرة من أمرهم، يفكر:
ـ يخافون على سقوط سلطة الباشا ؟
هكذا حال الخونة، غباوتهم تقودهم إلى الخيانة، حانت فرصتهم، لم يدركوها، ضعفاء العقول، لم يفهموا أنهم يشكلون قوة جبارة، باستطاعتهم اعتقال خليفة الباشا، لديهم قوة، لكنهم جبناء، لا يستحقون الحرية.
قضى الشيخ الخائن ليلته يفكر:
ـ هل أفوز بالسلطة هذه المرة؟ يبدو أن الباشا راض علي، عند حسن ظنه، من يستحق الخلافة غيري؟
في الصباح، تناولوا الفطور، استقبلهم الباشا، شكر الشيخ الخائن، وعدهم بزيارة القصبة للوقوف على الأمر. جهز لهم الخادم البغال، أعطاهم ما يكفيهم من الطعام، الشعير، التبن، انصرفوا فرحين، يمرحون، يعتقدون أنهم انتصروا، يعتقد الشيخ المستعبد أن السلطة بيده.
قضى خليفة القصبة ليلته، من ليالي السمر، ليلة حمراء، أحواش ن تمغرين، الشيخ الخائن في فرحة عارمة، مع باقي الشيوخ الخونة، ينتظرون قدوم الباشا، وعدهم بحسم الأمر، زيارة القصبة أمر سلطوي، الوقوف على نفوذ سلطته، حصن حصين لحكم الجنوب.
انطلق موكب الباشا، تتقدمه سيارته، السيارة الملكية، هدية من اليوطي، تبعه الفرسان، المشاة، المستعبدون، يشدون بأذيال الأحصنة والبغال. قبل ذلك بأسبوع، تم تمشيط المنطقة، العسكر ينتشر بجبال الأطلس، يخترق الدواوير، يرهب الفلاحين، يجمع المخزنية الفروض، تمويل رحلة الباشا إلى القصبة.
النساء يخرجن منذ الصباح الباكر، جنبات الطرقات مليئة، رقصات أحواش ن تمغرين، الهدايا محمولة على البغال، تنتظر مرور الموكب، في موكب ملكي، أينما حل، يتوقف، تقديم التمر والحليب. استقبال ملكي. بنى الباشا طقوس حكمه، على غرار دواوين سلاطين القبيلة.
السلطان على ظهر فرسه، حكمه كان قاسيا، شديد القساوة، قمع كل ثورات الأمازيغ، بالجبال، السهول، الوديان، نصف قرن من إخماد نيران الثورات.
يصل موكب الباشا إلى تفنوت، معقل الفقيه سيدي إفني، الأسطورة، حكم الجن، حضر الجن، أخرج الجن، كل النساء يزرن مقامه، في مزاره بالبحيرة، يعرضن عقدهن النفسية، أرواح شريرة تسكنهن، زيارته، شفاء، رحمة، الرقية، الفقيه يضاجع النساء، تدخل المرأة، يضاجعها، تصرخ، تشتد المضاجعة، يرتفع الصياح، النساء خارج خيمة المضاجعة، يسترقن السمع لصرخاتها، ينتظرن دورهن.
الخرافة تسكن عقل المرأة، لما عزلها الرجال، أبعدوها عن السياسة، عن الحكم، عن السلطة، لما قتلوا تيهيا، عزلوا مريم، اعتقلوا الشيخ الشهم، تقام ليالي المضاجعة بالقصبة، ليس بالرقية، على حال سيدي إفني، إنما عبر مقدمات فنية، ألحان، نغمات، رقصة أحواش، ليالي حمراء، مضاجعة الفتيات، الشيوخ الخونة يسترقون الهمس لصرخاتهن، وشايتهم تصل الباشا حليف الاستعمار.
قضى الباشا، ليلة بيضاء، أحواش ن تمغرين، أعطى أوامره لخليفته، بشدة يده الحديدية على المنطقة، نشر جواسيسه، بالجبال، الوديان، الغابات. حذره من شرارة ثورة الجنوب، الثوار ما زالوا صامدين بتخوم الصحراء، معقل الصمود، البنادق ترفع عاليا، في سماء جبال الأطلس.
الباشا يخاف على عرشه، يتحرك إلى القصبة، يحل بها صباحا، باكرا، يجد باب القصبة يعج بالمتقاضين، جيشهم الشيخ الخائن، ينتظر سيده، يستقبله، استقبال الملوك، التمر والحليب، الهدايا، التهاليل، الزغاريد. خليفته بالقصبة في نوم عميق، كعادته، قضى ليلة حمراء.
دخل الباشا إلى القصبة، استقبل المتقاضين، كل نزاعاتهم حول الأرض، الماء، فلاحون تم استعبادهم، علاقاتهم عداوة، تحولت كل نزاعات الحدود، بين القبائل، إلى نزاعات عائلية، شخصية، بالجبال، الغابات، المراعي، العيون، الوديان، نزاعات شخصية. توصل الاستعمار إلى تفريق الفلاحين، خلق نزاعات هامشية بينهم، تمت تغذيتها من طرف الشيوخ الخونة، بعد تعيينهم، سقوط القلعة، اعتقال الشيخ الشهم، اغتياله. نشروا جواسيسهم، زرعوا الفتن، النزاعات، محكمة خليفة الباشا تمتلئ بالمتنازعين، أمام القصبة.
قبل دخول الفرنسيين إلى الهضبة، بنى الباشا القصبة، فتح الطريق لنائب المقيم العام الفرنسي. الباشا يأمر، ينهى، أحكامه لا تستأنف، يستعين بقاضي القصبة، فقيه القلعة، يفك جميع ألغاز السيطرة على الأرض، الماء، الغابات، الزواج، الطلاق، الإرث.
قاضي قضاء الشرع، الشريعة والحكم، القاضي والباشا، الدين والسلطة، الشريعة وسيلة للاغتناء، ثروته بالزاوية، يضرب بها المثل، قطيع أغنامه، رأسه بقمة الجبل، ذيله بباب منزله، حصد كل هذه الثروة من خدمات السلطة، مات، ترك ابنا معتوها.
يستيقظ خليفة الباشا، يتناول الفطور، يحس بحركة غير عادية بالقصبة، يسأل إحدى الجواري في الأمر، تجيبه:
ـ سيدي، سيدي الباشا بالقصبة، بالقاعة.
يستفيق من غفوته:
ـ فعلها الوشاة، مصيبة.
الوشاة، الجواسيس، المتآمرون، المؤامرة، المناورة، الوشاية، صفات الشيوخ الخونة.
دخل الخليفة إلى قاعة المحكمة، الباشا يترأس الجلسة، القاعة مليئة، الشيوخ جالسون، جلس بهدوء، انحنى، سلم على الباشا، أبوه، حاكم الجنوب.
أمره الباشا أن يتقدم، إلى قفص الاتهام، وقف أمامه، نطق بالحكم :
ـ حبسه.
أمام أعين الشيوخ الخونة، أمر إمخزنين باعتقاله، دخل السجن، بناية، بعيدة عن القصبة، معزولة غربا، باناها للمعتقلين السياسيين، سجناء الرأي، الحق العام، أصبح الخليفة أحد زوارها.
رفع الباشا الجلسة. بهذا الفعل، قدم درسا قاسيا للشيوخ الخونة:
ـ كل من سولت له نفسه التقرب من السلطة يلقى نفس المصير، لا مساومة على سلطة القبيلة، من خان قبيلته ليس أهلا بالسلطة.
جمع الباشا الشيوخ الخونة، خاطبهم، الخائن يصغي للأوامر، ينتظر جزاءه، يردد:
ـ ترى هل أكون حاكم القصبة؟
آخر فرصة ينتظرها لدخولها، حذرهم الباشا:
ـ المراقبة الصارمة، كل الحذر من الأعداء.
خارج القصبة، أحواش ن تمغرين، كل التناقضات قائمة هذا اليوم، في ظل حكم الإقطاع، اعتقال خليفة الباشا، ابنه من صلب دمه، أحواش والاعتقال، الباشا يضحي بحرية ابنه، من أجل الحكم، تخويف الجميع، حتى الشيوخ الخونة أنفسهم، الوشاة، خرج الجميع بعد أمر الباشا. في أسايس، مكان أحواش، يجلسون على منصة خاصة، استقبال ملكي، التمر والحليب، الشاي بالزعفران، اللوز المقلي.
المستعبدات بالقصبة، بدهاليزها يمررن بنزق، دخان مداخن أنوال القصبة يرتفع عاليا، منذ الصباح الباكر، مداخن بلا صناعة، فقط صناعة الفحم والخبز، إعداد اللحم المشوي.
تدار المستعبدة، من أصول إفريقية، أمام تفرانت منذ الصباح الباكر، وجهها يحترق.
يدار أمام فرارين المشوي، رؤوس أغنام بأكملها. اثنا عشر فرنا من الطين تشتعل، بداخلها نار فحم من حطب أركًان، فحمه يشتعل بلا انقطاع، دائم الحرارة، نار لا تخمد.
الباشا يستمتع، رقصة أحواش، متميزة، رقصة تمغرين، ألحانها، نغماتها، إيقاعها، الحناجر الأمازيغية، تتعالى، هو من أصول أمازيغية، خان الأمازيغية، خان الوطن، تحالف مع الاستعمار، الخيانة لا تعرف وطنا، لا تعرف هوية، هويتها بيع الوطن، استعباد الإنسان، الوطنية لا عرق لها، لا دين لها، هويتها الدفاع عن الوطن، الخونة يتناولون الطعام، على إيقاعات أحواش، بشره كبير، جشع الريع، ريع السلطة والأرض.
قاضي القصبة، يختم الوليمة بالدعاء، انسحب الخدم المستعبدون، تناولون ما تبقى من الطعام، العسكر، إمخزنين، يتناوبون على الحراسة، حاكم الجنوب، انتظار المجهول، العدو المجهول، جميع القادمين، رجالا، نساء، تفرقوا، توجهوا إلى دواويرهم.
بعد صلاة العصر، صلى الباشا، وراء القاضي، بجانبه الخلفاء، إلا خليفة القصبة، ابنه، المعتقل، عبرة للجميع، جميع الشيوخ الخونة، المقدمين، الأعوان، الجواسيس.
الشيخ الخائن، ينتظر، يتساءل:
ـ هل أحظى برضى الباشا؟ هل يعينني خليفة على القصبة؟ قدمت له خدمات جليلة، أكيد، ليس هناك من هو أحسن مني.
شيخ غبي، كسول، ينتظر السراب، القاضي يسلم، يرفع الدعاء، الباشا يفتح محفظته، يخرج كاغيطا، يعطيه للقاضي، مرسوم تعيين الخليفة، خليفة القصبة.
بدأت الجلسة الخاصة، الباشا يعلن فتح الجلسة، القاضي يتلو نص المرسوم، يقف الخليفة الجديد، من أقرباء الباشا، من قبيلته. لا يمكن أن تخرج الخلافة من قبيلته، يخاف من الخونة، يبدأ طور جديد من الاستعباد.
توالى على القصبة عدة خلفاء، آخرهم الحاج حمادي، بعد اعتقال ابن الباشا، طور جديد من الحكم، اليد الحديدية، الخليفة حاكم قاسي، ينفذ أوامر الباشا كاملة، يضيف اجتهاداته القمعية المتطورة، يستعين باستشارات الشيوخ الخونة، يضيفون اجتهاداتهم.
الخونة يحومون حول القصبة، يسعون للظفر بعطف الخليفة، يعرف الشيخ الخائن جيدا أن مكانه خارج القصبة، خدمة الباشا، الاجتهاد في تطويع الفلاحين الفقراء، آباءهم، أخوالهم، أعمامهم، أحفادهم، كل المضطهدين يزيد اضطهادهم.
في كل صباح يقف الشيوخ الخونة أمام القصبة، ينتظرون، يحملون وشاياتهم، أحقادهم على الفلاحين الفقراء، يعتبرون ذلك جزءا من عملهم، يراقبونهم، في حركاتهم، في سكناتهم، يضيفون أكاذيب، عندما لا يجدون ما يحملونه للخليفة، إرضاء لسلطته.
يجوبون الدواوير، يرهبون الفلاحين الفقراء، ينتزعون منهم ممتلكاتهم، يبالغون في جمع الفروض، لتمويل بناء القصبة، إدارتها، صيانتها، أدواتها، على حساب دمهم وعرقهم.
دخل الفرنسيون، حطوا قرب القصبة، بعد تأمين الطريق، حطوا بالهضبة، قرب الزاوية، في ملكية فلاحين ينحدرون من الصحراء، أيت منصور، دفعهم البحث عن العيش، الفرار من جفاف الصحراء، القحط، إلى العمل بمزارع الوادي، حط القضاة بقمم الجبال، بنوا قلاعهم.
الشاوش حمادي، حامل عصا القمع الفرنسي، طوع الفلاحين بالوادي، إلى جانب الحاج حمادي بالقصبة، رمزان للقمع المزدوج، الاستعمار والإقطاع.
الفلاحون الفقراء بالزاوية، بين مطرقة القصبة وسندان الهضبة، السلطة الاستعمارية المزدوجة، الوجه الحقيقي لعبودية القرن العشرين، على إيقاع سمفونية تحالف الإقطاع والاستعمار، انهارت كل مبادئ البورجوازية الفرنسية، حقوق الإنسان بالمفهوم الإقطاعي، في مشي حثيث للرأسمال التجاري، سرقة الثروات الطبيعية، استغلال العمال والفلاحين، بالمناجم والأوراش.
الثروات الطبيعية يتم تدميرها، ارتكب الاستعمار جريمة في حق أركًان، غاباته تمتد إلى الشاوية شمالا، الصحراء جنوبا، جبال الأطلس شرقا، على ساحل المحيط الأطلسي غربا. خلال الحرب العالمية الأولى، بدأ المستعمر الفرنسي في ارتكاب جريمته، قطع شجر أركًان. توقفت قطارات بوردو، مارساي، ليون، نانت، توقف استغلال الفحم الحجري بجل المناجم، نقص حاد في الفحم، الفرنسيون في حاجة إلى التدفئة، العمال مجندون في الحرب، طلبات الفحم تتضاعف، حطب أركًان هو الخلاص، الحرب نحس على هذه الشجرة، الثروة الطبيعية، التراث التاريخي، الحضاري، أرضية البناء المادي للغة الأمازيغية.
القصر بمراكش في سبات عميق، سذاجة السلطان، قصة الدراجة الهوائية، تعم البلاد، السلطان على دراجته الهوائية، الفرنسيون يعبثون بالبلاد، استغلال الإنسان والطبيعة، الإقطاع والاستعمار بالجنوب، محاصرة ثورة الشيخ حمد، تمتد الثورة إلى الصحراء، عجز المستعمر أمام رمال الصحراء، عانقت رمال بلاد الساحل.
الفلاحون الفقراء بالزاوية بين المطرقة والسندان:
ـ مطرقة الشاوش حمادي، مخزني القبطان الفرنسي، نائب المقيم العام بالهضبة، أمازيغي، رجل قوي البنية، طويل القامة، ضخم، يركب حصانه، الدابة تفقد توازنها، جثة من لحم وعظم، لا يقوى دماغه على التحكم فيها، همه الوحيد ابتلاع الطعام بشره، عشرات الكيلوغرامات، مهمته الوحيدة، إرهاب الفلاحين.
ـ سندان الحاج حمادي، خليفة الباشا، حاكم القصبة، أمازيغي، من قبيلة الباشا، همه الوحيد تطويع الفلاحين، نشر الرعب في أوساطهم، القضاء على فكرة الثورة في صفوفهم.
هذان الشخصان، الطاغيان، أرهبا الفلاحين، لما يتحركان، كل الأشجار تتمايل، مياه الوادي تولول، تختفي الحيوانات، تقام المحاكمات، الجنايات، بدار الاستعمار، بالهضبة، بدار الباشا، بالقصبة، حكايات وحكايات، يتداولها الفلاحون، يتوارثها الأبناء والأحفاد، حكايات القهر، الاضطهاد.
بعد دخول الفرنسيين، توفي قاضي القصبة، قاضي الباشا، سيطر على جزء كبير من أملاك مزارع الفلاحين، فقط مزارع الزاوية احترمها، خوفا من شيخها.
خليفة الباشا، نائب المقيم العام، قاضي التوثيق، الثالوث الذي يعبث بمصير الفلاحين الفقراء، ركيزة حكم الاستعمار والإقطاع.
القضاة قديما، يقيمون فروع الزوايا، زوايا خاصة بهم، يملكون ثقافة العصر، علوم عصورهم، يملكون المستعبدين، الثروة.
شيوخ القبائل، يملكون المستعبدين، الثروة، لا يملكون علوم عصرهم، يملكون القوة العسكرية، الباشا ضمن هؤلاء.
حكم الباشا بالجنوب، حكم القبيلة، العائلة، الأعمام، الإخوة، الأولاد، في دولة القبيلة، تحالف مع الاستعمار، الإقطاع والبورجوازية.

-9-

كانت شعارات الثورة الفرنسية تقدمية، ضد مصالح الإقطاع، ضد العبودية، مع التحرر، لعب العمال والفلاحون دورا كبيرا في الثورة، صعدت البرجوازية إلى السلطة، حكمت، طغت، استعبدت العمال، اضطهدت الشعوب.
البورجوازية تعانق الإقطاع، ضد مقاومة الفلاحين الفقراء، المستعمر يحل بمراكش، معاناة جديدة تحل بالفلاحين الفقراء، نيران بنادق الأطلس تخف، تخمد، آخر جيوب المقاومة تندثر، كل الجيوب تخمد، مرحلة جديدة من الاستعمار.
بلدة زينب أم مولود يتم اغتصابها، ككل بلدات الأطلس، قرب المنطقة العسكرية للاستعمار، الثكنة والسجن، الشيوخ الخونة، المخزنية، يقومون باقتياد الشباب، أبناء الفلاحين الفقراء، إلى أوراش الطريق، الأشغال الشاقة.
سكتت أصوات البنادق، الإقطاع والاستعمار يسيطران، على الطبيعة والإنسان، بعد تطويع المقاومة المسلحة، مرحلة جديد من الاستعمار تبدأ، يسمونه حماية:
ـ حماية من؟ من يحمي من؟ ضد من؟
يسمونه المخزن، سلطة المخزن، حماية القصر، تنفيذ بنود الحماية:
ـ احتلال الأرض، استعباد الفلاحين، استغلال قوة العمل، الثروات الطبيعية، المعدنية، الفلاحية، والبحرية.
كل شيء بيد الاستعمار، الإقطاع أداة للسيطرة، قمع الفلاحين الفقراء، ضم أراضي الجموع، سن قوانين استعمارية، استغلال الثروات الطبيعية، بناء أسس الرأسمال، الأبناك، الأسواق التجارية، المعامل.
كان الأحرار قبل الاستعمار، يحملون السلاح، يقاومون طغيان الشيخ إبراهيم، كل أحلامهم تندثر، تزول، أمام تحالف الإقطاع والاستعمار.
كان أبو مولود بمدرسة بلدة زينب، يضع سلاحه بجانبه، لا يفارقه، اليوم غاب الشهم، سقطت ثورة الشيخ حمد، انتصر الاستعمار، كبر الطفل الشيخ، إبراهيم خادم الاستعمار، يرهب الشباب، يقودهم إلى أوراش تعبيد الطريق، الثكنة، السجن، استخلاص الفروض من الفلاحين، مضاعفة.
بلدة أبو مولود، لم تعد كما كانت، موطن الحرية، خليفة الباشا، بعد تعيينه، يجوب الدواوير، محفوفا بإمخزنين، نزل ببلدته، جمع أهل البلدة، خاطبهم، ردد لاءاته، توعد كل من خالف أوامره، جمع الفروض.
معاناة مولود تتضاعف، ينتهز الشيخ إبراهيم الفرصة للانتقام منه، غاب أبو مولود الشهم الذي يخيفه، اليوم يلاحق ابنه، كل شباب البلدة يعانون من طغيانه، لا مفر منه، ينفذ أوامر المستعمر، يضيف حصصه الخاصة، في كل شيء، في جمع الفروض، الأعمال الشاقة بأوراش تعبيد الطريق، بناء الثكنة، السجن، إدارة الاستعمار.
فتح الباب للاستعمار، يشق المستعمر الطريق إلى الجنوب، تزي ن تاست، عملاء تحالف الاستعمار والإقطاع، يؤمنون الطريق إلى القصبة، من الشمال، من الغرب، إلى تاوريرت. العسكر الفرنسي بالجنوب، الثكنة العسكرية، السجن قرب بلدة زينب، يفتحان أبوابهما، بلدتها محاصرة، يتم استعباد الفلاحين، الشيخ إبراهيم في خدمة الاستعمار، يحذر الفلاحين، يهددهم، يراقبهم.
الفلاحون الفقراء مضطهدون، انهارت دولة القبيلة، يتم تقسيم مراكش، انكسرت الثورات، الفلاحون بالجنوب، الشمال، ينكسرون، تحالف الإقطاع والاستعمار يسود.
مولود مع العمال، بأوراش شق الطريق، الأعمال الشاقة، عمل بدون أجر، الشيخ إبراهيم على حصانه، يراقب أوراش شق الطريق، خلفاء القواد العملاء، شيوخهم، جواسيسهم، يرهبون الفلاحين الفقراء، الأعمال الشاقة اليومية ترهقهم. المستعمر يشق جبال الأطلس، الدرك الفرنسي يراقب الطريق، على مشارف سهل سوس، الفلاحون الفقراء في معتقلات الأعمال الشاقة. تكسير الصخور، المطارق تدق تباعا، على نغماتها معاناة العمال، يسقط كل يوم عامل، شق الطرق بالجبال، شق السكك الحديدية بالسهل، وسائل الاستعمار، للوصول إلى كل الثروات الطبيعية.
جبال الأطلس، كنوز بلاد يغود، يتم استغلالها.
في كل صباح، باكرا، يخرج الشيخ إبراهيم، يمتطي حصانه، يرفع خماسيته، يدق المخزني، من أصول إفريقية، أبواب المنازل، يمشي الشيخ، يتبعه الشباب، الفلاحون الفقراء، خلفهم المخزني، إلى أوراش العمل، الأعمال الشاقة، الاستعباد، حفر الجبال، كسر الصخور، تعبيد الطريق.
الجيش الفرنسي يراقب الأشغال، لا يهمه وضع العمال، طبقة عاملة غير منظمة، في ظل الإقطاع، العمال يخرجون من منازلهم، يحملون بعض الطعام، خبز شعير، زيت زيتون، ماء. بعد خمس ساعات من العمل، المتواصل، الشاق، استراحة، ثلاثون دقيقة فقط، تناول الطعام، مواصلة العمل، إلى غروب الشمس.
تتحول الصخور إلى أكوام حصى، جماهير العمال، تحول الصخور حصى، لكن لا تستطيع دك المستعمر، كل الثورات، الانتفاضات، تم دكها، تحالف الاستعمار والإقطاع ينتصر، الثوار ينتشرون بالجبال، المستعمر يبني مراكز سلطته، يحاصرهم.
مولود الشاب، يرفض طلب أمه، يرفض الزواج من العائلة، همه تزويج أخواته، يفكر في ممتلكات أبيه، الذي غادر قريته، تاركا وراءه كل أملاكه، اليوم مات. يكتوى بموت أبيه، لم يستسغ موته بهذا الشكل، أمه تحكي عن لحظات موته، أحشاؤه تتقطع، يتألم طيلة الليل، سقط مع الفجر، مات، آخر ما أكله، بيض، زيتون، خبز شعير، دسوا السم في طعامه، تخلصوا منه.
ذاكرة مولود موشومة، قصة الأب، ترويها الأم، كل الأفكار تخطر بباله، الانتقام، الثأر، استرجاع ممتلكات العائلة، أصبح رجلا. يقوده الشيخ إلى الأعمال الشاقة كل صباح، لم يرحمه يوما، ينتقم منه، من أبيه المتمرد. ينفذ الشيخ وصية الباشا، كل أبناء الموالين لثورة الشيخ حمد، ثورة الجنوب، في لائحة سوداء. مولود، واحد منهم، يؤدي ثمن رفض أبيه للخضوع.
كل هم الاستعمار الفرنسي، القضاء على ثورة الجنوب، التحكم في الثروات الطبيعية، تركيز حكم الإقطاع، بناء دولة تبعية، دولة حديثة شكلا، مضمونها إقطاعي.
تنكر الفرنسيون لمبادئ الثورة الفرنسية، حقوق الفرنسيين، مصالحهم، فوق حقوق الفلاحين الفقراء، العمال يشقون الطرق، للوصول إلى المعادن، بناء الأسواق، سرقة الثروات الطبيعية، ترويج سلعهم، ضرب الملكية الجماعية للأراضي، تركيز الملكية الرأسمالية، تحويل الإقطاع إلى ملاكين عقاريين كبار، نواة المعمرين الجدد.
شق الطريق من الشمال إلى الجنوب، من الغرب إلى الشرق، تقسيم السهل، بناء ضيعات المعمرين، استغلال العمال الزراعيين، العاملات الزراعيات، بناء مراكز تجارية، سلطة مزدوجة، الاستعمار والإقطاع.
مولود الشاب مع رفاقه، كلهم طموح، بساحات الحفلات، أسايس، برقصة أحواش، يتبادلون الأشعار مع الفتيات، بالجنان، يلتمسون تكوين أسرة، بناء مستقبل، بلدة زينب، تختلط فيها السماء بالأرض، بين جنان الزيتون، غابات أركًان، قمم الجبال البيضاء، الوادي المتلألئ.
مولود مع رفيقه باحسين، يكتويان بنار مراقب أوراش الطريق، أحمد المتسلط، تزوج أخت مولود بالقوة. كان طموح مولود أن تتزوج برفيقه، نكسة أخرى ترافقه، يزيد يقينه برفض الزواج، أخته الصغيرة تخرج عن طاعته، ضربة قوية لمتمنياته.
مولود، شاب قوي، كلما قاده الشيخ، مع رفاقه، إلى معتقل الأعمال الشاقة، يفكر في موت أبيه، ممتلكات العائلة، يفكر في الفرار، يحدد اتجاهه:
ـ أين؟ في أي اتجاه؟ إلى أين؟
الورش مراقب، الجيش الفرنسي، مخزنية الشيخ، الوضع صعب، يجهد في عمله، لينال ثقة العسكر والمخزنية، يخطط للفرار، لم يعرف أن الظروف تلعب ضده. سقطت عليه صخرة، يجهد رفاقه لفكه، تأثرت يده بقوة الصخرة، ينزف دما.
حمله رفيقه باحسين على ظهره، عشرات الكيلومترات، إلى مستشفى مدينة الجنوب، التي تحصن بها الشيخ حمد، قائد ثورة الجنوب، بعد خروجه من مراكش. منذ ذلك الحين، ترسخت بينهما صداقة، إلى حد أعلنا الأخوة بينهما، تعاهدا على الصداقة، التعاون، التضامن.
ظل هناك عدة أيام، لم يتمكن طبيبه من إنقاد يده، قلة الأدوية، التجهيزات البدائية، قرر الطبيب قطع يده، وسيلته الوحيد، الشاب الفلاح الفقير يفقد يده، لما استفاق من نومه، من البنج، أطلق صرخة مدوية، هزت المستشفى، ظلت ترافقه هذه الصرخة في نومه طيلة حياته، تقيأ حتى كادت أحشاؤه تخرج.
خرج من المستشفى، برفقة أخيه باحسين، إلى قريته، يزداد همه، مصيره، الاستعمار يتعامل مع الفلاحين الفقراء، معاملة الدواب، الحيوانات، المواشي، كل ما يهمه، استغلال قوة عملهم، عمال بلا حقوق، البورجوازية في صفة الإقطاع.
يتجاهله الشيخ، لا يقوده إلى الأعمال الشاقة، فقد قوته، المستعمر لم يهتم به، الجيش غير مسؤول، عليه أن يناضل من أجل حقه في التعويض، نضال مزدوج، من أجل حقوقه الشغلية، استرجاع ممتلكات العائلة. في هذه السنة بالضبط، سكتت جميع أصوات بنادق الثوار، بالجنوب الغربي، الجنوب الشرقي، أيت باعمران، صغرو، آخرها معركة بوكًافر، سقط الثائر زايد.
سأل عمه عن أراضي أبيه، فأجابه:
ـ أبوك باع كل أملاكه، باع ممتلكاته بيعا قاطعا لا رجعة فيه.
في رواية صنعها الخونة، ضده، حرروا عقدا مزورا للبيع. خلفاء سلطة قطاع الطرق، لما يريدون السيطرة على أملاك أحد الفلاحين، يرغمونه على بيعها قسرا، يتم إنزال الضحية إلى المطفية، يصرح للعدلين، يقفان من أعلى رأسه، خارج المطفية، إن صرح بالبيع تم إخلاء سبيله، إن رفص تم إغلاق المطفية، يموت هناك.

-10-

مولود يسقط في معسكر الأشغال الشاقة، يتجاهله المستعمر، كما يتجاهل العمال بالمناجم، المعامل، الفلاحون، البلدان المستعمرة، الشعوب المضطهدة. ناضل الفرنسيون، العمال والفلاحون، من أجل القضاء على عبودية الإقطاع، سيطرت البورجوازية على السلطة، قلبت جميع مفاهيم الثورة الفرنسية، حولتها حقوقا بورجوازية، عبودية الرأسمال.
في فرنسا الدفاع عن حقوق البورجوازية، بناء الرأسمال، في البلدان المضطهدة، الدفاع عن مصالح الإقطاع، الاستعمار المزدوج، الرأسمال لا يهمه إلا الربح، يرى في مقاومة الفلاحين الفقراء، الشعوب المضطهدة، عرقلة مشروعه الاستعماري.
بقي مولود ببلدة أمه، مدة بعد الحادثة، تزوجت كل أخواته، لم يقبل زواج الصغيرة، رفضت الزواج بأخيه الصديق باحسين، خطفها أحمد مراقب أوراش الطريق، هناك فقد يده، رافقته هذه المأساة طيلة حياته، رغم أن أمنيته تحققت بعد موت الزوج الثاني لأخته، مات الأول مسموما، والثاني بعضة ثعبان، تزوجت أخيرا أخاه الصديق.
أخته الكبرى ولدت بنتا، فقدت هي الأخرى زوجها، مولود يرفض الزواج من بنت خالته، الابتعاد عن العائلة، فكرة ترسخت لديه، جسدها أبوه قبله.
بعد حادثة الشغل المؤلمة، يبحث عن فرصة شغل شريفة، تذكر نصيحة أبيه:
ـ لا تصاحب السلطة.
لم يبق أمام مولود إلا ممارسة التجارة، نقض عهد أبيه رغما عنه، وصيته، التي تناقلها الآباء، أبا عن جد، لكنه لم يخن كل العهد، بقي بعيدا عن السلطة، عن السلطان. رواية جده السادس التاجر، تحضره، دولة قطاع الطرق، سرقت كل أمواله، فكر مولود :
ـ التجارة أسهل طريق للعيش، رغم رواية العائلة حول التجارة وقطاع الطرق.
يمارس التجارة بقرية قريبة من بلدة أمه، يسافر إلى مراكش، يحمل بضاعته، بعض المواد الفلاحية، الزيتون، أركًان، اللوز، يبيعها، يحصل على بعض الأموال القليلة.
في مساء يوم حار، عند غروب الشمس، مع ظلام الغسق، ينتظر قدوم الحافلة، في اتجاه المدينة، الشيخ على فرسه، يتعاقبه، تسلق مولود شجرة أركًان، الشيخ يحوم بالمكان رافعا بندقيته، لم يتمكن منه، سقط الظلام. باحسين يراقبه، يلتحق به، يناديه:
ـ مولود، مولود، أين أنت؟ كنت أعتقد أنه تمكن منك، كنت خائفا.
نزل من الشجرة، يردد:
ـ نجوت من بطشه.
منذ تلك الواقعة يفكر مولود في مغادرة البلدة، تذكر رحلات أبيه، خارج بلدته وبلدة أمه، هناك بأحواز مراكش، اليوم، عليه مغادرة بلدة أمه، الشيخ إبراهيم الخائن يطارده، ما عليه إلا المغادرة، في اتجاه الزاوية. لم يغادرها إلا بعد موت أمه. يحمل معه ملفين:
ـ ملف الأرض ضد الإقطاع.
ـ ملف التعويضات عن حادثة شغل ضد الاستعمار.
فتح صراعا مزدوجا مع الإقطاع والاستعمار، قاضي التوثيق، باشا القصبة، نائب المقيم العام الفرنسي، القبطان.
القبائل لها شيوخها، الزوايا لها شيوخها، المدارس العتيقة، فقهاؤها، التحالف بين هذه العناصر الثالثة، يشكل مرتكز السلطة السياسية، سلطة الأرستقراطية القبلية، تملك جنودا، إمخزنين، خدما، مستعبدين، مستعبدات، اقتصاد، أراضي، مداخيل، ضرائب تفرض على الفلاحين، دعم السلطة المركزية.
في القرون الوسطى بأروبا، نما حكم الإقطاع، الفيودالية، حكم الملوك، النبلاء، الإكليروس، السلطة، الزاوية، المسجد، في صيغة حكم القبيلة، الباشا، نائب المقيم العام، الزاوية، مقومات الحكم الفيودالي للقرون الوسطى، مستمرة في عهد الاستعمار. السلطة التي تم إسقاطها بأروبا بعد الثورة الفرنسية، تدعمها فرنسا بمراكش.
في هذه الشروط حلت فرنسا بالهضبة، العبودية القبلية، عبودية الزاوية، فقيه المدرسة العتيقة، القاضي، السلطة إقطاعية، الأيديولوجية دينية، الاستعمار يدخل على الخط، البورجوازية والأرستقراطية القبلية، الرأسمال والإقطاع.
نائب المقيم العام الفرنسي، العسكري، القبطان، باشا الهضبة، رمز سلطة الاستعمار، راعي سياساتها، نشر سيطرة الرأسمال، الثقافة البورجوازية في صيغتها الإقطاعية، سياسة ترك الحال على ما هي عليها، حكم الإقطاع في الواجهة، القبيلة والزاوية، الهدف، استعمار اقتصادي، الوسيلة، قمع الثورة، خلق شروط توسيع السوق التجارية، الوصول إلى الثروات الطبيعية.
يعتقد الأساتذة البورجوازيون أن شق الطرق مسألة حضارية، وهي وسيلة للوصول إلى الثروات الطبيعية، أكدها لينين.
الجيش الفرنسي يحكم قبضته على الشعوب المضطهدة، يستعين بالإقطاع لتطويع الفلاحين الفقراء، أنشأ مراكز تجارية لترويج السلع، البنزين، الدخان، الخمور، السكر، الشاي، القهوة، الثوب، مواد كلها مراقبة من طرف الدرك الفرنسي.
رأى المستعمر في الزاوية مركزا تاريخيا، أساسه ديني، يجلب الأنظار، يحج إليه الزوار، الغرباء، المضطهدون، طلبة العلوم العتيقة. يرى في تطويرها، طريق نجاح سياساته الاستعمارية، فتح بها سوقا تجارية، رأسمالية، عكس السوق التقليدية، التي يسيطر عليها اليهود، بالجبل بعيدا عن الزاوية، حيث مزارع الزعفران والمنتوج الفلاحي متوفر، جل التجار يهود، يتناقلون بين الأطلس ومراكش.
ربط الاستعمار الزاوية بمراكش، وسائل نقل حديثة، حافلات، شاحنات، سيارة القبطان، عوامل جديدة، الصناعة تغزو الفلاحة، التجارة نشيطة.
في أيام القحط، قبل الاستعمار، الفلاحون يسافرون إلى مراكش، يقضون أياما في الطريق، المخاطر، قطاع الطرق، شيوخ القبائل، السلاح منتشر، بوشفر، سلاح العصر، ثقافة الأمازيغ، زيارة المدينة مغامرة، لا يقوى عليها إلا مغامر شجاع.
يسافرون، من أجل حفنة من شعير، رمق نساء، أطفال، جياع، يغامرون بحياتهم. اليوم حلت الحافلات، الشاحنات، الزاوية تزدهر، الرأسمال يغزو الإقطاع، شيء واحد لم يتغير، ثقافة الزاوية، الطبقية، الإقطاع، المرابطون، المستعبدون، الأمازيغ، علاقات اجتماعية ما قبل ـ رأسمالية، كرسها الاستعمار، اقتسم السلطة مع الإقطاع.
استمرار العبودية الإقطاعية، في ظل العبودية الرأسمالية.
في ظل حكم القبيلة، التنقل مغامرة بالحياة، الفلاحون يستقرون بالجبال، هروبا من طغيان السلطة المركزية، التي كرسها شيوخ القبائل. تم إخماد ثورات الأمازيغ بالقوة، السلطان لا ينزل من ظهر حصانه، في ظل دولة قطاع الطرق، تم تأسيس الزاوية، إخضاع مدينة الجنوب، سيطرت جيوش السلطان على السهل.
الأمازيغ بالجبال، يسيطرون على منابع المياه، الغابات، المراعي، المعادن، كل شروط الحياة متوفرة هناك، حوض سروا، حوض توبقال.
اليهود يتنقلون، تجار، حرفيون، سكوا النقود، صنعوا الحلي، الأواني، بارعون في كل الحرف، امتلكوا الأموال، ربطوا علاقات شراكة مع الفلاحين، عبر شراء الأبقار، تربيتها من طرف الفلاحين الفقراء، يستفيدون من منتوجها، الحليب، اللبن، الزبدة، تقسيم الربح عند البيع.
شيوخ الزاوية، النبلاء، يرجعون أنسابهم إلى الجزيرة العربية، الصراع على الزاوية، بين البوبكريين واليعقوبيين، أناس لا يشتغلون، يعيشون على عرق المستعبدين، في المزارع.
دخل الباشا القلعة، خلع الشيخ الشهم، لم يغير بنية السلطة، ترك الزاوية على ما هي عليها، رغم أنها أرسلت مشاركين إلى ثورة الشيخ حمد، ثورة الجنوب، يعرف جيدا أن ذلك القرار، ليس قرار شيخ الزاوية، إنما هو قرار من وحي الشيخ الشهم.
رجع اليعقوبيون إلى الزاوية، قدموا الولاء للباشا، رغبة في التقرب إليه، استرجاع مشيختها، سبقهم الشيخ الجديد بالولاء، منح لهم الباشا حق الإقامة فقط، تجاهلهم، ربط علاقة جيدة مع شيخ الزاوية، الذي بدوره ربط العلاقة مع القبطان الفرنسي، يقدم خدماته، يطوع المستعبدين، خدمة للاستعمار والإقطاع.
الزاوية، أداة أيديولوجية، ترعاها القبيلة، محج كل القبائل، بها مقر القاضي والعدول، دار الكناش، مركز ثقافي، خزانتها، تم اختراقها، كل الطوائف نشيطة بها، عساوة، أكًناوة، الرما، الفقراء، زوار سوس. دخل الاستعمار، رأى فيها محطة أساسية، مركز السلطة الدينية، حولها إلى مركز تجاري، أساس السوق التجارية الرأسمالية.
الكل يحوم حول الزاوية، كل حسب مرجعيته، الهدف واحد، لقمة العيش، توفير الغداء، التسول، كل طائفة تخترع شيخها المرجعي، بعد مواسم الحصاد، الطوائف تقيم مواسمها.
الأرستقراطية القبلية، أرستقراطية الزاوية، السلطة، الدين، مقومات الحكم الفيودالي، في عصر الاستعمار، الاستعباد المزدوج، استغلال المستعبدين، الأرض، قيام سلطة الاستعمار على أنقاض الإقطاع.
شيخ الزاوية ينظم خدمات المستعبدين لبناء القصبة، نوبات العمل، حتى الدواب لها نوبات في الشغل، العمل بمزارع الباشا، تمويل سلطته، المستعبدات يشتغلن بمزارعها، معاناة بين مطرقة القبيلة، وسندان الزاوية.
شيوخ الزاوية، اليعقوبيون، موالون للسلطة المركزية، لجأوا إلى بلدة قريبة من بلدة أم مولود، بعد دخول البوبكريين القلعة، هكذا تعرف مولود على الزاوية.
دخل المستعمر، ركز عبودية الإقطاع، حفاظا على مصالحه، التوسع التجاري، ترويج السلع، تنمية الرأسمال، تأمين الطرق، سرقة المعادن، السلطة تتحول إلى مركب ثلاثي:
ـ الاستعمار، الإقطاع، الزاوية.
ـ البورجوازية، أرستقراطية القبيلة، أرستقراطية الزاوية.
الاستعمار يهيمن على السلطة، يدبرها، يوجهها، يزرع مبادئ الرأسمال، المراكز التجارية والعمل المأجور، التجارة والأجر، الهدف، استغلال العمال بالمعامل، المناجم، الضيعات الفلاحية، الصيد البحري، الأوراش، استغلال قوة عمل الطبقة العاملة، تنمية الرأسمال.
يبني إدارته بالهضبة، يفتح أوراش بناء مركز سلطته، على غرار بناء القصبة، بدم وعرق الفلاحين الفقراء، العمال، الشيوخ الخونة، بارعون في قمع العمال، ويل لمن يتخلف عن أداء فرض القصبة. اليوم، يتم اقتيادهم إلى الهضبة، الأعمال الشاقة، أوراش البناء، منزل القبطان الفرنسي، إدارة سلطته، السجن، مخزن الأسلحة، حي المخزنية، المحكمة، الجردة، إسطبل الأحصنة، سور دار المخزن.
بين أوراش إدارة الاستعمار، أوراش تعبيد الطرق، أداء فرض دار القصبة، أداء الضرائب، يعيش الفلاحون الفقراء استغلالا مزدوجا، تم إدخال عامل الأجر، في أوراش البناء يتم العمل بأجر زهيد، دون باقي الحقوق الشغلية، يتم اكتراء العمال لأداء فرض المخزن، بداية العمل المأجور.
الاستعمار والإقطاع، الشيوخ الخونة لهم نصيبهم في الحكم، المخزنية يحصدون نصيبهم، الكل ينهش جسم الفلاحين الفقراء، خاصة المرأة الفلاحة، ينتجون، يعملون، لا يستفيدون إلا من قوت يومهم القليل، الرأسمال يكبر، ممتلكات الإقطاع تكبر، الفلاحون الفقراء يزدادون فقرا.
قرر مولود مغادرة بلدة أمه، في اتجاه الزاوية، لم يعرف أن الزاوية وجه آخر للعبودية، موازية لسلطة الإقطاع، في خدمة الاستعمار، لم يعرف الفقيه، العارف بعلوم عصره، الشيخ المعلم محند، الذي أسس خزانتها، من أجل نشر الثقافة، أنها ستصير جحيما، معسكر تعذيب المستعبدين، عائلات، من أصول إفريقية، في خدمة العائلة المالكة.
في هذه الشروط استقر مولود بالزاوية، بنى علاقة مع عائلة مريم، يزاوج بين ممارسة التجارة، الالتزام بالآذان بالمسجد، رجع إلى أصول أبيه، رأى في ذلك خلاصا من معاناته، غادر بلدة أمه، تاركا وراءه أخواته، دون علمهن، متزوجات، حائرات في أمره:
ـ أين اختفى؟
قلقات عن مصيره، يعرفن جيدا الشيخ إبراهيم، يكن له العداء، بسبب مواقف أبيه من الاستعمار والإقطاع، مولود يتعاطى التجارة، يطارده الشيخ. يتذكرن قصة جدهن السادس، الذي فقد تجارته، بعد سيطرة التهامي على قافلة التجار، من أجل بناء دولة قطاع الطرق.
اليوم تطورت هذه الدولة، أصبحت دولة الاستعمار والإقطاع، التجارة مراقبة من طرف المستعمر. مولود التاجر بالزاوية، طور جديد، من مأساته، يصارع من أجل لقمة العيش، استرجاع ممتلكات أبيه، حقوقه الشغلية، بعد حادثة الشغل المؤلمة، كل أمله بناء أسرة، مستقبل مريح، غاب عن أعين أعدائه، خاصة شيخ القبيلة ببلدة أمه.
الزاوية خادمة الإقطاع والاستعمار، لم يعرف مولود أنها مصدر معاناة الفلاحين الفقراء، كان طموحه إيجاد مكان آمن، بعيدا عن تسلط الشيخ إبراهيم، وريث سلطة الشيخ حجو، المرأة التي استعبدت الرجال. كل ما وجده بالزاوية، مركزها التجاري، يتحاشى إبراز غاياته، يتعاطى التجارة، بعيدا عن مشاكل شيخ الزاوية، خليفة الباشا، خليفة المقيم العام، الثلاثي الذي يرهب الفلاحين الفقراء.
من الدكان إلى المسجد، التجارة، آذان الصلاة، بانتظام، يغلق دكانه عند أوقات الصلاة، هكذا أصبح محترما. بداخله نار مشتعلة، لا يتكلم كثيرا، كلامه ألغاز، معاني، حكم، يتحاشى تفسير أقواله، غالبا ما يضحك، حتى لا يترك الفرصة للآخرين لاستفساره، ضحكاته مزيج من الهزل والسخرية، يقهقه عندما يسمع كلاما في صميم انشغالاته.
تطورت التجارة بالزاوية، وجود وسائل النقل إلى مراكش، مما ساهم في تنمية رأسماله، في شراكة مع صديقه اليعقوبي، نشطت تجارتهما، يتنقل بين الزاوية ومراكش، يحمل البضائع الفلاحية، يبيعها يشتري بعض المواد غير المحظورة لإعادة بيعها.
دفعه نشاطه التجاري إلى المغامرة، البيع والشراء في البضائع المحظورة، المستعمر يراقب كل المواد التي يراها مربحة، يتم ترويجها من طرف معاونيه فقط، حسب ما يسمى البون، الترخيص بالبيع والشراء لوكلاء الاستعمار، التجار الصغار ممنوع عليهم تداولها.
في صيف سنة جفاف، باع كل بضائعه، التي حملها من الزاوية إلى أسواق مراكش، قرر تجاوز حظر المستعمر، اشترى بكل أمواله بضاعة محظورة، القهوة، البن، ممنوع تداوله إلا من طرف وكلاء الاستعمار. ركب الحافلة، سارت في طريقها، توقفت عند نقطة التفتيش، الدرك الفرنسي صارم، لم يقم بالتفتيش بمثل هذه الصرامة، توقف الدركيون عند بضاعته، حجزوها، بحثوا عن صاحبها، لم ينطق ببنت شفة، خوفا من الاعتقال، فقد كل أمواله.
فكر في رواية جده السادس، الذي فقد كل تجارته، لم يعمل بوصية أبيه، اليوم يفقد كل أمواله، يردد قائلا:
ـ ما هذا النحس الذي يطاردني؟ ماذا أقول لشريكي؟ اليعقوبي لا يعرف إلا الربح، لن يرحمني، ينتظر نصيبه من الربح.
نزل بالزاوية، حفي حنين، تلقاه اليعقوبي، لم يستسغ روايته، طالبه بأمواله، تنكر لسنوات صداقتهم، يطارده في كل يوم، كل وقت، في كل مكان. من حسن حظه، تربطه علاقة بشخص من بلدة الشيخ الشهم، محمد، يملك مقهى بالزاوية، طلب منه الاشتغال معه، حكى له قصته مع اليعقوبي، وجد فيه آذانا صاغية، دفع له نصيب شريكه، مفاتيح الدكان، قسط من المال. لم يكن مولود يتصور حجم أسرار الزاوية، ما كان يعرفه هو أن هناك مسجد ومدرسة، حسب صديقه اليعقوبي، الذي تنكر لصداقتهما، بعد مصادرة سلعته.
مجموعته تكبر، من طينة المناضلين الأحرار، إضافة إلى باحسين، حماد ابن عم محمد شريكه، طالبان نشيطان في الشبيبة السياسية، ينقلون المناشر، الوثائق، عبر التنقل بعدد من مناطق الجنوب. مولود يكسب صديقا آخر، حماد، مرحلة جديدة في حياته، نشطت تجارته، ربط علاقة جيدة معه، عندما يلتقيان، يتصارعان، يعنفان بعضهم البعض، يضحكان، تعبيرا عن أرقى ممارسات الصداقة.
البورجوازية الصغيرة بالمدن، تؤسس حزبها السياسي، أنويتها السياسية، حماد ومحمد نشيطان بشبيبة الحزب، في الحركة السياسية، التي بدأت إرهاصاتها بدار الكناش، وجدا في دكان مولود، مقرا آمنا لوثائقهما، يتنقلان بعدة مناطق بالجنوب، مكلفان بالدعاية للحركة الوطنية.
القائد الثوري سي موحند، قائد الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية، على طريق الحرب الشعبية، بمنفاه، يؤسس حركة التحرر الوطني، يستقبل جميع ثوار العالم، الثوريون الوطنيون، مرحلة جديدة من المقاومة تبتدئ، في شروط مادية جديدة، تنتشر أفكاره بالبلدان المستعمرة، الشعوب المضطهدة، يبلورها الثوار بمنظور مادي تاريخي، ضد الاستعمار.
الرأسمالية بأروبا في صراع، تقسيم العمل، المنافسة حول المستعمرات، أغوتهم لذة الثروات الطبيعية، المعادن، الفلاحة، الصيد البحري. قيام الحرب الإمبريالية الثانية، هي الحل، توقفت أوراش تعبيد الطريق، قرب القصبة، هناك ترك الجيش الفرنسي متاعه، غادر المكان، الحرب تناديه. احمد ينخرط في الجيش، غادر قريته الجميلة، بساتين الزعفران، أغبالو، بحثا عن لقمة عيش، ساعفته الظروف، تألق، شاب ذكي، تعلم الفرنسية. انتهت الحرب، تمت ترقيته، سرجان، رتبة ثانية، طلب منه القبطان توقيع العقدة، اعتذر فضل الرجوع إلى بلدته، الحنين إلى الوطن، حل بالهضبة، استقبله القبطان. الشاوش حمادي، إلى الزاوية، بحثا عن بغل، امتطاه سرجان، في اتجاه بلدته، يشتم في الطريق رائحة الأرض، تأسف كثيرا، طلب الاعتذار.
قضى بعض أيامه، وسط عائلته، يخرج صباحا إلى أغبالو، يلتقي فضمة، يتحدثان، عن مشروع الزواج، يبحث عن المقدم، يناديه، القبطان يريدك الآن. غادر البلدة، ترك فضمة مهمومة:
ـ هل يرجع؟ ماذا يريد القبطان ؟ لن يغادرني مرة ثانية.
دخل إلى مكتب القبطان، سلم عليه سلاما عسكريا، أمره بالجلوس، وقال:
ـ نحن في حاجة إلى موظف، مهنة شريفة، تتطلب الثقة، أنت من جنودنا، أولى بهذا العمل، المسؤول على الهاتف، ضمان المكالمات، السرية.
تملكه، شعور، مزيج من الفرح والخوف، يعرف جيدا هذه المهنة، أثناء اشتغاله بالجيش، ما عليه إلا أن يقبل، ليس أمامه خيار آخر، على الأقل، يعمل قريبا من بلدة الزعفران. خرج، في اتجاه الزاوية، مر على مولود، بشره، طلب منه البحث عن مسكن. غادر، في اتجاه بلدة الزعفران، بحث عن فضمة، بشرها، اتفقا على الزواج، جمع متاعه، من الزاوية إلى العمل، يطلع على جميع المكالمات، من مراكش إلى الهضبة، إلى القصبة، أخبار الحرب.
تعتبر الحرب الشعبية الفيتنامية أروعها، أرهقت الاستعمار الفرنسي، كبدته خسائر فادحة، أبهرت ثوار العالم، استنجدت فرنسا بالشعوب المضطهدة، فيما يسمى معركة ديان بيان فو، بالوادي الذي تم فيه تدمير الجيوش الفرنسية. قام على إثرها، القبطان الفرنسي، المقيم على الهضبة، بنشر دعاية بالسوق، تهدف إلى حشد الفلاحين للحرب، رفع الإعلان:
ـ فرنسا تخلق فرص الشغل، التسجيل إلى بوردو، للعمل بمزارع الكروم.
في الصباح الباكر، احتشدت جماهير الفلاحين بالسوق، الشاحنات واقفة، الكل يتكلم عن العمل بفرنسا، مزارع بوردو، العملة الصعبة، محاربة الفقر، المشاريع الوهمية، المنزل، الزواج، السفر. يتسلل حماد إلى وسط الحشد، يعرف أن الأمر فيه تدليس، وصله خبر مشروع المستعمر، نقل الفلاحين إلى الفيتنام، لاندوشين، صباحا قبل وصول القبطان، يعلمهم:
ـ لا تثقوا بأقوالهم، مؤامرة الاستعمار، الأمر يتعلق بالحرب بالفيتنام، ديان بيان فو.
التقط الفلاحون الإشارة، يثقون به، يعرفونه جيدا، في معاملاته التجارية بالسوق، يتسللون، يبتعدون، يغادرون السوق، الشاحنات واقفة. الشاوش حمادي حائر، سبق له أن أخبر القبطان، ينتظر وصوله لنقل الفلاحين، تفرق الحشد. وصل نائب المقيم العام، في سيارته الفخمة، لم يجد أحدا بالسوق، أفرغ جام غضبه على الشاوش:
ـ ماذا تنتظر، أين الفلاحون؟ فعلها الوطنيون؟
وصل الحاج حمادي، خليفة الباشا، يعرف جيدا تجار السوق، الحركيون منهم، أخبر القبطان:
ـ صاحب هذا الفعل، قريب منا، موجود، لا يمكن أن يكون إلا حماد.
توجه إلى دكانه، اقتاده إلى القصبة، استنطقه، أنكر، اقتاده إلى الهضبة، حيث المحكمة، تم الحكم عليه بالسجن، الأعمال الشاقة. إدارة الاستعمار في طور البناء، التحق بالعمال، من حسن حظه، يعرفه أحدهم، يحترمه، مده ببعض الألبسة، يتعاطفون معه، يغضون الطرف عنه، قضى أياما بالسجن، تدخل أحد أعمامه لدى القبطان، دافع عنه، ما دامت الحجة غير موجودة، بريء، تم إطلاق سراحه.
بعد إطلاق سراح حماد، أصبح مستهدفا، متابعا، انتقل إلى أنفا، استقر هناك، يزور الزاوية سريا، ينوب عنه محمد، يقوم بجميع مهامه. محمد جريء، صارم، يستهزأ من الخونة، يقلل من شأنهم، استمرت صداقة الثلاثة حتى فارقتهم الموت.
الهوة بين الإقطاع والاستعمار، الديمقراطي البورجوازية والعبودية:
ـ حمادي، خليفة الباشا، لا يملك أي دليل، اتهم حماد، تمت إدانته، القبطان حكم عليه بالسجن، المدافع عنه طالبه بالحجة، حقق براءته، أطلق سراحه.
ـ اعتقل الباشا أسد الأطلس، نفاه بدون محاكمة، لم يعرف قبره إلى حد الساعة، اليوطي أسر أسد الريف، لم يتابعه بمنفاه، استمر في ممارسة مهامه السياسية، النضالية، الثورية.
الحادثة كشفت حماد، أصبح معروفا لدى المخبرين، متابع، لم يبلغ به الفلاحون، تأكدوا من صدقه، استطاع إفشال خطة الاستعمار، أفشل مؤاموة تجنيدهم في الحروب الاستعمارية. يتنقل بين الزاوية ومراكش، يتخذ التجارة سببا في تنقلاته، يتصل بالسياسيين، ينقل الأحداث السياسية، الوثائق، قال عنه محمد ابن عمه، صديق مولود:
ـ لما يكن في مهمة، من مراكش إلى الزاوية، ينزل قبل وصول الحافلة، براس الوادي، يمتطي دراجته الهوائية، يمر ببلدة أبو مولود، تفاديا للمخبرين. لما يصل إلى الزاوية، ينشر الوثائق بين السياسيين، الذين يجتمعون بدار الكناش، يتم التخطيط سريا هناك.
تعرف عليه باحسين، صاحب مولود، أخوه، الوحيد الذي يعرف وجهته، لما غادر بلدة أمه زينب، أمين سره، يزوره خفية، دون علم أخواته الثلاث، يطمئن عليه، يخبره بأحوالهن، مأساتهن. طغيان الشيخ إبراهيم، الخائن، عميل الاستعمار، يقهر الفلاحين، يقود أبناءهم إلى أوراش المستعمر، يستخلص الفروض، ينتزع إنتاجهم، دمهم وعرقهم. مولود يتألم، لم يستطع تقديم العون لهم، أخواته مهمومات، يفكرن في أمره، يجتمعن، يتحدثن، يستقصين عن أخباره:
ـ ترى ماذا وقع له؟ نعرفه جيدا، حنون، الشيخ الملعون، الخائن، حرمنا من حنانه، لا يمكننا العيش بدونه، سنبحث عنه في كل مكان.
كل واحدة منهن، حسب معارفها، توصيهم، البحث عنه في الأسواق، لا خبر يفرحهن، يتبادلن الأخبار بينهن، دون جدوى، جميعهن يعشن في مأساة:
ـ الكبيرة قتل زوجها، رافقها هذا الحدث الأليم طول حياتها، تزوجت ابنتها الوحيدة، بقيت تنتظر أملها الوحيد، لقاء مولود، ترفض الزواج.
ـ الثانية فقدت بصرها، زوجها هاجر البلدة، غاب عنها، لا تعرف مصيره، ترعى ابنها الوحيد.
ـ الصغيرة، أغضبته، لا يطيقها، مات زوجها الأول والثاني، هي اليوم مع باحسين، يرعى أبناءها الثلاثة.
باحسين الوفي للعهد، بقي مداوما على زيارته، يطمئن عليه، يزوره، يبشره مولود بخطوبته، خطيبته فاطمة بنت باحمد، العسكري الشهم، الفلاح، الذي فضل الفلاحة على خدمة الباشا، بعد اعتقال الشيخ الشهم. يتعانقان، من فرط الفرح، بكيا معا، أذرفا دموع الفرح، ضحكا معا، قال له باحسين:
ـ الآن، يمكن أن أدخل البلدة مرفوع الرأس، أهلل، أرفع صوتي عاليا، أخي الصديق، صديقي أخي، يتزوج.
كانا بدكانه لما دحل عليهما باحمد، صهره، أبو فاطمة، العسكري الصلب، تحدثوا عن العرس، لم يتردد الشهم في الإسراع بتنفيذه، لم يطلب في المهر كثيرا، قال:
ـ نحن لا نبيع بناتنا، ما نطلب هو المعاملة الحسنة.
حددوا موعد العرس، غادرهم باحمد، مطمئنين. التحق بهم البشير، جاره، من أقرباء عائلة مريم، هنأه بالخطوبة، صديق من طينة أخرى، ضحوك، يحب الهزل، قال له:
ـ أنا أتكلف بالمهر، باحمد لم يطلب كثيرا، أكون وزيرك، لدي تجربة في الزواج.
أكد باحسين حضوره، طلب منه مولود عدم إخبار أخواته، إلى حين ترتيب أمور المنزل لاستقبالهن. مر عليهم محمد، شريكه في التجارة، ساهم في تحول حياته، ازدهار تجارته.
حفل العرس كان بسيطا، رمزيا، من طقوس الفلاحين، حضره باحسين، صديقه، أخوه، أصدقاؤه، على رأسهم البشير، التاجر الفاشل في تجارته، يقول عنها:
ـ بعت شمعة، استهلكت شمعة، حملت شمعة إلى المنزل.
مرحلة جديدة في حياة مولود تبدأ، حقق أحد أحلامه، تزوج خارج القبيلة، بعيدا عنها، سار على سيرة أبيه. لم يتناقل كثيرا، لم يفارق فاطمة كثيرا، إلا أثناء أسفاره إلى مراكش للتجارة.
مرت أيام، مازال يسكن مع عائلة مريم، قائدة صرح حكم المرأة، القلعة. في أول زيارة يقوم بها باحمد لفاطمة، بعد رجوعه من السوق توقف بالزاوية، في طريقه إلى بلدته، وجدها بذلك المنزل، لم يعجبه وضعها، اطمأن عليها، لم يستسغ وجود أسرتين بمنزل واحد، يحب الحرية، خرج من البيت، متوجها إلى مولود بدكانه، في يوم السوق الأسبوعي، الزبائن كثر، مع آخر زبون خاطب مولود:
ـ زرت فاطمة، لم يعجبني وضعها.
رد عليه مولود:
ـ بالدار كل ما تحتاجه.
باحمد :
ـ كل شيء موجود بالدار، لكنها محرومة من كل شيء.
سكت هنيهة، فهم أن البقاء بهذا المنزل غير ممكن، رد عليه :
ـ نعم، سأنظر في الأمر.
أخذ كيسا من مواد غذائية، مده للرجل. يشغله الأمر:
ـ لا بد لي من منزل مستقل، الجمع بين امرأتين بمنزل واحد، يطرح مشكل من هي سيدة المنزل.
يرى باحمد في الأمر، أن فاطمة يتم استعبادها. أغلق الدكان، اكترى في الحين منزلا مجاورا لدكانه، بالليل جمع أمتعته، رافق فاطمة إلى دارها الجديد، استقر بالمنزل.
باحمد بالسوق الأسبوعي، لم يمر على الزاوية، يبحث عن مولود، تناولا معا كأس شاي، أخبره مولود، فاطمة مستقلة ببيتها، تفرقا. مر عليها باحمد، اطمأن عليها، أعطاها نصائحه.
باحسين يحل بالزاوية، يحمل معه بعض الهدايا، عسل، أركًان، سمن، هذه المرة حمولته مضاعفة، مولود متزوج، في بيت مستقل، مع فاطمة. وجده بالدكان، تعانقا، ضحكا معا حد الدموع، دموع الفرح، قال له باحسين:
ـ وفي الأخير انتصرنا.
أخبره بأحوال أخواته، قلقهن عن مصيره:
ـ الآن يمكنني أن أخبرهن مرفوع الرأس.
أغلق مولود الدكان، رافقه إلى منزله، غير بعيد، دخلا معا، فرحين، استقبلتهم فاطمة، ممنوع عليها رؤية الآخرين، إلا باحسين صديقه، أخاه، الوحيد الذي يجلس معهما، في مائدة واحدة، في بيت واحد، كل سكان الزاوية بالنسبة إليها غرباء، لم تتعرف على نساء البلدة بعد، إلا عائلة مريم، غادرت منزلها.
مفارقة عجيبة، أن تجمع الظروف، فاطمة، بيت باحمد، عسكري من كومندو الشيخ الشهم، بعائلة مريم قائدة سلطة القلعة، مولود ابن الفقيه المتمرد، مناصر ثورة الجنوب، الشيخ حمد، ملك في مملكته، في مواجهة تحالف الإقطاع والاستعمار.
باحسين اليوم، في أوج غبطته، شخص ضحوك، حينما يلقى ضالته، يقهقه، يرد الذاكرة شيئا ما إلى الوراء، الأعمال الشاقة، حادثة الشغل، الشيخ إبراهيم، يسأل مولود:
ـ أين وصلت في قضية الحادثة؟ الأرض؟
مولود يتابع هاتين القضيتين، لا تفارقان اهتماماته، محكمة التوثيق، قاضي المنازعات العقارية، إدارة الاستعمار، نائب المقيم العام، القبطان الفرنسي.
يجيبه:
ـ لا شيء، ما زلت أناضل، القاضي يساوم، يراوغ، يتهرب من إصدار الحكم، القبطان، لم يجبني بعد، يبدو أنه جدي في الأمر، الحق ببلادنا، بعيد المنال.
ودع مولود صديقه، أخاه باحسين، أعطاه بعض النقود القليلة، بعض المواد الغذائية، طلب منه أن يرافق معه في زيارته القادمة أخته الكبيرة، فضمة، تعيش وحدها بعد زواج ابنتها الوحيدة.
في طريقه إلى بلدته، مر على فضمة، أخبرها بالأمر، أدمعت عيناها، فرحت بالبشرى، ذلك ما كان ينقصها، يخفف عنها معاناتها، ردت عليه قائلة:
ـ كنت أنتظر دائما زياراتك بشغف، اليوم تمت أمنيتي، لن أبقى هنا لحظة واحدة، أجمع حوائجي، لن يكون لي بعد اليوم هم هنا، أعرفه جيدا، إنه في حاجة إلي.
خرج متجها إلى بلدته، قضى ليلته هناك، استيقظ باكرا، مر على فضمة، حملت معها كل ما خزنته، أركًان، زيت الزيتون، العسل، السمن، اللوز، في اتجاه الزاوية، مشتاقة لرؤية أخيها، التعرف على زوجته، وصلت الحافلة، وجدا الدكان مغلوقا، اتجها إلى المنزل، طرقات بالباب:
ـ من بالباب؟
ـ أنا، باحسين.
فتحت فاطمة الباب، دخلا، سأل عن مولود:
ـ أين ذهب؟
ردت عليه:
ـ إنه بالسجن.
يستغرب:
ـ بالسجن؟
كان بدكانه، وحيدا، لما دخل عليه أحد اللصوص، حاول سرقة أمواله، سل مولود سكينه بخفة، أصابه في يده، الدم يسيل، يجري اللص إلى المستشفى. الطبيب الفرنسي، يخبر القبطان، الشاوش حمادي، يعتقل مولود، يودعه السجن، قضى ليلته هناك، تعرف على سي حمد، معتقل سياسي. من حسن حظه، هناك تاجر أمام دكانه، أحد اليعقوبيين، شاهد الواقعة، في الصباح، أغلق دكانه، توجه إلى الإدارة، أدلى بشهادته، صديق آخر.
باحسين وفضمة، بالمحكمة، دخلا إلى القاعة، القبطان يصدر الحكم بالبراءة، يخرج مولود، يعانق فضمة، يصافح باحسين، يسيرون في اتجاه المنزل.
قال له باحسين:
ـ تجارتك يتبعها نحس، الشيخ، الدرك، اللصوص، الاعتقال.
تأثر مولود بحال سي حمد، المعتقل السياسي، تطورت الحركة السياسية، بعد تأسيس فرع الحزب بالزاوية، في السرية، انتشرت فكرة الوطنية، كل حسب استيعابه لها، مستوى وعيه، الخونة يتربصون بالسياسيين. سي حمد، جريء في قوله وفعله، يسخر من القبطان، الحاج حمادي، الشاوش حمادي، يتهكم على الشيوخ الخونة، يتحدى ضوابط الاستعمار. يتخذ قصة السوق، ديان بيان فو، موضوعا للتهكم، الاستهزاء، أعوان السلطة، جواسيسه، يضايقهم بكلامه. الأخبار تصل القبطان، يأمر الشاوش حمادي باعتقاله، أثناء محاكمته، القبطان رئيس الجلسة:
ـ ماذا تروج بالأسواق؟ لا تحترم إدارتنا.
سي حمد:
ـ كل ما أقوله صحيح.
القبطان:
ـ تتحدى سلطتي؟
سي حمد :
ـ الجيوش الفرنسية فاشلة في ديان بيان فو، تستنجدون بالفلاحين لإنقاذكم.
القبطان:
ـ تتحدى سلطة الدولة الفرنسية؟ تهينها؟ أمام المحكمة؟
تأكد القبطان أن فكرة الوطنية تنتشر، اعتبر أقوال سي حمد إهانة، استخفاف بالجيش الفرنسي، عقلية البورجوازي في صفة الإقطاع، النطق بالحكم:
ـ السجن النافذ مع الأعمال الشاقة.
إدارة الاستعمار، في طور البناء، أغلب العمال سجناء، الترهيب، القمع، الأعمال الشاقة، سي حمد نموذج يضرب به المثل، يجر عربة عليها برميل، ربع طن من الماء، من الوادي إلى أعلى الهضبة، حيث يقيم القبطان، لا يتوقف عن إهانة الاستعمار. قضى عدة سنوات من التعذيب، أنهكت الأعمال الشاقة قواه.
خليفة الباشا، الحاج حمادي، يحكم قبضته بالقصبة، الشيخ الخائن ينقل أخبار الحركة، السياسيون يجتمعون بالزاوية. مولود، همه الأساسي، استرجاع أراضيه، ممتلكاته، حقوقه الشغلية، يتنقل بين مكتب القاضي وإدارة القبطان.
حماد بالزاوية، يحمل معه منشورا، يجتمع الفلاحون أمام القصبة، في انتظار استقبالهم، الخليفة بمكتبه، تسلل السياسيون بينهم، فكرة الوطنية تنتشر، تحول الجمع إلى احتجاج، في اتجاه الهضبة، مقر إدارة القبطان. العسكر يحاصر المحتجين، يتم اعتقال مجموعة من الفلاحين، الحكم عليهم بالسجن مع الأعمال الشاقة، بأوراش الإدارة، شق الطريق بأدرار ندرن.
سكتت بنادق المقاومة، بقي بعض الثوار، في جيوب الجبال، في الوقت الذي، بالمدن والبوادي، نشأت الطبقة العاملة، تنظمت البورجوازية الصغيرة، المثقفون والتجار، الطلبة بالمدارس والثانويات، التي أنشأها الاستعمار. مرحلة جديدة، النضال السياسي الديمقراطي، التنظيم الحزبي في السرية، في مواجهة الحزب الشيوعي الفرنسي، المنافسة حول تنظيم العمال، هامش من الحرية النقابية. كان العمال المغاربة، محرومون من العمل النقابي، يعاقب عليه القانون الفرنسي، الخاص بالمغاربة، نصف ديمقراطية بورجوازية فرنسية.
نشطت الحركة السياسية بالزاوية، حماد ومحمد، يمران على مولود بالدكان، يلتقيان مع سرجان، تعرفا عليه، عنصر أساسي في المجموعة، في مكان حساس، في غرفة أخبار الاستعمار والإقطاع. سجل حماد هذه الملاحظة، احتفظ بها، ناقشها مع محمد، كلفه بالنظر فيها، الاتصال بسرجان، قصد تحفيزه، إقناعه بفكرة الوطنية. ناقش معه محمد الفكرة، وجد فيه آذانا صاغية، يعرف جيدا عقلية القبطان، خبر الجيش الفرنسي. سرجان المناضل، تعلم الفرنسية بصفوف الجيش الفرنسي، يشرف على المكالمات الهاتفية، يتنصت على جميع مكالمات القبطان وخليفة الباشا، ينقل أخبارهم إلى السياسيين.
حماد بالزاوية، ينشر أخبار المقاومة بأنفا، العمال ينتفضون، تضامنا مع رفاقهم بتونس، بعد اغتيال المناضل العمالي، فرحت حشاد، الاستعمار يرتكب مذبحة في حقهم. تتصاعد وتيرة المقاومة، العمال الفدائيون يفجرون العبوات الناسفة، براميل الكربون، بأحياء المعمرين، إداراتهم، المستعمر مرعوب. الفلاحون حملة السلاح، بالبوادي، بالريف، بالأطلس، بالصحراء، يعلنونها حربا ضد الاستعمار، السياسيون يحاولون احتواء الوضع، توجيهه، في اتجاه القصر.
مولود يخرج من عزلته، حوله مجموعة من الأصدقاء، جميعهم سياسيين، سرجان آخرهم، العسكري، رجع من فرنسا، بعد الحرب العالمية الثانية، دكانه محج لهؤلاء. الزاوية مركز تجاري، مات الفرنسي التجار، أعوانه يتألقون، حركة الحزب نشيطة، تنشر فكرة الوطنية، ضد الاستعمار. حماد، صديقه، يجتمع مع رفاقه، شكل مجموعته، فرع الحزب بالزاوية، خليط من المنخرطين، جلهم انتهازيون، يدافعون عن مصالحهم الخاصة.
مجموعة حماد، أصدقاء مولود، يغادرون الزاوية، في اتجاه أنفا، الالتحاق بمركز المقاومة، باقي السياسيين، أصحاب المصالح.
الحركة الوطنية تتأجج، جيش التحرير، المقاومة المسلحة، العمليات العسكرية ضد المستعمر، بالبوادي والمدن، سجون الاستعمار تمتلئ بالمعتقلين السياسيين، سي حمد مازال معتقلا، قضى عدة سنوات بالسجن، استدعاه القبطان إلى مكتبه، قرر الإفراج عنه :
ـ الآن يمكنك أن تنصرف.
سي حمد عنيد، انهارت قواه، لم يقو على الوقوف، بقي لسانه حيا، أجابه:
ـ أتعتبر قدماي صالحة؟ قادرة على المشي؟ لم تترك فيهما ما يصلح للحركة، أنا مصر على أقوالي.
قواه منهوكة، لم يفرج عنه الفرنسي حتى أنهكها، ذب الرجل، يزحف، إلى الزاوية، حوالي نصف كيلومتر، استراح أمام دكان مولود أدخله إلى الدار، أعطاه طعاما، شرابا، لباسا جديدا. صديق آخر، من طينة نادرة، رافقه، طيلة حياته، لازمته تداعيات السجن، سوء التغذية، سوء النظافة، الأعمال الشاقة، جهازه الهضمي تضرر كثيرا، لا يقوى على الطعام ليلا، ينام بلا وجبة عشاء. من ضحايا الديمقراطية البورجوازية، ديمقراطية بطعم الإقطاع، لم يتقبل الفرنسي كلامه، وعيه، دفاعه عن نفسه، قمعه، سجنه، عذبه، حتى أفقده إنسانيته.
باحسين يحل بالزاوية، معه زوجته أخت مولود، يجده بالدكان، يتعانقان:
ـ سمعت بأخبار السياسيين، أنا خائف عليك، لهذا جئت، أين وصلت قضية الأرض؟ ملف الحادثة ؟
مولود:
ـ بالنسبة للأرض، لا شيء، القاضي يساوم، الحادثة في طريق الحل، القبطان يبحث عن الصيغة، بعد الاحتجاج، الكل توقف، تعرفت على صديق، سرجان، عسكري بالجيش الفرنسي، يشتغل بالبريد، يتصل بالقبطان، وعده بحل الملف.
سرجان، يزور مولود بالدكان، يقضي معه بعض الوقت، ترسخت صداقتهما، استمرت حتى فارقتهم الموت، تعرف عليه باحسين، وجد فيه خير صديق، تأكد أن مولود بين أصدقاء أوفياء.
تطور مفهوم الوطنية، مازالت جيوب المقاومة بالجنوب، أسد الريف بالمنفى، تأسس جيش التحرير بالريف، أساسه المناضلون الجنوبيون، حيث وجود شروط استمرار المقاومة بالصحراء، بعد محاصر الريف، ينتقلون إلى الشمال، قائدهم عباس. المقاومة بالمدن، العمال الجنوبيون أساسها، حماد ومجموعته بأنفا، العمل السياسي نشيط، في أوساط العمال، أصداؤه تصل الزاوية، محمد صديق مولود، شريكه في التجارة، يمر عليه بالدكان، يتنقل بالجنوب، يحمل معه أخبار المقاومة بأنفا.
تندلع حرب التحرير، جيش التحرير بالبوادي، المقاومة بالمدن، الحزب يناور، في علاقة مع القصر، الأخبار تنتشر بالزاوية، الدعاية للسلطان، العمليات العسكرية، الجماهير في هوس. في عيد الأضحى، تقرر ذبح الأضحية، عدم تناول لحمها. مولود يخرج بعد ذبح الأضحية، دون سلخها، فاطمة وفضمة وحدهما بالمنزل، يدخل مولود، يصحب فاطمة وابنها، يمتطي بغل اليعقوبي، في اتجاه بلدة باحمد، يتركهما هناك، يلتحق بالزاوية، فضمة في خدمته، لم تفارقه إلا بعد موتها، لعبت دورا كبيرا في تربية فاطمة، الزوجة الصغيرة، أولاد مولود.
بعد سنتين ونيف على احتجاج القصبة، نيران المقاومة تنتشر، الفلاحون بالبوادي، العمال بالمدن، السياسيون يحاولون السيطرة عليها، توجيهها، نشر الخرافة، صورة السلطان بالقمر، الفلاحون يراقبون السماء ليلا، دمج الدين في السياسة، تركيز الخرافة في أوساط الجماهير، جريمة السياسيين في حق المقاومة.
في هذه الشروط، يتم تكريس اغتصاب أراضي مولود، القاضي يتجاهل حقوقه، بينما ملف حادثة الشغل، يعرف انفراجا، يصل قرار التعويض عن الحادثة، أخيرا يتم الاعتراف بحقوقه. يستدعيه القبطان، إلى مكتبه، ينتظر خارجه، تخامره أفكار المقاومة، يتوجس، يخاف، لا يبالي، الشاوش حمادي يأمره بالدخول، يدخل، يبشره القبطان، يطلب منه، صورة، يأخذ جميع معلوماته، صفاته، يمنحه بطاقة الهوية. بعد عدة أيام، يأتيه الخبر المفرح، من صديقة سرجان، الموظف بالبريد، أول حوالة، تعويض عن خمس سنوات، حسب القانون الفرنسي، مولود يحصل على راتب كل ثلاثة أشهر.
طور جديد في حياته، في أواخر سنوات الكهولة، الدخول في مرحلة الشيخوخة، مرحلة الاستعمار الجديد، معاناة أخرى تتولد، رغم استقلاله عن شريكه في التجارة، تستمر صداقتهما، طور آخر من الصراع، يستمر حوالي نصف قرن، من حياته.

-11-

بعد الحركة الاحتجاجية، انتشرت فكرة الوطنية، كل المناضلين الميدانيين غادروا الزاوية، التحقوا بصفوف العمال بأنفا، مولود لا يحضر في اجتماعات فرع الحزب، يعرف جيدا مختلف عناصره. صاحبه اليعقوبي، من بينهم، مجموعة من التجار، أغلبهم أصحاب المصالح، لا يثق فيهم، منهم موظفون، فقهاء، عدول، رئيسهم القاضي، يعرفه جيدا، صاحب قضية الأرض، أثناء المحاكمة يصرخ مولود في وجهه:
ـ أحكم بالحق، عليك أن تصدر حكما، عادلا.
يحرجه بجرأته، يسأل عنه صاحبه اليعقوبي:
ـ صاحبك التاجر، ألا يمكن مثلا، أن يخبر بنا؟
يجيبه:
ـ أنا أضمنه، عاشرته، رغم اختلافنا، إنسان أمين.
يخاف القاضي، قضية الأرض بين يديه، بين مولود وعمه، لما يأتي هذا الأخير من بلدته، لحضور الجلسة، يحمل معه هدايا، زيت الزيتون، العسل، أركًان، يمر بأحد أصدقائه بالزاوية، صاحب العدل، يضع عنده الأمانة. في الصباح، أمام القاضي، يستمع إليهما، يؤخر القضية، مولود ينتفض:
ـ يا قاضي أصدر الحكم ! أن يكون عادلا.
يخرجا معا، رغم خلافهما، يرافقه مولود إلى منزله، يحسن به، عساه يتراجع، يتناولان الغداء معا، يخرجان إلى دكانه، يمر بهما صاحب عمه، يقول لهذا الأخير:
ـ وصلت الأمانة، إلى أصحابها.
يعني بالأمر، القاضي والعدل، يغادر عمه، ينفرد بمولود، يخبره:
ـ الأمانة التي قلت له، هي كل ما حمله للقاضي والعدل، أخذت نصيبي، لا تنتظر الحكم.
القضاء ركن أساسي، في دولة قطاع الطرق، عبره يتم تمرير القمع، النهب، التسلط، الاستعمار، يعرف جيدا دوره، في تركيع الفلاحين، الوصول إلى أراضيهم. سن مجموعة من القوانين، جميعها يصب في السيطرة على الأرض، تكبيل الحريات، عرقلة الديمقراطية، الأرضية الأساسية للاستغلال.
مولود خبر جيدا اللعبة، حقق جزءا من مطالبه، راتب زهيد، كل ثلاثة أشهر، تجارته نشيطة، أسرته تكبر، لم تعد الأرض تهمه كثيرا، تأكد أنه لن يصل إليها، كل همه هو تربية أولاده، الطفل الأول يكبر، مجموعة صداقاته تكبر. حتى طفله له صديق، ابن صاحب عمه، حامل الهدايا، للقاضي والعدل، يلعب معه، بالمنزل، بالدكان، يعامله مولود معاملة ابنه، يتركهما يلعبا داخل الدكان. خرج الطفل يجري إلى منزل أبيه، لاحظ مولود أن الدراهم قد اختفت، سرقت، تأكد أن الأمر ليس عاديا، أخبر أباه، تناقشا في الأمر، أنكر فعلة ابنه، راجت الحادثة بالزاوية، ربما تكون مدبرة، تجارة مولود يتبعها نحس.
دار الكناش، مركز القاضي والعدول، هناك يتم طبع كل شيء، عقود الممتلكات، الزواج، كما تمر السياسة هناك، الثقافة، المدرسة العتيقة، مولود مواظب على الآذان، من الدكان إلى المسجد. لا يبالي برواد دار الكناش، يعرفهم جيدا، خبر رئيسهم، ضاع حقه في الأرض، عرف جيدا أن نجاحه، في نجاح تجارته، نشط دكانه، أصدقاؤه أوفياء، وطنيون.
توغل الاستعمار في البلاد، تم تعبيد الطريق، من القصبة إلى تاوريرت، بعد احتجاج الفلاحين، تم قمعهم، الاعتقالات في صفوفهم، الحكم عليهم بالأعمال الشاقة. بالمقابل فتح القبطان المدرسة، المستشفى الجديد، عرف أن سنواته معدودات بالهضبة، يجب نشر الثقافة الفرنسية، ربط علاقة اجتماعية جديدة بالزاوية، مع الأطفال، التلاميذ، تكوينهم تكوينا بورجوازيا.
مولود يرى أن التعليم، واجهة أخرى للنجاح، وضع نصب عينيه تعليم أبنائه، يرى في أصدقائه خير دليل، سرجان المتعلم، يقرأ ويكتب الفرنسية، حصل على وظيفة، حماد ومحمد، السياسيان، يروجان وثائق الحزب، النشرات والجريدة.
يرى كذلك في المال وسيلة أساسية، يواظب على فتح الدكان، إلا يوم عشوراء، قبله بيوم واحد، يقوم بإحصاء عام، حتى الديون يحصيها، يخرج الزكاة، حق الفقراء، كما يقول، يغلق الدكان، يسافر لزيارة عائلته، ببلدة أمه. في اليوم الثاني، يمر عليه الفقراء، يعرفهم جيدا، كل واحد بنصيبه، أصدقاء عابرون، لا يصدق عليهم طيلة السنة، يكره التسول، يحثهم على العمل، يعطي العبرة بنفسه، يساعدهم، عند الحاجة، يمدهم بما يحتاجون، مواد غذائية، حاسم في استخلاص الديون.
رغم وجود منافسين له، نشطت تجارته، زبائنه قارون، يزدادون، متنوعون، موظفون، مخزنية، فلاحون، مهنيون غابويون، لا يتوخى الربح الكثير.
فتح المستعمر سوقا أسبوعيا، قرب القصبة، الكل يحج إليه، اكتفى بدكانه بالزاوية، في يوم السوق، يحمل سلته، صباحا، يشترى اللحم والخضر، يتوجه إلى المنزل، يتناول الغذاء، يفتح دكانه، كسب زبائن كثر، يمرون عليه، في هذا اليوم، يربطون دوابهم أمام الدكان، فترة ثانية من التسوق.
ربط علاقة جديدة، مع ممول، صديق جديد، لم يغيره طيلة حياته، فقط بعض المواد التي لا يروجها، يشتريها عند الآخرين. في المواسم الفلاحية، خاصة في فصل الصيف، يحمل الفقراء كل ما يجمعونه، إلى دكانه، يشتري منهم حمولتهم.
فاطمة وفضمة، زوجته وأخته الكبيرة، يكسبان صديقات، من خلال معارفه، زينة، جدة ماو، القابلة، امرأة قوية، جريئة، يخاف منها أطفال الزاوية، كيف لا وهي التي ساعدتهم، أول مرة، لأول صرخة، هي حاضنتهم. تمر على جميع المنازل، تطمئن على النساء الحوامل، على الأطفال، تراقب صحتهم، تداويهم أثناء مرضهم، بالأعشاب والكي بالنار.
جدة ماو، صديقة العائلة، تمر ببيت مولود، تقضي وقتا طويلا، تراقب فاطمة، التي فقدت مولودها الثاني، هي حامل الآن، تعطيها نصائحها، تمر بالدكان، تطمئن مولود، يعطيها كيسا به مواد غذائية. تنطلق إلى البيت، تلتقي محجوبة، زوجة شيخ عساوة، يدردشان، كلتاهما من أصول إفريقية، تمر هي الأخرى بالدكان، قبل البيت، تدردش مع مولود، تعطيه بعض الأخبار، يقهقه، في فكاهة، مرح، عندما يدخل أحدهم إلى الدكان، يصرخ فيها:
ـ مزغوبة ! إلى البيت، فضمة تنتظرك.
فضمة ومحجوبة، متقاربتان في السن، صقلتهما معاناة الحياة، يجلسان بأنوال، يحكيان عن حياتهما، فاطمة الزوجة الشابة تصغي، يضحكان، يسخران، يستغربان، تقدم لهما الشاي، تقول لها محجوبة :
ـ الله ييسر لك، يا ابنتي، تلدين بسلام.
تعطيها فاطمة، بعض المواد الغذائية، دقيق، سكر، شاي، تخرج، تمر بنزق أمام الدكان، تسلم، تشير بيدها، سرجان هناك، في حديث مع مولود، عن الحركة الوطنية، الفدائيين، العمليات الفدائية، يمر عليهما محمد، يخبرهما:
ـ من المنتظر أن يدخل السلطان، هذا الأسبوع.
يتركهما مولود بالدكان، يدخل إلى المنزل، ينادي على فضمة، يخبرها:
ـ لدي ضيفان، يتغذيان معي، أريد طاجينا يليق بهما.
يلتحق بهما، يشتاق لأخبار المقاومة، يعرض عليهما الغذاء، الصديقان يتبادلان المعلومان، الحزبية والمخابراتية، السياسيون والفرنسيون، الإقطاع والقصر، الثورة الجزائرية، في أوجها، المستعمر بين نارين. يجب فصل الثورتين، فصل الثوار، كسر حركة التحرر الوطني، أسسها أسد الريف، تعطي ثمارها، أول طلقة رصاص، تمت بجبال الأوراس، أطلقها حدو الريفي، تلميذ أسد الريف، الضابط المتخرج من المدرسة العسكرية العراقية، قبل اندلاع ثورة المليون شهيد.
الاستعمار يحكم قبضته على الجزائر، مقاطعة فرنسية، هكذا يعتبرها الفرنسيون، يرى الاستعمار في وحدة الثورتين خطرا على وجوده، ينزل آلته العسكرية، التدميرية، الكيماوي، يعيد مأساة الحرب على الريف، أسد الريف يرى في الثورة الجزائرية، قوة هائلة، يجب دعمها، العراق ومصر مستقلان، الثورة الصينية نجحت، سيطر الثوار على الحكم، فرنسا تنهزم أمام ثوار فييتنام، كل شروط نجاح الثورة قائمة، المؤامرة تحل بمراكش، فصل الثورتين.
المستعمر يقرأ الأحداث جيدا، خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام، يجب احتواء الأوضاع بمراكش، التفاوض على الاستقلال، القضاء على جيش التحرير والمقاومة المسلحة، السياسيون يحومون حول القصر، يختزلون الوطنية في رجوع السلطان. الاستعمار يستجيب، السلطان يخاطب الشعب، من طنجة، كل المفاهيم تنقلب، حمل الراية وصورة السلطان، مباح بالشوارع والمنازل، يتم بطر الثورة، أسد الريف مهموم، يجب استمرار الثورة، الالتحام بثوار الجزائر. الخيانة تحل بالثورة، تقسيم جيش التحرير، السيطرة على جزء منه، من طرف الحزب، السلطان بطنجة:
ـ من الجهاد الأصغر، إلى الجهاد الأكبر.
البورجوازية الصغيرة بالمدن، المثقفون، التجار، أصحاب الأعمال الصغرى، الفلاحون الصغار، الكل يجري، من أجل حصد الربح، على ظهر الثورة، على حساب المقاتلين بالبوادي والمدن، جيش التحرير والمقاومة المسلحة، العمال والفلاحون الثوار.
البورجوازية التجارية، الملاكون العقاريون الكبار، بقايا الإقطاع، يلتفون حول السلطان، نشأة الطبقة الحاكمة الجديدة، وكيلة الرأسمال، الحزب والنقابة، ينتهزان الفرصة، يستعدان لموقعهما بالسلطة الجديدة، الدولة التبعية.
استطاع الاستعمار إنجاح مخططه، فصل الثورتين، بمراكش والجزائر، فرز الطبقات، المسيطرة على السياسة والاقتصاد، إلى الحكم التبعي، تكريس استغلال العمال والفلاحين الفقراء. الباشا يجمع أمتعته، يعرف أن نهايته وصلت، تفاوض على حفاظ مصالحه، ممتلكاته، القصبة لم تعد ترق للحاج حمادي، الهضبة تضيق بالشاوش حمادي. حفيد شيخ الزاوية، عون سلطة بالهضبة، عميل الاستعمار، يغادر الزاوية، يحمل أصحابه شيشية، قبعة اليهود، يبحثون عنه، عاهدهم أن يلبسها، في حالة ما إذا عاد السلطان.
بعد وضع أسس الرأسمال التجاري، العمل المأجور، ترويج السلع، تأتي الثقافة، تعزز أسس الاستعمار، السياسي ـ الاقتصادي بالثقافي، يتم تهميش الزاوية، بقيت بعض ممارسات بقايا الإقطاع، الزيارات، تربعيين، الطقوس. تم إبعاد الزاوية عن السلطة، بقيت علاقات شكلية، بعد سقوط الباشا، مغادرة خليفته القصبة، بروز طبقة بورجوازية صغيرة، التجار، الفلاحون الصغار، الموظفون بالإدارة الفرنسية، بالتعليم، بالصحة. تم القضاء على آثار الثقافة العتيقة، بقايا المدرسة العتيقة، خزانتها، زارها المختار السوسي، قال عنها:
ـ أخاف على خزانة تكركوست من الضياع.
صدق تخوفه، تم نهب جميع كتبها، من طرف رواد دار الكناش، السياسيون الانتهازيون، هكذا تم دق المسمار الأخير في نعش الزاوية. سقطت القصبة، تحولت إلى مأثر تاريخي، بقيت الهضبة، مركز إدارة المستعمر، المركز التجاري الجديد، السوق، المدرسة، المستشفى، أرضية إدارة الدولة الحديثة.
بالزاوية، الصراع بين ثقافتين، المحلية التقليدية، المسجد والمدرسة العتيقة، والمعصرنة، التعليم العصري، بعد فتح المدرسة النظامية، بين التقليد والعصرنة. الفرنسيان، شابان، أستاذان بالمدرسة، إقبال ضعيف بالزاوية على المدرسة، نواة نشر الثقافة الفرنسية، الحركة الوطنية بالمدن، تفتح مدارس حرة، ضد المدارس الفرنسية النموذجية، اليهودية والفرنسية، المقاومون متشبثون بالتعليم الأصيل، فكر القومية سيطر على تفكيرهم.
الزاوية تحتفظ بالطقوس، ثقافة الطوائف، كناوة، عساوة، الرما، زيارات أهل سوس، تقيم مواسمها، خلال شهر غشت من كل سنة. نشطت تجارة مولود، يقصده زوار سوس، يعرفونه، تاجرا، ببلدة قرب بلدة أمه، في عشية يوم الخميس من شهر غشت، تحل الوفود، في جماعة كبيرة، حاملين الهدايا، الذبيحة، زيارة أولياء الزاوية، عرفانا منهم بالمرابطين، اليعقوبيون الذين غادروا الزاوية، أقاموا مدة طويلة بسوس.
تقف الشاحنة، بمدخل الزاوية، من الجهة الغربية، يستقبلهم بعض أفراد عائلات اليعقوبيين، ينزل منها الزوار، يسوقون العجل، يتقدمهم الشيخ، الذبيحة أمامهم، يسيرون في موكب، يرفعون الأذكار، يطلبون الشيخ الوالي، يتوسلون، عطفه، رحمته، كل حسب قصده في الزيارة. يمر الموكب على طول البلدة، من الجهة الغربية إلى الجهة الشرقية، أربعة أضرحة هناك، يتوقف الجميع، بين الروضتين، يتقدم الجزار، حاملا سكينا بتارا، يتم إسقاط العجل، يذبح، يسيل الدم. الفقيه يتقدم يرفع الدعاء، يتقدم الزوار، واحدا واحدا، يقدمون الهدايا، مبالغ مالية، يجمع الشيح الهدايا، الفقيه يواصل الأدعية. يحمل المستعبدون الذبيحة، إلى الجنان، شيخ الزوار وأعضاء الزاوية، إلى الشاحنة، ينزلون باقي الهدايا، سكر، زيت، دقيق. بمدخل منزل الزاوية، يجلس الخمسة، يقسمونها فيما بينهم، لكل عائلة نصيبها، الجزار يقسم الذبيحة، أربعة أقسام.
الزوار يتفرقون، اليوم حار، في عز شمس غشت الحارة، يتجه أصحاب مولود إلى الدكان، يضعون أمتعتهم هناك، يتناولون المشروبات الغازية، في نشوة، ينتشرون بالوادي والجنان. في المساء يجتمع الجميع، بأحد المنازل، يتناولون العشاء، أسايس جاهز، إقامة ليلة أحواش، الفرقة والروايس، ينتشر خبر الزوار، على طول بلدات الوادي.
في الليل يصل هواة أحواش، الفرجة، رقصة أحواش رائعة، الكل في لباس موحد، جلبان أبيض، رزاء بيضاء، الحذاء التقليدي، إدوكان، النار مشتعلة، تسخين البنادر، أحواش الرجال، الرايس يفتح الرقصة، شعر موزون، يطلب شيخ الزاوية، قبول الزيارة من الحضور. يتناوب الروايس، الشعراء، على نظم الأشعار، في لحن أمازيغي رائع، تتقاطعه رقصات الرجال، على إيقاع دق البنادر، الزغاريد، موضوع المقاومة يسيطر على حواراتهم.
أسايس يمتلئ، رجالا، نساء، أطفالا، الكل يصغي إلى أقوال الروايس، يتفاعلون مع معاني قصائدهم، حسب تأثيرها، فرحة، حزينة، هزلية، مدح، ذم، رثاء، غزل، معلقات، تمواشت، يسترسل فيها الرايس، في قصيدة طويلة، تتقاطع بترديد لازمات، من طرف الرجال الجالسين، مناسبة للاستراحة، دليل على نهاية الحوار، استعدادا لأحواش النساء، يتهيأن، لابسات زي أحواش، غالبيتهن مستعبدات، في لباس زاهي، أغلبهن عازبات، يعبرن عن فرحتهن بالزوار.
يستمر الحفل إلى طلوع الفجر، المستعبدات إلى المطبخ، بناتهن إلى الجنان، تستمر الزيارة ثلاثة أيام، الحفل ثلاث ليالي، تستمر الحياة، تستمر العبودية.
رجع بعض عناصر جيش التحرير، حاملين السلاح، يمرون على خلفاء الباشا بالجنوب، يعتقلونهم، يضعونهم بأكياس، يصادرون جميع أموالهم وأمتعتهم، إلى الصحراء، يتركونهم بالفيافي، بلا ماء، يموتون هناك. من بينهم خليفة بلدة أبو مولود، تم إعدامه، رميه بالصحراء، بقيت جميع ممتلكاته، أخوه تاجر، عضو بفرع الحزب بالزاوية، حافظ على مصالحه.
جمع مولود مالا كافيا، اشترى أرضا، لا تخلو من مشاكل، لم يتسلم العقد بعد، العدل يتملص في تحريره، يتآمر مع القاضي، يتربصان به، يخططان لخلق نزاع، بينه وبين عائلة البائعة، المرأة اليعقوبية، يلاحقانه، باختصار شديد، تنتظره معاناة الأرض من جديد.
في هذه الشروط، ازداد ولد ثاني لمولود، إنه في فرحة عارمة، فرحتين:
ـ الأولى، بازديان بيته، ملموسة، مادية، يتمتع بها.
ـ الثانية، برجوع السلطان، موهومة، لا يتفاءل بما تحمله كثيرا، في أمل، أن يسترجع أراضيه.
تغيرت الحياة كثيرا بالزاوية، بقيت الطقوس التقليدية، تقلصت أهميتها التجارية، نشطت التجارة بالسوق الأسبوعي، لكن تجارة مولود تطورت، زادها راتبه دعما، استقل عن شريكه، صديقه، بقيت صداقتهما، شرع في بناء منزله، خصص جزءا من البقعة للدكان، يحتفل بازدياد ابنه الثاني، حسون.