فيروس كورونا، فيروس الايدولوجيا

سلافوي جيجيك
الحوار المتمدن - العدد: 6527 - 2020 / 4 / 2 - 11:59
المحور: ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات     

ترجمة: كمال بومنير

لقد كتب الكثير عن وباء فيروس كورونا، فماذا يمكنني أن أضيف كملاحظ غير متخصص في ظل شح وندرة المعطي1ات؟ ربما كان حريا بنا أن نلتفت إلى طرح السؤال التالي: أين تنتهي المعطيات وأين تبدأ الأيديولوجيا؟ من المعلوم أنّ بعض المناطق في العالم تعاني من أوبئة أكثر خطورة بكثير من وباء فيروس كورونا. وليس بخافٍ أنّ الآلاف من الأشخاص يموتون يوميًا بسبب عداوى• أخرى، فلماذا هذا الهوس بوباء كورونا ؟ ليس بنا حاجة للعودة إلى جائحة 1918-1920، المعروفة باسم “الحمى الإسبانية”، التي تسببت في وفاة ما لا يقل عن 50 مليون شخصا: والحالُ أنّ في هذا الموسم وحده، أصيب 15 مليون أمريكي بالحمى، وما لا يقل عن 140.000 شخصا دخلوا المستشفيات من أجل العلاج، وتوفي منهم أكثر من 8200. في هذه الحالة ، من الواضح أن بارانويا العنصرية منتشرة بقوة اليوم. وفي هذا المضمار، يمكننا تذكر تلك الاستهامات المتعلقة بالنساء الصينيات المسنات القذرات من وُهان Wuhan، وهن يسلخن جلود الثعابين الحية ويتناولن حساء الخفافيش. واللافتُ للنظر أنّ في الوقت الحالي، من الأرجح أن تكون مدينة صينية كبيرة واحدة من أكثر الأماكن أمانًا في العالم. والحالُ أنه لا يمكن إنكار وجود مفارقة أكثر عمقا مما أشرنا إليه: كلما كان عالمنا أكثر تواصلا من ذي قبل، كلما زادت مصيبة محلية في إثارة رعب عالمي، وفي نهاية المطاف كارثة. فمعلومٌ أنّ في ربيع من عام 2010، تسببت سحابة الرماد المنبعثة من ثوران بركاني طفيف في أيسلندا (اضطراب طفيف ضمن آلية الحياة المعقدة على الأرض) في إيقاف الحركة الجوية في معظم الدول أوروبية. وإنه مهمٌ في هذا الشأن أن نلاحظ أنه على الرغم من قدرتها الهائلة على تحويل الطبيعة، فإن البشرية ليست سوى نوع من بين أنواع الكائنات الحية الأخرى الموجودة على كوكب الأرض.إذا كان مثل هذا الانفجار البسيط يمكن أن يكون له مثل هذا الأثر الاجتماعي والاقتصادي الكارثي العالي جدا، فذلك بسبب تطورنا التكنولوجي (السفر الجوي): ولا يخفى أنّ مثل هذا الانفجار لم يكن، قبل قرن من الزمان، يثير اهتمام أحد. لذلك، يمكننا القول إنّ التكنولوجيا تجعلنا، من ناحية، أكثر استقلالية عن الطبيعة، ومن ناحية أخرى، أكثر تبعيةً وخضوعاً لتقلّباتها. وهذا ما ينطبق على انتشار وباء فيروس كورونا: وليس بخافٍ أنّه لو حدث هذا قبل إصلاحات دنغ شياو بينغ Deng Xiaoping، لما وصلنا ربما أي خبر عن انتشار هذا الوباء. فكيف نكافح هذا الفيروس الذي يتضاعف بسرعة كشكل غير مرئي من أشكال الحياة الطفيلية التي لازالت آليتها الدقيقة مجهولة تماما؟ هناك شيء واحد مؤكد فحسب: العزلة والحلاجر الصحية الجديدة لن تؤدي الغرض.وفي هذا المضمار، فإننا –والحقُ يقال-في حاجة إلى تضامن ٍكلي غير مشروط وتفاعل منظم على المستوى العالمي، وهو شكل جديد لما كان يسمى في ما مضى الشيوعية. ومن هنا، إذا لم نوجه جهودنا في هذا الاتجاه، فربما ستعطي وُهان صورة المدينة التي ستكون في مستقبلنا. معلومٌ أنّ القصص الخيالية سبق أن تخيلت مستقبلًا مماثلاً: المكوث في المنزل أكبر وقت ممكن، والعمل على أجهزة الكمبيوتر الخاصة بنا، والتواصل عبر المحاضرات المرئية، وممارسة الرياضة على آلة في ركن من أركان المكتب، وممارسة العادة السرية أمام مشاهد إباحية، والاستفادة من خدمة توصيل الطعام. والجدير بالذكر بهذا الصدد هو أنه لا يمكن إنكار وجود منظور تحرري غير متوقع متضمن في هذه الرؤية المرعبة. وفي هذا المضمار، كان لزاما عليّ أن أعترف أنه خلال الأيام القليلة الماضية، وجدت نفسي أحلم بزيارة وُهان. هذه الشوارع شبه المهجورة في مدينة بعدد سكانها الضخم جدا- هذه المراكز الحضرية الحيوية أصبحت تشبه الآن مدن الأشباح، وأما المتاجر ذات الأبواب المفتوحة فهي خالية من الزبائن، وقد نلتقي بمتنزهٍ أو نجد سيارة هنا وهناك، وقد نلتقي بأفراد يرتدون أقنعة بيضاء على وجوههم- ألا يقدم هؤلاء صورة عالم غير استهلاكي ومرتاحين تماما؟ يذكرني الجمال الكئيب للشوارع الخالية في شنغهاي أو هونغ كونغ ببعض الأفلام المتعلقة بما بعد نهاية العالم مثل فيلم “على الشاطئ” On the Beach، التي تُظهر مدينة اختفى معظم سكانها- ليس هناك دمار مدهش، بل كل ما في الأمر أنّ العالم لم يعد في متناولنا، ولم يعد ينتظرنا، ولم يعد ينظر إلينا، ولم يعد يبحث عنا. وحتى الأقنعة البيضاء التي يرتديها بعض المتنزهين أصبحت تسمح بتستر مرحب به ومحرّر من الضغوط الاجتماعية [..]
أنا أعي تمام الوعي الخطر الذي أواجهه فيما يخص عرض أفكاري علانية – هل أنا بصدد إسقاط رؤية نظرية على الضحايا من موقع خارجي، وبالتالي شرعنة –بطريقة غير لائقة- معاناتهم؟ عندما يخرج مواطنٌ مقنعٌ من وُهان من بيته بحثًا عن الدواء أو الطعام، فمن الواضح أنه لا يوجد في ذهنه فكر معادٍ للاستهلاك، بل كل ما في الأمر أنه في حالة من الهلع والغضب والخوف. لذلك، اعتقد أنه حتى الأحداث المرعبة يمكن أن يكون لها عواقب إيجابية غير متوقعة.لقد اقترح كارلو غينزبورغ Carlo Ginzburg أن شعور المرء بالخجل وعدم حبه لبلده قد يكون علامة حقيقية على الانتماء إلى هذا البلد.قد يكون لبعض الإسرائيليين الشجاعة للخجل من السياسات التي يتبعها نتنياهو وترامب نيابة عنهم – ليس بالطبع أن يخجلوا من كونهم يهوداً، بل على العكس من ذلك، أن يخجلوا مما فعلت السياسة الإسرائيلية في الضفة الغربية بالموروث النفيس للديانة اليهودية. وربما يجب أن يجد بعض البريطانيين الشجاعة ليخجلوا من الحلم الإيديولوجي الذي جلب لهم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.أما بالنسبة لشعب وُهان، وبالمقابل، ليس هذا هو الوقت المناسب إليهم للشعور بالخجل والعار، بل هو وقت مناسب لتجميع شجاعتهم والمثابرة بصبر في صراعهم. والحقيقة أنّ الأشخاص الجديرين بالاحتقار في الصين هم أولئك الذين قللوا من أهمية الأوبئة في الوقت الذي كانوا يحمون أنفسهم بصورة زائدة عن اللزوم، ويتصرفون مثل الموظفين السوفييت أثناء حادثة تشيرنوبيل الذين كانوا يدعون أنه لا يوجد خطر في إجلاء أسرهم على الفور، أو أولئك الذين كانوا ينكرون علانية الاحتباس الحراري ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يشترون منازل في نيوزيلندا أو يبنون مخابئ للبقاء في الجبال الصخرية الأمريكية. والحالُ أنه يجب أن نخجل كلنا، عبر مختلف بقاع العالم، حينما فكرنا في عزل الصينيين.

Slavoj Žižek , « Coronavirus : le virus de l’idéologie »
www.nouvelobs.com › BibliObs › Idées, publié le 06 /02/2020

•ملاحظة: معلومٌ أنّ كلمة عدوى لا جمع لها في اللسان العربي لأنها مصدر، والمصدر لا يجمع مادام باقيا على مصدريته، غير أن السياق اقتضى مني جمعها عداوى.