الإشتراكية الديموقراطية (Third Way) (2/2)


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 6526 - 2020 / 3 / 30 - 20:43
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

نعم، ثمة حقائق على الأرض تفري عيون أضلَ الضالين العرب على الأقل وهم الذين يستمطرون أفكارهم من السماء ولا يحتصدونها من وقائع التاريخ على الألإرض .
منذ أن أسس كارل ماركس علم التاريخ في أواسط القرن التاسع عشر لا يجوز حتى لأدنى المتثاقفين أن يستمطروا أفكارهم من السماء بل عليهم أن يحتصدوها من الأرض، من وقائع التاريخ على الأرض .
وقائع التاريخ على الأرض كما نقلها إلينا صندوق النقد الدولي تقول بالأعداد والأرقام أن ثمة عجزاً في إنتاج العالم يقدر بخمس ترليونات من الدولارات سنوياً منذ سبعينيات القرن الماضي . حتى مثل هذه الحقيقة القاطعة المانعة لم تحسن أن تفري العيون الرخامية الوقحة لمن ما زالوا يجادلون بأن النظام الرأسمالي ما زال يعمل متغولاً في العالم . الطينة التي يُبنى منها النظام الرأسمالي هي "فضل القيمة" أي أن قوى العمل تنتج اكثر من قيمتها أما النظام الرأسمالي الخاص بذوي العيون الرخامية الوقحة فيبنى من طينة خاصة لم يعرفها أحد غيرهم هي "نقص القيمة" أي أن قوى العمل تنتج أقل من قيمتها التبادلية !!

ثمة فريقان يتهربان من مواجهة هذه الحقائق المصيرية بخصوص مستقبل وحياة البشرية جمعاء وهو ما يستدعي ليس فقط الشجب بل والإزدراء أيضاً .
الفريق الأول ويضم الشيوعيين أيتام خروشتشوف . ما كان خروشتشوف ليصل إلى رأس السلطة في الإتحاد السوفياتي إلا ليقود الإنقلاب على الإشتراكية . المحاكمة الدقيقة لمسيرة خروشتشوف 1953 - 1964 تفيد أن هذا الشيوعي الغبي قبل لنفسه أن "يتمسكن ليتمكن" بل أن يخون مبادءه من أجل أن يحتل مركز ستالين . ما إن وقع ستالين صريع اغتياله بالسم من قبل رفاقه في قيادة الحزب حتى أملت قيادة الجيش على قيادة الحزب الأمر بأن ولاية البلاد بعد ستالين تعود للجيش وليس للحزب خاصة وأن قيادة الجيش كانت تعلم رأي ستالين بالقيادة القديمة على أنها ليست على قدر مسؤولية قيادة الحزب والدولة . الجيش بالطبع رفيع المقام بعد الحرب على النازية بسبب قواه الحربية والقمعية فيما بات الحزب يعد غياب 14 عاما 1938 - 52 بسبب الحرب أيضاً هيكلاً أجوفا .
ليس ثمة ما يؤكد أن قيادة الجيش هي التي أملت على القيادة القديمة أن تجتمع بعد أن لفظ ستالين أنفاسه الإخيرة بساعات قليلة وتقرر إلغاء إنتخاب 12 عضواً كان المؤتمر العام للحزب قد انتخبهم بإصرار شديد من ستالين باعتباره ضمانة لمستقبل الثورة كأعضاء كاملي العضوية في المكتب السياسي للحزب، وكان الإلغاء كسرا فاضحاً للقالون .
أما أن تجتمع اللجنة المركزية للحزب في سبتمبر ايلول 53 وتقرر إلغاء الخطة الخمسية الخامسة التي أجملت التطور الاشتراكي في الإتحاد السوفياتي فيما بعد الحرب لتجعل منه دولة الثراء والرفاه في العام 55، إلغاءها من أجل الإنصراف إلى التسلح كما أفصح البيان الصادر عن الإجتماع آنذاك بوقاحة فجة ؛ لا يمكن أن يتم ذلك بغير أمر قاطع من قيادة الجيش حيث اللجنة المركزية ينتخبها المؤتمر العام للحزب لتنفيذ مقرراته تحت طائلة المسؤولية كما هو معلوم وليس لإلغائها .
غياب ستالين الجسماني بسبب اغتياله السري لم يؤثر على حضوره السياسي وظل شبحه يطارد المارشالات والجنرالات المنقلبين على النهج اللينيني الإشتراكي حيثما كانوا وحيثما توجهوا . رغم كل النياشين والأوسمة الرفيعة التي تغطي صدورهم لم يجدوا ما يعفيهم من حضور شبح ستالين الدائم سوى أن يبحثوا عن أحدهم يدبج مذكرة طافحة بالأكاذيب الوقحة بحق ستالين ويأمروا خروشتشوف يتلاوتها على مندوبي المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في فبراير شباط 56 . طبعاً لم تكن قيادة الحزب لتسمح بمثل تلك الرقاعة مما إضطر خروشتشوف لأن يطلب جلسة خاصة لا علاقة مؤتمر الحزب بها ليتلو فيها خطابه المسموم .
في يونيو حزيران 57 لاحت الفرصة للإطاحة برجل الجيش في الحزب نيكيتا خروشتشوف إذ كان هناك إجتماع للمكتب السياسي للنظر في اقتراح خروشتشوف " إصلاح الأراضي البكر والبور " . وبعد أن عرض خروشتشوف مشروعاّ غبياِ ويعود للخلف بعلاقات الإنتاج الزراعية قرر المكتب السياسي سحب الثقة من خروشتشوف بأغلبية 7 : 2 هما نفس خروشتشوف وميكويان، وهنا اعترض المارشال وزير الدفاع جوكوف وكان حاضراً كونه مرشحاً لعضوية المكتب السياسي – كان خروشتشوف قد انتشله بعد أن كان مرذولا في بيته بجرم السرقة – إعترض يقول .. "الجيش لن يقبل بهذا القرار " – وهكذا فضح جوكوف العلاقة الجديدة بين الجيش والحزب وأن القرار الأخير في الاتحاد السوفياتي للجيش وليس للحزب الشيوعي . وسرعان ما نفذ الجيش مؤامرته التي انتهت إلى طرد أعضاء المكتب السياسي وهو أعلى سلطة في الدولة واستبدالهم بموالين للجيش – وبناءً على هذه الحقيقة التاريخية فالذي انهار في العام 91 هو دولة العسكر الروسية وليس الإتحاد السوفياتي الشيوعي .
في المؤتمر العام للحزب في العام 61 كانت الضربات الحاسمة الأخيرة للثورة المضادة .لقد قررت عصابة خروشتشوف الموالية للعسكر إلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا وهي الدمغة الوحيدة المميزة للنظام الإشتراكي كما تؤكد علوم الماركسية واستبدالها بـ "دولة الشعب كله" وهو ما يعني التوقف عن محو الطبقات وهو الوظيفة الأولى للإشتراكية ؛ وتأكيدا على المنحى البورجوازي الجديد قرر المؤتمر الاستقلال المالي لمؤسسات الإنتاج بما في ذلك تشريع المرابحة في تبادل المنتوجات .
لم يبق معلم واحد من معالم الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي بعد العام 61 وأيتام خروشتشوف لم يعترفوا بجرائم عرابهم خروشتشوف وما زالوا يعلنون بوقاحة يندى لها جبين الإنسانية أن الاتحاد السوفياتي انهار بسبب بيروقراطية ستالين، نفس حجة جاسوس مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) تروتسكي .

أما الفريق الثاني من ذوي العيون الرخامية التي لا تفريها حتى وقائع التاريخ الصادمة فيتشكل من "الإشتراكيين الديموقراطيين" أو "الديموقراطيين الإجتماعيين"، مناصري الرأسمالية الملطفة حسب نعبير كينز أو الرأسمالية الجديدة بتعبير طوني بلير .
هؤلاء القوم الأفّاقون وقعوا في "حيص بيص" خلال العقود الخمسة الأخيرة . فيما قبل ذلك كان الرأسماليون اللطفاء يصدرون فائض إنتاجهم إلى الأسواق المفتوحة في المستعمرات وعندما يكون هماك عدم تكافؤ في التنمية بين مراكز الرأسمالية المختلفة يُصار إلى حرب كبرى من أجل إعادة تقسيم الأسواق .
إنتهت الحرب العالمية الثانية إلى بروز الإتحاد السوفياتي كأعظم قوة في الأرض تؤمن التحرر لكافة شعوب المستعمرات . ثورة التحرر الوطني 1946 – 1972 كانت قد قضت على كل أثر للإمبريالية في العالم كما أكد إعلان الأمم المتحدة بهذا الشأن في العام 1972 . استقلت جميع المستعمرات ولم تعد أسواقاً مفتوحة لفائض الإنتاج في مراكز الرأسمالية . إزّاء هذه الحقيقة التي حفل بها تاريخ القرن العشرين في ربعه الثالث لا مناص من الإعتراف بانهيار النظام الرأسمالي .
الإشتراكيون الديموقراطيون الذين يرفضون الإعتراف بهذه الحقيقة التاريخية بعنت بالغ يترتب عليهم أن يتدبروا أمر فائض الإنتاج الذي هو الهدف الأوحد للنظام الرأسمالي ما عساهم يفعلون بالفرق الكبير بين القيمة الكلية لأجور العمال والقيمة الكلية لإنتاج العمال !؟ لئن تدبروا أمر استبداله بنقود تنزل من السماء سنسطف عندئذ خلف هؤلاء الاشتراكيين الديموقراطيين . أما إن لم تمطر السماء نقوداً فعلى هؤلاء الاشتراكيين الديموقراطيين أن يعترفوا رغماً عنهم بأن النظام الرأسمالي قد انهار وعالم اليوم يعاني من فوضى الهروب من الاستحقاق الإشتراكي .