مغامرات العلمنة بين الإيمان الديني والمعرفة الفلسفية


زهير الخويلدي
الحوار المتمدن - العدد: 6522 - 2020 / 3 / 24 - 01:01
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

استهلال:
" لقد مثل نقد الدين دائما وأبدا جزء من التجربة الدينية في حد ذاتها"1
لقد وجد بول ريكور مشكل العلمنة sécularisation في زمانه مطروح بصورة خاطئة ومحاط بالعديد من المغالطات والتأويلات الزائغة. علاوة على أن المفكرين السابقين قد جعلوها مشكلا زائفا أو على الأقل قضية محسومة سلفا ونتيجتها معروفة ولا تحتاج إلى المزيد من البحث والتحري بما أنها تكاد تكون مجرد نصف مشكل وتقتضي إبعاد المقدس عن المجال الدنيوي وبلورة القطيعة التامة بين الديني والسياسي. لقد توزعت مبررات هذا القول بين التنبيه من الوظائف الإيديولوجية للعلمنة والأحلام اليوتوبية الواهية وبين تحميلها مسؤولية حدوث أزمة في الثقافة الراهنة وتفجر الإرهاب وعولمة الفقر والجوع والمرض والتعامل معها على أنها مجرد استعارة ميتة ومقولة فارغة وتجربة عسيرة لا يمكن إتمامها وتظل ميدان غير ممكن اختراقه وتحتاج إلى استقدام المقدس من أجل الاحتماء من عبث الفوضى ومكر التاريخ. زد على ذلك ما يواجهه هذا المطلب من تحديات إيتيقية على غرار السقوط في استحالة الإيمان بالوحي والاستخفاف بالحاجة إلى الخلاص ووعد القيامة وإقامة العدل الإلهي وعدم الحاجة إلى البعد الروحاني والتخلي عن الرؤية الأخروية للوجود والاكتفاء بالنقد الجذري للديني وتفكيك كل الرواسب التيولوجية والمسلمات اللاهوتية من المسارات المنهاجية التي تعتمدها الإنسانيات أثناء قراءتها العلمية للمعتقدات. يبدو أن تناول مسألة هرمينوطيقا العلمنة يعني الاهتمام بظاهرة معقدة تعتبر العالم الذي نعيش فيه قد حاول إحراز الانعتاق من الأشكال الدينية ولم يتمكن من بلورة التحديث المطلوب على الصعيد الثقافي والفكري. إذا كانت العلمنة تشير إلى مسار تاريخي تعرضت له الأديان التاريخية الكبرى في المجتمع الغربي وتميز بالتعايش مع استمرار حضور المقدس بشكل لافت في العالم الحديث فإن الدراسة العلمية لهذا المسار قد تصطدم بالمصلحة الإيديولوجية التي تقف وراء هذه العملية وتصطدم بتحول العلمنة ذاتها إلى تيولوجيا تعبر على دلالات الالتقاء التي تتم بين الرسالة الدينية والحالة الثقافية التي يوجد عليها المجتمع الغربي .
إذا كان مصطلح العلمنة يشير إلى الانعتاق من القيود اللاهوتية والتحرر من أشكال الاغتراب وتفكيك المعتقدات الخرافية والمعطيات الأسطورية من جهة أولى فإنه قد تحول نتيجة التوظيف إلى مفهوم شمولي يؤلف بين مجالات عديدة ويقرب بين مناطق ثقافية متباعدة ويفصل بين الدين والحضارة من جهة ثانية. قد تكون الجدة من إعادة تشغيل ميكانيزم العلمنة بصورة هرمينوطيقية تكمن في تشييد عالم معلمن من حيث هو أفق للبشرية ومنحه مطالب المعقولية والأساس والقيمة التي ترتقي به إلى درجة الوعي بالذات. بيد أن هذا المسار قد يواجه العديد من التحديات والعراقيل من بينها تقاطع التمثلات التوحيدية التي تنحدر من الفلسفات المبتسرة والتيولوجيا والأنثربولوجيا الثقافية والتاريخ الوضعي والسوسيولوجيا الوظيفية.
علاوة على انتماء العلمنة إلى التاريخ وتحولها إلى حدث فريد في مجرى الأزمنة المتعاقبة ومساهمة العوامل الظرفية في الإعداد لها وغياب الأسباب الموضوعية والتأثيرات المحددة في عملية بلورتها. لكن ماهي الوضعيات التي تجعل من مطلب العلمنة مشكلا هرمينوطيقيا؟ وأين يمكن أن تطرح قضية العلمنة؟ وكيف ارتبطت العلمنة بأزمة الثقافة المعاصرة؟ وفيما تتمثل المسارات التي يتبعها التفكير الهرمينوطيقي ؟ هل تطرح ضمن دائرة العلوم الإنسانية أم في نطاق فلسفة الدين؟ وكيف تتنزل إشكالية الاعتقاد ضمن الدائرة التأويلية؟ وهل تمثل العلمنة ظاهرة تيولوجية أم تقوم بوظيفة ايديولوجية؟ ماهو هذا المضمون الايديولوجي للعلمنة؟ وبأي معنى تنعقد قضية العلمنة وتنحل عند دوائر تتقاطع فيها كل من الإيديولوجيا واليوتوبيا ؟ وما علاقة تقاطع الإيمان والمعرفة بالحاجة إلى قيام هرمينوطيقا العلمنة؟ وأي تغير طرء على نفهوم العلمنة بين الأمس واليوم؟ وماذا تحمل العلمنة من مآسي ووعود بالنسبة للبشرية؟2
إذا أردنا معالجة هذه الإشكاليات بطريقة متأنية فإنه حري بنا أن نقسم مبحثنا إلى اللحظات المنطقية الآتية:
- الانتقال بالمقدس من دائرة الإيمان إلى دائرة المعرفة
- فهم التجربة الهرمينوطيقية من زاوية الخطابة والشعرية
- تتبع مسالك العلمنة وطرق الذهاب إلى مابعد المراوحات
- تدبر دلالة الحرية ضمن إطار التناول الفلسفي للدين
ما نراهن عليه هو التخلي عن تمركز دين واحد على ذاته وادعائه امتلاك الحقيقة المطلقة والمعنى التام للحياة والغائية النهائية للوجود والتشريع للتعددية على مستوى الإيمان والفهم والتعادلية بين المعتقدات والتجارب الهرمينوطيقية والسعي إلى بلورة علمنة للحياة العامة عبر تقاطع توليدي مع الحياة الخاصة.
1- تجربة الاعتقاد بين الإيمان والمعرفة:
"إنني أهتم بمعايير الإيمان في الكتاب المقدس كما كانت في بدئيتها أكثر مما أهتم باللاهوتيات المشيدة أي إني أهتم في وجهة النظر الدقيقة في مقدرة تلك المعايير على بناء الذات المستجيبة..."3
لقد اتجهت فلسفة الدين عند بول ريكور منذ البداية إلى دراسة أشكال ونقاط التقاطع بين الإيمان والمعرفة وركزت جهدها على المنطق الرمزي للقداسة بالبحث عن عقلانية سردية ذات منحى إيتيقي وأفق أخروي. إذا كان الاعتقاد يقوم على سرعة التصديق باعتناق فكرة والتسليم بصحتها بناء على اعتبارات وجدانية واجتماعية وأخلاقية فإن الإيمان يتكون بالثقة بالنفس وسكينة القلب ويقترب من الاعتقاد الراسخ الذي تحدده المنفعة التي ينتظرها المؤمن من موضوعه ويستغني عن الحقيقة ولا يقل في قوته عن اليقين4 . في حين أن فعل المعرفة يشير إلى أنشطة الفكر التي تتراوح بين النفي والإثبات وبين الغموض والوضوح وبين الانفعال والفاعلية وبين الإشكال والبداهة أثناء دراسته للمواضيع والأشياء والحقائق ويتجلى على مستوى التصور والإدراك والفهم والإبصار والإشراق، ولذلك تتحرك نظرية المعرفة في إطار العلاقة بين الذات العارفة والموضوع المعروف ضمن مبادئ العقل الصورية وشروط التحقق التجريبي5 .
لقد شهد تاريخ التقاطع بين المعرفة والإيمان تشكل ثلاثة أنماط من العلاقة بين التجربتين:
- الكثير من المعرفة يؤدي إلى القليل من الإيمان ) ميلاد العلمنة عند الإغريق)
- القليل من المعرفة يؤدي إلى الكثير من الإيمان (انتصار العقدية في العصر الوسيط)
- لكي نعرف يجب أن نؤمن ولكي نؤمن يجب أن نعرف (الحل العلماني الثالث عند ريكور)
لقد ترتب عن ذلك تصاعد التوتر بين المعرفة والايمان وبين الاعتقاد والتاريخ وكانت مستويات العلاقة تتم على النحو التالي:
- إيمان بلا معرفة ( جهل مقدس)
- معرفة بلا إيمان (موقف ريبي)
- معرفة إيمانية وإيمان معرفي
اللافت للنظر أن المرء راهنا لا يعاني من ضعف في الإيمان وفساد في الاعتقاد نتيجة النفاق والانتفاع بل يفتقد إلى العلم الموضوعي بالأمور التي يعتقدها والمعرفة النقدية بالتجارب الإيمانية التي يمر بها وجوديا. بيد أن الانتقال بالمسألة القدسية من الإيمان إلى المعرفة ومن الدين إلى الديني ومن الإله إلى الإلهي كان عملية معقدة وصراعا مريرا خاضته البشرية عبر التاريخ مع القوى المتأهلة في الأرض والماورائيات وأفضت إلى القول بأولوية القداسة الدنيوية على القداسة الدينية وتضمن دائر الديني للعناصر القدسية. لقد حرص رودولف أوتو أثناء تحليله لفكرة القدسي على التقصي عن العوامل غير العقلانية في فكرة الإلهي وأقر أبعاده العقلانية لكي يتخلص من غيريته وعناصر زخمه بقوله"إن الإلهي، إذا، يستشعر كأنه موضوعي ويقبع خارج الذات أما الآن فإنه حري بنا أن ندقق عن كثب في طبيعته وفي أحوال تجليه"6
يمكن امتحان فكرة الألوهية من خلال ما يختلج في الذهن ويسيطر على الوجدان من إحساس بالمسؤولية الخلقية والشعور بالتبعية وتُحيل طبيعة الإلهي على عناصر المهابة والجبروت والرهبة والعظمة وتشير إلى السر الرهيب الذي يجعل المؤمن يلتجئ إلى الاستعارة والرمز للتعبير عنه والاستجابة لأوامره. لقد وقع تحديد الدين على أنه نسيج متشابك من التصورات الاعتقادية والطقوس الشعائرية التي تعبر عن الصلة التي يربطها الإنسان بالمقدس والألوهية وتعكس علاقة التقوى التي توحد المؤمنين مع رحمة الله.
بعد ذلك تقوم الأنثربولوجيا بالتمييز بين الدين الحق والدين النافع وذلك بالابتعاد عن تحديد القناعات الإيمانية من جهة التطابق مع أحداث التاريخ وتقريب المعطى الديني من ثقافة الشعب وانسجامه معه. لقد تبين أن الدين يتغير بالسياق الثقافي الذي ينتشر فيه وتأخذ المبادئ الكونية التي ينادي بها طابعا خاصا ويحمل في رؤيته للعالم مشروعا اجتماعيا وخطابا تكامليا عن الإنسان ويسعى إلى نحت جملة قيم نبيلة. والحق أن كل تعريف للدين يحمل في ذاته تصور العالم الذي يعكسه المجتمع الذي صيغ من أجل هذا التعريف ويشهد على تعاقب الأحداث التاريخية التي عرفها هذا المجتمع وأثرت في بلورة في قناعاته الإيمانية. فإذا كان الوسيطيون قد أنتجوا تفسيرا كوسمولوجيا للدين بالاعتماد على تسلسل الكائنات من الكائن الأول وأرجعوا القوانين التي تتحكم في الوجود إلى القوانين التي وضعها الله في مخلوقاته طبقا لإرادته وعلمه فإن المحدثين قد غيروا من منهج دراسة المعتقدات وأنتجوا تفسيرا للأديان من جهة الوظيفة التي تقوم بها. لقد اتفق العلماء على الوظائف الهامة التي تؤمنها الأديان على الصعيد النفسي والاجتماعي والتواصلي وانتبهوا إلى قدرة النصوص الدينية على إنتاج المعنى وتوجيه الذوات المؤمنة إلى عدة مقاصد وأهداف. لقد تم التفريق بين المعتقد الديني من ناحية والفلسفة والإيديولوجيا والتيولوجيا واللاهوت من ناحية أخرى وتم حصر مسألة تحديد قيمة الدين في لغته الرمزية وفي تجربته الروحية وفي المقدس بوصفه النواة المعيارية التي تدور حولها الحياة الإيمانية وتمت الدعوة لمعايشة الطقس الديني والتعبير عنه من داخله. لقد أحدث فيكو منعرجا حاسما حينما تناول الأشكال الدينية والأساطير والمعتقدات بوصفها إسقاطات لأنشطة المخيلة وعندما أوجد روابط بين اللغة الرمزية والإنتاجات الأسطورية والممارسات السحرية. كما حاول توماس هوبز فهم أسباب انتشار الدين على حساب الخرافة والجهل والسحر بالعودة إلى بذوره ومبادئه الأولى واكتشف الانبثاق المستمر للديانات بالانطلاق الآراء في الألوهية والقوى الغيبية غير المرئية والفائقة للطبيعة التي توجد في الطبيعة البشرية وفسر تأسيس الأديان بقيام مجموعة من الناس بتصديق ما جاء به شخص والإيمان بآرائه الإلهية وطلاء صفة القداسة عليه واعتباره مالك لقدرات فائقة. ولقد أبان ما يلي:" الإنسان قد يوحى إليه بأمور كثيرة تفوق العقل الطبيعي ولكن ليس بأي شيء يناقضه"7 ، على إثر ذلك ظهرت نظرية الدين المدني مع جون جاك روسو أثناء تنظيره لمفهوم العقد الاجتماعي وكشف عن الحاجة إلى فهم عقلاني للمعتقدات يرتكز على مبادئ نظرية وحدة الوجود ويمنح الدولة دستورا أخلاقيا. لقد ترتب عن هذا المنعرج التمييز بين الوظيفة الاجتماعية للأديان والحقيقة القدسية التي تحملها إلى العالم التاريخي وتم الانتباه إلى وقوع أنبل المعتقدات وأقدس الديانات في أبشع الممارسات وأكبر الأكاذيب، وفي المقابل يمكن للديانات الوضعية والمعتقدات الخاطئة أن تلعب دورا ايجابيا وتتأقلم مع المناخ الخاص بها . لقد ترتب عن ذلك وقوع الناس بسبب الدين ضحية الظلم والقسوة والجشع والترف والتصديق بالأوهام والخوف من بطش سلطة ماورائية من ناحية ولكن قد يؤدي إيمانهم إلى تأمين السعادة والسداد إذا تم بناء الاعتقاد على المحبة والرجاء والرفق بالآخرين والرحمة وإيثار الفائدة المشتركة على الفائدة الخاصة. غير أن كانط قد قام في" نقد العقل العملي" بعمل تأليفي للمتطلبات الدينية الأساسية للأنوار وربط بين المثال الموعود والجماعة الإيتيقية وقد صاغ مفهوم المجتمع المثالي في "الدين في حدود مجرد العقل " وجعله نموذجا للجماعات الواقعية التي تظل مهددة من طرف الشر الجذري في عند كل تحقق ميداني. لقد حكم عمونيال كانط على الشر الجذري بوصفه نابع من الأنانية البشرية التي تبقى مجرد سر عبثي في الطبيعة البشرية يستحيل إلغائه ولكن الدين قد يساعد على التخفيف من ألامه وتطهير السلوك من تأثيراته السلبية. لقد فرق كانط بين ثلاث درجات من الاعتقاد ووضع الإيمان في مرتبة وسطي بين الظن والعلم، فإذا كان الظن مجرد اعتقاد يعي عدم كفايته ذاتيا وموضوعيا وإذا أمكن للعلم أن يبلغ درجة الاعتقاد الكافي ذاتيا وموضوعيا فإن الإيمان يظل كافيا من الناحية الذاتية وغير كاف من الناحية الموضوعية. لقد انتقلنا مع الرومنطيقية من علم بالأديان التي تركز على فكرة الإنتاج الرمزي إلى تدشين خطاب فلسفي حول الدين يتجلى في شكل تجارب تأويلية مع شلايرماخر الذي جعل من ماهية الدين مسار يكتمل في الإنسان ويضم الأساطير والكتب والأشكال الثقافية والتسميات التي تعطى للإلهي وحدوسات اللانهائي والإحساس بالكون وتم إسناد إلى التجربة الدينية حقول الأخلاق والميتافيزيقا والروح والحرية واللغة. ما تشير إليه الهرمينوطيقا الدينية هو أن" التفسير الإيماني للكون يفوق غيره من التفاسير لأنه يأخذ وحده بعين الاعتبار التجربة الأخلاقية والدينية للبشر، وفي الوقت نفسه لا يتجاهل الظواهر المادية للكون."8 لقد بين شلايرماخر في "دروس هرمينوطيقا" التي ألقاها على طلبته سنة 1805 بأن الدين هو الشعور بالتبعية التامة للعنصر البشري النسبي تجاه الحقيقة المطلقة، وبهذا المعنى يشير إلى حضور المعطى الإلهي في الطبيعة البشرية وبالتحديد في جذور وعي الإنسان بذاته وبالتالي أوجد تقنية تأويل تكون قادرة على الصعود بالنشاط الإبداعي للمتلقي الإنساني إلى نفس مرتبة العمل التأسيسي للخالق الإلهي. لقد آمنت الهرمينوطيقا بإمكانية النفاذ بوساطة اللغة إلى فضاء تشكل المفاهيم العقدية والرموز الدينية وحاولت بلوغ الموضع الذي تلتقي فيه التمثلات الأسطورية بقدرات اللغوية على الإشارة إلى العالم. من جهة مغايرة تفطن إيميل دوركايم في كتابه الأشكال الأساسية للحياة الدينية وفق نظرة سوسيولوجية كلاسيكية إلى أن الدين هو نسق مترابط من المعتقدات ومن الممارسات التي تتناسب مع الأشياء المقدسة، أي المنفصلة والمحظورة من المعتقدات التي تعطي جماعة أخلاقية معينة الوحدة التي تستحقها. لقد أدخل الدين إلى الأجهزة الإيديولوجية التي تستعملها الدولة في فرض هيمنتها على المجتمع ولقد تم التعامل معه بوصفه نموذج وظيفي في عملية الإمساك التدريجي للأفراد من خلال نسق من القيم والمعايير وعماد الأدوات المنهجية في التربية والتأطير والإدماج التي تسعى إلى تحقيق عدة أهداف ثقافية وسياسية . لقد ساعد الفكر النقدي إلى التخلص من الوثوقية ومحاربة التعصب والإعلاء من قيمة التسامح بين الأديان مع بايل وتنظيم العقائد وفق العيش المشترك والاحترام المتبادل والاحتكام إلى دين العقل ونسبية الحقيقة. لقد تم الاتفاق على وجود الله وتثمين الحياة الروحية وإمكانية التخلص من الآثام والارتقاء إلى الأخلاق. لقد منحت علوم الأديان إلى الإنسان قدرة حدسية لللاّنهائي وإمكانية التعبير عنه بواسطة الاستعارات وتجاوزت الأنثربولوجيا محدودية اللغة بتجديد الوسائل المنهجية والعودة إلى المصادر العامة للتدين والتمييز بين الأصلي والمشتق وبين الديانات البدائية التي تحكي مجتمعات بلا دين والديانات الكبرى التي تتطابق مع تأسيس مجتمعات متطورة وشهدت ازدهار ملحوظ في الحياة الدينية وعرفت تنظيم مجموعة من الشعائر والطقوس وإسناد جملة من الوظائف وتشييد مؤسسات دينية ودور عبادة وأمكنة مقدسة. لقد نظرت الأنثربولوجيا إلى أن الديانات الفردية مثل الطبيعية والإحيائية والأرواحية والطوطمية ساهمت في تطور الديانات الجماعية ومنحت معنى ووظيفة الدين ضمن استعماله الاجتماعي والنفسي المعاصر. لقد أدى الترابط بين المعتقدات الدينية والعوامل الاجتماعية والظروف النفسية إلى القول بتأثير الممارسات الدينية في الأفكار والمشاعر الخاصة بالأفراد والجماعات في حياتهم العملية والعلاقات التي يشيدونها مع بعضهم البعض ومع الوسط الطبيعي الذي يعيشون ضمنه ويؤمن الحماية والإدماج ضمن بنى اجتماعية. لقد أضحى التدين جوابا إعتقاديا على حاجات حيوية ورغبات طبيعية عند الإنسان وذلك من اجل توجيه سلوكه وتحكمه في الفضاء الخارجي وضبط إيقاع زمنه النفسي والتوجه نحو جلب المنافع ودفع المضار. لقد انتبهت الأنثربولوجيا إلى تنوع التجربة الدينية وكثافتها الرمزية وقدرتها على إنتاج توازن مرن بين الأفراد ولقد كان علم الاجتماع الديني مع دوركهايم قد أثبت أهمية الإيمان في مقاومة الأزمات الاجتماعية التي تنتج عن البطالة والفقر وتؤدي إلى توترات نفسية لدى الأفراد ويمكن أن تفضي إلى اليأس والانتحار. لكن حينما يفقد المجتمع شبكة القيم المشتركة ولم يعد قادرا على إنتاج الحلم وتقديم الوعود وسرد الحكايات فإن يهرم بسرعة ويبدأ بالاختفاء من مسرح التاريخ ولا يجد أفراده أي مبرر موضوعي يمنعهم من الانتحار. إذا ظهرت أزمة في تصور الأفراد لشبكة المثل المطلقة التي يطمحون إلى تحقيقها في الواقع المادي فإن المجتمع البشري يفقد وحدته العضوية وتدب فيه روح الانشقاق والتفرقة وينتهي إلى الانقسام والتشتت. على هذا النحو يساهم الدين في تحويل القيم والمعايير إلى أوامر وواجبات ويقوى مشاعر احترام ويجعل من المعتقدات تمثلات اجتماعية ومن ممارسات الدين نسقا تضامنيا ومن الشعائر والطقوس وحدة طوعية. بعد ذلك وقع اكتشاف الماهية الثقافية للدين ولم يعد المعتقد مجرد نسق من الإيمان بل فعل ثقافي متكامل وأصبح الشعور الديني العنصر الأساسي في عملية الاندماج الاجتماعي ويضمن ارتقاء الكيان الشخصي. لقد تفطن كليفورد غيرتز إلى دور الدين في بناء نسق من الرموز التي تؤثر في تشييد مواقف وأنشطة قوية ومستمرة وفي بلورة مجموعة من المفاهيم المتأقلمة مع ترتيب الوجود الذي يناسب النظام العام. كما تعمل الطقوس الدينية على اختراق البنى الاجتماعية والتقليل من الفوارق واستعادة مشاعر التكافل وذلك بتفعيل مبادئ المساواة أمام المقدس والاعتراف بالتناهي والمحدودية والدعوة إلى التعاون والإيثار والبر. بيد أن علماء الأنثربولوجيا ما لبثوا أن نقدوا التصور الوظيفي للدين واستعملوا نموذج نقد الإيديولوجيات وبحثوا في العلاقة بين المعرفة والسلطة والرغبة ونبهوا من مخاطر التحولات التي تحدث في المجتمعات نتيجة تغيير الأنساق الدينية والقيام بعملية العلمنة وتأثيراتها على المنزلة التي يحتلها المقدس في الحياة. لم يعد الدين يمثل البنية الفوقية وسبب وقوع الأفراد والجماعات في الاغتراب والوعي المقلوب بالعالم ويؤدي وظيفة إيديولوجية للنظام السياسي القائم كما يعتقد كارل ماركس بل صارت الحركات الدينية جزء لا يتجزأ من التجارب الشعبية التي تسعى لمقاومة النمط الكولنيالي وتحقيق التحرر والاستقلال الوطني. من جهة ثانية أخذ ماكس فيبر بعين الاعتبار أثر الوعي بالمنزلة الاجتماعية في تشييد المذاهب الدينية وبحث في الوحدة الدلالية للدين بادراك البنى التي تندرج ضمنها الظواهر التاريخية وربط بين نجاح الإصلاح الديني وصعود نمط الإنتاج الرأسمالي وكشف عن الصلة القائمة بين الإيتيقا والعمل الإنتاجي. بيد أن الظاهرة الدينية تتمتع باستقلالية ذاتية ويتحكم الفاعلون الاجتماعيون في بنيتها الداخلية بل يمارسون تأثيرات متنوعة على الظروف الاجتماعية والشروط الاقتصادية والعوامل السياسية التي يوجدون فيها. لقد قامت المؤسسات الدينية بإبرام تفاهم مع المحيط الخارجي قصد تذليل الصعوبات وتحقيق التواصل وقبول الثقافة العالمية وإزالة الإحراجات الناتجة عن التقدم العلمي والتقني وتناقضها مع الأحكام الدينية الثابتة. لقد صنفت الأديان على أساس الخاص والعام والجزئي والكلي وتم رصد الديانات الإثنية التي تستند إلى أساس قومي وأديان منظمة وفق قيم كونية وتحمل رسالة عالمية وتخاطب الإنسان أينما كان في المعمورة.
كما توجد أديان ثبوتية ومغلقة على نسق معياري جامد وأديان ديناميكية مفتوحة تتميز بالتغير والتطورية. لقد استنتجت الأنثربولوجيا أن المقدس هو التجربة الأولية التي تكشف عن البنى العميقة للإنساني وأن علم الأديان ليست في عمقها سوى وظائف ثقافية يؤديها الناس وتستقي الهرمينوطيقا منها جملة من الأفكار. تتمثل حركة رونيي جيرار في كشفه عن التباس الوضعية التاريخية التي مرت بها البشرية في بداياتها الأولى وعبرت عنها التراجيديا من خلال فعل التضحية وإيثار الإنسان التضحية بالذات عينها من أجل مواجهة العنف المتفق عليه بالإجماع . غير أن التضحية لا تقتصر على فعل القتل وإنما تنخرط ضمن تجربة الاستهلاك ولا ترتبط بالأزمة التضحوية التي ظهرت عند الإغريق وإنما تفضي إلى نقد للمعتقدات الأساسية للمدينة وتعكس الوضعية الاجتماعية والثقافية لعدد من المجموعات داخل المدينة الإنسانية.
أن الأزمة التضحوية، التي ظهرت عند الإغريق أولا وعند أليزاباث في أنجلترا في القرن السادس عشر ثانيا، ليست أزمة تضحوية بحق تتعلق بالنموذج الأصلي ولم تندلع ضمن نسق طقوسي جديد بالمعنى الدقيق وإنما أزمة حدثت داخل التاريخ ونتجت عن بلوغ المجتمعات نقطة تكون فيها ميالة إلى تدمير ذاتها. لقد وضع جيرار فرضية الأزمة التضحوية في إطار بحثي يضم في حركة واحدة المجتمعات الأولى التي عانت من رغبة الثأر وحرب الكل والكوكب المعولم الذي يضعه الجحيم النووي على مشارف الهاوية. لقد جعل جيرار من الأزمة نقطة البداية والنهاية للمغامرة الإنسانية التي شهدت تنامي التعقيد وميلاد الفوارق والاختلافات والعودة بصورة دائمة إلى العنف الأصلي الذي يقدر التاريخ البشري على تفاديه. كما يعلن جيرار، على خلاف الأنثربولوجيين والأثنولوجيين في عصره ، عن ارتيابه المنهجي من المعطى الديني الذي ظهر عند المجتمعات الأولى ومن المهاترات السياسية التي حدثت بعد ذلك للاستيلاء عليه. لقد تحول الديني مع جيرار إلى آلية للتنظم وميكانزيم للتأطير وعنصر ثقافي موجه ضد العنف الداخلي، وإذا لم يوجد مجتمع بشري دون ديني فإنه يمكن الإقرار أن الديني هو شرط إمكان قيام المجتمع البشري. على هذا النحو يقوم جيرار بإماطة اللثام عن الأقنعة التي يتدثر وراءها المقدس ويكتشف وجود الرغبة والسلطة والعنف، وجعل من الديني ممارسة عنيفة عند التضحية وصنع الكذب عند إنتاج الأساطير واعتبره وسيلة ناجعة وذلك لكونها تحمي الناس من عنفهم الخاص بإخراجه من دائرة أنشطتهم والعمل على شيطنته وترذيله. فإذا كان الدين يساهم في عملية التأنسن التي يخضع لها النوع البشري حينما يعمل على إخراجه من الهمجية إلى التمدن فإنه يتسبب في المقابل في حدوث أزمة محاكاتية وفي اندلاع الحرب بين الحشود وانتقال جماعة المؤمنين من أخوة متحابين إلى أعداء متخاصمين بعد حدوث خلل في التواصل القدسي.
يعلن ريني جيرار عن إلحاده المنهجي قصد غربلة الأديان البدائية والمشاحنات السياسية ويسعى الى بلورة مقاربة جديدة لديانة الوحي تقوم بالأساس على كتابة وقراءة تتلاءم مع الوضعية التاريخية بعد الحرب. ولقد دافع عن الدور الخاص الذي تقوم به اليهودية المسيحية في الوجود الخاص بالغرب وقام بإثباتها معيد لها الاعتبار في ظل قيام علوم الأديان بتنسيبها والتفريق بين التوراة والإنجيل والتقليل من قيمة التنوير الذي حملته المسيحية معها إلى البشرية وفي المقابل دراسة التراث النبوي اليهودي بوصفه تجارب دينية. والحق أن ما تريد أن تبلغه العلوم الدينية التي تعتمد على المنهج الأنثربولوجي هو الكشف عن العنف الأصلي الذي تسبب في الألم والموت الأزلي بالنسبة للآلهة القدامى وظل العذاب في حالة تخارج في التاريخ إلى اليوم. والحق أن علم الدين عند جيرار ليس علما وضعيا بل يقوم بتأسيس ذاته بنفسه ويظل يتحرك ضمن منطق تمايز الترتيبات عند باسكال وينتبه من خلال الأصل العنيف إلى حدث موت الإله ويكشف عن الإيمان باله حي. وبالتالي لا شيء خيالي في الدين بما أن الحقيقة الموضوعية موجودة وكل شيء مذكور في سردية النص. لكن ماهو التطوير الذي أخضع اليه بول ريكور مصطلح الهرمينوطيقا وأتاح له دراسة الظاهرة الدينية؟
2- السؤال الديني بين الوظيفة والمعنى:
" لا توجد ترجمة بريئة، أريد أن أقول الذي يفلت من تاريخ تلقي النص، تاريخ كان منذ الوهلة الأولى تاريخ تأويل. أن نترجم هو أن نؤول."9
من المعلوم أن الكتاب المقدس يثير الكثير من التساؤلات ويطرح احراجات وقضايا تتطلب التفكير والتدبر والترجمة والتأويل والآية على ذلك أن العامل الديني لا يوفر معرفة نظرية ولا يقدم حقيقة علمية ويتخذ مسافة نقدية في علاقة بكل الظواهر الطبيعية والمادية والكونية ويعد ظاهرة منفصلة عن الطبيعة وتنتمي إلى الشعور الإنساني وتمثلاته الرمزية للكون ولا يمكن تصور علاقة اعتقاد البشر بالآلهة وبالمقدس مثل علاقتهم بالظواهر الطبيعية والأشياء المادية. يعوض ريكور كلمة حذف المعرفة التي وردت في ترجمة البلياد للقولة الكانطية الشهيرة حول علاقة المعرفة بالاعتقاد ويقترح مكانها ترجمة جديدة وهي تجاوز المعرفة وبالتالي تكون كما يلي: "ينبغي أن أتجاوز المعرفة لكي أترك مكانا للإيمان"10 ، والمقصود ضرورة تخطي المعرفة دون تركها نهائيا وتركيز الانتباه على مستوى أعلى من الواقع وتسليط الضوء على الإيمان بوصفه تجربة من تجارب الروح تنتمي إلى العقل العملي والحكم التفكري وبالتالي يتفادى ريكور القول بالقطيعة المعرفية بين العلوم الطبيعية التي تعتمد على التجربة والتفسير وأفكار عقلية في الأخلاق والدين والفن تشتغل على اللغة والقيمة والمعنى. في هذا السياق كشف الشارح بيتير كامب عن وجود تفكير في الديني على صعيد الممارسة عند ريكور11 ، بينما ربط دنيال فراي بين ريكور الفيلسوف وريكور البرتستانتي ولم ينفي وجود صلة بين الفكر الفلسفي والإيمان الديني عنده ولكن دون أن يكون مختزلا فيه وأشار على حضور الفكر اليهودي عند ليفيناس ودريدا وتأثر غابيرال مارسيل وأيضا كارل يسبرس الواضح للعيان بالكاثوليكية في وجوديتهم المؤمنة12 . إذا كان كانط نقد الميتافيزيقا الدغمائية وتجاوز المعرفة وجعل الحياة العملية هي أساس العالم الإنساني فإن ريكور اهتم بالإنسان القادر وبوظيفة الدين العلاجية من الإثم والذنب وأدرجه ضمن اقتداره على الدخول إلى نظام رمزي ووزع هذه التجربة إلى ثلاثة محاور: الأول هو تقاسم البعد الحواري مع الناس، الثاني هو علو كل إنسان فوق وجهة نظره الخاصة، الثالث هو السماح للفاعل بأن يموقع فعله وفق قاعدة العدالة. أما التفكير في الكتاب المقدس الذي اشترك فيه مع مفسر النص الدين في جامعة شيكاغو أندريه لاكوك فقد تضمنت مساهمة ريكور ستة محاور أساسية تتحرك في معظمها حول ما يلي: التفكير في الخلق والطاعة المحبوبة والإنذار بالوقوع والشكوى من حيث هي صلاة ومن التأويل إلى الترجمة والاستعارة الزفاف13 . في حين أن كتاب الأنثربولوجيا الفلسفية قد احتوى على فصل مهم حول المرسل إليه في الدين ولقد طور فيه نظرية تأويلية تعطي وظيفة هامة للمتلقي بوصفه إنسان قادر على إنتاج المعنى عند تعامله مع النص14 . فهل أسس ريكور فلسفة أنثربولوجية غير بعيدة عن الإيمان الديني؟ وكيف تمكن من التمييز بين المجال الفلسفي والمجال الديني؟ وما طبيعة القراءة الفلسفية التي أنجزها حول الدين؟ وماهي العناصر الدينية التي نالت إعجابه وتم التركيز عليها ضمن مقاربته الهرمينوطيقية؟ وكيف رد على الدعاوي الفلسفية اللاّدينية؟
تكمن طريقة التعاطي مع الدين بالنسبة لريكور في إنتاج المعنى الذي تتضمنه التجربة والنص والخطاب وإضفاء المعنى على وجود الإنسان في الزمن التاريخي والمستوى الاجتماعي وتنمية البعد الروحي فيه. لقد ضمت فلسفة ريكور محاولات ومباحث هرمينوطيقية عديدة ، بدأت بنظرية في الرموز وصارت نظرية في التفسير ولكنها ما لبثت أن تحولت إلى فلسفة في التأويل وبشكل أكثر دقة هرمينوطيقا إيتيقية.لقد حرص ريكور على تطوير فلسفته الهرمينوطيقية عبر إجراء مجموعة من المقارنات مع علم العلامات وعلم النفس والسوسيولوجيا والبنيوية ولكنه اشتغل على المسألة الدينية واعتكف على تفسير النصوص وميز بين الهرمينوطيقا الفلسفة الخالصة والهرمينوطيقا الدينية التطبيقية وخصص جزءا من اهتماماته إلى تأويل التاريخ والخيال العلمي وأسند للهرمينوطيقا الايجابية وظيفة سردية تفهم السرد ضمن علاقة بزمانية التجربة الإنسانية وتدافع عن كونية الهرمينوطيقا تجعل من السرد انفتاحا للعالم المتيح للمرء الإقامة فيه.
لقد أعاد ريكور صياغة مشكل الحقيقة تفاديا للتصور التداولي وتزييف الحياة ولكي يتوجه نحو تفكيك شيفرة الوضع المتعين للزمانية وتحويل الفعل الإنساني عبر نظرية القراءة والحقيقة السردية أو التأويلية. في الواقع تسمى الهرمينوطيقا التي سعى ريكور إلى تأسيسها من خلال محاورته مع فرويد في صراع التأويلات هرمينوطيقا الثقة وتتميز بانفتاح الوعي على المعنى والعالم والحقيقة وتقحم النص في الشأن البشري وتجعل من دائرة التأويل واسعة ضد الاختزالية وترغم الذات على إعادة تشكيل ذاتها عبر مرآة النص. على هذا الأساس تحاول الهرمينوطيقا الريكورية تطبيق الفهم الطبيعي للعلاقة التي أقيمت بين المرء وغيره والعالم والنص باستنقاذ المعنى عبر فهم مفتوح يستثمر العلامة والرمز والاستعارة والسرد التي يتضمنها النص الديني ضمن تجارب ثرية من الحياة. كما يتأسس معنى الهرمينوطيقا عند ريكور عن الحوار بين النص والعالم والذات تجمع فيه بين قراءة النص على ضوء تجربة الوجود في العالم وتحرس فيه العالم وتعتني بالغير من حيث هو غريب من خلال ما يؤمنه النص من قيم ايتيقية ومبادئ تربوية عامة. هكذا يراهن ريكور فعالية الشخص المتلقي في الخطاب الديني ويمنحه مهمة اعادة بناء التجربة الايمانية برمتها من خلال المشاركة في فهم النص الايماني تأويلا وتدبرا في الحياة المشتركة. كما يطرح ريكور كتاب التفكير في الكتاب المقدس إشكالية صعوبة الترجمة بالنص المرسل الى الناس من الله وذلك للمسافة التاريخية الفاصلة بين لحظة انبعاث النبي وتشكل ظاهرة الرسالة وتدوين الخطاب الديني. لقد عرفت حركة الترجمة للنصوص الدينية تاريخا طويلا وكونت تقاليد علمية وطبقات من المترجمين إلى لغات مختلفة ومن لغات متنوعة كالإغريقية واللاّتينية والعبرية وتركزت حول المقصد الذي عناه المرسل. لاحظ الفوارق الكبيرة في القصد بين النص الأصلي والنصوص المترجمة والتي تصل إلى حد التحريف والابتعاد عن المعنى المقصود نتيجة سوء الفهم والإسقاط والأحكام المسبقة والنوايا السيئة والمسلمات. كما يمكن للترجمة أن تفجر الحدث حينما تتمكن من المحافظة على الحقل الدلالي وتأمين سلامة المعنى عند انتقالها من اللغة الأولى إلى اللغة الثانية مع تشغيل التاريخ المعرفي للسياق الثقافي والحقل الاجتماعي وتخطي العلاقة بين الإنسان المترجم والنص الأصلي والتركيز على تاريخ العلاقة بين الله والوجود. أما الترجمة فتعد مشكلة التأويلات المتضاربة للنص واحتواء المكتوب على مجموعة من الرموز والعلامات والمجازات والكنايات التي تقتضي الانتقال من المعنى الظاهر الى المعنى الخفي16 . لكن كيف تساعد الأبعاد الايتيقية المتضمنة في الدين على زرع العلمنة في المجال السياسي؟
3-مسارات العلمنة وشروط الإفلات من المراوحات:
" تمتلك هرمينوطيقا العلمنة أيضا أفقين هما المقدس والدنيوي"17
يمكن طرح مسألة العلمنة في علم اجتماع المعرفة وعلم الاجتماع الثقافي ويكمن الحرص في ربط عملية إذابة الفرق بين المقدس والدنيوي وبين الاعتقاد والمعرفة بمسارات العقلنة وتعميمها على المجتمع العالمي وتقديم تأويل للحضارة وانجاز تاريخ للتجربة الدينية يعوض من خلاله الوعي النقدي الآراء المشتتة لوجهة النظر. على هذا الأساس تناول ماكس فيبر مصطلحي فك السحرDésenchantement ونزع التأليهDédivinisation بوصفها علامات على مسار تعرية الرمزية الدينية ونقد الأقنعة الأسطورية.
هكذا يعني مصطلح sécularisation الدنيوة أي رد الشيء الأبدي كائنا زمنيا وجعل الشخص المقدس كائنا دنيويا ويشتق من مصدر sécularité ويشير إلى العلمنية والدنيوة والمدنية والعالمية والزمنية. كما أن مصطلح العلمنة الدنيوية هو ترجمة للفظ الفرنسي profane sécularisation ويقصد به أساسا صيرورة المرء علمانيا وعدم حاجته لنظريات عن الدين ولا للّغة التقنية للاّهوت لكي يعبر عن تجربته الإيمانية. كما يقدم بول ريكور ثلاثة شروط ضرورة لتحويل العلمنة إلى مشكل هرمينوطيقي:
1ـ المستوى السيميائي: البحث في طبيعة اللغة المستعملة في تجربة التفكير واعتبار اللغة التقنية هي لغة معلمنة وموضوعية وتخليصها من العبارات الدينية المشحونة بروح التقديس والطبقات الدلالية القادمة من التقاليد والميراث. ثم إدراك الأنساق الرمزية التي تفهم من خلالها ثقافة معينة ذاتها عبر مسار من العقلنة يتم فيه التعامل مع النسق الرمزي لا بوصفه كلاما وإنما يعبر عن تجربة هرمينوطيقية بواسطة مقولات معلمنة مثل الحرية والإكراه.
2ـ المستوى الأسلوبي: الكف عن إرسال التأويل نحو الاهتمام برموز معزولة والانطلاق من رموز عليا تحتوي على إطار مرجعي يمنح الرموز الدنيا دلالة. ولعل الدنيوية profanité والدنيوة profanisation هي السؤال المفتاح الذي ينير الطريق نحو فهم الأسلوب العام للنسق الرمزي وليس التعرف على مكوناته.
3ـالمستوى التطبيقي: يتحول السؤال إلى مشكل حينما ينجز التأويل تملكا على غرار التطبيق عند هانز جورج غادامير الذي قام ببلورة مساواة بين أسلوب الحدسintelligendi وأسلوب التفسيرexplicandi. يمكن العودة إلى مفهوم المشكل عند ماكس فيبر الذي يطرح ضمن حياد أكسيولوجي لسوسيولوجيا غير ملتزمة والتساؤل عن جدوى الاعتقاد في حياة أخرى في ظل حياة الانسان في عالم معلمن ودنيوي. تبعا لذلك تطرح هرمينوطيقا العلمنة مسألة الأطر المرجعية التي تساعد على التواصل الرمزي العمومي ضمن إطار وجودي. لكن ماهو مفهوم العلمنة عند انريكو كاستيلي ماتيو؟
تتم العلمنة عند كاستيلي ضمن الزوج المفهومي المقدس والدنيوي أو المدنس مع تركيز مخصوص على الجانب الثاني أي الدنيوي أو المدنس. كما يمكن الاشارة الى الطابع السلبي لمصطلح الايديولوجيا الذي ارتبط بالأحداث التاريخية والى ما تثيره هرمينوطيقا العلمنة من اشكال مزدوج:
-الأول: يخص تأويل الحضارة حيث يعوض الوعي النقدي أو جوانب وجهة النظر.
-الثاني: يهتم بتأويل تاريخ التجربة الدينية حيث استمر النزاع بين الاعتقاد والمعرفة وبين التاريخ والوحي.
إذا كان المقدس والدنيوي هما الأفقان بالنسبة إلى هرمينوطيقا العلمنة فإن الدنيوي يتأسس من خلال اكتمال شروط الدنيوية وتخلصها من الوثنية والماورائيات، بينما تأخذ العلمنة بعين الاعتبار التقنية الهرمينوطيقية التي أفقدت الانتماء خصائصها وتقوم باحتواء طبيعة الفعل على الرغم مما يستوجبه التعمق في معنى الحضارة من إبراز التعارض مع فاعلية التحضر في حد ذاتها. كما يفرق كاستيلي بين الكنيسة المرئية والكنيسة غير المرئية وبين الانتماء الى الله وقداسة الشعب ولا يري في تحول النية الطيبة في الكنيسة المرئية الى حسن الايمان في الكنيسة غير المرئية ويقر بأن مسالة الشفقة تتضمن فعل الانسان المؤمن بالضرورة من حيث هي نية طيبة ويرفض الحكم الذي يرفض العلمنة ويصادر الحرية الدينية ويضع حدودا للسلطة الكهنوتية Critas ويعرف هرمينوطيقا العلمنة التي تخص الكنيسة غير المرئية بأنها « ne juger pas si vous ne voulez pas être jugés » توفق المرء عن الحكم اذا ما رغب في ألا يكون موضع حكم. كما يفرق بين علمنة القداسة التي تتضمن التوقف عن الحكم في شؤون المقدس والعلمنة الدينوية التي تتضمن ليس فقط الحكم على بنية الحق وإنما أيضا طبيعة اندراج السلوك البشري ضمن سجل التدين وما يطرحه من مشكل في اللغة التقنية وتعارض الإكراه مع الحرية18 .
إن مشكلة اللغة التقنية التي تستعمل في التجربة الدينية تتراوح بين الاقرار بقداستها والمطالبة بعلمنتها لم يتم ايجاد حل واضح لها وتتعلق بمجموع السلوكيات البشرية وبنية الحضارة ومعنى ودلالة الحس المشترك. إن " هرمينوطيقا العلمنة هي مسار نحو الحس المشترك تكون أهدافه بلوغ تواصل خاص وأساسي مع وضعية اجتماعية محددة" دون أن يتم التضحية بالشيء الحميمي والمعنى من الفعل والعاطفة الحية. تبعا لذلك يلاحظ كاستيلي أن الإنسان يعيش في وضعيات تاريخية لعالم معلمن ساهمت التقنيات في اختزال حصة الحياة التي تخص وضعه وأحيط تاريخه بعدة شروط وتشكل حوله مناخ مجهول لا يقدر على تجاوزه. كما أن الانسان الذي أدرك أن الخبز بالنسبة اليه اهتمام مادي بينما بالنسبة الى غيره هو اهتمام روحي لا يهتم بالعالم الذي يعيش فيه ان كان معلمنا بما فيه الكفاية أو علمنته منقوصة أو حتى بلا أبعاد وكيفيات. بعد ذلك يستشهد كاستيلي بتأملات بارديائيف الوجودية وشذرات نيتشه وشخصيات صاموال بيكيت لكي يدفع هرمينوطيقا العلمنة الى الاقرار باستحالة الفصل بين المقدس والدنيوي والى القول بأن الطابع الاسكاتولوجي للدين يشهد على بقاء صورة من التيولوجيا السياسية سهامت العولمة في الكشف عنها. من هذا المنطلق تتمثل أزمة الحضارة في تعطل مشروع العلمنة واسحالة القول بدنيوية الدنيوة ومواصلة البشرية في خلق حكايات جديدة وذلك لكونها في حالة انتظار خالية من المعنى ولكون المجتمع المعلمن ينتظر من يخلع الهالة والقداسة التي ظلت مترسبة في أعماقه. لكن كيف يتصور فيتوريو ماتيو العلمنة؟
يخالف ماتيو أطروحة كاستيلي وينادي بالعلمنة الدنيوية ويؤصل فكرته بالعودة الى الجذر التاريخي للإصلاح ومقولة الدين الطبيعي ويكشف عن وجود تعارض بين هذين الأصلين المتسببين في العلمنة: الأول ظل يطمح إلى إرضاء البعد الديني بينما تم إيداع الوحي بماهو أصل ثان على ذمة مؤسسة حية. لقد سعى ماتيو إلى إلغاء الوظيفة الكاريزماتية لرجال الدين والوظيفة الفوقية التي تمارسها المؤسسة الدينية بالبحث في الاتصال الذي يجريه الزمني مع الأبدي في لحظة تاريخية واحدة وفهم حديث العلو مع العالم. لقد مثلت الجماعة الروحية التقليدية حضور المتعالي في الدنيوي والروحي في الجسدي وظلت وظيفتها مقتصرة على إعداد الأحياء للمرور إلى عالم مغاير وحياة أخرى ولكنها ما انفكت تطرح تمثيلا للمطلق وبالأحرى تدشن خطوة أولى نحو العلمنة وتنادي على النسبي والتاريخي واللااعتقاد بالظهور في العالم. لقد أصبحت الجماعة المعلمنة كيانا سياسيا دون أن تفقد كينونتها الدينية وصارت العلمنة تعني نفي الحاجة إلى معطى مضاف عليها لكي تتمكن من المحافظة على وجودها وقد يكون هذا المعطى هو البعد الديني.
لقد حدث هذا الانتقال في أفق المقدس في مرحلة أولى ولكنه قد حصل بصورة متأخرة في أفق الدنيوي حيث لم يظهر بوضوح الصلة بين التدين الطهري والجماعة السياسية ولم يندلع التوتر بين كنيسة القلب وكنيسة الرجاء ولم تتخذ الخصومة طابعا مؤسساتيا وتكتمل سياسيا بقيام اللاحق بإلغاء السابق تماما. بطبيعة الحال "لقد تجلى الطابع السياسي للدين المعلمن بصورة أساسية في الأفق الدنيوي على سبيل المثال في طقس الكائن الممتاز لروبارسبيير ، حيث يكون من الضروري بالنسبة للجماعة السياسية الجديدة ليس فقط أن تتهرب من الخضوع إزاء كهنة الأبدي ، وإنما أيضا أن تنشئ من رماد النزعة الإلحادية"19 . لقد ترتب عن ذلك أن صفة التزمت هو جريمة ضد الجماعة الدينية والمجتمع البشري ينجر عنها اللعنة والعزل. كما انغرست ممارسات الإدانة والعزل في الذهنية الدينية وأثرت في الذهنية الإنسانوية التي تشكلت في خصومة معها وذلك بأن استحال عليها التخلص من المواقف غير المتسامحة بصورة جذرية. إذا كان التسامح يولد من الثقة في القدرة على تأويل الرسائل المتعالية فإن اللاّتسامح يرتبط بشكل دقيق بالعلمنة ولا يظهر دون ظهور إيمان ولكنه يزداد في الرسوخ إذا لم تتم علمنة الإيمان لدى الجماعة. هكذا يظهر اللاّتسامح عندما تقل النزعة الانسانوية وتغيب التعددية وتكثر النزعة التطابق والوحدة الجوفاء ولا تقدم الاعتذارات في ظل الاعتقاد في الحقيقة بالنظر إلى أن "المطلق المعلمن لا يترك مكانا للحرية"20 . كما يجب أن يوجد في المدينة المعلمنة جنبا إلى جنب ودون تصادم الإنسان الذي يعمل والإنسان الذي يلعب وبالتالي يجب أن يترك المجتمع المعلمن مكانا للعلب والاحتفال وهو ليس فراغا وإنما فرصة للإنعتاق . هكذا تكتمل العلمنة بصورة أساسية عند ماتيو عندما يتمكن المرء من بلورة الفرق الأنطولوجي مع المطلق. لقد أدى التعصب إلى الشعور بالألم والعذاب وتشكل الخوف والرعب من اللاّحماية ولقد شارف الصبر البشري على النفاذ والتجأ إلى الإيمان بالمنقذ والمخلص والاحتماء بالذات الإلهية طلبا للغفران والرحمة. لقد أوجد ماتيو مقارنة بين العذاب لدي الإنسان والعذاب لدى الإله المتجسد وقام بتعريفه بالمنزلة الأنطولوجية للانسان الذي شارف صبره على النفاذ وجعل من اللاّعذاب النوعي نفاذ صبر معمم. لقد مثلت العلمنة وضعية ثورية حينما أوجدت تأويلا معلمنا للدين وقامت بقلب كل شيء من الأعماق. غير أن وحدة أبعاد الوجود التي تقتضيها العلمنة تحول دون تفجر الثورة واستكمال مسارها في الدين ويتطلب الأمر الإجهاز على هذه العملية وقلب الوجود بغية إظهاره كماهو وإعادة تشكيل بعده الحقيقي. بناء على ذلك تكون الصيرورة الثورية لكل دين معلمن في الأفق المقدس أو الأفق الدنيوي كيفية أساسية من مسارات العلمنة وتتفجر الثورة ليس بسبب الظرفية التاريخية التي تضع دين جديد في مواجهة بنية سياسية تقوم على دين قديم بل تندلع الثورة من جهة أن الدين المعلمن يصير ثوريا من حيث ماهيته ذاتها. كما يجب أن تقلب هذه الثورة ليس فقط البنية السياسية بل المنزلة الأنطولوجية الراهنة للإنسان وتظل ثورة دائمة ويجب أن يبقى الدين المُعلمَن من حيث هو دين مستقبلي سواء بتسمية اله قديم أو اله جديد. لكن هل يتطلب كل دين إخضاعه لتجربة علمنة؟ وهل تكون علمنة من الخارج أم علمنة من الداخل؟
لقد فهمت العلمنة على أنها عدمية والحاد وريبية بخسارة الديني وفقدان العنصر الإلهي وضياع الإيمان وفي المقابل تم اكتساب المعرفة وتحصيل العلم والزيادة في منسوب العقلانية دون الاهتداء إلى أنها قد تكون مجرد حدوث تحول في التدين وعقلنة للمجال الديني ورسم حدود للإيمان وتنوير إرشادي للاعتقاد.بيد أن ماتيو يقترح منظورا مغايرا ويسجل بروز ظاهرتين مختلفتين: تتمثل الأولى في تزايد نسيان الله بسبب عجز الرموز المستعملة عن تذكره بالنسبة إلى الروح، أما الثانية فهي تحويل رموز جديدة ووضعها مكان الرموز القديمة ولقد أفقد هذا النقل التدين من بعده العاطفي ومن حمولته الدلالية وذاتيته الإنسية. بهذا المعنى يوجد الرابط الذي يوفره الدين بين الله والإنسان بصورة غير مباشرة ويحس الإنسان المعلمَن بأنه متعلق بالمطلق بالرغم من أنه لا يعرفه بما فيه الكفاية ويوجد على عتبة الإيمان والإلحاد بالمقدس. كما أن الرابط بين الإنسان والإله يشترط استيفاء جملة من الأحكام المعرفية ويتطلب أداء عدة سلوكيات. إذا كان المطلق المعلمَن هو المعادل اللاّئكي للرحمة وإذا كان التعصب يحمل في ذاته هذا القلب للرحمة فإن الدين الأصيل يؤشر اكتمال الرابط بين الإنسان والله وتحقيق مطلب الخلاص ضمن تيولوجيا الرحمة. يبدو أن عدم الاكتراث بالمواضيع الدينية التقليدية مع مواصلة الالتزام بطقوسها وشعائرها ناتج عن نقل رابطها العاطفي من رموز قديمة إلى رموز جديدة ولقد أدى ذلك الى انقسام المؤمنين بين الوفاء الى رمز الاله القديم و انتظار تحقق رمز اله المستقبل مع ترك المجال للمحافظة على معنى معين يمكن منحه للمطلق21 . من هذا المنطلق لا يتعلق المشكل الهرمينوطيقي للعلمنة عند بول ريكور بإيجاد لغة تقنية للتأويل من أجل الانتقال من الوجود المقدس إلى العالم الدنيوي كما يرى كاستيلي Gattinara Enrico Castelli ولا يطرح من خلال بلورة علمنة دنيوية وتحويل الإكليروسي إلى السياسي وتثمين مفهوم الدين الطبيعي كما يفعل ماتيوVittorio Mathieu بل عبر إدخال إيمان الجماعة في مسار المراوحة بين الإيديولوجيا واليوتوتبيا وذلك بأن تجعل من الأولى أحد مصادرها وتقاوم بواسطة الثانية كل نزعة اختزالية. كما يعترف ريكور بأن المراوحة تحدث داخل النسق الرمزي العمومي والأفق المرجعي الذي يحتويه وتشير إلى اصطدام الإيمان بالبعد الدنيوي من جهة وبتحويل الرموز الدينية إلى رموز سياسية من جهة أخرى وتحافظ على المعنى الذي يحوز عليه المطلق بوصفه تجربة خلاص من الخطايا وانعتاق من الذنوب. لهذا السبب تتحول الهرمينوطيقا إلى الفضاء المشترك الذي تلتقي فيه الإيديولوجيا واليوتوبيا من خلال جدلية ترتكز على نظرية الخيال الثقافي بوصفها إطارا مفهوما يتوسط الفعل البشري رمزيا وتنظر إلى انخراط الرمزية الدينية في جدلية الإيديولوجي واليوتوبي بوصفها معيارا وعلامة على بداية العلمنة. بعبارة أخرى يدخل إيمان الجماعة الدينية في مسار من العلمنة حينما ينخرط في مراوحة جدلية بين الإيديولوجيا واليوتوبيا تكون واعية بمصيرها المفتوح وحريصة على تخطي كل محاولات الاختزال22 . اللافت للنظر أن التباس مفهوم الايدولوجيا يعود إلى تعدد دلالاتها اللغوية وتنوع استعمالاته في مجال الفعل الاجتماعي، والمفارقة أنها تحدث انقطاعا في التواصل بين أفراد الجماعة التاريخية من ناحية أولى وقد تتحول إلى أداة تضفي المعنى الشامل والمتساوق للفعل في صلاته بالتاريخ في مجموعه وبالتصور الذي يشكله عن العالم من ناحية ثانية. في مقام أول تعني الايدولوجيا صورة معكوسة للواقع وتتجسد في الوعي الزائف. لكنها تتحول في مرحلة ثانية إلى أداة هيمنة تستعملها طبقة من أجل السيطرة على طبقة أخرى وتضفي المشروعية على ممارستها ولكنها قد تلعب أيضا وفي مستوى ثالث دور الإدماج والصهر والتكوين بالنسبة إلى الكيان الاجتماعي. بناء على ذلك يتوزع الحقل الدلالي للايدولوجيا بين مسارات التحريف والشرعنة والإدماج ولكن يمكن صبها جميعا في قالب واحد وهي الصورة التي تحافظ على الواقع السائد. علاوة على ذلك يكشف ريكور عن التباس مفهوم اليوتوبيا ويحصر ذلك في الطابع المرضي للظاهرة وتوازيها مع ظاهرة الايديولوجيا في نزعة الهيمنة والاستغلال ولكنه يخلصها من الصورة السلبية التي التصقت بها ومن خاصية الوهم والزيف والفانطازيا ويمنحها دورا تكوينيا انعتاقيا ويربطها بالخيال الخلاق ويثبتها ضمن ميكانزمات المخيال الاجتماعي في توجيه الفعل الاجتماعي وفق النظام الرمزي. تضع هرمينوطيقا العلمنة إيمان الجماعة الدينية في مسار مراوحة بين الإيديولوجيا واليوتوبيا ولكنها تحذر من السقوط في الاختزال والتحريف والتسلط والمحافظة من ناحية الإيديولوجيا وتنبه كذلك من التهويم في الفانطازيا والانتظارية والمثالية والإفراط في التخيل من ناحية اليوتوبيا وتحدد الدين بوصفه نسق رمزي ونظام ثقافي يقوم بدور تشييدي للهوية بالنسبة إلى الأفراد والجماعات التاريخية وتخلص الإيمان من بعده الإيديولوجي واليوتوبي وتبرز ثراء بعده الأخروي طارحة الهدف من الحياة ومستشرفة مصير الإيتوس. لكن هل أن إدراج علمنة الإيمان ضمن المراوحة بين الإيديولوجيا واليوتوبيا هو قدرا لا يمكن تفاديه؟
يعيد بول ريكور طرح مسألة علمنة الإيمان على الرغم من محاولة كل من كاستيليCastelli وماتيو Mathieu محو الفوارق التي أقيمة بحكم الثقافة بين مقولتي المقدسSacré والمدنسProfane .
غير أن المركب الجدلي الذي تنتهي إليه المقولتين ليس له معنى لو اقتصر المجهود الهرمينوطيقي على جعل كل من اليوتويبيا والايديولوجيا يشكلان عنصرين متكاملين في تشييد تجربة الإيمان وليستا مجرد أسماء سيئة السمعة ومتصارعة، ولم يستمد من القناعة التي ترى بأن أصول الإيمان تمتد جذورها أبعد من أشكال الإيديولوجيا وعناصر اليوتوبيا بما أنه قد حدث له تمزق بسبب تصارع هذين البعدين زمن العلمنة. في الواقع لا يمكن بناء المركب الجدلي بين الإيديولوجيا واليوتوبيا بشكل أصيل ومتكامل حسب بول ريكور إلا عن طريق الحد من الانقسام بين الطرفين وذلك بإعادة تذكر الأحداث الدامية التي وقعت في العصور الغابرة في أثينا وروما والتي منحت الإيديولوجيا وظيفة ايجابية وجعلتها في علاقة قرابة مع اليوتوبيا. كما يلتقي ذلك المركب الجدلي بالأنواع الأدبية للوحي والأبعاد السردية التي يتضمنها والتي تمنح معنى للماضي وتجعلها حاضرا في التجربة الزمنية وبالنبوءة التي تحطم كل حماية تم تأسيسها على الماضي. فبأي معنى هرمينوطيقي معاصر يتدخل الدين في اعادة تشكيل تجربة ثبت الهوية؟
يقر ريكور بان الإيمان يمثل ،على خلاف الاختزالات التي تقوم بها القراءات "التقدمية" أو المستقبلية futuristes، الظاهرة الإيديولوجية في وظيفتها الأكثر أساسية وهي تشييد هوية بالنسبة الى الفرد وبالنسبة الى الجماعة. بناء على ذلك ليس من السهل عندئذ ايجاد تعارض بين المعرفة والايمان والتلهف على التنظير لوجود ايمان من دون دين Foi sans religion مثلما يفعل بعض المستقبليين. على هذا النحو يكون الدين هو الجانب الايديولوجي للايمان وفي معنى بدئي وتأسيسي وأساسي للكلمة. في الاطار يستند ريكور على أنثربولوجيا كليفورد غيرتز في مقال شهير معنون: "الدين من حيث هو نسق ثقافي" والذي أعاد نشره ضمن كتابه "تأويل الثقافات" وحدد فيه الدين بمجموعة من الخصائص:
1- نسق من العلامات والرموز التي تجد سهولة في الإبلاغ والاتصال: بعبارة أخرى يمتلك الدين سلطة توجيه تضمنها الأشكال الثقافية وتشتغل بوصفها نماذج تدل على ومن أجل.
2- يبلور عدد من المواقف ومن الدوافع التي تمارس نوعا من الضغط والاختراق بصورة دائمة: أي
تقوم الدوافع والمشاعر العميقة بغراسة وتجذير هذه الأشكال في عدد من الاستعدادات الدائمة.
3- يصوغ تصورات عن نظام عام للوجود: هنا يجب الإشارة إلى الترابط بين الإطار الكوني cosmique والموقف الإيتيقيethique ، فالدين لا يكتفي بتعليمنا كيفية تفادي العذاب وانما كيف نتعذب. يصلح الضمان الكوني لا في كونه يساعدنا على الفهم بل في التحمل وذلك بأن ينزل العذاب في سياق دال.
4- يقوم الدين بطلاء هذه التصورات بهالة معينة تمنحها القيمة والرونق مما يجعلها مقبولة ومستساغة: يقتضي نحت دلالة المنظور الديني الربط بين الإيمان وقبول السلطة ، ويترتب عن ذلك خدمة المنظور الديني لمصالح نسق السلطة بأن يقوم الدين بدور سياسي ويكون ضامن استمرارية السلطة. لكن " الدين لا يستنفذ أغراضه في وظيفته السياسية ، بالقياس إلى المنظور الذي يفتحه على مستوى الأبعاد الكونية والتاريخية والايتيقية، إضافة إلى التبعات الشخصية العميقة على غرار المعاناة وما يشير إليه الموت"23 . كما يقر الانغراس في الطقسي بالمقصد التام الذي يحوز عليه المنظور الديني الذي يمتلكه و يتمثل في النقطة التي ينصهر عندها تصور للعالم والأيتوس. النماذج التي تتضمن قبول السلطة هي في ذات الوقت النماذج التي تتعلق برؤية العالم والنماذج التي تسهم في إحداث التغيير.
5- تحمل الإحساسات العميقة والدوافع المتحفزة بصمة فريدة من نوعها من الواقعية:
يؤشر الترابط بين النماذج عن...والنماذج من أجل على النقطة التي يلتقي عندها كل من الإيديولوجيا واليوتوبيا في عمق المخيال.
- النماذج عن...تتطابق مع ماهو موجود
- النماذج من أجل... ترنو إلى فتح حقل للممكن.
من البديهي اذن أن النماذج التي تعلم الرؤية هي بطبيعتها أكثر النماذج إيديولوجية، ومن المنطقي أن النماذج التي تعلم التغيير هي بطبيعتها أكثر النماذج يوتوبية.
النتيجة التي يخلص إليها بول ريكور بالانطلاق من أنثربولوجيا كليفورد غيرتز في كتابه تأويل الثقافات أن كل قطعة من القطع الخمسة لهذا التعريف تتضمن خاصية حول الدين من حيث هو نسق ثقافي. على هذا المنظور ماذا يقصد ريكور بالبعد الأخروي للإيمان؟
يحمل ريكور في مستوى ثان على الاختزال الماضوي للدين وذلك بالإشادة بالدور الذي تلعبه اليوتوبيا على مستوى البناء والتكوين. اللاّمكان nulle part بالنسبة إلى اليوتوبيا ليس نقطة افتراضية ولا مجرد خانة فارغة تسمح للعبة أن تبدأ بل علامة على قدوم مملكة الأملesperance متضمنة في سردي récitatif النزوح وقصة القيامة. يعتمد ريكور في هذا السياق على جان مولتمان في كتابه لاهوت الأمل.
لعل العودة المعاصرة إلى اليوتوبيا قد تسمح بإعادة اكتشاف البعد الأخروي eschatologique للإيمان. انه من الحيوي اليوم اعادة اكتشاف من خلال تفسير التقاليد الحركة الأخروية واعادة اكتشاف الدور الأساسي للدين من خلال الأنثربولوجيا الثقافية في تشييد واقامة وانشاء وتأسيس instauration الهوية. من هذا المنطلق الأخروية ليست ظاهرة متأخرة عن الديانة التوحيدية حسب ريكور ولكن فضائل الانشقاق والتصدع عنها يمكن أن يعاصر تجربة الإنشاء وتيولوجيا التأسيس. لقد أكد لاهوت الأمل على الدلالة الأخروية للرسالة وبذل الجهد للتفكير في القيامة في حد ذاتها من حيث هي وعد أكثر من أن تكون اكتمال وانجاز لمهمة. على هذا الأساس يميز ريكور بين شكل كهنوتي من الدين تمظهر في صيغة مؤسسات رسمية متحالفة من السلطة السياسية وشكل أفقي من الدين وجود على هامش التاريخ ولم يشهد في طقوسه وتصوراته نزاعات مضادة للثقافة. علاوة على ذلك يتفطن إلى خطورة بعض الأشكال من اليوتوبيا التي جاءت من الماضي عن التذكر الخالص ومثلت الإطار المخيالي الذي تشكلت فيه اليوتوبيا الحديثة والتي أوقعت النزعة الأخروية في الهذيان وبحر من الأوهام. اللافت للنظر أن الإيمان يمكن أن يسوغ اليوتوبيا بمواجهة أشكال الخداع. بناء على ذلك يوجد بعدان من الإيمان Foi: الأول يتجذر enracine على طريقة الدين والثاني يجتث déracine على طريقة النزعة الأخروية. وحدها مثل هذه القراءة المزدوجة تسمح بانتصار على سببية القدر الذي يبدو أنه أدان الإيمان بالنظر إلى التمزق الذي يقع فيها دائما بين الإيديولوجيا واليوتوبيا. لكن ما تبعات علمنة المقدس على إحراز الإنسان لمطلب الحرية؟
3- أنماط الخطاب في فلسفة الدين حول الحرية:
" يوجد جذر الوحي بالقرب من نقطة حيث ينبع الانتظار من الذاكرة"24
إذا كان الدين يقترح الأجوبة أشد قوة وأكثر خطورة حول معنى الحياة فإن فلسفة الدين تحاول أن تفكر في الدين وتسعى إلى توضيح غموض القداسة وفك الألغاز التي يحتمي بها الإيمان وتفسير الأسرار الغيبية. أذا كانت الأجوبة التي يوفرها الدين حول معنى الحياة هي أجوبة روحانية ومفارقة للطبيعية فإن فلسفة الدين تقدم أجوبة دنيوية ومحايثة وتسعى إلى تنمية الوضع البشري وتأخذ بعين الاعتبار تحقيق السعادة والحرية وذلك بمواجهة الظلم والتقليل من الألم والدفاع عن الكرامة والتعامل مع الحياة كغاية في ذاتها. في الواقع يطرح تقاطع المعرفة والإيمان ضمن محاولة ريكور بناء هرمينوطيقا العلمنة مسألة الخروج من سلطة المقدس وواجب طاعة الفرد للجماعة الدينية والتمتع باستحقاق الحرية وبالتالي التخلص من كل تبعية. إن الإشكال يطرح حينما يتم الكشف عن التناقض الذي يوتر الصلة بين الحب والحرية في التجربة الدينية، فالحرية تقتضي الاستقلال على سلطة المقدس ضمن علاقة أفقية ، بينما الحب يجعل من الطاعة أمرا مقبولا وفضيلة أخلاقية ، ويؤدي هذا التناقض إلى التضحية بالحب من أجل الحرية أو العكس.
إذا عدنا إلى بول ريكور في مقاله المنشور في الموسوعة الكونية عن الحرية25 فإننا نجده يفرد مسألة الحرية ثلاثة أنماط من الخطاب التحليلي. يصف في البداية الفعل الحر من زاوية كلام الفاعل ويدرس القصد من زاوية مراوحته بين الباعث والغاية وبين القرار والمشروع ويتطرق في النهاية إلى الفاعل المسؤول. بعد ذلك يبحث عن دلالة الحرية في الحقل السياقي ويتساءل عن مسألة الاختيار وفضيلة التروي والمداولة والتعقل التي تمزج بين السياسة والإيتيقا عند أرسطو ولكنه يلاحظ انفجار التأليف الكانطي بين الحرية والطبيعة ويسوغ الاستنجاد بالجدل الهيجلي. في المقام الثالث يأتي الخطاب الريكوري مفعما بالثقل الأنطولوجي المطلوب ومناديا بضرورة التمييز بين وجود الحركة وإيتيقا الفعل ومهيئا الظروف لانبثاق الذاتية وراصدا نقيضة الحرية والطبيعة واضعا فكرة الروح الهيجيلي موضع مساءلة.
تميز صفة الحر libre في اللغة العادية بعض الأفعال القصدية intentionnelles وتقف وراءها بعض البواعث motifs التي تمثل معقولية الفعلraison d’agir أكثر من السببcause الذي أوجدها وبناء على ذلك يمكن نعت الفاعل المسؤول بهذه الصفة ويمكن الحديث عن فعل حر وعن حركة اضطرارية.
هكذا تنتمي عبارة " الحرية" إلى عالم خطاب تشكله شبكة من المفاهيم المترابطة والتي تحيل إلى بعضها على غرار المشروع والباعث والقرار والفاعل المسؤول ومعقولية الفعل والإرادي والاختيار والقصدية.
لقد اقترنت الحرية في هذا النطاق بالقدرة التي يمتلكها المرء على فعل شيء معين والامتناع عن القيام به.
في مستوى ثان على الصعيد الفكري الأخلاقي والسياسي ، لم تعد الحرية مجرد خاصية تميز الأفعال عن غيرها وإنما أصبحت مهمة ومطلبا وقيمة تتحرك ضمن دائرة ما يجب أن يكون وما ليس موجودا بعد وترسم الطريق الذي يسير فيه المرء بغية التحرر، تبعا لذلك إن التفكير في الحرية صار مقترنا بالخوض في توفير الشروط الضرورية لتحقيقها في الحياة الإنسانية والتاريخ والمؤسسات بشكل فعلي وملموس.
لا تطرح مسألة قيمة الحرية ضمن الدائرة الوصفية للأفعال الحرة بل تندرج ضمن شبكة موازية من المفاهيم تتكون من عبارات المعيار والقانون والمؤسسة والسلطة السياسية والحق ولذلك اقتضى السياق التطرق إليها في صيغة الجمع والكثرة وليس في صيغة المفرد والوحدة وبالتالي ظهرت الحريات والمدنية الأساسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وتم التفريق بين الحريات العامة والحريات الخاصة. على هذا النحو لا يحوز المرء على الحرية إلا بالاعتراف بها من الآخرين وترسيخها عن طريق المؤسسات.
من ناحية ثالثة يثير الخطاب حول الحرية ضمن إطار الفلسفة الأساسية السؤال التالي: كيف تتشكل الواقعة في مجموعها لكي تسمح للحرية بأن تنمو بين أحضانها؟ أو ماهو الواقع الذي يكون فيه الإنسان كائنا حرا؟ وبعبارة أخرى أي حقيقة واقعية تتيح للمشروع الأخلاقي والسياسي للتحرر بأن يمتلك منزلة أنطولوجية؟
ما يمكن معالجته في الإطار الأنطولوجي هو قضية وجود الحرية ضمن شبكة من المفاهيم تتكون من السببية والضرورة والحتمية والجواز والإمكانية وأحوال الوجود. ويتيح ذلك تنزيل الحرية ضمن أنماط الوجود وتطور صعودا من دائرة اللغة العادية والحقل السياسي الأخلاقي إلى امتلاكها البعد الفلسفي.
خاتمة
" الدين هو التعبير عن هذا البعد الرمزي للواقع من حيث هو حياة: الواقع هو أكثر من الأمر الذي يمنح للادراك، انه يمتلك معنى معين"26
صفوة القول أن فلسفة الدين التي ظهرت في الحقبة المعاصرة هي رد فعل على النزعة الاسمية التي طغت على تصورات العالم ومحاولة للاعتراض على الدعوى التي تعتبر كل من العلم والفلسفة والتقنية والفن بدائل نجحت في تجاوز الدين ومن تنصيب معقولياتها في المكان الذي كان يحتله بالنسبة للروح الإنسانية.
لقد قدمت فلسفة الدين على أنها القادرة على إيجاد الجواب الشافي للسؤال المحير لماذا يحيا المرء؟ وذلك حينما تأملت معنى الدين وحاولت اختراق سره وتحديد المنزلة التي تمنح للإيمان في الوجود البشري. كما تسعى فلسفة الدين إلى فهم القوة التي يمتلكها المعتقد وتأثيراته السياسية والاجتماعية ونقد اللاّمعقول منها.
لقد شكل الاعتقاد في أداء الطقوس ماهية الدين ولقد حافظت البشرية على عادة الالتزام بهذه الشعائر في زمن العلم ولقد تلازم التناول الماهوي للظاهرة الدينية مع المقاربة الوظيفية وتكامل الطقس مع الاعتقاد.
إذا أراد المرء بلورة علمنة قريبة من الصحة فإنه مطالب بانجاز مهام ثلاث تتمثل في إعادة بناء حركة تأويلية كونية للماضي الديني بالانطلاق من الحاضر المعلمن، ثم القيام بامتحان صارم للصلة الوثيقة التي تربط بشكل متين بين الدين والحضارة، وأخيرا معرفة معنى وقيمة القطيعة التاريخية والايديولوجية27 .
من المفيد التذكير بأن العلمنة لا تعني تدنيس المقدس بل تنزيله في الدنيوي ولا تؤدي الى انكار الدين بل تجعل من الديني المنبع الذي يصدر عنه كل فعل تقديسي ولا تشكك في الاعتقاد بل تضع الإيمان على محك التجربة وتهيء الظروف بغية تحقيق حضور البعد الديني في العالم المعلمن بصورة فعلية وقوية.
اذا كانت مآسي العلمنة هي حرمان الأديان من المشاركة المفيدة في وضع الدساتير وسن القوانين احتراما لمبدأ الاستقلالية الذاتية للفرد وقدرته على التشريع الذاتي باستعمال عمومي للعقل بصورة حرة فإن اهمالها للقوانين الالهية وخصوصية الرحمة والايمان يدفع بها إلى الاستنجاد بوعود الأنسنة والتحرير.
لقد تحرك ريكور ضمن الأرضية الأنطولوجية التي دشنها سبينوزا بنقد الكتاب المقدس وقام كانط باضافة التصور الأخلاقي لهذا النقد وعقب عليها كل من شلايرماخر بحدس لللانهائي وهيجل بترميز اللاّهوت، دون أن يتغافل عن التجارب النقدية التي سلطت على ظاهرة التدين وإمكانية المقدس التي فتحها هيدجر.
لقد أقر ريكور بأن الجانب الديني هو الذي يمنح المعنى للحياة البشرية حينما يتم ترجمتها بواسطة الرموز والسرديات وبأن الإنسان يعيش تجربة المعنى ومن ثمة يحيا تجربة القداسة من خلال وجوده في العالم. كما " يقرأ الإنسان المقدس على العالم وعلى بعض العناصر وبعض الأوجه من العالم وعلى السماء وعلى الشمس والقمر وعلى المياه والنبات...و بداية تكون الشمس والقمر والمياه، أي الوقائع الكونية، رموزا"28 . لقد مر ريكور بجانب المباحث الكلاسيكية لفلسفة الدين مثل الذات والصفات التي تتعلق بالألوهية وبراهين وجود الله من عدمه ومسألة إمكانية التحقق والبعث واهتم بنظرية العدل الإلهي التي أثارها لايبنتز ومشكلة الشر وحاول معالجتها من خلال دراسة علاقة الوحي بالإيمان واعتماد مفهوم الإيمان كاهتمام مطلق والرؤية من دون المرور بمنطق الحمل والقضايا في رمزية العبارة الدينية عند بول تيليش وأبدى إعجابه بمجازفة الاعتقاد التأسيسي وقام بتأويل إزالة الأسطرة في علاقة بالبدايات والأحداث التأسيسية للديانات. أما الحل العلماني الممكن الذي اقترحه فإنه يضمن إطار فلسفي للتعددية الدينية يتقصى أسباب اختلاف الأديان والتعارض فيما بينها في مستوى ادعاء الحقيقة ويقوم بنقد مفهوم الدين الحق ويشرع للمضيافية التي تسمح بتواجد ديانات عديدة جنبا إلى جنب تدعي جمعيها أنها صحيحة دون الإخلال بقيمة الإيمان. لقد بحث بول ريكور عن إعادة تأسيس الذاتية من خلال تقاطع المعرفة والإيمان وبناء جسور التقاء بين الهرمينوطيقا الفلسفية والهرمينوطيقيا الدينية وحاول التقريب بين علمنة المقدس وعلمنة الدنيوي وأوجد مقاربة أنثربولوجية تتفهم الذات في مرآة الكتابات وتجهل من التجربة اللغوية وساطة للتعرف على التجربة القدسية للإيمان وأثمر ذلك العمل المنهاجي وصف الوحدة التخييلية للكتاب المقدس وإدراك الأصوات المتعددة في النص الديني والبنية الحوارية بين النداء والاستجابة وتعبيراتها المطلقة. لم تقتصر فلسفة الدين عند بول ريكور تجديل العلاقة الممكنة بين المحبة بالمعنى الديني والعاطفي والعدالة بالمعنى القضائي والسياسي وإنما أولت عناية خاصة بتشكل الذات المنتدبة وتحولها إلى الصورة الإيمانية ودرست بصورة معمقة مسألة النداء وفرقت بين النداء النبوئي وشهادة الضمير وصورة المعلم الباطني. في هذا الصدد يري ريكور بأن "الضمير هو ، قبل كل شيء، الشهادة على أنه باستطاعتي أن أكون أنا هو ذاته. وهذه الشهادة تكشف عن نفسها بوصفها نداء من الذات لذاتها في حدود كون إمكان وجود الذات عينها مسألة في غاية الهشاشة وقابلة للانتقاد وتائهة عادة في المجهول."29 لكن كيف يمثل الذنب لمكانية ظهور الضمير السيئ ؟ وألا يتجذر الضمير السيئ في القدرة على الأزمة ويجعل الكائن في وضعية دائن؟ وما الذي يجوز للانسان أن يأمل حسب السؤال الثالث الشهير الذي طرحه عكمونيال كانط؟
في نهاية المطاف يعلن عمونيال ليفيناس بأن " العلمنة بواسطة الفقر هي سؤال حول الله والى الله، الا أنها تكون من هنا أقل بكثير واكبر بكثير من تجربة معينة. أليس عدم حصولها على جواب يجعل منها صورة ملغزة أي ملتبسة عن السؤال في حد ذاته؟30"
الإحالات والهوامش:
[1] Grondin (Jean), la philosophie de la religion, édition PUF, Paris, 2009,pp28-29.
[2] Paul Ricœur, l’herméneutique de la sécularisation, Foi, Idéologie, Utopie, in actes du colloque : herméneutique de la sécularisation, op.cit, pp.49-68.
[3] ريكور (بول)، الحب والعدالة، ترجمة حسن الطالب، دار الكتاب الجديد المتحدة، ليبيا، طبعة أولى، 2013، ص60.
[4] أنظر سعيد (جلال الدين) ، معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، دار الجنوب للنشر، تونس، طبعة أولى، 1998. صص71-72
[5] أنظر سعيد (جلال الدين) ، معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، مرجع مذكور، ص433-434.
[6] أوتو ( رودولف)، فكرة القدسي، دار المعارف الحكمية، بيروت، طبعة أولى، 2010، ص34.
[7] هوبز (توماس)، الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة ديانا حبيب حرب/ بشرى صعب، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 2011. القسم الأول، في الإنسان، ص127.
[8] هيك (جون)، فلسفة الدين، ترجمة طارق عسيلي، دار المعارف الحكمية، بيروت، طبعة أولى، 2010، ص40.
[9] Paul Ricœur et André LaCocque, Penser la bible, op.cit.p347.
[10] Emmanuel Kant, Critique de la raison pure, la deuxième édition, édition Gallimard, La Pléiade, Paris, 1980.p748. « aufheben »,
[11] Peter Kemp, sagesse pratique de Pau Ricœur, Huit études, éditions du Sandre, Une pensée du religieux en pratique, 2010. pp125-133.
[12] Daniel Frey, Paul Ricœur, Philosophe et protestant, in revue Esprit, Novembre, 2017. N°439.p62.
[13] Paul Ricœur et André LaCocque, Penser la bible, traduit par Aline Patte , Edition du seuil, 1998.
[14] Paul Ricœur, anthropologie philosophie, écrits et conférences3, édition du seuil, 2013, p415-443.
[15] Herméneutique de la confiance.
[16] Jean Grondin, L’horizon herméneutique de la pensée contemporaine, édition Vrin, Paris, 1993. Chapitre 9, L’herméneutique positive de Paul Ricœur : du temps au récit, pp179-191
[17] Castelli Enrico, l’Herméneutique de la sécularisation, in actes du colloque : herméneutique de la sécularisation, op.cit,p13
[18] Castelli Enrico, l’Herméneutique de la sécularisation, in actes du colloque : herméneutique de la sécularisation, op.cit,p14
[19] Mathieu (Vittorio), la sécularisation profane, op.cit, p18.
[20] Mathieu (Vittorio), la sécularisation profane, op.cit, p18
[21] Mathieu (Vittorio), la sécularisation profane, op.cit, p21.
[22] Paul Ricœur, l’herméneutique de la sécularisation, Foi, Idéologie, Utopie, op.cit.p60.
[23] Paul Ricœur, l’herméneutique de la sécularisation, Foi, Idéologie, Utopie, op.cit.p67.
[24] Paul Ricœur, l’herméneutique de la sécularisation, Foi, Idéologie, Utopie, in actes du colloque : herméneutique de la sécularisation, organisé par le centre international d’études humaines et par l’institut d’études philosophiques de Rome, 3-8 Janvier 1976, aux soins de Enrico Castelli, Aubier éditions Montaigne, Paris, 1976, p66.
[25] Ricoeur Paul, Liberté, in Encyclopaedia universalis, éditeur à Paris, France S .A. Corpus 14,2008, pp434-441
[26] Grondin (Jean), la philosophie de la religion, op.cit, p35.
[27] Vergote ( Antoine ), la sécularisation : de l’héliocentrisme à la culture d’ellipse, op.cit. p346
[28] Ricœur (Paul), Philosophie de la volonté, II : Finitude et culpabilité, édition Aubier, Paris, 1988, p174.
[29] ريكور (بول)، الحب والعدالة، مصدر مذكور، صص126-127.
[30] Lévinas (Emmanuel), sécularisation et faim, op.cit.pp108-109.

المصادر والمراجع:
Paul Ricœur, l’herméneutique de la sécularisation, Foi, Idéologie, Utopie, in actes du colloque : herméneutique de la sécularisation, organisé par le centre international d’études humaines et par l’institut d’études philosophiques de Rome, 3-8 Janvier 1976, aux soins de Enrico Castelli, Aubier éditions Montaigne, Paris, 1976,
Ricœur (Paul), De texte a l’action, essais d’herméneutique, II, édition seuil, Paris 1986.
Ricœur (Paul), Philosophie de la volonté, II : Finitude et culpabilité, édition Aubier, Paris, 1988,
Ricœur (Paul), Lectures 2, la contrée des philosophes, édition seuil.Paris, 1999.
Ricoeur Paul, Liberté, in Encyclopaedia universalis, éditeur à Paris, France S .A. Corpus 14,2008
Grondin (Jean), la philosophie de la religion, édition PUF, Paris, 2009,
باللسان العربي:
ريكور (بول)، نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، طبعة أولى، 2003،
ريكور (بول)، الحب والعدالة، ترجمة حسن الطالب، دار الكتاب الجديد المتحدة، ليبيا، طبعة أولى، 2013.
العبدوني ( عبد العالي)، هرمينوطيقا القرآن، دار المعارف الحكمية، بيروت، طبعة أولى،2007،
أوتو ( رودولف)، فكرة القدسي، التقصي عن العامل غير العقلاني في فكرة الإلهي وعن علاقته بالعامل العقلاني، دار المعارف الحكمية، بيروت، طبعة أولى، 2010،
دباشي (حميد) ، ما بعد الاستشراق، المعرفة والسلطة في زمن الإرهاب، ترجمة باسل عبد الله وطفه، دار المتوسط، ميلانو، ايطاليا، طبعة أولى، 2015،
هيك (جون)، فلسفة الدين، ترجمة طارق عسيلي، دار المعارف الحكمية، بيروت، طبعة أولى، 2010،
هوبز (توماس)، الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة ديانا حبيب حرب/ بشرى صعب، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 2011.
ستيس ( ولتر)، الزمان والأزل، مقال في فلسفة الدين، ترجمة زكريا ابراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، طبعة أولى، 2013،
سعيد (جلال الدين)، معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، دار الجنوب للنشر، تونس، طبعة أولى، 1998.

مداخلة قدمت في ملتقى "العقيدة والعقل" الذي نظمه مخبر الفيلاب بالمكتبة الوطنية بتونس العاصمة، يوم 26 ماي ، 2016.

كاتب فلسفي