أوغست كونت ومنشأ السوسيولوجيا الوضعية


مالك ابوعليا
2020 / 3 / 20 - 10:40     

مقالة ايلينا فلاديميروفونا أوسيبوفا*
* عالمة سوسيولوجيا ماركسية سوفييتية تخرجت من جامعة لومونوسوف في موسكو وعملت في أكاديمية العلوم السوفييتية. تخصصت في مجال السوسيولوجيا البرجوازية وتاريخها في أوروبا الغربية والولايات المتحدة وقامت بكتابة بحوث حول فلسفة التنوير البولندية.

ترجمة مالك أبوعليا

الملاحظات والشرح بعد علامة النجمة (*) هو من عمل المترجم

1- كونت وعصره
وُلد اوغست كونت مؤسس الوضعية في الفلسفة وعلم الاجتماع في مونبلييه في فرنسا عام 1798 لعائلة موظف مدني. اتسم النصف الأول من القرن التاسع عشر بأهمية كبيرة للغاية في تاريخ فرنسا.
صاحب التغير السريع للرأسمالية وتشكل بنية طبقية جديدة للمجتمع، تغيراتٍ مُتلاحقة في أشكال السلطة السياسية. كانت حكومة اللجنة أعوام 1795-1799 والحكومة القنصلية أعوام 1799-1804 وحكومة استعادة ملكية بوربون اعوام 1814-1830 وثورة 1830 الفرنسية وحكومة لويس فيليب الملكية الدستورية أعوام 1830-1848 وثورة 1848 والجمهورية الثانية بقيادة لويس بونابارت والامبراطورية الثانية، كانت هذه الأشكال السياسية للسلطة من المعالم الرئيسية في تلك الفترة.
نما الفقر وقوة مقاومة الطبقة العاملة بالتوازي مع نمو ثروة وسلطة البرجوازية. ترافق تطور العلوم والهندسة بأزمة ايديولوجيا النظام التقليدية والمساعي الفلسفية الحادة.
كان لكل ذلك تأثيراً على رؤى كونت. وطور بتخليه عن كاثوليكية ومَلَكية عائلة والده، موقفاً لاأدرياً فيما يخص الدين التقليدي. أثّر تلقيه تعليمه العلمي في مؤسسة ايكول البولتكنيكية في باريس، وتعاطفه مع الجمهوريين المعارضين لنابليون وعائلة بوربون، على تشكيل رؤاه النظرية.
كرس أعماله الصغيرة الأولى للمسائل الرياضية وتعرف على قضايا الفلسفة العلمية من خلال دراسة أعمال أهم رياضيي اواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر الفرنسيين أمثال لويس لاغرانج وغاسبارد مونج. كان لأفكار مونتيسكو وكوندورسيه، من بين مجموعة واسعة من الكُتّاب تأثيراً خاصاً عليه. حيث أثر الأول على كونت بتأكيده اعتمادية الظواهر السياسية والقانونية على قوانين الطبيعة، والثاني من خلال صياغته لقانون التطور التدريجي للبشرية ومفهومه عن التاريخ الذي يأخذ فيه تطور الأفكار الاجتماعية والمؤسسات والعلاقات مكاناً خاصاً. في حين كان كونت يهتم بالاقتصاد السياسي، فقد كان مع ذلك ناقداً لمذاهب الاقتصاديين البرجوازيين الليبراليين الذين دعوا لحرية المنافسة والتي-برأيهم ستقود الى التناغم الاجتماعي للأفراد الأحرار المُستقلين. لقد وضع في مُقابل هذه المذاهب فكرة الوحدة الاجتماعية والتلاحم السياسي للأفراد والطبقات مُستنداً في ذلك الى مفاهيم أتباع المدرسة التقليدية ومفهومهم حول النظام الاجتماعي.
عمل كونت في سنوات 1871-1824 سكرتيراً لدى سان سيمون، وكان بلا شك يقبل الكثير من أفكاره، لكن أدت الخلافات في المسائل السياسية الى افتراقهما. لم يفهم كونت ولم يقبل أفكار سان سيمون حول الصراع الطبقي بين المُستغِلين والمنتجين وتقديره لدور العمال. وفي حين تحدث سان سيمون عن مُجتمع من المُنتجين المتساوين والأحرار، فقد دعا كونت الى دولة مركزية ببُنىً هرمية. بالاضافة الى تأكيد سان سيمون على أفكار التقدم الاجتماعي، فقد أكد كونت في الجهة المقابلة على أهمية الاحصائات الاجتماعية. كان نظام فلسفته الوضعية، وعلى الرغم من احتوائها على عناصر تشبه مفاهيم سان سيمون، الا انها كانت قائمة على اسس ايديولوجية ونظرية أخرى تماماً. نشر كتابه Cours de philosophie positive (1) من ستة مجلدات في الفترة ما بين 1839-1842 طور فيه مبادئ تصنيف العلوم والفلسفة الوضعية وعلم الاجتماع.
كرس عمله الثاني Le Systeme de Politique Positive ou Traite de Sociologie (2( في أربعة أجزاء أعوام 1851-1854 لشرح أسس سياسة ودين المستقبل.
نشر خلال حياته ايضاً كتاب Traite d’astronomie populaire (1845)، Discours sur l’ensemble de positivism (1848(**، Catechisme positiviste (1852(***، Appel Aux Conservateurs (1855( ، Synthese Subjective (1856(.
تعرف كونت على العاملين في الجمعية البولتيكنيكية من خلال القاء محاضرات هناك، ونظم الجمعية الوضعية على اساس الجمهور والطلاب الذي تواصل معهم وانجذبوا اليه. كانت أهداف الجمعية تعليم الناس بروح النظرة الوضعية حول العالم. وعارض هو ومؤيديه بشدة في الوقت نفسه الاجراءات الثورية التي قامت بها البروليتاريا الباريسية. وجد نفسه معزولاً تماماً بسبب عدم حصوله على الدعم في ظروف الوضع الثوري من اي من الطرفين المتصارعين. كما لم يُتوج نداءه الى النخبة الفكرية لتأسيس حزب النظام والتقدم، بالنجاح. مات كونت عام 1857 وحيداً ومُهملاً، واعتقد البعض انه مات مخبولاً.
على الرغم من التناقض الظاهر بين الفترتين الأولى والثانية من عمله، فقد استندتا الى نفس الأفكار والمقدمات. لقد تخللت أفكار الوحدة الأخلاقية للبشرية، واعادة تنظيم المجتمع على اساس (ديانة جديدة)، والأفكار الوضعية التي كانت في نفس الوقت نظريةً للعلوم الاجتماعية كل أعماله النظرية. ان احدى المفارقات التي ميزت اراءه، اعتباره أن وظائف العلوم الاجتماعية التي سعى لانشاءها، و(الديانة) الجديدة مُتطابقين، مشيراً بذلك الى امكانية ان يكون هناك دين (علمي) او علم أخلاقي قد يؤدي وظائف التكامل الاجتماعي.

2- تصنيف العلوم
كان فصل العلوم عن الميتافيزيقيا واللاهوت هو الفكرة الأساسية لمنهج كونت الوضعي (3). ما يميز العلم الحقيقي، برأيه، هو التخلي عن المسائل التي لا يمكن تأكيدها أو دحضها، والاعتماد على الحقائق التي تُثبتها المُلاحظة. لقد نظر الى مسائل الجوهر وأسباب الأشياء على أنها (ميتافيزيقية)، وغير علمية. وكانت مهمة العلم، تبعاً له، اكتشاف القوانين التي تُفهم على انها علاقات ثابتة ومتكررة بين الظواهر. وكان سبب هذه المحدودية، السعي الى اكتساب معرفة دقيقة ومُحددة يمكنها أن توفر أساساً للتنبؤ بالمستقبل (4).
جاء كونت ليقضي على الفلسفة بالمعنى التقليدي للكلمة. ان الفلسفة برأيه، لا تمتلك موضوعاً خاصاً بها ولا منهجاً مختلفاً عن ذلك الخاص بالعلم. الفلسفة الوضعية هي نظمنة للعلوم. ومن أجل شرح الفلسفة الوضعية، كان من الضروري شرح كل منظومة العلوم، وهذا يتضمن تحليلاً لموضوعها ومناهجها وقوانينها وأوجه تشابهها واختلافها.
اعتمد كونت، عند تصنيفه للعلوم، على سماتها الموضوعية. قام، بادئ ذي بدئ، بتقسيمها الى علوم مجردة وعلوم عيانية. درست الأولى قوانين فئات معينةٍ من الظواهر، وطبقت الثانية تلك القوانين على حقول جزئية. علم الأحياء على سبيل المثال، كان العلم المُجرد العام عن الحياة، والطب هو علم عياني يُطبق قوانين علم الأحياء العامة.
ميز كونت خمسة علوم نظرية مُجردة: الفلك والفيزياء والكيمياء والأحياء والسوسيولوجيا (علم الاجتماع)، واستكمل فئات الطبيعة الرئيسية (الفلكية، الفيزيائية، الكيميائية والأحيائية) بفئة الظواهر الاجتماعية، وأعطى تصنيفه بالتالي "طابعاً شمولياً لا غنىً عنه لبنيته التامة" (5). بُني "سلّمه الموسوعي" على مبدأ التعقيد المتنامي للظواهر التي تدرسها العلوم المعنية. تميزت الظواهر الاجتماعية بقدر أكبر من التعقيد واعتمدت في الوقت نفسه على الظواهر الأخرى، وهذا ما ميز صعود علم الاجتماع.
ومع هذا، اعتبر الظواهر الاجتماعية قوانين طبيعية. ودعا كونت علم المُجتمع الوضعي بالفيزياء الاجتماعية، ومن ثم أطلق عليه لاحقاً اسم علم الاجتماع Sociology موضحاً الحاجة الى ادخال المصطلح الجديد قيد الاستعمال ليس بسبب الولع بالمصطلحات الجديدة بل بسبب الحاجة الى انشاء نظام خاص مُكرسٍ للدراسة الوضعية لقوانين ظواهر المجتمع الأساسية. وشدد على أن علم الاجتماع يجب أن يكون تخصصاً نظرياً على النقيض من نظرية أدولف كيتوليت الوصفية "الفيزياء الاجتماعية". ان تحول علم الاجتماع الى علم وضعي قد أكمل منظومة الفلسفة الوضعية، مما يُمثل بداية مرحلة وضعية في تطور العقل الانساني والمجتمع. ان ذلك يعني، برأي كونت، "ثورةً وضعيةً" حقيقية، انتصار العلم على سكولاستيكية العصر القديم.
انسجمت وجهات نظر كونت حول العلوم مع المنهجية الميتافيزيقية (اللادياليكتيكية) في التفكير التي كانت سائدة في العلوم الطبيعية في الثلث الأول من القرن التاسع عشر. لم يكن العلم الطبيعي انذاك يقدم وقائع مُقنعة حول تطور الطبيعة، ولم يُقدم سوى تخمينات ذكية منفصلةً هنا وهناك، لم يكن من الممكن بعد تحويلها الى نظرياتٍ علمية. حددت منهجية كونت الميتافيزيقية في التفكير طريقة تصنيفه للعلوم بطريقة مُجاورة منفصلةً عن بعضها البعض وليس كعلوم تنشأ عن بعضها بطريقة متشابكة. لم يكتشف كونت سوى الروابط البنيوية، وليس النشوئية بينها. استند تصنيفه للعلوم على مبدأ كونها ذات صلة وعلى مستوىً واحد Coordination وليس كونها ذات صلة بمستويات مُختلفة Subordination (6).
على الرغم من الطابع الميتافيزيقي العام لوجهات نظره حول العالم، فقد تضمنت بعض عناصر التفكير الدياليكتيكي. ففي حين أنكر امكانية معرفة الحقائق مُنفصلةً عن بعضها البعض، فقد اصر على أهمية البحث في علاقاتها، ودعا الى البحث في وظائفها في سياق الكُليات التي تكون جزءاً منها. وبالتالي كان من الضروري أن نأخذ بنية وخصائص العضوية ككل بعين الاعتبار، عند البحث في عضويات مُنفصلة، وأن نربط كل ظاهرة في الحياة الاجتماعية بكليتها التي تتضمنها، مثل العصر والحضارة والانسانية.
كان النهج التكاملي هو الافتراض المنهجي الرئيسي لكونت والذي انطلق منه لنقد السيكولوجيا والاقتصاد السياسي الذي عاصره. لقد اعتبر أنه من الممكن دراسة الكُل (العضوية، المجتمع) أكثر من دراسة الظاهرة التي تعمل كجزء من ذلك الكل. وفي حين أن المعرفة في العلوم التي تدرس الطبيعة غير الحية نسبيةً دائماً، ولم تكن كاملةً قط، فانها يمكن ان تكون كاملة في العلوم الاجتماعية وعلم الأحياء نظراً لوجود بعض الكليات القابلة للدراسة فيها. يقف مفهوم الانسانية مثالاً على هذه الكليات، الانسانية كانت دائماً وبشكل متزايد في نطاق اهتمامات ومتناول البشر، وهذا هو السبب في أنها حصلت على كمالها المنطقي وصارت مُطلقة.
لعب منهج كونت الوضعي دوراً معيناً في الكفاح ضد المنهج الروحاني. كان لتأكيده على قيمة العلم الكبيرة ومطالبته باستقلالية العلم ومعارضته للدين الرسمي والتأملات الميتافيزيقية، أهميةً تقدميةً كاحتجاج ضد المثالية والاكليركية. فسر عدد من الطبيعانيين الوضعية بروح مادية العلوم الطبيعية. وأعلن ظهور الوضعية، كاتجاه فلسفي "مُضاد للفلسفة" ناضل ليتجاوز المسألة الأساسية في الفلسفة والنضال بين الاتجاهين الرئيسيين في الفلسفة، نقول، أعلن ظهور الوضعية عن الأزمة البرجوازية الثقافية وساهمت هي نفسها (الوضعية) بتعميقها. ولكن كانت أفكار كونت وسبنسر وايبوليت تين وتلاميذهم في البرازيل والصين واليابان وبولندا وروسيا والعديد من الدول الأخرى وشروحاتها ترياقاً ضد التصوف الديني والمناهج التأملية وأساليب البحث الفضفاضة. أحياناً ما تم اساءة تفسير الوضعية التطورية بروح المادية (ايفان سيخينوف) أو وجدت نظيرها في شكل بناءات علميةٍ مُعينة (توماس هكسلي، لو دونتيك واخرين). على الرغم من أن منهجية كونت لعبت دوراً تقدمياً معيناً في وقتها، الا انها اصبحت عائقاً أكثر فأكثر على تطور العلوم، لانها استندت على تفسير غير صحيح ومحدود تاريخياً للعلوم. وكما قال مؤرخ العلم الفرنسي أدريه كريسون: "يبدو أن العلم في كل جوانبه يُظهر أن كونت قد قص أجنحته كثيراً. يمكن للعلم أن يفعل أكثر مما قال كونت" (7)

3- موضوع السوسيولوجيا ومهامها
عارض كونت التأملات اللاهوتية والميتافيزيقية بالسوسيولوجيا كعلم وضعي. من ناحية، انتقد اللاهوتيين الذين اعتبروا أن الانسان مختلف مبدأياً عن الحيوان على قاعدة أن الأول قد خلقه الله وشكلته الارادة الالهية. من ناحيةٍ أخرى، في حين انه انتقد الفلاسفة الذين سبقوه كـ(ميتافيزيقيين) أنشأوا (يوتوبيات اجتماعية)، فقد لامهم بسبب فهمهم للمجتمع على انه نتاج العقل الانساني وارادة الأفراد العقلانية. كانت السوسيولوجيا، بالنسبة له، هي العلم الوحيد الذي درس كيف ساهم تأثير الحياة الاجتماعية على تطور العقل. تطورت هذه الفكرة الى تصور كامل عن الفرد على انه تجريد، وعن المجتمع كواقع تحكمه قوانين الطبيعة. وعلى عكس الظواهر البيولوجية، كانت الظواهر الاجتماعية في حالةٍ دائمةٍ من التغير والتحول وتطورت عبر الزمن، ولذلك كان كونت ينظر الى كوندرسيت باحترام لانه نظر الى المجتمع من وجهة نظرٍ تاريخية.
وبينما ركز كونت على القوانين الطبيعية التي تحكم الظواهر الاجتماعية، فقد عارض الارادية والمبالغة بدور (الرجال العظماء) وأشار الى توافق النظام السياسي مع مستوى تطور الحضارة. وعلى الرغم من أنه لا ينكر دور العوامل الاقتصادية، الا انه اعتبر الحضارة مجتمعاً روحياً ونفسياً، ومجتمعاً من الأفكار في المقام الأول. لقد كتب، أن الأفكار حكمت وقلبت العالم واعتمدت الالية كلها في النهاية على الاراء (8). ان الفكر العلمي و(الروح العلمية) هما المحتوى الرئيسي للتطور الاجتماعي (9). لقد بُنِيَ كل تصوره عن التاريخ والمجتمع على ذلك. كانت حجج كونت حول السوسيولوجيا كعلم، وعن موضوعه وقضاياه ذات طبيعة مُجردة للغاية. حدد كونت نطاق ميدان البحوث السوسيولوجية بشكل واسع وفضفاض، فقد تضمن هذا النطاق، كل الدراسات التي لم تدخل في اختصاص العلوم الأخرى المذكورة في تصنيفه. كان الواقع الرئيسي الذي بدأ منه الدارس السوسيولوجي مأخوذاً في كماله وكليته. فهم كونت من ذلك، الوحدة العضوية للبشرية جمعاء أو لأي من أجزاءها الرئيسية ومتميزةً بانسجام عناصرها البنيوية. يعود التعقيد الاستثنائي للمجتمع الى العوامل المعاصرة التي تشتغل فيه مُتحدةً بالعوامل التاريخية، وبتأثير الأجيال السابقة على المعاصرة. المجتمع، أو الانسانية كما كان يُسميه، كان الواقع الأسمى (sui generis).
يمكن للمرء أن يرى عناصرَ غير ناضجة في نظرات كونت لما سيُطلق عليه فيما بعد نهج أنظمة الحياة الاجتماعية. ولكن كونت لم يفهم دياليكتيك عناصر وبنى المجتمع الحقيقية، وتعامل مع عناصر الحياة الاجتماعية والتطور الاجتماعي على انها بسيطة وأبدية وغير قابلة للتغير وكنتيجة لدمج مجموعات مختلفة من نفس العناصر. لقد غرقت أفكاره الأولية حول تشييء منتجات النشاط الانساني والتي كان يمكن ان تصبح موضوعاً للدراسة السوسيولوجية، في طوفان حججه العامة حول الانسانية ككائن أعلى. كانت السوسيولوجيا الكونتية فلسفة تاريخ مثالية تضمنت في ثناياها العديد من العناصر الميتافيزيقية والتأملية.

4- مناهج السوسيولوجيا
يُعد تطوير المناهج القابلة للتطبيق على دراسة المجتمع جزءاً اساسياً علم الاجتماع الكونتي. وفي حين عارض التأمل من جهة، والنزعة الامبريقية المتطرفة من جهة اخرى، فقد أكد على قابلية تطبيق طُرق الملاحظة، التجريب والمنهج المُقارن والمناهج التاريخية في السوسيولوجيا.
قال كونت أن الملاحظة Observation هي الطريقة الرئيسية للبحث في السوسيولوجيا، ولكنه لم يستطع تحديد المتطلبات التي يجب أن تلبيها الملاحظة الاجتماعية بحيث يمكن اعتبارها موثوقةً ودقيقة. ان ملاحظة الحقائق الاجتماعية يجب ان تضع السوسيولوجيا على مستوى العلم وتُضفي الموضوعية على المواد التي يعمل عليها عالم الاجتماع. ويجب تجميع المواد التجريبية تحت سيطرة النظرية، والا فلن يحقق عالم الاجتماع اي شيء سوى خليطٍ من الحقائق المعزولة العشوائية التي لا يمكنها ان تقول اي شيء في حد ذاتها. "كان واضحاً أن أي ملاحظةٍ اجتماعية، سواءاً سكونيةً أم ديناميكية، تتطلب استخداماً مستمراً للنظريات الأساسية" (10).
شكل غياب النظرية الايجابية Positive Theory التي تعتمد على ما يمكن للمرء جمعه وتعميمه، الصعوبة الرئيسية في وجه السوسيولوجيا، برأي كونت. لقد علقت في حلقةٍ مفرغة لانها كانت بحاجة الى النظرية من أجل القيام بالملاحظة، وكان عليها في نفس الوقت القيام بالملاحظة من أجل انشاء النظرية.
لاحظ كونت، من بين الصعوبات الأقل أهميةً المرتبطة بطريقة الملاحظة، تعقيد التدريب العلمي اللازم المطلوب اعطاءه للباحث من أجل تحريره من عقبات التحيزات غير العلمية والاراء الشائعة وما الى ذلك. لقد اعتبر أن النظرية العلمية، تلك التي تُسقط التأمل وتزود الباحث بالمفاهيم اللازمة.
لاحظ كونت الأهمية الكبيرة ليس للملاحظة المباشرة وحسب، بل وللأدلة غير المباشرة ايضاً. يمكن لدراسة النُصُب التاريخية والثقافية والعادات والطقوس، ومقارنة اللغات على سبيل المثال، من أن توفر وسائل مفيدةً باستمرار للبحث الوضعي (11).
اعتبر كونت التجربة Experiment المنهج الثاني في الأهمية بالنسبة للسوسيولوجيا. تتألف التجربة المباشرة في علم الاجتماع من ملاحظة التغيرات في الظاهرة تحت تأثير ظروف الدراسة خصوصاً تلك المُعدةُ خصيصاً لهذا الغرض. لقد فهم التجربة غير المباشرة، او الوسيطة، كبحث عن الانحرافات الاجتماعية المرضية والتي تنشأ من خلال الاضطرابات الاجتماعية، وخاصةً ذات الطابع الثوري. تُماثل الاضطرابات الاجتماعية التي تهز العضوية الاجتماعية، في رأيه، أمراض عضوية الفرد. انها تكشف القوانين الأساسية للكائن الاجتماعي بوضوح، حيث يقوم المرض بتمكيننا من تمييز الحالة الطبيعية بشكل أفضل.
المنهج الثالث للعلوم الوضعية المُطبق في السوسيولوجيا هو المنهج المُقارِن، والذي نستطيع من خلاله مقارنة حياة الشعوب التي تعيش في نفس الوقت في أجزاء مختلفة من العالم من أجل وضع قوانين عامةً حول وجود وتطور المجتمعات. برأي كونت، يمكن لمقارنة المجتمعات الانسانية بالمجتمعات الحيوانية لاظهار تشابهاتها واختلافاتها أن يكون مُفيدةً لعلم الاجتماع. وأخيراً، يمكن للمرء أن يُقارن الوضع الاجتماعي للطبقات المتنوعة في نفس المجتمع، ولكن يُصبح غامضاً الاستنتاج حول مدى تأثرها بالمراحل الرئيسية من تطور الحضارة، غامضاً بسبب تأثير الروح العامة للعصر والتي تُهدئ الاختلافات والخلافات. ان ضعف المنهج المُقارِن، من وجهة نظر كونت، انه لا يُظهر تسلسل الحالة الاجتماعية، بل يُظهرها على انها متجاورة، وقد يخلق هذا فكرةً غير صحيحةً عن مراحل التطور. لذلك لا يمكن استخدام المنهج المُقارِن بنجاح الا اذا كانت تحكمه نظرية محددة لتطور البشرية.
ان أكثر منهجية اعتبرها كونت متوافقةً مع طبيعة الظواهر الاجتماعية هي المنهجية التاريخية، أي طريقة المقارنات التاريخية لحالات انسانية متنوعة ومتعاقبة (12). لا يمكن للعالم أن أن يلاحظ تطور بعض النزعات أو السمات الفكرية، الأخلاقية أو السياسية وما يقابلها من اضعاف لاتجاهها المعاكس، الا بمقارنة سلسلة من الظواهر الاجتماعية مأخوذةً بتعاقبها، ويمكن على هذا الأساس توقع النتيجة النهائية علمياً، شريطةَ أن تكون مطابقةً تماماً لنظام القوانين العامة لتطور الانسانية (13).
عبّر المنهج التاريخي، أفضل ما يمكن عن مثل هذه الخصوصية التي تميز السوسيولوجيا، مثل ضرورة التحرك البحثي المعتاد من التأثيرات العامة الى الأجزاء (14). ووفقاً لكونت، لم يكن هناك فرق بين التاريخ وعلم الاجتماع، والذي كان يُطلق عليه علم السياسة، في بعض الأحيان (15). اعتبر كونت غلَبة وجهة النظر التاريخية كعلامةٍ على العصر وفي ان واحد المبدأ الأساسي والنتيجة العامة للوضعية (16).
تعود مناقشة مناهج السوسيولوجيا الى أكثر أقسام منظومة كونت السوسيولوجية عقلانيةً. لقد انطلق من الاطروحة حول وجود القوانين الطبيعية في الحياة الاجتماعية، والتي كان من شأن اكتشافها أن يجعل من الممكن خلق علم الاجتماع. علاوةً على ذلك، لم ينكر كونت تفرّد المجتمع مقارنةً بالطبيعة، وبحث عن مناهج محددة للبحث فيه. كانت ثمار فكرة الخاصية الطبيعية-التاريخية للأنماط الاجتماعية واضحةً تماماً عندما يتذكر المرء أن المفاهيم اللاهوتية والروحية التي أنكرت امكانية المعرفة العلمية للمجتمع كانت سائدةً في ذلك الوقت. كان من المهم ايضاً طرح مسألة الحاجة الى الاعتماد على اساس نظري قوي لاجراء البحوث الاجتماعية. كان من سوء حظ كونت أنه لم يستطع أن يقترح اي شيء على هذا الأساس باستثناء نظرياته حول السكونيات والديناميكيات الاجتماعية، والتي كان لقوانينها طابعاً تأملياً وتجريدياً توافقت قطعاً مع منطلقاته الأولية.

5- نظرية السكون الاجتماعي
قسم كونت السوسيولوجيا الى قسمين رئيسيين: السكون الاجتماعي والديناميكيات الاجتماعية. درس الأول ظروف وجود وقوانين عمل النظام الاجتماعي، ودرس الثاني قوانين تطور وتغير الأنظمة الاجتماعية. كانت نظرية السكون الاجتماعي نظريةً حول النظام الاجتماعي، مؤسساته وتناغمه. اعتبر كونت المجتمع ككلٍ عضوي ترتبط جميع اجزاءه ولا يمكن فهمه الا من خلال وحدتها. كان هذا المفهوم موجهاً بشكل مباشر ضد النظريات ذات النزعة الفردية والمحاولات لاعتبار المجتمع كنتاج لعقد بين الأفراد. بالنسبة الى كونت، ارتبط استكشاف المبادئ التي تحدد بنية المجتمع وتضمن تناغمه وانتظامه، بشكل لا لبس فيه، بالسياسة الاجتماعية التي يمكن أن تحقق المبادئ على الأرض. لقد تعامل مع المؤسسات الاجتماعية الرئيسية (العائلة، الدولة والدين) انطلاقاً من وظائفها الاجتماعية ودورها في التكامل الاجتماعي. وبالتالي تلوّن منطقه بطابع محافظ ورسم المستقبل في شكل ماضٍ رومانسيٍ مؤمثل Idealised.
عرّف كونت العلاقات العائلية بانها اتحاد أخلاقي وعاطفي قائم على التعاطف المتبادل. يكمن دور العائلة بالتوسط Mediate بين دور الفرد وأقاربه، وتربية الجيل الشاب بروح الايثار وتعليمه التغلب على الأنانية الفطرية. ان أهمية العائلة تكمن في أنها مصدر عفوي للتعليم الأخلاقي وبأنها الأساس الطبيعي لتنظيمنا السياسي. في جانبها الأول، أعدت العائلة المجتمع للمستقبل، ووسعت العائلة الجديدة المجتمع الحاضر، في جانبها الثاني (17).
لم ينكر كونت التنوع التاريخي للأسرة عند بحثه في علاقاتها الرئيسية، أي العلاقات بين الجنسين وبين الأجيال. لكنه جادل بشكل أساسي حول الأسرة البرجوازية المعاصرة، مؤمثلاً اياها، ولم يربط تحليلها بمسائل الملكية، الميراث والمال وما الى ذلك. لقد عبر عن نفسه بروح بطرياركية حادة، ضد مساواة المرأة وشدد في كل مكان على الحاجة لتعزيز سلطة وقوة الذكر- الأب والزوج. كانت النساء، برأيه، أدنى من الرجال فكرياً وفي قوة الارادة. تَحددَ دور المرأة الاجتماعي من خلال صفاتها العاطفية والأخلاقية وقدرتها على توحيد الناس وتربيتهم أخلاقياً. كانت مهمة النساء ممارسة تأثير كبير على طبيعة الذكور الفظّة، وايقاظ المشاعر الاجتماعية عندهم على اساس التضامن. لذا جاءت النظرية الاجتماعية الوضعية حول العائلة الانسانية لتُنظم التأثير الانثوي العاطفي العفوي على النشاط الذكوري (18). يُعد دور المرأة في تنشئة الجيل الصاعد عادلاً وعظيماً. ان العائلة هي الوصي والناقل لتقاليد وخبرات الأجيال السابقة. يتم جتمعة الفرد واكسابه الصفات اللازمة لخدمة البشرية بنجاح والعيش معهم والتخلص من النزعة الفردية الطبيعية في اطار العائلة وتحافظ في نفس الوقت على توازن العلاقات الطيبة بين الأجيال وبين التقاليد والابتكار الذي يحمل رسالته الشباب وكبار السن.
كان التعاون المبني على تقسيم العمل نظيراً للعلاقات العائلية على المستوى الاجتماعي الأوسع. قام كلٌ منهم بما يهتم، واهتموا ببعضهم البعض، ولذلك برز الاجماع العالمي ونشأ التفاعل العفوي بين الأفراد. دفع كونت العلاقات الاقتصادية الى الخلفية بتشديده على الأهمية العاطفية والروابط الأخلاقية وبتفعيله عنصر الاجماع، بالرغم من أنه لم ينكر أهمية العلاقات الاقتصادية. اعتبر كونت مبدأ دعه يعمل Laissez-Faire سخيفاً لانه كان يشجع على ابراز اسوأ جوانب الطبيعة الانسانية الأنانية. لا يمكن للانسجام الاجتماعي أن يتحقق حيث تسود المنافسة والاستغلال (19).
رأى كونت ايضاً الجوانب السلبية لتقسيم العمل. لقد عزز تطور قدرات بعض الكفاءات وخمد كفاءات عامةٍ أخرى، ضيّق التخصص افق الفرد، ووحدت المشاعر الاجتماعية الأشخاص من نفس المهنة فقط خالقةً عداءاً للمهن والحرف الأخرى، الخ (20). يمكن أن يؤدي تقسيم العمل الى تقسيم المجتمع الى مؤسساتٍ منفصلة مؤديةً الى الاخلال بوحدته وتوليد المنافسة واثارة الغرائز الأساسية.
استنتج كونت من خلال قوله بأن هناك ميلاً نحو انحلال المجتمع والاخلال بوحدته، الحاجة الى سلطة سياسية كمعبر عن "الروح العامة". ان الغرض الاجتماعي للحكومة، حسب قوله، هو منع هذا الميل القاتل لتبديد الأفكار والمشاعر والمصالح قدر الامكان، والتي هي نتيجة حتمية لمبدأ التطور البشري، والتي اذا ما تابعت مسارها الطبيعي بهذا الشكل فستنتهي حتماً بايقاف التقدم الاجتماعي بكل نواحيه الهامة (21).وهكذا، تكون الدولة ذاتاً للتضامن الاجتماعي ويشكل الخضوع لها واجباً مقدساً على الفرد. تؤدي الدولة، كراعٍ للنظام الاجتماعي وظائف اقتصادية وسياسية واعتبر كونت أن الوظيفة الأخلاقية هي الوظيفة الأساسية لها. قدّر كونت تقديراً عالياً العصور الوسطى وتقسيم السلطة الذي كان موجوداً بين الدولة والكنيسة عندما أراد أن يُظهر ضرورة تقسيم القوة الأخلاقية والسياسية من أجل منع الارهاب الفكري والأخلاقي الذي قد يقود الى اعاقة تطور الفكر ويخضعه للمصالح العملية للحكام. عندما اشاد كونت بكل قيم الدكتاتورية التي مارستها الكنيسة القروسطية، رأى ما يشبهها في الوضعية كمجموعة من الأفكار والمبادئ والمفاهيم يكملها نوع من العبادة- سلسلة من الطقوس المدنية التي تهدف الى استبدال الطقوس الكنسية التقليدية القديمة.
ان العمل على حل قضايا الحياة الروحية وشعار "عش من أجل الاخرين" وأخلاقية المسؤوليات لم يجتذب الكثير من المؤيدين. لم يستطع كونت أن يطرح بشكل صحيح، او أن يقرر أهم القضايا الاجتماعية الرئيسية.لقد استهان بشكل مثالي بدور العلاقات الاقتصادية، وبالغ بأهمية دور العوامل الروحية. اعتبر كونت تقسيم العمل ليس كمؤسسة اقتصادية، بل كنوع من العلاقات الأخلاقية والسيكولوجية دون ربطه بمستوىً معين من تطور القوى المنتجة، علاوةً على طابع علاقات الانتاج. لقد تعامل مع تشكيلات المجموعات الاجتماعية وخاصةً المجموعات المهنية منها بشكل تجريدي دون استنباطها من علاقات الملكية. ومن هذا المنطلق منطقياً نبع تبريره واعترافه بضرورة بقاء البناء الاجتماعي القائم.

6- الديناميكيات الاجتماعية
قال كونت بأن دراسة ديناميات الحياة الجماعية الانسانية تُشكل بالضرورة أهم مكونات النظرية الوضعية حول التقدم الاجتماعي (22). أنشأ كونت، من خلال تجريد نفسه بشكل واعٍ عن تنوعات اشكال التطور التاريخي العيانية، مُخططاً مبنياً على أمثلة مأخوذةٍ من تاريخ أكثر الدول الأوروبية "تحضراً". كان التقدم يعني بالنسبة له التطور على شكل خط صاعد، على الرغم من أنه شدد في سياق محاولته لتحرير مفهوم التقدم من شوائب "القيم الميتافيزيقية"، شدد على انه كان (مفهوم التقدم-م. أ) يتضمن تطوراً بسيطاً بدون أن يكون كاملاً تماماً. لقد كتب أن العلم لم يستطع الاجابة عما اذا كان التقدم الاجتماعي تقدماً أخلاقياً ايضاً، على الرغم من ان كونت نفسه كان مقتنعاً بذلك.
قسم كونت دور العوامل المتنوعة التي تؤثر على التطور الاجتماعي لدن فرزها الى عوامل أساسية وثانوية. كان العامل الأساسي والحاسم التطور الروحي والذهني. واعتبر المناخ والعِرق والعمر ومتوسط حياة الناس ونمو السكان والتي اشترطت تقسيم العمل وحفزت تطور الخصائص الفكرية والأخلاقية للانسان كعوامل ثانوية، والتي كان يمكنها ان تُسرع او تُعيق تقدم المجتمع الذي يحدث بطريقةٍ مُنتظمة ولا تتغير.
وعند تقسيمه أنواع التقدم الى مادي (تطور شروط الحياة الخارجية)، الفيزيقي (استكمال الطبيعة البشرية)، الفكري (تطور الفكر والانتقال من النظرة الدينية للعالم الى النظرة الوضعية)، والأخلاقي (تطور الجماعية والمشاعر الأخلاقية)، أكد عندها على النوعين الأخيرين. كتب كونت بأن العضوية الاجتماعية كانت مبنيةً على جمعٍ من وجهات النظر "الاراء" والتي أثرت على جوانب الحياة الاجتماعية في الوقت الذي كانت تتغير فيه بشكل تدريجي. ولما كان الأمر كذلك، كان ينبغي ان تستند الديناميكيات الاجتماعية على تاريخ الروح البشرية.
تُعتبر أعم المفاهيم المجردة، بالنسبة له، كأهم المؤشرات على تطور العقل، وبالتالي يمكن الحكم على درجة تطور المجتمع من خلال النظم الفلسفية التي تصاحبه. ولكل مرحلة في تطور العقل الانساني والتي تعاقبت بانتظام في المراحل الرئيسية الثلاثة (اللاهوتية والميتافيزيقية والوضعية) كانت هناك اشكال متوافقة لها، مُحددة من الفن، الاقتصاد، علم السياسة والتنظيم الاجتماعي. ان قانون المراحل الثلاثة هو حجر الزاوية المنطقي والتاريخي لنظرية الديناميكيات الاجتماعية الكونتي، وتُقابل هذه المراحل الثلاث في تطور العقل الانساني ثلاثة مراحل مماثلة في التطور التاريخي. قام كونت بتقسيم المرحلة اللاهوتية التي تضمنت العصور القديمة والوسطى حتى عام (1300) الى ثلاثة فترات: الفيتيشية، الشركية Polytheism والتوحيدية. عزا الناس الحياة الى الأشياء الخارجية واعتبروها الهةً بالنسبة لهم في الفترة الفيتيشية. خلال الفترة الشركية التي كانت مُنتشرةً في اليونان وروما قامت "الكائنات الخيالية" بتفسير كل الظواهر، ويهبها الناس بالحياة. في هذه الفترة أُنشئت "نظرة شعرية للعالم" شجعت تطور الابداع الفني ولكنها لم تكن قادرةً على توجيه الممارسة، وكان هذا برأيه سبب ضعف تطور الثقافة المادية في العصور القديمة.
ان عصر المسيحية هو عصر الفترة التوحيدية. غيّر دين الاله الواحد صورة العالم والعلاقات السياسية والاجتماعية والأخلاق والعادات. وصف كونت باسهاب الانسجام المزعوم غير المُعتاد بين الدولة القروسطية والدين واعتبر المذهب الكاثوليكي رائد ذلك "الابداع المميز للعبقرية السياسية الانسانية" (23). يجب البحث عن نموذج لبعض المؤسسات الاجتماعية القروسطية على وجه التحديد.
بدت المرحلة الميتافيزيقية في الفترة من 1300 الى 1800 بالنسبة الى كونت كفترةٍ انتقالية ميزها الاخلال بالمعتقدات القديمة واسس النظام الاجتماعي. وكان الاصلاح وفلسفة التنوير والثورات ("الانتصار السياسي للميتافيزيقيين والحقوقيين (24)") أهم أحداث هذه المرحلة. قاد النقد الفلسفي السلبي الى تراجع كل سلطة، وقوة الطبقات الحاكمة والدين. ولكن لم تخلق الثورة (برأي كونت) مذهباً يمكنه ان يوحد العقول، بالرغم من أنها حررت الفرد. اعتبر كونت أن مفاهيم الثوريين الفرنسيين كانت مبنيةً على الجهل بالتاريخ وقوانينه. وكان الكفاح من أجل التغيير الثوري يعني مخالفةً لقوانين التاريخ وتعطيل مساره المُعتاد واغراق المجتمع في حالةٍ مرضية، وما الى ذلك. سمحت "الروح الميتافيزيقية" التي وُلدت في تلك المرحلة بنشوء الشكوك الفلسفية والاضطراب الأخلاقي والعصيان السياسي. كان المجتمع المعاصر الغارق في الفوضى يعاني من الحاجة الى ايديولوجيةٍ جديدةٍ لتحل محل المذاهب الخيالية والوهمية وتؤدي دوراً اجتماعياً تكاملياً.
ان انتشار العلوم ونمو اهميتها الاجتماعية ونشوء النظرية الوضعية تدريجياً كان دليلاً على أن المجتمع يدخل مرحلته الوضعية الأخيرة. بدأ النظام الصناعي يحل محل النظام العسكري الذي ميز العصر اللاهوتي. ان استخدام الاكتشافات العلمية لصالح الانسانية جمعاء يضمنُ تطوراً مُتجانساً ومتساوياً لكل عناصر الحياة. يمثل انتصار الغيرية على الأنانية ونمو المشاعر الاجتماعية وتطور الثقافة المادية بسرعة والتي ضمنت حياةً سارة وسهلة للجمعي وسلاماً وعدلاً، سمات تميز المرحلة الوضعية.
بالمقارنة مع بعض الأعمال التاريخية والفلسفية والسوسيولوجية المعاصرة والسابقة له، لم تكن نظرية كونت في الديناميكيات الاجتماعية تخلو من أفضلياتٍ مُعينة. حاول أن يُبرز نمط التطور الاجتماعي والذي لم يلاحظه المؤرخين ذوي النزعة الارادية. عارض نظريات القوانين الطبيعية والعقد الاجتماعي بمقاربته التاريخية، وعارض كذلك، الليبرالية الاجتماعية بنظرته للمجتمع ككل واحد. كان منهجه التاريخي-التطوري حول الدين مُثمراً ايضاً، لقد ربط تطور الدين بمجموعٍ واسعةٍ من العلاقات الاجتماعية-السياسية، بالرغم من أنه استنتج وحدة المجتمع والرابط بين أشكال معينة من الدين بالمؤسسات الاجتماعية-السياسية من الأفكار بدلاً من البنية الاقتصادية.
ولكن نظراً لكونه قد استند بديناميكياته الاجتماعية على قانون المراحل الثلاثة، فقد امتنع عن تحليل تنوع الأشكال العيانية لتطور الأمم التاريخي، وأورد كتوضيحات لمخططه الذي أنشأه، فقط تلك الحقائق التي تتوافق معه. لم تكن نظريته حول التطور الاجتماعي أكثر من مخطط تأملي وميتافيزيقي. لم يستطع تحديد الخصائص الحقيقية للحياة الاجتماعية أو القوى المحركة للتاريخ، ناهيك عن اتجاه التطور المستقبلي للمجتمع (25).

7- التنظيم السياسي الوضعي
أصبح الضعف الأساسي لنظرية كونت واضحاً بشكل خاص عندما انتقل من اطروحات الديناميكيات الاجتماعية العامة الى اثبات برنامجه السياسي "التنظيم السياسي الاجتماعي". علق كونت أهميةً خاصة على ذلك الجزء من عمله، على عكس الاسلوب الموضوعي الذي كان يهدف الى اكتشاف الحقيقة، ينبغي أن تكون القيم الذاتية والمصالح والمثل العليا الانسانية جوهراً للتنظيم السياسي الوضعي. وبذلك بشّر كونت بمنهجيةٍ ذاتيةٍ في السياسة. قال كونت ان أحد أعماله (The Positive Philosophy) استمد الفلسفة من العلم، اما الاخر (The System of Positive Polity) فقد تحول الى دين كاملٍ ونهائي (26). في هذا الدين الجديد، اتخذ المجتمع مكان الله، والذي يجب على الفرد فيه أن يدين اليه بكل شيء.
وتُبشر الوضعية في "دين الانسانية" بالخضوع الكامل للفرد في المجتمع، وبالحب الشامل والأخوّة. استنتج كونت الدور الاجتماعي الكبير للعلماء والفنانين من فكر ووحدة العواطف والعقل: انهم الكهنة الجدد وأوصياء العقائد الوضعية والقيّمين على العبادة الجديدة. لم تكن فكرة الكنيسة الوضعية غريبةً عليه كذلك، كان هدفها أن تكون رابطةً للديانات قاطبةً في بادئ الأمر، ومن ثم للبشر جميعاً فيما بعد. كان الهدف من فيدرالية الأمم الوضعية ومقرها في باريس ضمان سلام دائمٍ على الأرض.
لقد أولى كونت أهميةً كبيرةً للبروليتاريا في مناقشته لهذا البرنامج الغامض. "يمكن أن يصير البروليتاريون لدينا مساعدين للفلاسفة الجدد" (27). ولكن لكي يصيروا ما أراده كونت، فقد كان عليهم أن ينفصلوا تماماً عن المذاهب الاشتراكية التي تنتهك مؤسسة المُلكية (والتي اعتبرها الوضعيون مُقدسة). عارض بحدة فكرة الشيوعية والرسالة القائلة بأن تنظيم النشاط البشري يعتمد على نمط المُلكية (28). كان من المُقرر التعامل مع المُلكية في المجتمع الوضعي كتراكم للثروة الاجتماعية، واعتبروا الناس الذين ضاعفوا مُلكياتهم كمن خَدم الانسانية. طرحَ كونت فكرةً غامضةً عن البطرياركية الصناعية المؤلفة من الصناعيين والفنيين يتم اختيار ثلاثة ديكتاتوريين أو ثُلاثي حاكم Triumvirate من بينهم لادارة شؤون الصناعة والزراعة والتمويل ويجب عليهم أن يُركزوا السلطة التنفيذية والتشريعية في ايديهم. يجب فصل السلطة الأخلاقية عن الادارة السياسية والاقتصادية وأن تكون ممارستها في أيدي الفلاسفة والفنانين.
ان "اشتراكية" كونت "المنظومية" والتي وضعها في مواجهة "الاشتراكية العفوية" العمالية كانت في الحقيقة طوباوية غامضة برجوازية صغيرة.
لعبت الحجج المطنبة حول الحب الشامل والنظام والتقدم العالميين دور الستار الدخاني لمعنى الفكرة السياسية الرجعية حول نظام المؤسسات الذي تتركز فيه السلطة الروحية بيد الفلاسفة، والامكانات المادية والحكم في ايدي الرأسماليين، بينما بقي العمل الذي يُقدم الرضا الأخلاقي والاعتراف الاجتماعي من نصيب البروليتاري. لم تكن الاصلاحات والتحولات الاجتماعية التي أعلنها كونت تهدف الى تصفية العلاقات الاجتماعية المتناحرة التي تولدها الملكية الخاصة، بل هدفت الى تغيير العلاقات بين الناس واصلاح الوعي الاخلاقي عندهم. كانت تعاليم كونت نقيضاً للماركسية، التي كانت تنتشر على نطاقٍ واسعٍ في فرنسا.

8- مكانة كونت في تاريخ علم الاجتماع
كانت أفكار كونت الفلسفية والاجتماعية والسياسية غير مؤثرة نسبياً، خلال فترة حياته. لكن كان الاهتمام بالوضعية كنظرية فلسفية ينمو منذ ستينيات القرن التاسع عشر. كانت أهميتها تكمن في رغبتها بالتوصل الى معرفةٍ وضعيةٍ صارمة على عكس البناءات التأملية الميتافيزيقية، توافقت هذه الرغبة مع احتياجات تطور العلوم. أعلن العديد من العلماء الطبيعانيين أنفسهم أنهم وضعيين. نشأ هنا تأريخاً وضعياً (باكل وتين)، نظرية الثقافة الوضعية (ارنست رينان)، علم الجريمة الوضعي (سيزاري لومبرو)، علم النفس والمنطق الوضعي، ونظرية الأدب والفن وحتى "الميتافيزيقيات" الوضعية (فاتشيروت وفوليي). كان دور كونت في تاريخ علم الاجتماع متناقضاً للغاية. بعد ان قام بتجميع العديد من افكار علم الاجتماع في عصره بشكل كامل تقريباً، قام بتوجيهها ضد المُقاربة التأملية-المجردة حول الحياة الاجتماعية وضد المفاهيم الدينية. وأثّر نداءه لبناء المعرفة الوضعية والاعتراف بقوانين الطبيعة التي تحكم التاريخ بشكل كبير على تطور العلوم الاجتماعية في عصره. ويشير مؤخي علم الاجتماع الى عقليته الابداعية (29) ومعرفته الموسوعية، حتى أن بعض المؤلفين قالوا بالتشابه بينه وبين هيغل (30). ووفقاً لأحد المفكرين الفرنسيين المعاصرين يقول بأن قراءة كونت تُعطي انطباعاً انك تقرأ أفكاراً معاصرة وأن عمله لا يزال موضوعياً. أصبحت العديد من الأفكار والمفاهيم التي طرحها كونت في الواقع أداةً للفكر الاجتماعي البرجوازي. وهي تشمل المجتمع ككل عضوي يتم تطويرها في النظريات العضوية وفي مفاهيم أتباع كونت الرئيسيين في فرنسا، اميل دوركهايم، ونظرية تالكوت بارسونز البنيوية الوظيفية (31). وتشمل الأفكار التي يطورها المفكرين المعاصرين تحديد قوانين وعمل المجتمع والبحث عن العناصر التي تحدد التطور التاريخي، التكامل الاجتماعي واستقرار النظام الاجتماعي. كان لفكرة كونت حول الطبيعة الموضوعية لعلم الاجتماع كعلم يتطور وفقاً لمبادئ العلوم الطبيعية تأثيراً كبيراً على العلوم الاجتماعية.
ولكن كان العديد من الأفكار التي طُرحت باسمه قد طرحها أسلافه، وخاصةً سان سيمون. بالاضافة الى ذلك، كان هناك خطأين جذريين في مفاهيمه السوسيولوجية كما كل السوسيولوجيا الوضعية، أي المثالية والتي تم التعبير عنها من خلال قانون المراحل الثلاثة ومحاولته لشرح التغيرات التاريخية بتأثير الأفكار، وطابعها الميتافيزيقي اللادياليكتيكي (32)، وتم التعبير عن هذا الخطأ الجذري الأخير، على وجه الخصوص في الطبيعة التأملية لنظريته عن التقدم.
تمتلئ سوسيولوجيا كونت بالتناقضات. وبينما كان يدعو الى اصلاحات مبنيةٍ على المعرفة الوضعية، كان يرفض في نفس الوقت امكانية التدخل في مجرى التاريخ. استلهم برنامجه في اعادة تنظيم المجتمع اجتماعياً وسياسياً من المُثُل الاجتماعية المحافظة. وكما قال كوزر، على نحو صحيح، فقد كان مُنقسماً بين مطلبي استقرارالنظام والتقدم (33).
في محاولة لجعل العلوم الاجتماعية "وضعيةً"، أكد كونت انه وبغض النظر عن الصعوبات التي يواجهها في دراسة موضوعه، انه، في حالة المعاجة السليمة، فقد توصل الى استنتاجات اكيدةٍ بنفس قدر استنتاجات الهندسة نفسها (34). ضمّن كونت عناصراً من التفكير الديني في العلم الاجتماعي ايضاً، داعياً الى تطبيق افتراضات وعقائد السوسيولوجيا دون تفكرٍ وتحليل وأن يتم تصديقها دون أدنى شك. أكد كونت نفسه في كثير من الأحيان أن الفلسفة الوضعية كانت مجرد تعديل للحس السليم Common Sense، وبهذا حرم العلم من أحد أهم صفاته الاساسية، الا وهي مناهضة العقائدية- الدوغما.

1- ترجم وكثّف هذا الكتاب في مُجلدين هارييت مارتينو بموافقة كونت ونشرته دار ج. تشابمان في لندن عام 1853 (الطبقعة الثالثة 1893) تحت عنوان The Positive Philosophy of Auguste Comte. نشر جورج بيل وشركاه في لندن طبعةً أخرى في ثلاثة مجلدات عام 1896.
2- ترجم ج. بريدجز هذا الكتاب أعوام 1875-1877 تحت عنوان System of Positive Polity. ونشرته دار لونغمانز وغرين، لندن.
** Discours sur l’ensemble du positivisme, Paris: Mathias re-print-ed, Paris: Garnier Freres, 1998 (introduction to 1851, published separately). Translated as: General View of Positivism, London: Trubner, 1865.
المصدر: https://plato.stanford.edu/entries/comte/
*** Catéchisme positiviste, Paris: self-published re-print-ed, Paris: Garnier Freres, 1966. Translated as: The Catechism of Positive Religion, London: Trubner, 1891.
نفس المصدر.
3- أوضح كونت بأن هنالك عدة معانٍ لكلمة (وضعية) Postitive: 1- الحقيقي أو ما يقف ضد الوهم. 2- المفيد أو ما يقف ضد غير المُجدي. 4- اليقين خلافاً للتردد. 4- المحدد أو ما يقف ضد الغامض. 5- الايجابي بعكس السلبي ("تُشير في هذه الحالة الى أحد أبرز روابط الفلسفة الحديثة الحقّة، باظهار انها موجهة، بحكم طبيعهتها، نحو البناء وليس التدمير")
Discours sur l’esprit positif. Ordre et progress. Paris, 1905, PP 64-66.
4- من أجل المزيد من التفاصيل حول مفهوم كونت عن العلم، انظر: بونيفاتي كيدروف Klassifikatsiya nuak (Classification of the Sciences), Book 1, Nauka, Moscow, 1961.
5- أوغست كونت Cours de philosophie positive, 3rd ed., Vol. 1 (Baillière et Fils, Paris, 1869), p 21
6- بونيفاتي كيدروف، المصدر المذكور سابقاً، ص141.
7- André Cresson. Les courants de la pensée philosophique française, Vol. II (Colin, Paris,
1927), p 172
8- See: Auguste Comte. Cours de philosophie positive, Vol. 1 (Baillière et Fils, Paris, 1869), pp 40-41
9- See: August Comte, Op. cit., Vol. 4, p 268
10- Ibid., p 301
11- Ibid., p 306
12- Ibid., p 322
13- Ibid., р 328
14- Ibid., p 260
15- Ibid., pp 206-207
16- See: Auguste Comte. Système de politique positive, ou Traité de sociologie, Vol. 3 (Chez Carilian-Goery and V. Dalmont, Paris, 1853), p 1
17- Ibid., Vol. 2, p 183
18- Ibid., p 204
19- Auguste Comte. Cours de philosophie positive, Vol. 1, pp 426-429
20- Ibid., р 429
21- Ibid., Vol. 4, p 430
22- Ibid., p 232
23- Auguste Comte. Cours de philosophie positive, Vol. 5, p 230
24- Ibid., Vol. 6, p 287
25- See: Otwin Massing. Fortschritt und Gegenrevolution. Die Gesellschaftslehre Comtes in ihrer sozialen Funktion (Klett, Stuttgart, 1966)
26- August Comte. Système de politique positive, Vol. 1, p 448
27- Ibid., p 129
28- Ibid., p 152
29- Lewis A. Coser. Masters of Sociological Thought, 2nd Ed. (Harcourt Brace Jovanovich, New York, 1977), p 40
30- See: F.S.Marvin. Comte. The Founder of Sociology (Russell & Russell, New York, 1965).
31- Paul Kellermann. Organizistische Vorstellungen in soziologischen Konzeptionen bei Comte, Spencer, und Parsons (Dissertation, Munich, 1966)
32- I. S. Kon. Der Positivismus in der Soziologie (Akademie-Verlag, Berlin, 1968), p 19.
33 Lewis A. Coser. Op. cit., p 41.
33- Lewis A. Coser. Op. cit., p 41
34- Auguste Comte. Discours sur l’esprit positif, p 111