من دفتر الهجرة، أول زيارة للوطن


محمد زكريا توفيق
الحوار المتمدن - العدد: 6519 - 2020 / 3 / 20 - 04:39
المحور: الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة     

سنة أولى هجرة، هي أصعب السنوات وأجملها. مرض الحنين للوطن على أشده. لا يخفف وطأه إلا لقاء الرفاق المهاجرين المصريين في عطلة نهاية الأسبوع والأجازات الرسمية.

ارتباط الإنسان بوطنه شئ عجيب وغريب ويبدو أنه مكتوب في جيناتنا بحروف ال"دي إن إيه". الحيوانات أيضا تصاب بمرض الحنين للوطن. إلا أنها لا تستطيع التعبير عن شعورها بالكلمات. ولكن تظهر حزنها بطرق أخرى.

"جيليان"، نمر سومطرة في حديقة حيوانات سان فرانسيسكو، عندما تم نقلها إلى حديقة حيوانات سكرامنتو، توترت أعصابها وأصابها القلق، مما جعل الطبيب البطري المشرف على علاجها، يعطيها بعض الأدوية والمسكنات للتهدئة. عندما فشل العلاج، اضطر المسؤولون إلى إعادتها ثانية إلى مكانها الأصلي في مدينة سان فرانسيسكو.

مهاجرون مصريون عرفتهم، وآخرون سمعت عنهم، لم يستطيعوا تحمل مرض الحنين للوطن فعادوا إلى مصر. معظمهم عاد بعد سنة، وأقلية منهم عادت في نفس الأسبوع الذي جاءوا فيه.

في السنة الأولى، كانت الأسرة كلها لاتزال في بيت العائلة. الأب والأم لا يزالان على قيد الحياة. إخوتي وأخواتي البنات لم يتزوجن، ولم تغادرن المنزل وتستقلن بحياتهن. الأصدقاء كما هم في وظائفهم كما تركتهم. جمال لوحة الذكريات البهيجة والأيام السعيدة، لم يمس. ولم يغيرها أو يشوهها بعد مرور الزمن وتعاقيب الأحداث.

أثناء الزيارة الأولى، قابلت زميل الدراسة سامي غريب. قضينا وقتا سعيدا معا، نسترجع فيه ذكريات الجامعة والسفر بالقطار إلى القاهرة. كنا نتقابل يوميا في القهوة للعب الشطرنج، والسير بجوار الترعة لتبادل الحديث عن الهجرة والحب والسياسة. لم أكن أعرف أنني أودعه وأراه لآخر مرة.

سامي غريب، زميل الدراسة في كلية العلوم قسم الرياضة البحتة، والده موظف غلبان يكافح كفاح الأبطال لكي يعلم أولاده. ولدلان وبنت. كلهم في الجامعة. يسكنون في مدينة الزقازيق، يسافرون إلى القاهرة لحضور المحاضرات بالقطار. ركوب القطار كان باشتراك شهري مخصص للطلبة بأجر رمزي.

في يوم من الأيام، عندما كنت طالبا، قابلت سامي بعد انتهاء الدراسة ونحن في طريقنا إلى محطة القطار بالقاهرة للعودة إلى بلدنا الزقازيق. سألني سامي: هل معك نقود؟ قلت له معى قرش صاغ واحد. قال وأنا معي قرش تعريفة (نصف قرش). ضحك وقال نشتري رغيف خبز بقرش تعريفة، وسيجارتين بقرش صاغ. وقد كان.

جلسنا جنب الشباك في القطار، اشتراكات الطلبة كانت للركوب في الدرجة الثانية، الدرجة الأولى كانت لعلية القوم وطلبة الكليات العسكرية، ولا أدري لماذا هذا التمييز، أما الثالثة فهي للناس الغلابة عامة الشعب.

أكل سامي نصف رغيف، وأنا نصف رغيف.، ثم جلسنا بجوار نافذة القطار. مناظر الريف والغيطان الخضراء خلابة. وضع كل منا رجلا على رجل، ثم أشعلنا السيجارتين وأخذنا نطلع الدخان من مناخيرنا، ونحن في غاية السعادة والإنشكاح.

أخذنا نتحدث عن الحب وبنات الكلية. جيوبنا مافيهاش ولا سحتوت، ليس معنا إلا كتبنا واشتراك القطار والأمل في غد أفضل. وكما يقول الأخطل الصغير: الهوى والشباب والأمل المنشود، توحي فتبعث الشعر حيا.

بعد التخرج، كان يعمل سامي مدرس رياضيات في مدرسة إعدادي في قرية بالشرقية بجوار التل الكبير. يسكن في غرفة من بيوت الفلاحين معروشة بجريد النخل، ليست بها مياه جارية أو كهرباء. لم يكن سعيدا بهذه الوظيفة. كان يقول وهو يبتسم، هو الفقر ورانا ورانا.

كان موقفه بالنسبة للتجنيد مؤجل بسبب عمله كمدرس. عندما هاجرت للولايات المتحدة، حاول إيجاد عقد عمل خارج مصر للخروج من دائرة الفقر التي تحكم خناقها، بدون رحمة، حول رقاب الغلابة. فوجد بالفعل عقد عمل في ليبيا.

لكن قابلته مشكلة التجنيد في الجيش. أخبروه أنه لكي يحصل على تأشيرة خروج من مصر، يجب عليه قضاء فترة التجنيد أولا. لذلك تطوع اختياريا لقضاء فترة التجنيد التي كانت سنة واحدة للمؤهل العالي في ذلك الوقت.

بعد أن التحق سامي بالجيش سنة 1970م، صدرت تعليمات بعدم تسريح المجندين المؤهلات. ظل سامي بالجيش أربع سنوات حتى قامت حرب 6 أكتوبر 1973م. كان مكانه في قاعدة الصواريخ التي عبرت القناة. عندما حدثت الثغرة، دمرت قاعدة الصواريخ التي كان موجودا بها.

مات سامي في عز شبابه، وفقدت مصر واحدا من شبابها بعد تربيته وتعليمه الجامعي وتدريبه المهني. فقدته مصر وهي في أمس الحاجة لعطائه الوظيفي.

غادرنا واختفت معه الروح المرحة والابتسامة الدائمة التي لم تكن تفارقه طول الوقت، وترك لعائلته الحسرة والألم، ولكل أصدقائه ومعارفه الأسف والذكريات الحزينة.

لم تكن الثغرة من ابتكار الاسرائيليين أو من الأسرار العسكرية. كانت معروفة تدرّس ضمن الخطط العسكرية الشائعة. استخدمها الأدميرال نيلسون ضد أسطول نابليون في موقعة أبو قير البحرية، وهتلر عندما غزا فرنسا.

خطة الهجوم من الغرب، أو من حيث لا يتوقع العدو، هي أيضا قديمة ومعروفة. استخدمها تحتمس الثالث في حروبه، ونابليون عندما غزا إيطاليا.

عندما تخرجت من الجامعة، تم إعفائي ومجموعة من الخريجين من التجنيد وفقا لتاريخ الميلاد. الباقي تم تجنيدهم ضباط احتياط لمدة سنة خدمة. بعد ذلك بثلاث سنوات، قامت حرب يونية 1967م.

تم استدعاء الضباط الاحتياط وألقي بهم في سيناء مع أبناء الفلاحين والصعاية المجندين بدون تدريب أو خطة أو قيادة. النتيجة معروفة للجميع، هزيمة منكرة، وموت كل زملائي الضباط الاحتياط وهم في عز شبابهم.

لقد كانوا في الخطوط الأمامية. فهل نجاتي من هذه الكارثة، كان بسبب العناية الإلهية، أم البخت، أم القدر، أم دعاء الوالدين، أم روح التاريخ التي يحدثنا عنها هيجل؟

النكسة والثغرة هما نتيجتان حتميتان لأي دولة تضع مصائر أبنائها في أيد غير أمينة. وعندما تفضل أهل الثقة على أهل الكفاءة. وهي سياسة، دمرت أخلاقنا وجيوشنا وصناعتنا وزراعتنا واقتصادنا وحياتنا السياسية والاجتماعية.

عندما كنت أعمل في قسم الكمبيوتر بالبنك في الفترة المسائية هنا في نيويورك، تعجبت من سماع موسيقى هادئة تنساب من سماعات بالسقف. لأنه حسب معلوماتي المتواضعة، الموسيقى ممنوعة في أماكن العمل.

عندما كنت أعمل في مصر في مؤسسة التأمين، علمت أن رئيس مجلس إدارة شركة مصر للتأمين، الدكتور الجمل، قد عاقب سكرتيرة بالشركة لأنها كانت تستمع إلى موسيقى من راديو صغير ترانزيستور. العقوبة كانت خصم أجر 15 يوما من مرتبها. لم أكن أعلم أن الإبل تكره الموسيقى إلى هذه الدرجة.

كان يوجد بمبنى البنك الذي أعمل به هنا في نيويورك، صالة اجتماعات كبيرة بها مسرح وشاشة سينما. يعرض فيلما سينمائيا جديدا، نصف ساعة كل يوم للموظفين أثناء استراحة الغداء. لا شك أن راحة الموظف وسعادته تزيد من إخلاصه وإنتاجه. الإدارة بالسخرة في بلادنا هي أسوأ أنواع الإدارة وأحطها، لكن تقول لمين.

كان لي زميل أمريكي أسمر في العمل اسمه "آل". جاء يوما وطلب مني خمس دولارات سلف إلى حين صرف الأجر الأسبوعي يوم الجمعة. فتحت الحافظة وأعطيته عشر دولارات بدلا من خمسة.

انتظرت يوم القبض أن يتذكر "آل" ويرد لي مبلغ العشر دولارات، ولم تكن بالمبلغ الصغير في ذلك الوقت. لكنه تجاهل الموضوع تماما وإداها طناش. انتظرت أسبوع والتاني والثالث، لكن لا حس ولا خبر. قلت لا بد من مصارحته وطلبتها منه. لكنه سوف وماطل وطنش.

عندما أخبرت زميلا لي بالحكاية، ضحك وقال: هو اصطادك أنت كمان؟ ده ما خلاش حد إلا لما استلف منه. إنه يستلف ولا يسدد دينه أبدا. يا صديقي، "آل" هذا مقامر مدمن. ضيع فلوسه كلها على القمار. مراته طلقته وأخذت منه العيال والبيت. هو الآن يهيم على وجهه ولا نعلم أين يبيت كل ليلة.

بعد ذلك بأسبوع، وجدته جالسا أمام مدير المستخدمين يجاوب على أسئلة في تحقيق رسمي. لقد وجدوه قد كتب 36 شيك مصرفي بدون رصيد. شيك واحد بدون رصيد يكفي لفصله.

كان الخيار إما الفصل أو الاستقالة. الفصل معناه أنه لن يجد وظيفة أخرى تقبله بعد ذلك. فاختار "آل" الاستقالة مرغما. لقد أسفت عليه كثيرا. لأنه كان طيبا دمث الخلق، من النوع الذي تستريح عندما تتحدث إليه.

لكن لا حل لمشكلة إدمان القمار. قرأت مقالا في جريدة النيويورك تايمز يقول فيه أحد المدمنين، بأنه يمكنك أن تبرأ من أي نوع من الإدمان إلا القمار. فهو داء ليس منه شفاء.

ذهبت إلى شارع ديلانسي بنيويورك لشراء قطع قماش هدايا لزوم زيارة مصر الأولى. المنطقة تشبه شارع الموسكي أو الأزهر بالقاهرة. البضاعة على الأرصفة أمام المحلات.

دخلت أحد المحلات، وظللت أتجول في الدور الثاني وأختار قطع قماش وأضعها في عربة الشوبنج. إذا برجل يعمل في المحل يأتني ويسألني بالعربي: هل أنت مصري. عندما قلت له نعم، فرح جدا كأنه عثر على كنز.

قدم لي نفسه بأنه أيضا مصري يهودي اسمه كمال. هو في العقد الثالث من العمر، أجبر على ترك مصر بعد العدوان الثلاثي عام 1956م. قام بمساعدتي واختار لي أحسن وأرخص قماش في المحل.

أخذ يحدثني عن الأيام الجميلة التي عاشها في مصر وناسها الطيبين وشوارعها النظيفة. عندما سألته لماذا لم تذهب إلى إسرائيل، قال لا، مافيش في الدنيا بلد زي مصر. أنا في إسرائيل سأعيش غريب درجة ثانية.

تعجبت، لماذا تطرد مصر أبناءها بسبب اختلاف العقيدة. وما ذنب ناس زي كمال هذا، الطيب الخدوم الماشي جنب الحيط. لقد خبنا وتهنا عندما تركتنا "ماعت"، إلهة العدل والحق والقانون والأخلاق. تركناها بغبائنا الشديد تهرب من أرض الكنانة بغير رجعة.

عندما كنت أسكن في حي بروكلين، دخلت مطعم فلافل بشارع كنجز هايواي. صاحب المحل ملامحه شرقية. بعد شراء الفلافل والعيش الطري، سألته عن جنسيته وديانته. فقال لي : يهودي مسلم. ضحكت، لكنه كان يتكلم بجد.

قال لي بتضحك ليه، أنا يهودي مسلم. قلت له، إزاي تيجي دي؟ قال: أقولك ياسيدي. أنا سوري يهودي قمت بالهجرة إلى إسرائيل. لكن بسبب ملامحي الشرقية، كانوا يعاملونني هناك أسوأ معاملة.

كأنني عربي مسلم. مما جعلني أهج وأطفش من إسرائيل وأتي إلى هنا. قلت له، خير ما فعلت. أسوأ شئ هو أن تعيش عبدا ذليلا في مكان لا تشعر فيه بآدميتك.

في مطار كنيدي بنيويورك، قابلت شاب سوري عائدا إلى حلب على ما أذكر. أخبرني بأنه قد مل الغربة بعد أن أمضى خمس سنوات في فنزويلا بأمريكا الجنوبية. باع بيته ومتجره لكي يشتري مزرعة بحلب.

نصحته بالتريث، لأن الأمور في بلادنا العربية مكرمشه، كلها مطبات وزحاليق والأمور ليست على ما يرام. فقال لي: شوف يا خي، أنا ما بدي أشتغل بالسياسة، الله يقصف عمر السياسة واللي بيتعاطوها. أنا بدي أعيش يا ناس بين أهلي وأحبابي حياة هادئة باقي عمري، صعبة دي. تركته وأنا أتمنى له التوفيق.

وللحديث بقية، فإلى اللقاء.