الإستعمار العثماني أوقف العقل العربي


جمال عبد العظيم
2020 / 3 / 9 - 09:12     

بزوال الخلافة العباسية 1258 م على يد التتار
بدأ عهدا جديدا في تاريخ الامة العربية حيث انقسمت الى مغرب و مشرق ، والاخير قد سقط تحت حكم التتار . وقد تأثر العقل العربي والاسلامي بهذا الغزو الهمجي حيث اباد التتار التراث العلمي فخربوا المكتبات والمدارس واحرقوا الكتب أو القوا بها في نهر دجلة . وبهذا تلقت الحضارة الاسلامية ضربة كبيرة على الرأس حيث ضاعت الاداب والفنون والعلوم . وماتت الحركة الادبية والعلمية بتدمير مدارسها ومكتباتها واحراق مخطوطاتها وكنوزها العلمية . وقتل الالاف من ادبائها وعلمائها وتشريد من نجا منهم بانحاء الوطن العربي . واستمر المشروع التتري يتمدد حتى وصل الى الشام واصبح على ابواب مصر اخر قلاع الإسلام . و حدثت المعجزة وانتصرت مصر في معركة عين جالوت سنة 1260 وانتهى خطر المغول الى الابد . وتسلمت مصر زعامة العالم الاسلامي واصبحت مقصد الادباء العلماء والكتاب والفنانين . وقد احيا سلطانها بيبرس الخلافة العباسية فدعا احمد ابن الخليفة العباسي "الظاهر" وبايعه بالخلافة ولقبه بالمنتصر بالله . وبهذا اصبحت القاهرة مقر الخلافة العباسية وصار للخلفاء العباسيين النفوذ الروحي على العالم الاسلامي كله . فيما بقى السلطان السياسي لبيبرس وخلفائه من حكام المماليك .
نزل العلماء والادباء مصر واقاموا بالقاهرة التي حلت محل بغداد . وبها يومئذ عدد ضخم من المدارس والمعاهد ومجالس العلم والمكتبات ونفائس علوم واثار المسلمين . وقد هاجر الى القاهرة في هذه الفترة اعدادا هائلة من علماء الشرق الاسلامي والعراق والشام . وعدد غير قليل من علماء الاندلس وأدبائها فارين من وجه الاسبان المتعصبين الذين كانوا يستولون على المدن الاسلامية . وسارع المماليك الى بناء المساجد والمدارس والمستشفيات والملاجئ . كما أغدقوا على العلماء وقربوهم منهم وطلبوا منهم نشر العلم بالتأليف والتدريس .
وسرعان ما ظهرت ملامح النهضة العلمية والادبية ، وامتلأت خزائن الكتب ودورها بأروع المؤلفات . وازدهرت اللغة العربية حيث جعلها المماليك هي اللغة الرسمية رغم انها لم تكن لغتهم الأصلية . وانتشرت حلقات العلم التي يؤمها المتعلمين في كل مكان ، واصبحت تزخر بالطلاب يقصدونها من جميع الممالك الاسلامية . ورتبت لهم المرتبات والجوائز وحبست عليهم الاوقاف . ونشأت حركة علمية كان من مظاهرها كثرة العلماء في كل فرع من فروع الثقافة الاسلامية العربية وضخامة ماكتبه هؤلاء العلماء النابغين . وكثرت المدارس بشكل ملحوظ وكان من اشهرها المدرسة المنصورية والناصرية و الظاهرية والمؤيدية ، ومدرسة السلطان حسن بالاضافة للجامع الازهر وجامع عمرو . وكانت معظم هذه المدارس تمتلك مكتبات تزخر بالكتب الثمينة في جميع العلوم والمعارف . على سبيل المثال كان بالمدرسة الفاضلية مكتبة تحتوي على 100000 مجلد وكذلك المدرسة المحمودية . وكانت المؤلفات في هذا العصر يغلب عليها طابع الجمع والرواية والتحقيق العلمي فكانت اشبه بالموسوعات والمجاميع . وذلك لسد الفراغ الذي حدث في ميدان الثقافة الاسلامية بسبب سقوط بغداد وانتهاء حكم العرب في اسبانيا . ومن مصادر الثقافة الادبية في هذا العصر موسوعة "نهاية الارب في فنون الادب" للنويري وتتكون من 30 مجلد . ومسالك الابصار لابن فضل الله العمري ويقع في اكثر من 20 مجلد ، ولسان العرب لابن منظور وهو معجم لغوي كبير يقع في 20 جزء . وكانت مدن الثقافة في هذا العصر هي القاهرة والاسكندرية وقوص وقفط ودمشق وحمص وحلب وحماه وبيت المقدس .
ولاشك ان الثقافة الاسلامية والعربيه التي ازدهرت في عصر المماليك كان لها اكبر الاثر في ترقية الذوق الادبي . وكان المماليك يهتمون بعلوم كالهندسة والرياضيات والكيمياء والطب اكثر من الادب لانهم لم تكن عروبتهم اصيلة فلم يعرفوا صلة الادب بالدين واهميته وانه هو المعين على فهم القرءان وعلوم الاسلام .
وبينما كانت اللغة العربية تنهار في كثير من بقاع العالم الاسلامي فقد ازدهرت اللغة العربية في مصر والشام . وذلك لاهتمام المماليك بها حيث تعتبر لغتهم التي نشأوا في موطنها . كما ان التوسع في انشاء المدارس والمساجد والمكتبات وتشجيع التأليف وكثرة المؤلفين اثرى اللغة العربية وانقذها بعد ان فقدت كل مقوماتها في شرق العالم الاسلامي على يد التتار . وكان الدور الاكبر في رعاية اللغة وادابها وعلومها للجامع الازهر حيث أعاد السلطان الظاهر بيبرس افتتاحه عام 665 هجريا ، بعد ان اغلقه الايوبيين لنحو مائة عام .
وازدهرت فيه البيئة العلمية الجامعية وقصده الطلاب من الحجاز واليمن والشام وتركيا والمغرب والسودان والهند وشرق افريقيا . وتخرجوا منه راسخون في علوم اللغة العربية وادابها ، ونقلوا الى بلادهم هذه الثقافة الاسلامية العربية . وكانت مصر في هذا الزمان مصدر الثقافة والعلم ومركزا لعلوم الاسلام ومعارفه . وبرز من هذا العصر علماء كبار مثل : ابن تيمية الذي ترك 300 مجلد اكثرها في الفقه والتفسير والاصول ، وابن النفيس الذي كان شيخ اطباء مصر وابن الشاطر في الجغرافيا والرياضيات ، وابو الفدا والدمشقي والسخاوي وابن كثير وابن خلدون واحمد ابن ماجد وكذلك الملاح العربي ابن ماجد النجدي وقد ألف في مبادئ الملاحة ، ومن اصحاب الرحلات كان ابن بطوطه الذي كتب عن رحلاته في العالم الاسلامي . اما في علم التاريخ فقد برع شمس الدين ابن خلكان صاحب كتاب وفيات الاعيان وهو معجم تاريخي يعد مرجعا في اللغة والادب والتاريخ . ومن الكتب القصصية ظهرت كتب كثيرة في هذا العصر ابرزها "الف ليلة وليلة" الذي نال شهرة عالمية . وقصة عنترة وسيف ابن ذي يزن وقصة ابو زيد الهلالي . كما ظهر فن "خيال الظل" وممن الف فيه كان ابن دانيال المصري وله كتاب طيف الخيال .
وفي علوم اللغة نبغ كثير من المؤلفين مثل ابن مالك الطائي صاحب الالفية . وابن منظور صاحب لسان العرب والفيروز ابادي صاحب القاموس المحيط . والسيوطي الذي الف كتاب "المزهر في فلسفة اللغة" و "الاشباه والنظائر في النحو" . اما في علوم البلاغة فكان شهاب الدين الحلبي والبهاء السبكي . والخطيب الدمشقي صاحب كتاب "الايضاح في علوم البلاغة" . وفي الادب فقد ظهرت اعمال كثيرة سواء شعر او نثر او التراجم ، وكانت مقامات الحريري هي مادة المتأدبين في هذا العصر يحفظونها ويتمثلون اساليبها في اعمالهم . وفي عصر المماليك ظهر لاول مرة علم الاجتماع وفلسفة التاريخ كما ظهر النقد التاريخي والكتابة في العلوم السياسية والادارية والحربية .
ولا يتسع المقام لذكر كل المؤلفات وكل الكتاب ولكن يمكن القول ان دولة المماليك استطاعت ان تحافظ على العقل العربي بانقاذها تراث الامة وعلوم اللغة والبلاغة والقرءان و باحتضانها للعلماء . وامتد نفوذ المماليك في كل مكان وقامت لمصر دولة عظمى وامبراطورية كبرى كان لها الرأي الفاصل في كل القضايا العالمية أنذاك . وامتدت هيبتهم من الهند الى شواطئ المحيط الاطلسي . وشمل حكمهم مابين برقة وضفاف الفرات وما بين قبرص ومجاهل افريقيا كما شمل اليمن والحجاز وسواحل المحيط الهندي ، بل امتد الى حدود الحبشة وجهات سواكن وجزائرها .
ويقول جلال الدين السيوطي في كتابه حسن المحاضرة : " حين صارت مصر دارا للخلافة عظم امرها وصارت محل سكنى العلماء ومحط رحال الفضلاء . وكانت دولة ال عثمان بعد فتح القسطنطينية (857 هجرية_1453م) تتطلع وهي في اسيا الصغرى الى هذا المجد الكبير والى مكانة مصر العالمية الكبرى بعين الحذر وتتربص بامبراطوريتها ريب الاحداث وصارت حضارة مصر انذاك مضرب الامثال . فمفاتيح التجارة العالمية بين الشرق والغرب في يدي الشعب المصري والاموال تتدفق عليه بلا حساب ، وعاشت مصر كل احلامها من الرخاء والإزدهار . وكان سلطان المماليك يلقب بسلطان البرين والبحرين اي البر المصري والبر الشامي والبحر الابيض والبحر الاحمر . وكان قلاوون يلقب بملك البرين والبحرين وصاحب القبلتين وخادم الحرمين الشريفين . واحيانا كان يلقب بسلطان الشام واليمن ، ملك البحرين ، خادم الحرمين الشريفين ، صاحب القبلتين ، ملك الديار المصرية والجهات الحجازية والبلاد الشامية . بل وقد خطب للسلطان برقوق في تورين ببلاد العجم وفي الموصل وماردين وسنجار وضربت النقود باسمه في جميع هذه البقاع "، إنتهى كلام السيوطي . ويضيف المقريزي : "مع ان المماليك كانوا من اصول غير عربية الا انهم باقامتهم في ارض العروبة اعتبروا انفسهم عربا بل حماة للعرب حتى كان من القاب سلاطينهم سيد ملوك العرب . وقد تعلموا اللغة العربية واتقنوها حتى صار كبارهم وامرائهم بل وجمهرتهم يتكلمون العربية الفصحى ويتخاطبون بها . وكان السلطان الاشرف خليل يعقد المجالس الادبية ويطارح الادباء والشعراء . وكذلك كان السلطان قانصوه الغوري يجيد اللغة العربية ، شديد الولع بأدابها وعلومها وله فيها مشاركة كبيرة وكان يتذوق الشعر وله مجالس عرفت باسمه"مجالس الغوري ".
وخلاصة كل هذا ان دولة المماليك أوقفت الزحف التتري ونجا على يديها دين الإسلام ، كما انقذت الخلافة العباسية بعد سقوط بغداد . وانقذت اللغة العربية و الادب و التراث والثقافة العربية والتاريخ اي الذاكرة العربية والعقل العربي كما حفظت لنا الفقه والتاريخ الاسلامي فسلمت الامة ونجت من التتار . وفي بدايات القرن السادس عشر كانت الامة على موعد مع خطر جديد لايقل وحشية عن التتار . فقد زحف الاتراك العثمانيين على ممتلكات الخلافة العباسية واصبحت كل من مصر والشام ولاية عثمانية . وسرعان ما ورث العثمانيون كل الولايات فاخذوا الحجاز واليمن وسواكن ومصوع وعدن وسائر الشرق العربي .
ثم اتجهوا للمغرب العربي ليخضع لهم العالم العربي بأكمله وينعقد للاتراك لواء الزعامة في العالم الاسلامي كله . واضطربت احوال المجتمعات العربية وتفككت اوصالها تحت الارهاب التركي . وانهارت الثقافة العربية وجفت منابعها بتوقف المدارس والمعاهد وجامعة الازهر . وحرمت دراسة بعض العلوم مثل الفلسفة والرياضة وجردت مصر من كنوزها الثقافية من اثار وكتب . وحمل كل هذا الى القسطنطينية بل وحمل معه العلماء قسرا والمفكرين والفنانين والصناع الى تركيا وفرضت عليهم الحياة هناك . كما انتزعوا الكتب من المدارس والمساجد ليودعوها مكتبات العاصمة التركية ولازالت موجودة هناك الى اليوم . ومنها مؤلفات لاعلام القرن التاسع الهجري المصريين كالمقريزي والسخاوي والسيوطي وابن اياس ولا تملك مصر نسخه منها وهي صاحبته . وقد اصاب الازهر ما اصاب الحركة الفكرية كلها .
وتضاءل شان العلوم والفنون وفترت الهمم عن البحث العلمي والتأليف وانصرف العلماء الى الراحة ورضوا بالتقليد واثروا العزلة . واغلقت المدارس وانتشر الجهل والخرافات ولم ينج من الاغلاق سوى الازهر لكنه تعرض للانهيار بسبب عدم انفاق المحتل العثماني عليه . وقام الاهالي برعايته ماليا قدر استطاعتهم . وهكذا فقد نال العقل العربي والاسلامي ضربة مميته اوقفته عن العمل . و بعد ان صمد امام مطرقتي التتار والصليبيين اصابته مطرقة ترتدي عباءة الاسلام . و يشهد التاريخ أن الغزو العثماني كان هو النكبة الاكبر على الاسلام والمسلمين . إذ بادر المستعمر التركي باقصاء اللغة العربية عن مكانها وانزالها عن مرتبتها وجعل اللغة التركية هي اللغة الرسمية في جميع البلاد العربية . وبها تكتب المراسلات والمعاهدات والمعاملات ثم تاتي بعدها في المقام الثاني اللغة الفارسية . وهي تدرس في المدارس ويتحدث بها كثير من المثقفين والحكام ، ثم تأتي اللغة العربية في المقام الثالث . وكان المستعمر التركي يقف على الحياد بالنسبة للغة العربية فلا يرعاها و لا يحاربها ، وذلك لانها لغة القرآن والاسلام الذي اتخذه مطية ومبررا لاعمال السلب والنهب . وكان لاقصاء اللغة العربية عن دواوين الحكومة اثر كبير في الانصراف عن تحصيل علومها وملكتها والاطلاع على كنوزها. وانقطع انفاق الدولة على المدارس فانزوت وتناقص عددها . وحل محلها كتاتيب صغيرة تعلم القراءة والكتابة والحساب وتحفيظ القرءان . حتى اذا أوغل الحكم العثماني في الزمن ران الجهل على البلاد العربية المحكومة وصار من النادر وجود من يحسن القراءة والكتابة فيها . وشاع استخدام اللغة العامية وانتشرت اللهجة والالفاظ التركية على السنة المصريين والعرب اجمعين مثل سعادتلو ، فخامتلو ، جاويش ، صول ، يوزباشي ، اجزاخانة ، كتبخانة ، سلخانة ، قهوجي ، جزمجي .
واصبحت لغة الكتب المؤلفة ركيكة ، سقيمة لا تستبين منها المعنى او القصد ، وكثيرا ما كانت العامية هي لغة التأليف . وقد شاع التقليد وكثرت الخرافات والشعوذات والسحر وكثرت الكتابات فيها وفي الموضوعات الخليعة الماجنة . وطبعا اختفي الادب حيث لم يكن الحكام الاتراك يرعونه او يفهمونه .
كما ان بعض الولاة نهبوا الاوقاف المحبوسة على العلم والعلماء فعجز الطلاب عن الانقطاع للتعلم ولم يجد المدرسين من التشجيع ما يحملهم على التفرغ للتدريس . ومن ثم تفرق الطلاب وانصرفوا عن ابواب التعليم وخمدت جذوة الحركة الثقافية . حتى الازهر تناقص عدد طلابه وضعفت حلقاته العلمية ، ولولا اصرار الاهالي على بقاء الازهر وتحملهم نفقاته لتوقف مثل باقي المعاهد ، ولانتهى الاسلام على يد استعمار متدثر برداء الدين . و ليس غريبا أن يغلق باب الإجتهاد في هذا العصر ليكون بمثابة إعلان رسمي بتوقف العقل الإسلامي عن العمل وهو لا يزال متوقفا حتى الأن ليكون توقفه شاهدا على همجية الإستعمار وعدم إنتمائه لأي دين ، ولتبقى حالة الجمود العقائدي التي يعيشها المسلمون جريمة تركية مستمرة .