تونس : حكومة الوضوح وإعادة الثقة .


فريد العليبي
الحوار المتمدن - العدد: 6505 - 2020 / 3 / 3 - 18:46
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

.


قدم الياس الفخفاخ، حكومته الجديدة خلال جلسة منح الثقة المنعقدة يوم الأربعاء 26 فيفري 2020 في قصر باردو، باعتبارها " حكومة منسجمة، تشبه التونسيين والتونسيات الذين يرون أنفسهم فيها، وأنها ستكون في خدمة البلاد ولا تخدم مصالحها الخاصة، وستبذل أقصى جهودها لتحقيق الإصلاح المنشود". وسماها "حكومة الوضوح وإعادة الثقة" ، بما يعني تأكيد التطابق بينها وبين الشعب ، فهي مرآة عاكسة لآماله وأحلامه المُجهضة حتى الآن .
و دعا الى ضرورة التقاط اللحظة التاريخية ، مؤكدا أهمية الصدق في القول والإخلاص في العمل والوفاء للثورة وإعلاء قيم الصدق والكرامة والحرية ، مُذكرا بنجاحات الديمقراطية التونسية الناشئة ، مُنبها في نفس الوقت الى محدودية الانتقال الاقتصادي والاجتماعي ، مُستنتجا أن تونس في منعرج تاريخي وهى في حاجة الى اصلاح عميق .
ورتب أولويات حكومته في مقاومة الجريمة والعبث بالقانون وغلاء الأسعار والغش وتوفير متطلبات العيش الكريم و انعاش الاقتصاد و حماية المؤسسات وخاصة الصغرى والمتوسطة ، وتفكيك منظومة الفساد والتعهد بالإيقاف التدريجي لسياسة التداين الخارجي ، والحفاظ على قيمة الدينار والحد من التضخم و تقليص العجز التجاري وحماية الاقتصاد ، والبحث عن حلول لإنهاء تعطل الانتاج بالحوض المنجمي وبعض الوضعيات الأخرى مثل عمال الحضائر والاساتذة والمعلمين النواب .
غير أن التونسيين يتذكرون أنه في كل مرة كانت مهمة تحديد الأولويات بالنسبة الى رؤساء الحكومات سهلة ، ولكنها ظلت دون تجسيد عملي ، من حكومة الترويكا الأولى التي ستشغل نصف مليون بشر الى حكومة الشاهد ومقاومتها للفساد ، وبالتالي فإن ما قدمه الياس الفخفاخ انما هو خطابة غير قابلة للتحقيق فالوسائل والاعتمادات المالية تعوزه ، كما أن خياراته التنموية لا فرق بينها وبين خيارات سابقيه .
حاول الفخفاخ خلال خطابه التمايز شكلا على الأقل مع رئيس الجمهورية قيس سعيد ، فهو لا يتكلم مثله عربية فصحى ، ولا مثل البقية أيضا ، الذين يتكلمون الدارجة لذلك دمج بينهما بحثا عن كاريزما مبكرة ، قد تشفع له في استقبال التونسيين إياه بالترحاب ، وهم الذين من شدة احباطهم أصبحوا يكتفون بالصورة المشهدية بديلا عن الواقع .
وذكر ذلك التمايز الشكلي بمعارك سابقة بين قصري قرطاج والقصبة ، فقد قلب يوسف الشاهد للباجي قائد السبسي ظهر المجن ، عندما وجد الفرصة سانحة ، متحالفا مع الإسلام السياسي لإنقاذ نفسه من العزل ، مما أثار المخاوف حول العلاقة المستقبلية بين قيس سعيد والياس الفخفاخ أيضا ، وسط تشجيع الإسلام السياسي لرئيس الحكومة الجديد حتى لا يكون ظلا لرئيس الجمهورية، المتهم بسعيه الى تحويله الى مجرد وزير أول . وكان لافتا قول شيخ حركة النهضة أن زمن الرئيس الجامع للسلطات كافة قد ولى دون رجعة ، كما قول قيس سعيد أثناء استقباله الأمير القطري أن هؤلاء الذين يستقوون بعلاقاتهم الخارجية لحسم تناقضات داخلية في تونس مآلهم الفشل ، وهذا كله سوف يكون له تأثيره في قادم الأيام على العلاقة بين القصور الثلاثة بعد أن حط رئيس قصر القصبة الجديد رحاله فيه .
مقابل الفخفاخ وحكومته كان هناك البرلمان ،الذي حضرت تحت قبته سائر الأسلحة المعهود استعمالها في المعارك بين أعضائه ، بما في ذلك الرمزية منها، مثل القرآن واللغة العربية والرسول وبورقيبة وصالح بن يوسف وبن على ، وحتى نابليون بونابارت لم يكن غائبا قبل أيام ، ليُقارن بالغنوشي ويا للمفارقة ، وذلك رغم تنصل الجميع من الصراعات الأيديولوجية البغيضة كما يقولون. ولم يخف بعض النواب أن الثرثرة هى التي سيطرت على البرلمان ، فقد قدم رئيس الحكومة خطابا مكررا لا يختلف عن خطب رؤساء الحكومات السابقين ، ورد النواب الحاليين بخطب لا تختلف أيضا عن خطب النواب السابقين فكانت الثرثرة مُقسمة بالعدل بين الطرفين .
وهكذا واصل البرلمان وظيفته التقليدية باعتباره ساحة صراعات وهمية ، وبدا البرلمانيون خلال تلك الجلسة غير معنيين بالحكومة التي كان من الواضح أن نيلها الثقة قد حسم ، بقدر عنايتهم بمواصلة حملاتهم الانتخابية ، وبالتالي بمصالحهم الخاصة ، لذلك ركزوا في مداخلاتهم على مطالب جهاتهم ممزقين حلوقهم بالصراخ ، أملا في الفوز في الانتخابات القادمة أيضا ، فالكرسي وثير ودافئ ، واستمر ضجيجهم دون هوادة حتى ساعات الفجر الأولى من اليوم الموالي ، وقد بدا عليهم الإرهاق وتسلل النوم الى جفونهم ،وكان رئيس الجلسة يذكرهم بين الفينة والأخرى بليلهم الطويل مًتمنيا اختصارهم الكلام ولكن دون جدوى .
ووفي الأخير جاء دور الفخفاخ ليرد فركب من جديد جواد الأخلاق الأبيض ، مدافعا عن نفسه وعن جهته ، التي قال إنها الأولى في مقاومة المستعمرين الفرنسيين في إحالة الى وطنيته ، وهو صاحب الجنسيته الفرنسية ، وأن رئيس الجمهورية اختاره لصدقه واستقامته ، وانتهى ذلك اليوم الطويل مثلما كان متوقعا بنيل الحكومة الجديدة الثقة التي صوت عليها النواب برفع الأيدي هذه المرة على خلاف ما حصل مع حكومة الجملي ربما خوفا من تنطعات نواب شاردين.
وفي الأثناء برزت مُجددا معضلة العلاقة بين الشعب من جهة والبرلمان والحكومة الجديدة من جهة ثانية ، والتساؤل عما اذا كانت الثقة بين الحكام والمحكومين ستعود أم إنها ستتدهور أكثر فأكثر ، ففي حال الإخفاق سينتهي الحال بالشعب الى أن يكون ضد الديمقراطية نفسها ،التي ستفقد آخر أوراقها ، فمطالبه الاقتصادية الاجتماعية ، التي هي مبتغاه الأول والأخير غائبة حتى الآن من حيث وسائل تحقيقها ، وهي حاضرة فقط في جميل الكلام.