التفكير في زمن العاصفة

كريم مروة
الحوار المتمدن - العدد: 453 - 2003 / 4 / 12 - 07:01
المحور: الارهاب, الحرب والسلام     

 


لا ادري لماذا يتوقف التفكير عند الكثرة من الناس في بلداننا، في زمن العواصف. لماذا يتسمر الناس في اللحظة ذاتها، ولا يغادرونها الى جهات زمنية اخرى، في الماضي وفي المستقبل؟ ام تُرى انني لا ارى ما ينبغي ان يُرى، فأخطئ في وصف المشهد، واتعسّف في الحكم؟

تقودني الى هذا الالتباس في رؤيتي لما يجري بعض قراءاتي في وسائل الاعلام، وبعض مشاهداتي على شاشات التلفزة لحوارات يكثر المشاركون فيها، وبعض سجالاتي مع اصدقائي من السياسيين والمثقفين، من يسار ويمين ووسط. وبعض هذه القراءات والمشاهدات والسجالات يشير الى ان كثرة من سياسيينا ومثقفينا العرب تعتبر ان الاولوية في زمن الحرب هي للحرب حصراً، احداثاً ووقائع ومشاعر، لكن من خارجها! الامر الذي يستدعي، وفق هذا المنطق، الانصراف عن البحث في احداث الماضي. رغم مأسويتها ورغم الدور الذي مارسته في افتعال حروب خارجية وفي استدراج حروب خارجية اخرى، دمرت حياة الناس واعمت قلوبهم وشوّهت الكثير من افكارهم. كما يستدعي، في الوقت عينه، وفق هذا المنطق ايضاً، تأجيل البحث في امور المستقبل، لان مثل هذا البحث، كما يقولون، سابق لأوانه!

واذ اعلن اختلافي مع هذا المنطق في التعامل مع الحرب، احداثاً ووقائع واسباباً، ونتائج كارثية راهنة ولاحقة، فإنني اعترف، في المقابل، ان التفكير "المستقل" - المستقل نسبياً - في زمن العاصفة، والمرتفع - المرتفع نسبياً - فوق احداثها، هو عمل شاق وصعب في مستوى المغامرة، ليس لانه يتم في الاتجاه المعاكس للسائد من التفكير وللسائد من المشاعر، بل لان العناصر التي يحتاج للاستناد اليها غير متوافرة، في معظمها، وغير ناضجة. تشير الى ذلك بنية مجتمعاتنا، وبنية المؤسسات العامة في بلداننا وطبيعتها، مؤسسات الدولة - وهي دولة قروسطية استبدادية - والمؤسسات الدينية - وهي في معظمها مؤسسات غير ذات صلة بقيم الدين - والمؤسسات المدنية، وهي، في معظمها، مؤسسات هشة ومتخلّعة.

الا ان علينا ان نقرّ ونعترف بأن الحرب هي الحرب، في كل زمان ومكان، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. ودائماً كان لها، في شروطها التاريخية، قواها وادواتها واستهدافاتها. ودائماً كان يوجد فيها قوي وضعيف، وظالم ومظلوم، وجلاّد وضحية. ودائماً كان هؤلاء واولئك موجودين في جميع جبهات القتال، حتى في الجبهة الاضعف، جبهة المعتدي عليهم، من كل الانواع، المقهورين والمقموعين والضحايا!

التفكير، اذن، هو حاجة ضرورية في كل الظروف والاحوال، حتى في اشدها صعوبة وقسوة. ذلك ان غياب العقل او تغييبه في زمن الحرب، لمصلحة المشاعر وحدها، هو اخطر ما يمكن ان تكون عليه الحال، حال الناس جميعاً، قادة سياسيين ومثقفين ومسؤولي دولة وشعباً بكامله. وغني عن التأكيد ان وظيفة العقل، الذي منه يأتي التفكير، لا ترمي الى قمع المشاعر وقتلها، بل الى ترشيدها. ولا اعتقد ان احداً منا لا تستفزه ولا تستنفره تلك الوحشية التي تعاملت بها القوات الغازية بلداً بكامله، وشعباً بكامله، مستهينة بكل الشرائع والمواثيق الدولية، مستهترة بتلك الملايين التي ملأت وتملأ شوارع المدن في ارجاء العالم كافة، رافضة الحرب العدوانية، مطالبة بإيقافها، منددة باستهدافاتها في المنطقة وفي العالم. كلا، فإن للمشاعر دائماً مكانها الحقيقي في حياة البشر. ومن لا مشاعر له لا مكان له في الحياة. وحدهم الطغاة من كل الانواع والاجناس والاحجام هم الذين يفتقدون الى المشاعر. اذ تعميهم شهواتهم للسيطر وللتحكم، فلا يفكرون بسواها. لكننا، نحن البشر، نحن الذين يقع الظلم عليهم دائماً، من كل الجهات، معنيون بان نقيم تصالحاً بين عقولنا ومشاعرنا، وان نعطي كلاً منهما وظيفته التي تكمل وظيفة الآخر وتتكامل معها. هنا، بالذات تبرز أهمية ان نمتلك القدرة على تجاوز مشاعرنا في اللحظة الراهنة ذاتها التي تتواصل فيها الحرب وتقترب من نهاياتها الكارثية، ونبدأ بالتفكير عميقاً، وبدم بارد، في تحليل وقائع الحرب، وفيما ينبغي عمله في هذه اللحظة بالذات لانقاذ شعب وبلد من الكوارث، ونبدأ، في الوقت عينه، بالتفكير عميقاً، وبدم بارد أيضاً، في حقبة ما بعد الحرب، وتحليل حقبة ما قبل الحرب ونقدها. فالتفكير، هنا وهناك، متصل بعضه ببعض اتصالاً قوياً. والوظيفة الأولى لهذا التفكير هي الربط بين السبب والنتيجة. اما الوظيفة الدائمة فتتجاوز ذلك الى أمور اكثر تعقيداً، وظيفة تتعلّق بالتعامل الواقعي مع التغيرات والتحولات التي يشهدها العالم منذ عقود، وتشكّل معالم وسمات غير مكتملة وغير واضحة للقرن الجديد الذي ننتقل اليه، في ظل العواصف والزلازل المتوالية.

ان التفكير الذي أدعو الى الانخراط فيه، وسط مشاعر الألم والغضب التي يثيرها التطور الخطير والمذهل للحرب العدوانية القائمة، هو التفكير الذي يتركّز حول جملة القضايا التي اشرت اليها، الخاصة ببلداننا بالتحديد، والعامة التي تشمل العالم كلّه. تساعدني في تحديد عناوين هذه القضايا بعض كتابات لمثقفين واعلاميين لبنانيين وعرب، تميّزت بالدقّة والاستشراف.

وكان قد سبق لي ان كتبت كثيراً، منذ احداث الحادي عشر من ايلول، حول ما يجري في بلداننا وفي العالم، متنقّلاً بين ماضي أيامنا وحاضرها، مذكراً بكل ما عرفته شعوبنا وعانته من ظلم واستبداد وحروب وارهاب وتخلّف، مكثراً من التساولات التي لا جواب عندي في شأنها، محذّراً من أخطار داهمة تهدد بلداننا، أخطار لا تنحصر بالحرب وبالكوارث التي تجرها علينا في المقبل من الايام، بل تتجاوزها الى الاسباب التي ولّدت، ولا تزال تولد، المآسي والآلام والكوارث لشعوبنا. وأغرقت، وما تزال تغرق، أحلامنا بالشعارات الجوفاء الخالية من المضامين. وقد لخصت بعض أفكاري تلك في آخر مقال نشر في "النهار" (4/4/2003) وذلك في اشارتي الى الالتباس الذي تضع الشعب العراقي فيه الاحداث المتوالية في تاريخه منذ عقود، بين مواجهة مفروضة عليه بالقسر لنظام استبدادي غاشم، وبين مواجهة مفروضة عليه بالقسر، ايضاً، لعدو خارجي يأتي اليه غازياً، حاملاً معه مطامع توسيعية تستهدف الارض والثروة وطرق المرور الى مناطق اخرى مجاورة في كل الاتجاهات. والجوهري، في نظري، وفي ما قرأته لبعض مثقفينا وصحافيينا، هو ان ما يجري في العراق وفي بلداننا وفي العالم اليوم من احداث وتغيرات وتحولات هو عميق جداً وخطير جداً، وفي آن واحد. والأخطر من كلّ ما يجري هو العجز الذي نحن فيه، العجز المطلق عند أنظمتنا وعند القوى التي كان يفترض بها ان تكون حاملة لمشاريع التغيير. واذ غابت في الماضي، وتغيب اليوم، القدرة عندنا على الافادة من الجوانب الايجابية في تلك التغيرات والتحولات، فان الجوانب السلبية وحدها هي التي تمارس فعلها في جسمنا. والمرض يصيب، في الدرجة الأولى، العضو الأضعف في جسم البلدان والشعوب، العضو الذي عطلت المناعة فيه حالات الاستبداد والظلامية التي تسود في بلداننا، دولاً ومجتمعات، منذ المراحل الأولى للاستقلال، وتجعل التغيير في أي من اتجاهاته ممتنعاً عن التحقيق الى حدود الاستحالة.

إن القضايا التي ينبغي أن تكون محور تفكيرنا اليوم كثيرة جداً. وتكاد تحتل جميعها مرتبة الاولوية. وهنا مصدر الصعوبة التي لا غنى لنا عن أن نواجهها بشجاعة. وأكتفي، هنا، من هذه القضايا بالعناوين الآتية، التي أقدمها في صيغة اسئلة وتساؤلات: الحرب توشك أن تنتهي مخلّفة وراءها دماراً مادياً وروحياً هائلاً وحاملة في نهاياتها احتلالاً مباشراً لهذا البلد العربي الكبير والغني والعريق في تاريخ المنطقة. فماذا أعددنا لكي نواجه، مع الشعب العراقي، حقبة ما بعد الحرب، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وخططاً للحاضر والمستقبل؟ ما هي الدروس التي ينبغي استخلاصها من الحرب، بدءاً من مراجعة نقدية للماضي، وصولاً الى رسم خطة للحاضر والمستقبل؟ هل تتوافر شروط حقيقية لصياغة مشاريع ديموقراطية للتغيير، تحول دون احتمال قيام مشاريع ظلامية تغرق بلداننا في المزيد من التخلف والمزيد من الازمات؟ مَن هي القوى المؤهلة لصياغة تلك المشاريع الديموقراطية، وما هي ادواتها وما هي قدراتها على جعل تلك المشاريع قادرة على جذب الجماهير اليها، بعد كل الخيبات التي أُصيبت بها مشاريع التغيير اليسارية، الماركسية والقومية، في الحقبة الماضية؟ ما هو الدور الممكن والمحتمل للبلدان المجاورة للعراق، ايران وتركيا وسوريا على وجه التحديد، في الاتفاق والاختلاف، بين مصالحها الآنية والبعيدة المدى؟ ما هي امكانات بلداننا، حكومات وشعوباً وحركات سياسية وثقافية، للالتحاق بالحركة العالمية المناهضة للحرب وللهيمنة الاميركية، من اجل أن يكون لبلداننا مكان في صياغة مستقبل العالم؟ ما هي الامكانات الفعلية في العالم المعاصر، عالم ما بعد الحرب ضد العراق - الحرب الكونية بامتياز - لاعادة الاعتبار الى الأمم المتحدة كقيادة شرعية للعالم، من خلال إصلاح هياكلها وتجديد مواثيقها وتطور مؤسساتها؟ ما هو دور لبنان، حكومة وشعباً، سياسيين ومثقفين وشباباً، في كل هذه الظروف والمهمات؟

ألا تستحق هذه الاسئلة ان تكون محور تفكيرنا، أمس قبل اليوم؟ ألم يحن الوقت لكي نتحرر ونحرّر شعوبنا من الاستسلام للمشاعر - وهي مشاعر حقيقية - ونشغل عقولنا في عملية صياغة مستقبلنا، بدلاً من البقاء أسرى شعارات، الصحيح والحقيقي منها لم يستكمل بخطط واقعية لتحقيقه، فتحوّل الى جزء من تلك الشعارات الخيالية، الفارغة من المضامين، أي الى مَراتٍ وبكائيات على أطلال حلم دائم لا يزال يرافقنا منذ عقود، ولا يزال يستعصي على التحقّق؟!

هذا هو اوان  التفكير. هذا هو اوان البحث الحقيقي عن اجابات حقيقية عن تلك الاسئلة والتساؤلات. وفي يقيني، فإن الاجابات عن هذه الاسئلة، حتى لو بدت غير مكتملة، فان شروط البدء بها هي قطعاً متوافرة. لكن عملية البدء هذه انما تسرّع، او ينبغي أن تسرّع الشروع فيها، الكارثة الراهنة التي تتمثّل في ما انتهت، او توشك أن تنتهي اليه، هذه المرحلة من حرب العراق، التي تهيئ صورة المرحلة المقبلة التي ستكون ادواتها واشكالها ووقائعها مختلفة جداً عما شهدناه في المرحلة السابقة، وعلى الارجح نحو الاسوأ.