هل الماركسية لا زالت حاضرة في عصرنا؟.....14


محمد الحنفي
الحوار المتمدن - العدد: 6502 - 2020 / 2 / 29 - 17:48
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

سعي الماركسية في الواقع العيني:

إن الماركسية كفلسفة، وكعلم، وكمنهج علمي، عندما تسود في واقع معين، لا تسود فيه كفلسفة، وكعلم، وكمنهج علمي، بل من أجل أن يتغير الواقع:
1) من واقع له منطلقات غيبية / خرافية، لبناء منظومته الفكرية، التي تحكم ممارسته، إلى واقع يعتمد المنطلقات المادية، في بناء منظومته الفكرية، التي تحكم ممارسته المتقدمة، والمتطورة.

2) أن المنطلقات الغيبية، والدينية، والخرافية، تعيد إنتاج نفس الواقع الغيبي، وبنفس العقلية الدينية المؤدلجة للدين، وبنفس الواقع الخرافي، سواء كانت التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية: عبودية، أو إقطاعية، أو رأسمالية، تعج بالأفكار المثالية، المعتمدة على الغيب، أو على أدلجة الدين، أو على الخرافة، مما يجعل هذا الواقع يعيش الاستبداد المتخلف، وتنعدم فيه الحرية، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية. بينما نجد أن المنطلقات المادية، تعمل على إنتاج واقع مادي جديد، لا وجود فيه لشيء اسمه العبودية، أو الاستبداد، أو الاستغلال، ليسود فيه التحرر، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، ويسعى إلى التغير المستمر، المعبر عن تحوله، الذي لا يتوقف، وعن تطوره الذي لا نهاية له.

3) وإذا كان الإنسان يسعى إلى الحفاظ على ما هو قائم، على أساس المنطلقات الغيبية، أو الدينية، أو الخرافية، فإن هذا الحفاظ، لا يعني إلا الجمود. والجمود تراجع إلى الوراء، والتراجع إلى الوراء، ممارسة تهدف إلى إغراق الواقع في التخلف، باسم المحافظة على الأصالة، وعلى التراث، وعلى الدين، وعلى الفكر الماضوي / الخرافي، وعلى أساطير الأولين، التي وقفت وراء التخلف، الذي عرفته البشرية، منذ ظهور التشكيلة العبودية، ثم الإقطاعية، ثم الرأسمالية. وأي تطور يظهر في هذه التشكيلة، لا يتجاوز أن يكون في خدمة الطبقة المتمكنة من ملكية وسائل الإنتاج، في المرحلة العبودية (العبيد)، أو في المرحلة الإقطاعية (الأرض وعبيد الأرض)، أو في المرحلة الرأسمالية (البضائع)، التي تشغل العمال لإنتاجها، والتي تنتج فائض القيمة، وفي جميع هذه المراحل، يتصنف المجتمع إلى طبقتين رئيسيتين: في المرحلة العبودية (الأسياد والعبيد، وفي المرحلة الإقطاعية (الإقطاعيون وعبيد الأرض)، وفي المرحلة الرأسمالية البورجوازية والعمال)، وبين الطبقتين الرئيسيتين: هناك طبقة وسطى، هي التي تسعى إلى الانحياز للطبقة السائدة، المتحكمة في وسائل الإنتاج، وخاصة عندما تكون الغلبة للطبقة السائدة أما عندما تصير الغلبة، في المجتمع الطبقي، للطبقة النقيضة للطبقة السائدة، فإن الطبقة الوسطى، تهرول في اتجاهها، لا من أجل دعمها، بل من أجل ادعاء قيادتها في الصراع، حتى يصير ذلك الصراع في خدمتها، لا في خدمة العبيد، أو عبيد الأرض، أو العمال، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين في المجتمع، ليقدر، بذلك، الإنسان إنسانيته، التي هي الأصل، وفقدانها هو الاستثناء.

أما إذا كان الإنسان يسعى إلى التغيير، بمفهومه الصحيح، فإنه يحرص على أن يصير المجتمع متحررا اقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، وسياسيا، وحريصا على جعل كادحي المجتمع: عمالا أجراء، وفلاحين فقراء، ومعدمين، يمتلكون وعيهم بالذات، وبالأوضاع الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، ومدركين لموقعهم في علاقات الإنتاج، واعين إلى تطوير الواقع، عن طريق التحرر، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، في أفق الاشتراكية، ومساهما في عملية التغيير، عن طريق الانخراط في النقابات، والجمعيات الحقوقية، والثقافية، والتربوية، والتنموية، أو عن طريق الانخراط في الأحزاب اليسارية، الساعية إلى التغيير. وخاصة إذا كان هذا اليسار حزبا للعمال، وباقي الأجراء، وسائر الكادحين، سعيا إلى إحلال التحرر محل العبودية المباشرة، وغير المباشرة، وإحلال الديمقراطية محل الاستبداد، وإحلال الاشتراكية محل الاستغلال الرأسمالي، من أجل إتاحة الفرصة أمام التطور المنشود، في العلاقة مع الأرض، ومع المجتمع، ومع الوطن؛ لأن الانتماء إلى وطن معين، في مرحلة معينة، وفي تاريخ معين، يفرض الحرص على سلامة المجتمع من العبودية، والاستبداد، والاستغلال، سيترجم مستقبلا إلى الحرص على تحرر المجتمع، وديمقراطيته، واشتراكيته.

وهذا الحرص المتنوع، والمتطور، هو الذي ينقلنا من وضعية التخلف، والجمود الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، إلى وضعية التقدم، والتطور، في جميع المجالات، مما يجعلنا نتساءل:

أي شكل من أشكال التغيير، التي نسعى إليها؟

وأي دولة تسعى الماركسية إلى إقامتها على أرض الواقع؟

وأي مجتمع يجب أن تسعى الدولة الماركسية الاشتراكية إلى إيجاده؟

وما مصير التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية القائمة، بفعل التصور الماركسي؟

وما نوع التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية التي تحل محلها؟

وهل هي تشكيلة نهائية؟

أم أنها مجرد مرحلة لإيجاد تشكيلة جديدة نهائية؟

إننا عندما نطرح مثل هذه الأسئلة، وأمثالها، نجد أنفسنا مستغرقين في القول: بأن الماركسية كفلسفة، وكعلم، وكمنهج علمي، هي الوسيلة المثلى لتغيير واقع معين، وأن شكل هذا التغيير، يبتدئ من الأواليات، أو المنطلقات، التي تتغير، من كونها منطلقات مثالية / غيبية، أو دينية / خرافية، تقود إلى المحافظة على الواقع كما هو. والمحافظة، في حد ذاتها، تقود إلى جمود الواقع، وإلى عدم تطوره، والحيلولة دون تطويره؛ بل تقف وراء تراجعه قرونا إلى الوراء، كما تفعل ذلك دول الخليج، بقيادة السعودية، باعتبارها دولا محافظة، تحكم على مجتمعاتها بالتخلف الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، إلى منطلقات مادية، تسعى إلى جعل الإنسان متحررا اقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، وسياسيا.

ولذلك نجد أن التغيير في الماركسية، يستهدف المنطلقات، ويستهدف البنيات القائمة، والعمل على تغييرها ببنيات نقيضة، بعد تحطيمها بالوسائل المتاحة، أمام الماركسية، بما فيها: الوسيلة الديمقراطية، التي تسهم فيها الجماهير الشعبية الكادحة، بشكل فعال، والتي تجمع كل الحجج التاريخية، والواقعية، الأساس في أي تغيير يحصل في الواقع.

وأفق الماركسية، هو التحرر، والديمقراطية، والاشتراكية. إلا أن هذا الشكل من التغيير، يحتاج إلى مؤسسة تحميه، وتحرص على الالتزام بتفعيله اقتصاديا، بجعل هذا الاقتصاد خاضعا للتوزيع العادل للثروة المادية، والمعنوية، بين أفراد المجتمع، ضمن خطة معينة، محكمة، ومدروسة، ودقيقة، وممأسسة. وهذه المؤسسة، هي الدولة الاشتراكية، باعتبارها دولة ديمقراطية، ودولة للحق والقانون، ودولة علمانية، تتساوى أمامها جميع المعتقدات، التي أبدعتها البشرية، أو آمنت بها.

وبالإضافة إلى أن الدولة الاشتراكية، تحرص على التوزيع العادل للثروة الماديةن والمعنوية. فهي، كذلك، تحرص على أن تعطي للديمقراطية مفهوما منسجما مع طبيعة الاشتراكية، ومع طبيعة المجتمع الاشتراكي، ولا تكون خاضعة لنمط معين من الديمقراطيات الليبرالية، أو الرأسمالية، أو ديمقراطية الواجهة، التي يعرفها الحكام، الذين يدعون أنهم ديمقراطيون، بالمعنى السلبي للديمقراطية، كما تحرص على تحرير جميع أفراد المجتمع، مهما كانوا، وكيفما كانوا؛ لأن الاشتراكية، والديمقراطية، والتحرر في الماركسية، متلازمة مع بعضها البعض، كما ذهب إلى ذلك الشهيد عمر بنجلون، في تقديمه للتقرير الأيديولوجي، في المؤتمر الاستثنائين المنعقد في يناير 1975. وتدخل فيما بينها علاقات معينة، وهذه العلاقات، هي علاقة جدلية، باعتبار كل منها وسيل،ة وهدف. فلا توزيع عادلا للثروة، ما لم تكن هناك ديمقراطية، وتحرير، ولا ديمقراطية، بدون توزيع عادل للثروة، وتحرير، ولا تحرير بدون ديمقراطية، وتوزيع عادل للثروة المادية، والمعنوية.

فالدولة التي تسعى الماركسية إلى إقامتها، هي دولة ديمقراطية / اشتراكية / تحررية، أو دولة اشتراكية / ديمقراطية / تحررية، أو دولة تحررية / ديمقراطية / اشتراكية. وما دام هناك تحرير، وديمقراطية، واشتراكية، فهي دولة الحق، والقانون. وما دام هناك رؤيا ماركسية إلى مختلف المعتقدات، على أساس المساواة فيما بينها، على أساس اعتبارها شأنا فرديا. فهي دولة علمانية، مما يجعلنا نقر بالملموس، أن الدولة الماركسية: دولة ديمقراطية / تحررية / اشتراكية / علمانية. لا وجود فيها لشيء اسمه الاستناد إلى الدين، أي دين، في إقامة الدولة الماركسية، التي تعتمد في منطلقاتها: المنطلق المادي، الذي يمكن اعتباره منطلقا علميا، أو سياسيا، لبناء العلم الماركسي، ولصياغة المنهج المادي الجدلي، والمادي التاريخي، اللذين نحتاجهما في عملية التحليل الملموس، للواقع الملموس.

وبما أن الدولة التي تسعى الماركسية إلى تحقيقها، هي الدولة الديمقراطية / التحررية / الاشتراكية / العلمانية، باعتبارها دولة للحق، والقانون. فالماركسية تسعى إلى إيجاد مجتمع متحرر، وديمقراطي، واشتراكي، ويتمتع أفراده بالحق في الاعتقاد، أو عدمه، باعتبار ذلك الاعتقاد شأنا فرديا. (فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر)؛ لأن الإيمان، أو الكفر، شأن فردي. والشأن الفردي، يتمحور حول اختيار أي معتقد، من أجل الإيمان به، أو الكفر بكل المعتقدات. ولا شأن لأي كان به، ليبقى الإيمان بمختلف المعتقدات، أو عدم الإيمان بها، شأنا فرديا، ولا يحق للمجتمع، أي مجتمع اشتراكي، مهما كان هذا المجتمع الاشتراكي، باعتباره متحررا، وديمقراطيا، أن يسيد أي معتقد، بصفة قسرية، على جميع أفراد المجتمع؛ لأن عملية التسييد، مهمة يقوم بها المؤدلجون لأي دين، ولا يد للمجتمع الاشتراكي بها. والمؤدلجون يصيرون متمكنين، بتأييد هذا النظام الرأسمالي، أو ذاك، وهذا النظام الرجعي، أو ذاك، ويسعون بحكم أدلجتهم للدين، أي دين، وخاصة الدين الإسلامي، إلى تخريب المجتمع الديمقراطي الاشتراكي، التحرري، باعتباره متناقضا، مع ما يسعون إليه، في ظل الدعم المطلق، للنظام الرأسمالي، للأنظمة الرجعية، في جميع بلدان العالم، التي تدعم أدلجة الدين، وتشكل بوابة لتسرب الرأسمالية، والرجعية، على يدهم، إلى المجتمع الاشتراكي.

وعندما تختار الماركسية، إيجاد مجتمع متحرر وديمقراطي، واشتراكي، في ظل الدولة الديمقراطية / الاشتراكية / التحررية القائمة؛ فلأنها تسعى، في نفس الوقت، إلى إيجاد مجتمع محتضن للفلسفة الماركسية، وللعلم الماركسي، وللمنهج العلمي الماركسي، وينبذ أي فكر مثالي، أو ديني مؤدلج، أو خرافي، باعتباره منطلقات، تهدف إلى التمسك بقيام المجتمعات الرجعية، والرأسمالية، ومن منطلق مادي صرف، باعتبار الماركسية معتمدة له.
وتسعى الماركسية إلى نشر الوعي، بخصوص عودة الرجعية، والرأسمالية، إلى المجتمع الذي عرف تحقق الاشتراكية المتطورة، في أفق قيام الشيوعية، التي هي الملاذ الإنساني الأكبر، في كل بلدان الكرة الأرضية، التي هي الملاذ الأول، والأخير، للنظام الشيوعي العالمي، الذي تنتفي فيه الملكية الفردية، وتسود فيه الملكية الجماعية، وتحل السلطة الشعبية محل أي نظام رأسمالي، أو رجعي، أو حتى نظام اشتراكي مرحلي.

ومعلوم أن الأنظمة الاستغلالية، التي عرفتها البشرية، قامت في ظل التشكيلة العبودية، وفي ظل التشكيلة الإقطاعية، وفي ظل التشكيلة الرأسمالية، التي عاشت البشرية في ظل سيطرتها، عل أساس أن الاستغلال العبودي، والإقطاعي، والرأسمالي، سيدوم إلى مالا نهاية. إلا أن مجيء الماركسية، بين بالوضوح الكامل، أن أي تشكيلة اقتصادية، واجتماعية، هي مجرد مرحلة تفضي إلى مرحلة أعلى منها. وهو ما يعني: أن الحتمية التي بناها الفكر الماركسي، تقضي بزوال كل التشكيلات الاستغلالية، بما فيها التشكيلة الاشتراكية، باعتبارها مرحلة ما قبل الشيوعية، التي ينتفي فيها الاستغلال، وتسود فيها السلطة الشعبية، التي تحل محل سلطة الدولة الاشتراكية، لتسود المقولة التي تعتبر أن (على كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته). فزوال جميع التشكيلات الاقتصادية / الاجتماعية، التي يسود فيها الاستغلال، بجميع أنواعه، يكون بفعل الماركسية. وتحقيق التشكيلة الاشتراكية المرحلية، هو بفعل الماركسية. والوصول إلى تحقيق التشكيلة الشيوعية، هو بفضل الماركسية.