سراج الحب الأول


محمد يعقوب الهنداوي
الحوار المتمدن - العدد: 6495 - 2020 / 2 / 20 - 04:48
المحور: الادب والفن     

يا سراج الدين

سادراً في رحابِكِ
أكشفُ صدرَ الغَمامةِ
أكتبُ سرَّ المَطَرْ
أُوسِّدُ في راحةِ الوهْمِ روحي
وأبذرُ في رَحِمِ العقمِ بدءَ انْتِهائِي
وئيداً
وئيداً
أبدّدُ في لاهبِ الرملِ مائي
وئيداً
وئيداً
أودّعُ وجهَ الدروبْ

في أصائل الأيام التي ستأتي، وحين ينبلج كبرياء الحلم عن جراح الروح وحنينها رحت أستوقف الغيمة أسألها عن نهر كان هنا.

أسألها عن قلوب كالحليب ونوايا كالحليب في صباحات كالحليب كنت فيها أرتدي ثيابي وأحتضن دفاتري وأخرج الى المدرسة. وما ان أستقبل أول انعطافة في الدرب حتى تتسمـّـر الأقدام وأقبع بانتظارها.

متطلعا في الأشياء بدهشة عاشق فقير لا يملك الا وفاء الحب الأول وبراءة الصبا أرى الناس وحركة الشارع ولا أرى شيئا ولا أحس رمل الدم يترسب في الساقين انتظارا.

كل ما كنت أراه كان منى.

جارتي وفي مثل سني فقيرة مثلي بل وليس في بيتها حتى صنبور ماء لذا كنا نشاركهم الماء وكسرة الخبز وحفنة الملح وخرق الذكريات والانتظار مثلما يفعل الفقراء في كل الأماكن وفي كل العصور.

قبل الثامنة بقليل كانت تطل من آخر الشارع تتهادى فينخطف القلب ويشتد خفقه وأنتظر لحظة وصولها قربي. في وجهها الذي أعرف كل قسماته ومحاسنه كنت أرى نظرتها المرسلة من بعيد الى حيث أقف، ومن حيث أقف أحس ارتعاشة كفها المتشنجة على حقيبتها وتعرّق أصابعها.

تجتاز موقفي من الشارع وهي ترنو بابتسامة الصباح فتلغي المفردات واللغة. أسير في أعقابها محاولا ألا ألفت انتباه أحد ونتبادل كلمتين لا نفتأ نكررهما كل صباح وكل صباح يكتسبان معنى جديدا وألقا آخر.

في السنين التي ستأتي ستكبر منى وسيكبر الحلم ونواصل اقتسام الماء والملح وكسرة الخبز وحلم الفقير وحزن الفقير. ومعا سنقضي قيظ الظهيرة في الحر اللاهب وريح السموم لا نكاد نشعر بشيء الا صورة كل منا في قلب الآخر واستعار الرغبة.

في الليالي كنا نفترش سطوح المنازل العابقة برائحة الآجر الذي فخرته الشمس طوال النهار ورشقناه ورشقنا بعضنا بدلاء الماء ضاحكين وفي دواخلنا نوايا خبيئة اذ تفصح الثياب المبللة عن جمال الأجساد الصبية ومكورات داهمها النضج فتفجرت صيحات لهفة صماء.

على حافات سور السطح نضع جرار الماء لتبرد متلصصين على بنات الجوار يعددن العدة لسهرة الأُسْــــرة ويعتنين بترتيب الأفرشة بانحناءات مراهقة حيـّـية تشف عن صدور تبرعم فيها الحنين وهي تنتظر تلصصنا بتجاهل مفتعل وشوق كامن.

وكالمعتاد، تتذكر جارتي "بغتة" شيئا قالته لها أمها وتريدني أنقله لأمي فتناديني وألبّـي ونلتقي عبر سور السطح. تسألني أولا بصوت مرتفع عما إذا كانت أمي في البيت وهي تعلم أن أمي لا تكاد تغادره، وما ان أقترب حتى يذوب الجدار بين قلبين يموران هوى وينجلي خبث الادعاء فليس الا اعتلال المحبين.

حين ينام الجميع كان أرق الحبّ الأول يأتي بالمستحيل الى قلوبنا الصغيرة العاشقة. فتترجل الأنجم من علاها لتتخذ صورتها وتهمس بصوتها. وحين أغفو على هدهدة الليل والقيظ وصرير القوارض كانت النجوم تأخذني اليها لنقضي ليالينا معا في حضن بهجة ما أينعت مذ داهمتها الظلمة.

يوم استفحل الطاعون القومي فحصد أجمل شباب العراق وانتهك أحلى صباحاتنا، كان علينا أن نكون أو لا نكون. أن نقف في وجه الموت أو ننحني لحشرات الليل التي كانت تغتال أحبتنا حتى أصبح عاديا أن نرى أجسادهم الممزقة ملقاة على قارعة الطريق.

ووفدت علينا كل أنواع الجراد تأكل الأخضر واليابس وتهدم معابدنا وتقضّ مراقدنا وترتاد مرابدنا فتنشد القصائد العصماء في مدح دراكولا وقبيلة الخفافيش التي جاءت معه. وراحت رياح السموم تقتل أزهارنا وتنبثق نوافير الدمّ أنـّى وطأنا.

رحنا نحفر بأظفارنا جسد الليل لتشرق شمسنا الموءودة من جديد. وكانت كلاب الصيد تتعقب خطانا وأنفاسنا وانتهى أكثرنا الى حضن الأرض أمنا الرؤوم. أما أتعسنا حظا فانتهى في أقبية التعذيب.

ويوم خروجي من سجن قصر النهاية الرهيب مستبسلاً جاءت منى، وكان للأحضان والقبلات معنى آخر، فهي معي أيضا ضد الطاعون وضد الليل.

وثانية جعلنا من صدورنا دروعا ورفعنا راية الثورة. لكن الغدر الكامن في وجدان أمة كالهرّة الحمقاء تأكل أبناءها لم يمهلنا طويلا، واستفقنا على أصوات الخيانة، واخترنا ما أسميناه "مناورة" الهجرة لاستجماع القوى ومعاودة النزال.

بعد بضع سنين من غربة الجسد سمعت أن حارتنا هُدمت، وأهلها طردوا وأن منى ماتت. قتلتها سيارة طاردتها في الشارع وصعدت اليها على الرصيف لتدهسها ولم يـُعرف من هو السائق في وطن ضاع بين قصر النهاية والعجلات السريعة.

قتلتها العجلات السريعة والسائق لم يعرف ولن يعرف أبدا لأنه لا يخفى أصلا‍‍‍‍! فمن عساه يكون سوى دراكولا مصّـاص دمائنا الذي لا يرتوي.

في ليالي السهاد الطويلة التي ستبصم سوادها في كل شيء وعلى كل شيء لا زالت مُنى حكاية الأنجم العاشقة التي تترجل كل ليلة من علاها وتأتي بصورتها وتهمس بصوتها.

في زمهرير الغربة جمعت رسائل الأهل ومسودات القصائد وصور الأحبة وأعلام الوطن وأوقدت نارا لكن لا دفء فيها، ولم تعد صورة منى تغزل الضوء كما اعتادت ولا ظلها يتراقص على الجدران.

حين تغفو الروح بين كوابيس دراكولا وأرق الغرباء وأحزانهم وصرير القوارض تأكل بقايا الحلم وجحافل الأوهام وتسفك ما تبقى من رحيق العمر، لم تعد النجوم تأخذني الى حيث منى ولا تأتيني بها لنقضي ليالينا معا في حضن بهجة ما أكرمتنا الأيام بها...

* * *