من دفتر الهجرة، أول الطريق


محمد زكريا توفيق
الحوار المتمدن - العدد: 6478 - 2020 / 1 / 31 - 14:40
المحور: الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة     

زميلي في الرحلة ورفيقي في السكن، مجدي، حصل على وظيفة في شركة تأمين. نحن الآن في شهر ديسمبر عام 1969م. لا زلت أبحث عن عمل في منهاتن، وهي حي الأعمال بمدينة نيويورك. النقود معي أوشكت على النفاذ. اليأس بدأ يتسرب إلى نفسي.

تعرفت على شاب مصري مسيحي جاء مهاجرا عن طريق لبنان. كنا نبحث سويا على أي عمل وبأي أجر. وجدنا عملا بأحد المطاعم الكبيرة بمنطقة وسط منهاتن. الأجر كان 1.6 دولار بالساعة. أخذنا أحد العاملين بالمطعم إلى مكان في البدروم تحت الأرض. لا شبابيك تفتح على الشارع. الإضاءة ضعيفة، السقف منخفض، مواسير المياه السخنة، وهواء التدفئة تكاد تلامس رؤوسنا.

وجدنا أمامنا حوض غسيل بطول المكان، مليء بأطباق مغمورة في الماء والصابون. قال لنا المرافق، واحد يصبن ويشطف، والثاني ينشف ويرص. لم أستطع البقاء في هذا المكان أكثر من خمس دقائق. كدت أختنق. قلت لزميلي المصري: على جثتي الشغلانة دي. بالطبع رفضنا العمل.

يوم الأحد السابق لعيد الكريسماس، 25 ديسمبر 69، جاء هشام لزيارتي أنا ومجدي. أخبرني وهو يبتسم أنه قد تلقى مكالمة تليفونية من مكتب الأعمال المؤقته، يطلب مني الذهاب إلى المكتب باكرا يوم الإثنين القادم. لم يذكر المكتب نوع الوظيف المتوافرة. كنت أستخدم تليفون هشام بصفة مؤقتة.

كان هشام يعمل في فرع لبنك "مانيفاكشر هانوفر" بجنوب منهاتن. نصحني سابقا بتقديم طلب للعمل بالبنك حينما تحين فرصة. نسيت الموضوع وانشغلت بالبحث عن وظيفة في أماكن أخرى.

في المساء، تساقط الثلج وغطى الشوارع وأسقف المنازل والسيارات بطبقة بيضاء من القطن المندوف. أول مرة أرى فيها الثلج وهو يتساقط من السماء. المنظر بديع، عندما يتوقف سقوط الثلج وتشرق الشمس في الصباح بأشعتها الذهبية.

السير في الشوارع المغطاة بالثلوج يستوجب الحذر. عندما يكون الثلج أبيض، لا يمثل خطرا. لكن المشكلة عندما تنخفض درجة الحرارة ويتحول إلى طبقة شفافة مثل ألواح الثلج. هنا يسهل الانزلاق وتكثر الحوادث. نصيحة للسير في الثلج: تجنب الأماكن الشفافة وسر منحنيا للأمام.

يوم الإثنين التالي، توجهت لمكتب التشغيل، فأرسلني للعمل في فرع ميسيس بشارع 34 وسط منهاتن. وهو متجر كبير عريق يعتبر من معالم نيويورك. حقق أرباحا قدرها 25 بليون عام 2018م. يشبه محلات عمر أفندي في مصر بفروعه الكثيرة. حركة البيع والشراء تزداد بشكل كبير في موسم الكريسماس ورأس السنة من كل عام، ويحتاج إلى عمالة مؤقتة.

ذهبت إلى قسم المستخدمين، فأعطوني ملابس العمال الزرقاء، وطلبوا مني العمل في المخازن كحمال. أشيل صناديق وكراتين وأضعها في رفوف حديدية بطريقة معينة يسهل معرفة ما بداخلها.

كان يعمل معي أحد اللاجئين السياسيين من أمريكا الجنوبية. عنده مشكلة في اللغة أيضا. هو لا يعرف سوى اللغة الفرنسية، وأنا أتكلم اللغة الإنجليزية الفلاحي التي لا يفهمها أحد.

درست الفرنسية في المرحلة الثانوية، لكنني لا أتذكر منها شيئا الآن. كانت المحادثة بيننا عبارة عن تهتهة وإشارات باليدين والأصابع وتخمينات، تصلح أن تكون مسرحية كوميدية لعلي الكسار. الأجر اليومي كان 10 دولار.

في اليوم التالي، لكي أذهب إلى وسط منهاتن حيث العمل الجديد في متجر ميسيس، يجب أن أترك القطار رقم "F" في محطة معينة، وأركب القطار رقم "A". القطار الأخير يأتي على نفس الرصيف.

لم أكن سعيدا بهذا العمل المؤقت. غير معقول أكون مساعد الخبير الاكتواري في مصر، وآجي هنا أشتغل شيال. لكن نقودي نفذت تقريبا، والمضطر يركب الصعب. ماذا يمنع من قبول هذه الوظيفة مؤقتا إلى حين ميسرة، وإلى أن تظهر فرصة أفضل؟

بينما أنا منتظر على الرصيف، جاءتي فكرة. وهي أن أذهب إلى فرع بنك "مانيفاكشر هانوفر" الذي يعمل به هشام، أملأ طلب وظيفة، ثم أذهب بعد ذلك لعملي الجديد. لكن خشيت أن أفقد وظيفتي الجديدة إن تأخرت عن العمل ثاني يوم استلامها.

تأخر القطار رقم "A" الذي أنتظره تأخرا كبيرا. فازداد قلقي وتضخمت مخاوفي. ومزج كل هذا بالأمل في المستقبل والحصول على وظيفة أفضل. ماذا أفعل؟ هل أذهب إلى عملي الجديد، أم إلى البنك أحاول مرة أخرى؟

وقفت على الرصيف متحيرا، قلت في نفسي: أنا لن أستطيع أن آخذ مثل هذا القرار المصيري بنفسي. سأترك هذا للقدر. لو جاء القطار "A"، سوف أذهب لوظيفتي الجديدة لكي أواصل العمل كشيال. أما إذا جاء القطار "F"، فسوف أذهب إلى البنك، فهذا هو نداء القدر.

أنا لا أصدق مدى تأثير مثل هذا القرار على حياة الفرد. كيف تتحكم الصدفة أو الحظ أو القدر في مصائر البشر، أو الشعوب إن كان الأمر يخص الحكام وقرار الحرب أو السلم؟

أين حرية الإرادة هنا؟ وهل الإنسان مخير أم مسير؟ مجرد وصول قطار معين في وقت معين، قد يغير حياة الإنسان ويقلبها رأسا على عقب. كما حدث معي. وجاء القطار "F".

ذهبت إلى قسم المستخدمين بالدور الأول من مبني البنك. سألت السيدة الفاضلة التي استقبلتني عن وظيفة، فطلبت ملء بيانات والانتظار مع مجموعة من طلاب الوظائف. عندما نظرت هي إلى طلبي، قالت: ليست لدينا وظائف في قسم الإحصاء، لكن توجد وظائف في قسم الكمبيوتر. وظائف الكمبيوتر تتطلب النجاح في امتحات تحريري سنعطيه لك الآن.

أعطتني الامتحان الأول، وهو امتحان سهل عبارة عمليات حسابية ورياضية وأشكال هندسية ونسب وتناسب. الامتحان الثاني كان عبارة عن منطق واختبار ذكاء وفوازير. نجحت في الإمتحانين، وقمت بالكشف الطبي واستلام الوظيفة.

الوظيفة لم تكن فنية بالمرة، يستطيع أي فرد القيام بها. كانت في قسم الأرشيف. مجرد أخذ مخرجات ومطبوعات الكمبيوتر، ووضعها في رفوف خاصة بعد لصق عناوين فروع البنك عليها. إلى أن يأتي رجل البريد لتسلمها. العمل كان في الفترة المسائية من الساعة 4 مساء إلى منتصف الليل.

رئيسي في العمل، بول، زنجي أسود من أمريكا اللاتينية، إنسان بمعنى الكلمة. عندما علم أنني مصري جامعي، أخذني معه في قسم الكمبيوتر وبدأت من أول الطريق.

أول كمبيوتر رقمي هو (ENIAC)، قام بتصنيعه جون ماوكلي، و جي إيكرت من جامعة بنسلفانيا. يستخدم نظام رقمي عشري بدلا من النظام الثنائي المستخدم حاليا. هو أيضا أول كمبيوتر يستخدم أكثر من 18000 لمبة كاثود، مثل التي كانت تستخدم في الرايوهات القديمة.

هذا الكمبيوتر كان يشغل مكانا كبيرا، حوالي 1800 قدم مربع. يستخدم الكروت المثقبة كمدخلات، ومخرجات. بطيء جدا إذا قيست سرعته بالكمبيوتر الحديث.

التعليمات والبرمجة كانت في وحدة مستقلة، تستخدم تحويلات وجداول مسبقة، تختلف من مشكلة إلى مشكلة. ظل هذا الكمبيوتر يستخدم من عام 1946 إلى عام 1955م.

في الخمسينات، تم اختراع شيئين، تسببا في قيام ثورة الكمبيوتر. الإختراع الأول هو الترانزيستور (1947م) من معمل شركة التليفونات "Bell Labs". الثاني هو دوائر الرقائق المتكاملة (1958م) من شركة (Texas Instruments).

لمبات الكاثود كانت غير عملية بالمرة. تتطلب مكانا كبيرا، وتحترق بسرعة مما يستوجب إبدالها بصفة مستمرة. الترانزيستور حل هذه المشكلة.

في الستينات، أصبحت أجهزة الكمبيوتر المركزية الكبيرة أكثر شيوعا في الصناعات الكبيرة والبنوك والجيش الأمريكي وبرنامج الفضاء. (IBM)، أصبحت الشركة الرائدة في السوق، بدون منافس، لبيع أجهزة الكمبيوتر الكبيرة والمكلفة هذه، والتي يصعب برمجتها وتشغيلها واستخدامها. وهذا هو وقت عملي بالكمبيوتر.

لكي نفهم سرعة التقدم في مجال الكمبيوتر، إليكم هذه البيانات الخاصة بتخزين أبسط معلومة وهي البت ((BIT في النظام الثنائي. يلزم ثمانية من هذه الوحدة لكتابة حرف واحد من الأبجدية:

لمبات الكاثود (1950s) - بت واحد في حجم الإبهام؛
الترانزستورات (1950s و 1960s) -- بت واحد في حجم الظفر؛
الدوائر المتكاملة (1960s و 70s) -- الآلاف من البت في حجم اليد
رقائق الكمبيوتر السيليكون (1970s و...) -- الملايين من البت في حجم ظفرالإصبع.

تطور سهولة استخدام أجهزة الكمبيوتر:

الخمسينات: يكاد يكون من المستحيل استخدام الكمبيوتر إلا من قبل عباقرة.
الستينات والسبعينات: يحتاج برمجة من قبل أشخاص مدربين تدريبا عاليا.
من الثمانينات إلى الآن: صالحة للاستعمال من قبل أي شخص تقريبا.

وللحديث بقية، فإلى اللقاء