إيحاءات وعد ترمب واصدائه


سعيد مضيه
الحوار المتمدن - العدد: 6476 - 2020 / 1 / 29 - 20:02
المحور: القضية الفلسطينية     

إيحاءت الوعد واًصدائه
برهن إعلان وحد ترمب أن المعارضة الكلامية لوحدها لا تردع المتكالبين على خطف فلسطين دولة يهودية تفرض نظام ابارتهايد، ولا يجيب نتنياهو بغير الابتسامة الصفراء على رفض القيادة الفلسطينية لطروحاته العنصرية والفاشية. وكل من راودته اوهام حول مقاصد الصهيونية نفذ رصيد خداع النفس. لعله يطيب للعقول المتواطئة ترديد المقولة السمجة " أن الفلسطينيين لم يفوتوا فرصة لتفويت الفرص"؛ فقد مضت قيادة الشعب الفلسطيني شوطا وراء سراب التسوية السلمية لتعود وقد وجدت الضفة مقطعىة الأوصال بمئات المستوطنات المأهولة بمئات آلاف المستوطنين الفاشيين. والسؤال الذي ينتظر إجابة عملية: هل يختلف مصير رفض وعد ترمب عن مصير رفض قرار تقسيم فلسطين من قبل الجمعية العمومية للأمم المتحدة؟
نأمل ونتمنى أن الطفرة التي طرأت على مزاج قادة الفصائل تنبئ عن قناعة وجدانية وعقلية يبنى عليها لتتطور وحدة وطنية صوانية، تنهج سياسة علمية تعتمد جدل الفكر والممارسة وتمارس المراجعة النقدية، تنبذ الأوهام والنزوات الذاتية، تعتمد التفكير والتخطيط الاستراتيجيين، مثلما تنبذ العفوية والهياج العاطفي والانفعاليية. فما اتضح لكل ذي بصر ان الصهاينة لا يصدرون تصريحات للاستهلاك، إنما هم يلتزمون باستراتيجة وتكتيكات تتبدل بتبدل الظروف والملابسات ، لكنها قربت باستمرار الهدف الاستراتيجي، الذي يمكنهم من اقتلاع شعب فلسطين من وطنه وتمكين سيادتهم المطلقة على فلسطين والمنطقة بأسرها .
نأمل ونرجو ان يدرك المسئولون الفلسطينيون في جميع الفصائل أن التذاكي وتبادل التهم قد أغرى اطماع التوسع الاستيطاني . كشفت الصهيونية عن استراتيجية اقتلاع الوجود الفلسطيني فوق أرض الوطن، تدعمها الامبريالية الأميركية والبريطانية بدون تحفظ ؛ فنهج ترمب هو التصعيد المتواتر للانحياز الامبريالي، ووفر الفرصة التاريخية لجني ثمار تخريب المجتمعات العربية من جانب التحالف الاستراتيجي إياه . وهذا يلزم اقتران مقاومة المشروع الصهيوني بإضعاف واستئصال نفوذ الامبرايالية في المنطقة، وعدم الانخداع والاتكاء على دعم دول الغرب الامبريالية. يجب مراعاة التوازن الموضوعي للقوى في الصراع على فلسطين. نأمل أن يكون المسئولون الفلسطينيون قد وعوا ان الاستناد الى دول الغرب الامبريالية يخذل ويغدر.
ما بين قرار تقسيم فلسطين ووعد ترمب تماثل يقارب التطابق. فالقرار انطوى على قسمة جائرة وخلا من ضمانات للفلسطينيين وعقاراتهم في دولة اليهود العتيدة، بحيث اضطر أغلبية الفلسطينيين لرفض القرار الجائر، وهو ما هيأ الفرصة للصهاينة لخوض حرب تطهير عرقي جادت عليهم بدولة موسعة شبه نقية ، اتاحت لإسرائيل إقامة النظام السياسي الليبرالي المتماهي مع نظم الغرب. وبالمثل انطوى وعد ترمب على استباحة الحق الفلسطيني في الوطن تكتنفه ألغام ومزالق فرضت الرفض القاطع للوعد، مما يهيئ لليمين الصهيوني و لنتنياهو، ان أفلت من جرائر فساده واحتياله، وفي حال استمرار الميوعة في المقاومة الفلسطينية وإرباك الشعب بالمهاترات، الإيغال في مصادرة الأراضى وتدمير المباني والمزارع والتوسع الاستيطاني والتهويد، وكل ما من شانه تضييق سبل العيش على جماهير شعب فلسطين واضطرارهم في نهاية الأمر للهجرة خارج فلسطين.
وأمر هام آخر يتجاهله جميع المناهضين للمشروع الصهيوني الاقتلاعي أن غاية القائمين على المشروع تتجاوز حدود فلسطين التاريخية. يجدر في هذا الصدد إيراد استراتيجية الصهاينة كما عبرت عنها إحدى نشيطات حركة الاستيطان. فقد نقل مراسل هآرتس عن دانييلا فايس، الرئيسة السابقة لمستوطنة كدوميم بالضفة ، أن رؤيتها المستقبلية لإسرائيل بعد ضم الضفة الغربية تشمل أجزاء من لبنان وسوريا ومصر والعراق وإيران. زعمت ان رؤيتها المستقبلية ل "إسرائيل الكبرى " ليست متطرفة ، وإنما هي مقاربة يهودية أساس "وكانت الوسيلة الوحيدة لمواصلة الصهيونية" . وفي ما يتعلق بالسيادة قالت ان ارض إسرائيل تخص الدولة اليهودية فقط، وبمقدور العرب العيش هنا ، والتمتع بحقوق مدنية وإنسانية ، بمقدورهم طلب العلم والاحتفاظ بثقافتهم ، ولكن بدون سيادة". وتصريحها مطابق لنص وعد بلفور الذي أكتفي بحقوق مدنية ل"غير اليهود" في فلسطين.
كي لا يمضي رفض وعد ترمب نسخة عن رفض التقسيم يملي المشروع الاقتلاعي الصهيوني على الجانب الفلسطيني أن لا يهزل حيث يتوجب الجد، وأن لا تتلهى فصائله بمغريات خاصة عن هدف المقاومة الجادة، تستشرف أفق التحرير التام ، وتلتزم بخطة عمل توحد جهود الجميع بحبث تتكامل وتسد الثغرات، بالتنسيق مع جهد كفاحي عربي ، حيث تدرك القوى العربية السليمة، خاصة في الجوار، انها استُهدِفت بالمكائد الصهيونية وهي مستهدفة بفقدان السيادة الوطنية لصالح هيمنة دولة إسرائيل الكبرى، وكيلة الهيمنة الامبريالية على المنطقة. تجلت الاستراتيجية الصهيونية للنظرة الحادبة في قرارات المؤتمر الصهيوني الأول وفي وعد بلفور وقرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين وفي مجمل سياسات دولة إسرائيل. كما تجسدت في مخطط عدوان حزيران1967. وقائع عديدة تبين مشاركة الإدارة الأميركية في التخطيط للعدوان وتنفيذه. و إثر الانتصار الإسرائيلي في حزيران 1967 طالب عضو هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، متتياهو بيلد ، بالتخلي للفلسطينيين عن الأراضي التي استولى عليها العدوان غربي النهر، ورفض اقتراحه فأدرك ان هدف العدوان هو بالتحديد التمدد الجغرافي على الأرض الفلسطينية، وقام بفضح المخطط ؛ غير ان احدا لم يصغ لتحذيرات متتياهو بيلد.
انخدعت فصائل المقاومة الفلسطينية بتبرير إسرائيل لعدوان حزيران، مجرد ضربة استباقية، بينما كان في الحقيقة رافعة لدور إسرائيل ضمن مخططات الامبريالية ، ومرحلة مكائد دبرت لسحق حركات التحرر والديمقراطية والتنمية في الأقطار العربية كافة. طالت المخططات الامبريالية-الإسرائيلية المنطقة بأسرها. مضت إسرائيل في جولة ثانية واصلت مرحلة التطهير الأولى 1948-1949، هادفة فرض ترتيبات جديدة على المنطقة تصعد إسرائيل على أثرها الى سدة الهيمنة على المنطقة . نجح التحالف المعادي في إخراج مصر من معارضة التحالف الاستراتيجي وأطلق اتفاق كامب ديفيد أيدي إسرائيل تنهب الأرض وتوسع الاستيطان وتنعطف نحو تهويد مناطق جديدة ليرتفع شعار الترانسفير والتطهير الثاني لمناطق غرب الأردن. كان أوسلو واتفاقاته وعملية السلام المزعوم خدعة من جانب شمعون بيريز رامت إلهاء الفلسطينيين والعالم بسراب تسوية سلمية يكثف الاحتلال خلالها مصادرة الأراضي وتوسيع المستوطنات وتكثيرها . مضى الاستيطان طبقا لاستراتيجية التحالف الجديد الناشئ بين إسرائيل والامبريالية الأميركية؛ بينما انخدع العرب والفلسطينيون بالمضي خلف سراب الصلح مع إسرائيل والتسوية السلمية للصراع معها.
يشير تشكل الحركة الصهيونية من حيث التاريخ والتوجه إلى جوهرها حركة امبريالية، إحدى ضرورات السيطرة الامبريالية على الشرق الأوسط. تصور هيرتزل الدولة اليهودية في كتابه بنفس العنوان"وطنا آمنا بصورة مشروعة" و " دولة نقية تقيم حظيرة تستوعب السكان الأصليين". وورد من بين ملابسات صدور وعد بلفور مشاركة لويس برانديس في صياغته، وهو الصديق الحميم للرئيس ويلسون ، وأول عضو يهودي بالمحكمة العليا. وتولى الاستشراق الأميركي الحرص على مماهاة عرب فلسطين بالشعوب الواردة بالتوراة، من حيث الهمجية وخطيئة مقاومة العدوان " المقدس" للعبرانيين. كما أورد بلفور في مذكرة رفعها عام 1919 الى رئيس حكومة بريطانيا تأكيده ان " الصهيونية ، سواء كانت مخطئة او مصيبة، اهم بكثير من مصالح وتحيزات سبعمائة ألف فلسطيني يعيشون على هذه الأرض العتيقة". لعل هذا التصريح المسجل يدحض مزاعم الصهيونية في هذا الوقت بأن الوجود الفلسطيني متأخر على الهجرة اليهودية الى فلسطين ، حيث تقاطر العرب من المناطق المحيطة طلبا للعمل. وقبل صدور الوعد أطلق الزعيم الصهيوني كلاوزنر، في مقال نشره عام 1907 على العرب صفة "أشباه متوحشين" محذرا الأدباء الصهاينة من ترويج فكرة الاندماج معهم، وانذر بأن العلاقة مع العرب يجب ان تكون عدائية مطلقة. ترك كلاوزنر بصمات قوية على تفكير بنزيون نتنياهو، والد بنيامين نتنياهو، المؤرخ وسكرتير الزعيم الصهيوني جابوتينسكي، صاحب خطة الجدار الفولاذي لفرض وقائع فولاذية تجبر الفلسطينيين على الخنوع لمشيئة الصهاينة. وتلك هي فحوى خطة بنيامين نتنياهو. أطلق بنزيون في ثلاثينات القرن الماضي على العرب صفة أشباه متوحشين . وإطلاق الصفة يسبق عملية تصفية الوجود أو الإخضاع على أقل تقدير.
اعتبرت الصهيونية محرقة اليهود على أيدي النازيين "اهم من خلق الخليقة" لأنها "محور حاسم في الوعي الصهيوني". وساهم زعماء الحركة الصهيونية ومنهم بن غوريون في التعاون مع النازية ، وبالذات مع المجرم آيخمان المشرف على المحرقة. كل ذلك كي يمتلكوا المبرر الأخلاقي لتنفيذ مجازر الإبادة ضد شعب فلسطين. كتبت الحقوقية اليهودية ليندا براير في مقال عنوانه " الحق المطلق للمقاومة الفلسطينية": "ان تدمير فلسطين وطرد غالبية سكانها وحملات الإبادة المدبرة ضد من تبقوا تحت الاحتلال الإسرائيلي ، ليس من شأنها إلا أن تبرز لا مشروعية الوجود اليهودي واستمراريته وعدوانه ضد الشعب الفلسطيني".
تقتضي الاستراتيجية الصهيونية ، وقد تكشفت على حقيقتها، ضرورة إقامة مصد يمنع التمدد الإسرائيلي، ويحول دون اختراقات جديدة للكيان الفلسطيني، وذلك كمقدمة لابد منها لإجبار إسرائيل على التخلي عن أراضي الدولة الفلسطينية. بعد صد التوسع الاستيطاني يغدو ممكنا النقاش هل التحرير شامل أم جزئي؛ بينما التنفيذ العملي لابد وان يلتزم بظروف وأوضاع محلية وإقليمية ودولية يستحيل التملص من تأثيراتها. إن إيقاف التمدد الصهيوني فوق الأراضي الفلسطينية مرحلة مفصلية قائمة بذاتها، ينبغي ان تتوحد بشأنها الجهود؛ اما الوسيلة المعتمدة فتحددها شروط والتباسات ني أيضا محلية وإقليمية ودولية؛ ولا يجوز تعطيل الوحدة الوطنية ا وتمزيقها بفرض وسيلة كفاحية محددة. لقد أثبتت المواجهة المسلحة عامي 1948-49 وكذلك عام 2001 انها ليست طريق الخلاص حتى يتمسك بها البعض كشكل حتمي للمقاومة. والذين استدرجوا في كلتا الحالتين الى المواجهة المسلحة. وأثناء الصدام المسلح عام 2001 فرض الاحتلال إرهابا شمل الجميع، مسلحين ومجردين من السلاح، بحيث تعذرت المقاومة الشعبية لمشاريع الاستيطان وتشييد الجدار فوق الأراضي الفلسطينية. من المستحيل تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي الجمع بين مقاومة شعبية وأخرى مسلحة. بالمقابل اظهرت وقائع الانتفاضة الفلسطينية عام 1987 ان الحراك الشعبي المنظم أقدر على توضيح عدالة القضية الفلسطينية وجذب التضامن معها. وقد اجهضت الانتفاضة وأجدب قطافها حين تحولت فصائل معينة صوب المقاومة المسلحة؛ حينذاك أباح الاحتلال لعناصره المسلحة من جيش ومستوطنين، وبقانون، استخدام السلاح حسب المزاج وهواية اصطياد الفلسطينيين. كل أسلوب كفاحي يقيَّم حسب مقتضيات الواقع المحلي والخارجي والتباسات الظروف، علما ان جميع أساليب المقاومة مشروعة ضد السيطرة الأجنبية، خاصة ضد احتلال عنصري يستقوي بنظام أبارتهايد.
يبقى التاكيد مرة ثانية أن عناصر وعد ترمب صيغة منهجية للتحالف الامبريالي الصهيوني وهدف استراتيجي كرست جهود التحالف العدواني طول اكثر من قرن لتقريبه من الإنجاز والتجسد واقعا يشمل فلسطين والأقطار العربية كافة. وخلال هذه الحقبة تركزت جهود الدول الامبريالية على تدعيم نهج التمدد الإسرائيلي ، مثلما تركزت جهود إسرائيل والحركة الصهيونية على تعطيل وإفشال الحركات الوطنية الديمقراطية في الأقطار العربية بدون استثناء، وشل النضال المناهض للامبريالية. الصهيونية لن تقبل التعايش السلمي مع جوار عربي، وهني إن هادنت دولة عربية فإنما بصورة مؤقتة وبشرط فرض التبعية عليها وحرمانها من التطور والتنمية الاجتماعية. وسوف تغذ السير لتحقيق حلمها كما أفصحت عنه دانييلا فايس لصحيفة هآرتس,