شاهدت لكم (عودة الغائب) ..


حمدى عبد العزيز
الحوار المتمدن - العدد: 6464 - 2020 / 1 / 14 - 18:21
المحور: الادب والفن     

شاهدت التسجيل التلفيزيوني لمسرحية (عودة الغائب) التي عرضها المسرح القومي في أواخر سبعينيات القرن الماضي (1978 تقريباً) من إخراج شاكر عبد اللطيف وتأليف الدكتور فوزي فهمي ..

والمسرحية معالجة لإسطورة (أوديب) الذي تنبأ العرافون لأبيه (لايوس) ملك طيبة بإنه سيكون له ولدا سيقتله ثم سيكلل فعلته بالدنس واللعنة بالولوغ في عرض أمه الملكة جوكستا ، فيخاف الملك من هذا الكابوس الجلل المحتمل ؛ فيقرر بعد إنجابه لإبنه أوديب أن يعطيه لأحد حراسه ليقتله ويلقيه بعيداً علي جبل بعيد عن أسوار طيبة ، ويتصادف ألاتسمح عاطفة الحارس بقتله فيسلمه لأحد الرعاة الرحل ، والذي يسلمه بدوره لملك لاينجب هو وزوجته فيربيانه ، لكنه فيما بعد عندما يكبر يحدث أن يعايره أترابه بمجهولية نسبه فيغادر البلاد هائما علي وجهه ..

، وفي أثناء سير أوديب عند مفترق طرق تتفرع منه طرق ثلاث قابله رجل مسن رفض أن يفسح له الطريق فاشتبكا ، ويضربه الرجل المسن بالسوط فيقتله أوديب ، ويدخل طيبة بعد أن يحل لغز الوحش الجاسم علي أبوابها ، وبالتالي ينقذ أهلها من شروره فينصبونه ملكا علي طيبة ، ويزوجونه ملكتها (التي هي أرملة ملكهم الراحل الذين لايعرفون حتي هذه اللحظة الزمنية من هو قاتله) ، ثم يتبين فيما بعد لأوديب مدي فداحة الدنس الذي ارتكبه بعد انتشار طاعون في طيبة نتيجة غضب الآلهة عليه ، وأن المسن الذي قتله ماهو إلا أبيه (لايوس) ملك طيبة ، وأن زوجته التي عاشرها ماهي إلا أمه (جوكستا) ، التي انتحرت عندما علمت بأمر تحقق النبؤة ووقوعها تحت وطأة هذا الدنس الفادح الذي لاتطهر منه ، فحملها أوديب بعيداً ، ثم أخذ دبوس فستانها الذي سقط أمامه وفقأ به عينيه ، وودع طيبة منفيا بعد أن أوصي بدفن والدته ..

إعادة إنتاج بتوظيف جديد
_________________________

قدم فوزي فهمي معالجة مغايرة لإسطورة أوديب تختلف عن قراءة سوفوكليس لها في (أوديب ملكا) ..

فهو (أي فوزي فهمي) يقدم قراءة مغايرة علي نحو ما لمأزق إكتشاف أوديب للورطة المأساوية التي وضعه فيها القدر ، فأوديب فوزي فهمي هو مناضل من أجل حرية شعب وطنه طيبه بعد أن خلصهم من الوحش ذو الألغاز ليواصل النضال من أجل تحقيق أحلام فلاحي طيبة وشعبها البائس الذي كان نهبا لأطماع النخب المهيمنة وحاشية القصر ..

أوديب يصبح عند فوزي فهمي (الذي جسده علي خشبة المسرح القومي الفنان محمود ياسين) هو الملك الحالم بقيم المساواة والعدل والإخاء الإنساني ، وهذا مايبرر له إصراره علي الإستمرار ملكا بعد اكتشاف مأساته القدرية ، وخطيئته الفادحة التي ارتكبها في حق أقرب الناس إليه حين قتل والده وتزوج أمه .. حين اكتشف بعد حوار مع مليكته (جوكستا) أن زوجته ومليكته ليست هي إلا أمه (وقد قامت بتجسيدها الفنانة الرائعة عايده عبدالعزيز) ، فيقرر بعد ليلة عاصفة تواجها فيها مع حقيقتهما التي وطأت أبشع أنواع الدنس والخطايا ، واشتعلت فيهما نيران الصراعات والمرارات والعذابات النفسية التي لاتحتمل .

قرر أوديب فوزي فهمي أن يرتد إلي مشاعر البنوة لأمه التي كانت زوجته ، وأن يساعدها هي أن ترتد إلي مشاعر الأمومة ، وأن يتخلصا نهائيا من من ذلك الدنس الذي لم يقصد كلاهما أن ينغمسا فيه بإرادتهما ، وأن يتطهرا منه بالعمل من أجل طيبة وشعبها ، وأن يتظاهرا أمام الجميع كزوجين في حين أنهما سيعيشا داخل غرفاتهما المغلقة كإبن وأمه وذلك من أجل استمرار أوديب علي عرش طيبة بعد أن علق عليه أبناء طيبة وفقرائها آمالهم في حياة كريمة وآمنة ..

وتقوم أمه بدورها لمساعدته علي تجاوز مأساتهما وبدء حياة جديدة يتطهرا منها من الخطيئة .. وفي هذا السياق تختلق (جوكستا) لوصيفتها وخليصتها التي تحبها كإبنتها (أروجينيا) قصة مرض ألم بها ، ويحول دون ممارسة الحياة الزوجية الحميمة مع الملك وتطلب منها أن تكون زوجته السرية كتضحية من أجلها ومن أجل طيبة فتقبل أورجينا بعد جهد ونقاش طويل محبة في ملكتها وتضحية من أجل وطنها طيبة .

وتعيش طيبة أياماً سعيدة تعبر عنها المجاميع التي تمثل عامة الشعب في طيبة ..

يقابل ذلك بدء تآمر النخب وحاشية القصر يقيادة كريون (الفنان الراحل أنور إسماعيل) ، والكاهن تريزياس (الفنان الراحل إبراهيم الشامي) علي أوديب الملك وينجحا في تأليب مجلس الشيوخ عليه ..

واستطاع المخرج البارع شاكر عبد اللطيف أن يظهر مناقشات مجلس الشيوخ كخلفية ظلال متآمرة علي الحائط الذي يستند عليه أوديب وهو في حالة نقاش داخلي حول انقلاب الأوضاع في طيبة من حالة الترحيب الشعبي به إلي حالة من الغضب والفوضي التي بدأت تحاصره نيرانها ..

… يشتعل النقاش بين أوديب ومجلس الشيوخ الذي يرفض مشروعه الذي ينشد فيه العدل والمساواة بين جميع أهل طيبة ويقر السلام مع جيرانها ..

ويفرض خاله ومستشاره (كريون) مراقبته عليه وتمتد هذه المراقبة لحياته الخاصة داخل غرفات القصر ، ويرصد لقاءته الحميمة مع زوجته أورجينيا (التي كانت قد جسدتها الممثلة المعتزلة شهيرة) ، ويقوم كريون بإخبار شقيقته الملكة جوكستا أن أديب زوجها يخونها مع وصيفتها وأن أوديب قد دنس القصر الذي سكنه سلالة من الملوك الشرفاء فتندفع جوكاستا في دفاعها عن تصرفات الملك إلي تخبر كريون أنه أبنها ، فيذهب كريون إلي حليفه الكاهن تريزياس الذي يخبره بحقيقة أوديب ، ويقول له قولته الشهيرة دع ذلك كريون لكهانتي ..

صخب المواجهات والمحاكمات
__________________________

، في الوقت ذاته ينتشر الطاعون المميت بين شعب طيبة فيقدم لهم الكاهن تريزياس التفسير الكهنوتي لمأساة طيبة والتي تتلخص في غضب آلهة الأولمب علي ما اقترفه أوديب من دنس شنيع تسبب في لعنتها علي كل أهل طيبة ..

وفي هذا السياق يسقط المخرج شاكر عبد اللطيف الجدار الرابع للمسرح في تدفق إبداعي رائع فينزل الكاهن تريزياس فيتحول الجمهور إلي شعب طيبة حيث يخاطبه تريزياس معلنا أن أوديب هو صانع مأساة طيبة وهو سر لعنتها ..

ينزل أوديب أيضاً إلي الجمهور ليصبح المسرح هو صالة الجمهور تتواري خشبته في خلفية الأحداث في براعة وجرأة تحسب وقتها للمخرج شاكر عبد اللطيف ..

، ويفتح أوديب قضية علاقة الدين برجال الدين علي الملأ ، محاولا إقناع الجمهور (الذي، أصبح هو جماهير طيبة) أن الكاهن تريزياس ليس هو الدين ، وأن الآلهة لابد أنها لاترضي بحكم الكاهن تريزياس إذ أنه من غير المعقول أن تلقي بلعنتها علي كل أهل طيبة لمجرد أن هناك فرد واحد قد ارتكب الخطيئة ، ثم يعلن علي الناس أن خطيئته الحقيقة أنه لم يصارحهم ولم يقل لهم الحقيقة ..

يشتعل حوار أوديب وتريزياس وسط الجمهور
ويفشل اوديب في اقناع الجمهور وينجح تريزياس في استمالة الغالبية الساحقة بخطابه الكهنوتي في إشارة مبكرة من فوزي فهمي لخطورة التوظيف السياسي للدين ، ثم تخرج أعداد ضئيلة من الطليعة المثقفة من شعب طيبة تزداد شيئاً فشيئاً لتقف خلفه ، ويخبرونه أنهم يتفهموا وضعه وتعدونه بأن يقاتلوا معه الوباء اللعين الذي حل علي طيبة بالعقل والعلم ..

يستتبع ذلك حوار عاصف بين جميع أبطال مأساة طيبة
.. اوديب / جوكستا/ اورجينيا/ تريزياس/ كريون ..

ويشتعل عويل أورجينيا التي ينكشف لها أنها ضحية وهم كبير ، وأن الملك الذي تزوجته ظنا منها أن تلك تضحية من أجل طيبة قد جرفها إلي دنس كبير ، وأن لعنة الآلهة قد أصابتها ولابد ، كذلك لاتحتمل جوكستا ماينتظرها من عار ، ومن لعنة الأقرباء وبصقات الأغراب فتختفي في بين أصوات نحيبها لنعرف بعد أنها قد انتحرت

ويقرر أوديب أن يدفع ثمن خطيئته ، ويعلن للجميع أن الضلال ان يرتبط مصير الجماهير بحياة رجل واحد ،

ويناقش الحكماء الكاهن تريزياس ، الذي يفرض علي الجميع دور المتلقي فقط صارخا فيهم :

(ياقوم
للدين أسرار ) وطبعاً هو يقصد بالدين هنا أحكامه التي يلقيها علي الناس بعدم تلمس العلم في علاج الطاعون ..

فيرفض الحكماء وبقية الشعب لهذا الكهنوت

في حين تجري محاكمة شعبية أرادها فوزي فهمي لأوديب
باعتبارها محاكمة للحاكم الفرد

وتطالب غالبيةالجماهير لأوديب بالخروج من طيبة ، في حين تردد بعض جماهير طيبة لأوديب انت منقذنا .. فيرد أوديب محاكما هو ذلك الحاكم الفرد الذي تجسد فيه قائلاً
(أن ذلك لايعني ان تنحني الديمقراطية أمام السلطة) ..

ثم يقول كان علي ان افقأ عيني
لكنني لن افعل
ويودع طيبة منفيا

وهنا ربما تكون هناك ملاحظة علي معالجة فوزي فهمي لأحداث أسطورة أديب ومحاولة إعادة إنتاج أحداثها لمعالجة قضيتي الحكم الفردي والتوظيف السياسي للدين وتداخل الدين بالدولة ..

لكن ذلك من الناحية الفنية جاء علي نحو شابه إختلاق مسهب في المثالية في نفس الوقت الذي نشعر فيه أنه مارس شيئاً من القمع علي الأسطورة بغرض التوظيف الذي يبدو أنه اتخذ مسلكا يبتعد في جانب منه عن منطق الأسطورة ، وكذا منطق الواقع والمحسوسات لحساب الإسقاط علي قضايا معاصرة بحكاية مغرقة في القدم ، وبالتحديد في تلك المحاولة المشار إليها سابقاً لحل معضلة فداحة تدنيس أوديب لشرف أمه بالأتفاق معها علي الحفاظ علي العرش واستبدال علاقة الزوجية المحرمة بعلاقة الأمومة تحت دعوي التطهر بالتضحية من أجل طيبة وشعبها ، وهذا ماأحدث بعض مايمكن أن نعتبره إرتباكا في عنصر الصدق الفني للمعالجة ..

ملاحظات أخري
_____________

1 - اداء محمود يس كان يتسم بالخطابية ، وحركته علي المسرح كانت جزءاً من الحرص علي هذا الأداء الخطابي المتخشب

، كان لدي محمود يس طوال الوقت إهتمامه المبالغ فيه للضغط علي الحروف وعلي معاني الكلمات ، وأكمل ذلك بنظرات عينيه التي تتراوح مابين الحدة والنظرة الحاذقة طوال الوقت ..

2- عايده عبد العزيز كانت هي النجم الحقيقي لهذه المسرحية حيث كانت تقدم أداء مسرحيا سلسا يظهر بشكل كبير مايعتمل داخل شخصية جوكستا من نوازع ولواعج ومشاعر إنسانية متنوعة مابين العذوبة والصفاء والشوق الجارف واللوعة والأسي والحزن والخوف والجزع ..

عايده عبد العزيز أنسنت آدائها ، واستطاعت ببراعة استخدام لغة الجسد وإشاراته الخفيفة والدقيقة بل ورجفاته وتحركاته ، كذلك لم تكن اللغة العربية الفصحي عائقاً أمام طبيعية الأداء الصوتي والعزف باختلاجاته ونبراته ، وهي لم تلجأ لذلك الأداء الخطابي المسرحي الذي أعتري أداء غالبية ممثلي المسرحية بدءا من محمود يس الذي يجسد شخصية أوديب وحتي تلك المجاميع التي تمثل أفراد الشعب أو النخب أو الجنود ..

3 - نستثني من ذلك الأداء المفعم بالخطابية بدرجة كبيرة الفنان الرائع أنور إسماعيل الذي جسد شخصية كريون خال أوديب ومستشار عرش طيبة بأدائه الهادئ الذكي الذي يعبر عن خبرة وتمكن في فن التشخيص لم يسبقه فيه الكثيرون ممن ألتمعت بهم أضواء النجومية وانحنت لهم شبابيك التذاكر ..

4 - الفنانة المعتزلة شهيرة هي التي قامت بدور (أورجينيا) وصيفة الملكة والزوجة السرية لأوديب وهي الشخصية التي اختلقت كحل من حلول الدكتور فوزي فهمي لتوظيف الإسطورة ولتقديم بديل يحول الحياة الحميمية لأوديب من جوكستا إلي أورجينيا ..

كان آداء الفنانة شهيرة هو أضعف حلقات الأداء بين أبطال المسرحية وللأسف اعتري آدائها الخطابي كثير من الركاكة ، وعدم الإستيعاب الجيد لأبعاد الشخصية وأعماقها ومن ثم التعامل مع مايعترم داخلها من تناقضات ونوازع ودوافع واختلاجات ومشاعر تفور وتنطفئ وأحاسيس تحيا وتموت ، ووجدان يصبو ويصدم ، وقلب يدخله الإمتنان وتضربه الفجيعة ..

.. فجاءت كالتلميذ الذي يحفظ الدرس لكنه لايفهمه وبالتالي يعجز عن تقديم أي تفسير أو إجابة لأي سؤال يطرح عليه داخل أعماق الموضوع ..

5 - كان أمام الفنان المبدع الراحل إبراهيم الشامي الكثير لتقديمه في شخصية الكاهن تريزياس ، ذلك لأن الشخصية كانت ذات أبعاد وأعماق تتسع للمزيد من الإبداع والتألق ربما لتعطي الفنان التي يؤديها مساحة تفوق كبيرة لم يطمع فيها إبراهيم الشامي رغم ماكان يملكه من إمكانات تفوق ماقدمه في هذا الدور ، ربما يرجع ذلك أنه كان يحمل عبء الآداء كأعمي بعينين مفتوحتين وبصيرة كاهن وثلعب يقدم نفسه للناس بوصفه متصل بالآلهة ، ولكنه في النهاية لم ينزل بمستوي الآداء بل يحسب له أنه حاول في مناطق كثيرة في المسرحية أن يتخلص من الخطابية الفجة ونجح في ذلك كثيراً، واخفق قليلاً ..

6 - الديكور به بعض العيوب التي تبدأ من حيث وضوح دبابيس تثبيت القماش علي الخشب لتجسيد أعمدة القصر وسلالمه والتي تتحول في نفس الوقت إلي تجريد يقدم مستويات متنوعة لبنائية المسرح تتحرك عليها الشخوص ، وهي تقدم كأعمدة وسلالم خرسانية كما في بناءات البيوت الريفية الضخمة ، والملاحظ أنها لاتشبه لامن بعيد أو قريب تلك التي تكون في القصور الملكية وخصوصاً في تلك الأزمنة التي تجري فيها أحداث المسرحية ، ربما ذلك كان قد قصد به هذا التجريد الذي ينوع بين مستويات المسرح ، في سياق براعة لايمكن نكرانها في الإخراج المسرحي للعمل علي يد المخرج المبدع شاكر عبد اللطيف ..