أرض المَباد: حيث لا صفح ولا وعد


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 6461 - 2020 / 1 / 10 - 15:39
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

هل يمكن الصفح عمن يُلحق بنا أذى جسيماً، ويجعل من ذلك مسلكاً مطِّرداً له؟
يحتمل لمزيد من الشر أن يرتكب إذا لم نطلب الصفح ممن آذيناهم، أو كان في ما ارتكبنا سلفاً من شرور ما يقطع علينا خط الرجعة، حتى لا يبقى مزيد من الشر حين يكتمل تدمير كل ما نطال. هذا بصورة مجملة ما وقع في سورية: ذهاب إلى النهاية، إلى حدود عدم تصديق ما وقع فعلاً لأنه لا يُصدّق. نحتاج من جهتنا إلى انتهاء الأذى والصفح، ليس فقط لأن من شأن عدم الصفح أن يأسرنا، مع أعدائنا، في دائرة من الشر مغلقة، وإنما كذلك كي لا نقع في عالم يتجاوز ما يحدث فيه قدرتنا على التصديق، فننتهي إلى التشكك في كل شيء.
هذه المقالة، الثانية من أربع مقالات تتفاعل مع أفكار حنه أرندت، تنظر من ضمن السياق السوري في الصفح (والوعد)، خاصيتي الفعل السياسي بحسب الفيلسوفة الكبيرة، ومن خلالهما في العلاقة بين الدولة والزمان. الأبد، اسم هذه العلاقة خلال نصف القرن الأخير، يحول دون العفو والوعد معاً، ويغلق دائرة الشر على السوريين. الشر في تعريف موجز هو الأذى الذي يلحقه الإنسان بغيره، مسألة فعل وليس مسألة دين أو هوية أو اعتقاد. الشرير هو من يؤذي غيره من البشر والأحياء.

1
لا يقتصر أمر "الدولة" في سورية، وقد كانت طليعية في الشر وفاعله الأساسي، على أنها لم تحاور في أي وقت معترضين عليها، يبدو بالأحرى أنها تفتقر إلى القدرة على الحوار مع نفسها، أي إلى التفكير بحسب حنة آرنت. يبدو بشار الأسد خلال نحو عشرين عاماُ مثال الشخص الذي لم يتطور له ضمير عبر مقاومته للتفكير، أو ربما خوفه منه. التكوين الآيخماني لبشار، وعجزه عن تمثل الغير أو النظر في أفعاله من موقع خارج نفسه، يظهر في كلامه. الرجل يسارع إلى إعطاء جواب على كل سؤال يعرض له، ما يصلح مقياساً لانعدام المسافة بينه وبين نفسه، مسافة التفكير في الواقع. لا يأخذ وقته، لا يتملى في أمر. خلا من التعدد داخل نفسه، فلم يبق له داخل يتحرك فيه بحرية. التفكير هو هذه الحركة داخل الفس.
وما يصح على بشار يصح على الدولة التي ورثها. فهي تفتقر إلى التعدد على أي مستوى من مستوياتها، التعدد الذي كان من شأنه أن يولد لها مساحة داخلية للنظر والمراجعة. للحظة فكر فاروق الشرع، فكأن أن حُجِر عليه. ولعل ضباط "خلية الأزمة" اغتيلوا في تموز 2012 لأنهم شكلوا ضرباً من تعددية لا تناسب دولة اختارت الحرب المطلقة سياسة وحيدة. إلغاء التعدد يقتضي القتل الفعلي أو السياسي.
لدينا هنا معطى أول: دولة لا تعدد فيها، ولا داخل لها، ولا تفكر.
ثم أن الأمر لا يقتصر على أن "الدولة" التي لا تفكر لا تطلب الغفران أو تعبر عن الندم، بل إنها تحتكر لنفسها أفعال العفو والمسامحة، على وفرة ما ارتكبت هي من جرائم. بالعكس، تبدو الجرائم الكبيرة مثل حاجز يحول دون التراجع، ولا ينفتح على غير جرائم أكبر.
وأكثر من ذلك لا يبدو أن من تقع عليهم الجرائم الأسوأ في وضع يؤهلهم لطلب الاعتذار. إنهم مجردون من الشرعية ومن الحق في المطالبة أياً يكونوا، وهذا بقدر ما يبدو أن الدولة غير قابلة للإدانة. وقت طرحت فكرة "المصالحة الوطنية" أيام "ربيع دمشق"، وجرى الكلام على الاعتذار ورد المظالم، جاء الرد من أوساط النظام يستنكر الطرح لكونه يضمر أننا في صراع أهلي، وأن من يقولون ذلك طائفيون وغير وطنيين. هذا نزع لشرعية المطالبات بقدر من العدالة، ولشرعية المطالبين، وقد قوض في المهد إمكانية التعافي الوطني بعد "الحرب الأسدية الأولى"، وفرص ظهور ثقافة سياسية جديدة، أكثر انفتاحاً على التعدد السوري وعلى العدالة. كان امتناع اعتذار النظام من ضحاياه مسيجاً بجدران إيديولوجية سميكة، فوق الجدارن الأمنية (أسهم في بناء بعضها بعض ضحايا الجدران الأخيرة)، مما أحاله إلى مجال ما لا يُفكر فيه.
نحن في عالم يبدو القول فيه أن المؤذي العام هو الدولة، وهي من يتعين أن ترجو الصفح من ملايين آذتهم وأهانتهم، بمثابة جنون. ووفقاً لمنهج قروسطي مجرب يجري تعذيب الأفراد والمجتمع لإخراج الجن من جسديهما. ولأن الأذى هنا ليس عارضاً، ليس "أخطاء فردية" على ما يحب بشار أن يقول، فإن باب الجريمة وحده يبقى مفتوحاً أمام "الدولة" لحكم البلد.
طلب العفو ممتنع، والجريمة لها مستقبل. إنها دولة. هذا معطى ثان، أساسي.
لسنا في وضعية صفح أو عفو محتمل هنا. آرنت قرنت الصفح باستغفار الجناة. قالت إن ما حدث في الماضي لا ينعكس، لكن يمكن للصفح أن يترك السيء الذي وقع وراء ظهورنا. قالت كذلك إن ما يحدث في المستقبل لا يمكن التنبؤ به، لكن يمكن للوعد أن يتغلب على امتناع التنبؤ. جاء ذلك في سياق تناولها خصائص الفعل الذي تميزه من جهة عن الكدح الذي يقيم أود الحياة البيولوجية، حياة الإنسان كحيوان خاص، وعن العمل الذي ينتج أشياء معمرة وتقوم عليه حياة الإنسان العامل، ومن جهة أخرى مجال الفعل هو اجتماع الناس وتعاونهم وتنسيقهم وترتيب علاقاتهم، وعليه (وعلى الكلام) تقوم السياسة.
قد يعترض على استخدام مفهوم الفعل وخصائصه في سياقات سياسية وفكرية مغايرة عما لدينا من حيث المخيلة والذاكرة، ومن حيث المسارات التاريخية والتراث، ومن حيث التجارب السياسية الأحدث. يبدو هذا وجيهاً للوهلة الأولى. لكني أتبين ملاءمة خاصة بين خاصيتي الفعل الزمانيتين، اللاانعكاسية واللاتنبؤية، وبين الشكل الخاص لسياسة الزمان في سورية خلال نصف قرن، الأبد. فالأبد قبل كل شيء هو إلغاء للزمان ذاته، عبر إلغاء الأفعال المنتجة لتغير الزمن مثل العفو والوعد. نسمح للماضي بأن يمضي في حال سبيله حين نعفو، ونمهد الدرب الآمن إلى آت مضمون حين نَعِد، فنصنع بذلك الماضي والمستقبل كآنين متمايزين عن الحاضر. أفكار آرنت في هذا الشان، العفو عما وقع والوعد بما يأتي، تضيء جانباً من وضعنا من حيث أن إبقاء الماضي والأتي مزامنين للحاضر يحكمان بامتناعهما، العفو والوعد، في توافق مع الأبد وامتناع السياسة ذاتها. ذلك أن سياسة الأبد ليست غير إبادة للسياسة، إلغاء لها كفعل للناس المتعددين تعدداً فاعلاً على بعضهم ومع بعضهم، وكتبادل للوعود والصفح، وللكلام.

2
ركنا سياسة آرنت، الفعل والكلام، محتكران من قبل الفاعل السياسي الحصري، الدولة السلالية، في تجربتنا السورية. يحدث أن يعفو الناس عن بعضهم ويعِدوا بعضهم في بيئاتنا الاجتماعية كما في غيرها، لكن مجال العفو والوعد شهدا تضيقاً مطرداً مع تضيق الحياة السياسية، على نحو جعل من روابطنا الأهلية أو العضوية نطاقات شبه حصرية لهذين الفعلين، مع نزع صفتهما الوطنية والعامة، والسياسية. ووفقاً لهذا التقدير يأخذ التحرير السياسي معنى معاكساً: نزع الصفة العضوية الحصرية للعفو والوعد، وانفتاحهما على إطارات أوسع، عامة وتعددية، تشمل الدولة.
في نصف قرن من التشكيلة الأسدية لم يطلب الصفح من ارتكبوا أسوأ الجرائم، فلم يمض الماضي. الواقع أنه يمسك بتلابيبنا كأنما وقع للتو. يمسك بتلابيب النظام أيضاً. إذ لا تستطيع دولة الأبد السلالية أن تحبس السوريين الواقعين تحت سلطتها في حاضر مؤبد، بما يقتضيه ذلك من منع الماضي من المضي، دون أن تحبس نفسها كذلك. تُسمِّر نفسها كحارس على باب السجن. هذا بينما يبقى المستقبل ممتنعاً على التنبؤ، مصدر مخاطر غير متوقعة، ولا يعد من يستطيعون الوعد بشيء يكون بمثابة جزيرة يُرسى عليها في بحر من اللاتوقع. إذ يعين الوعد والعفو على التغلب على خاصيتي الفعل اللاانعكاسية واللا تنبؤية بحسب آرنت، فإنهما يجعلان السياسة التي تقوم على الفعل، اجتماع الناس وما يحدثون من بدايات ومبادرات وإبداع (وتبادلهم الكلام)، ممكنة. شروط السياسة تحدد إمكانية الوعد والعفو في كل حال، وبصورة مضاعفة في شروط الأبد الذي يقوم عليه الحكم السلالي: حيث الماضي لا يمضي، وحيث الآتي يمنع من القدوم. الأبد لا يوجد إلا في شكل تأبيد الحاضر.
وبينما يقترن تعاقب الزمان وتغيره مع تعدد المجتمع وتغيره بدوره، عبر إنتاج الناس لأفعالهم وتفاعلاتهم، يقترن الأبد مع الواحدية وإلغاء التعدد. ونفي التغير أيضاً.

3
هل كنا نصفح لو طلب منا الصفح؟ في نقاش عام يعقب طلب الصفح، أعتقد أن "حزب" الصافحين المسامحين سيكون أقوى حجة. نريد أن نصفح ونسامح كي نتغلب على مشاعر الأسى والحسرة. أسى على الخسارة، وتحسراً على استمرارها. في ظل الأبد، الخسارة مستمرة، كأنها تتجدد كل يوم، لا يسعفنا عفو يتغلب على ما وقع ولن ينعكس (ولا نوعد بما يهدئ خوفنا من المستقبل).
هل العفو ممكن من طرف واحد؟ يبدو هذا مستحيلاً على المستوى الجمعي، إن كان ممكناً على أي مستوى فردي. يلزم لمجرد التفكير في العفو أو الصفح توقف الشر وكبح جماح الأشرار من جهة، وبوادر اعتراف على الأقل بما وقع لمن نالهم الأذى من جهة أخرى، بما يساعد على الحداد وطي الصفحة.
وفي كل حال، نعفو عن مرتكبي الشر وليس عن الشر ذاته، عن أشخاص وليس عن أفعال مؤذية. نعفو عن الشرير إن هو طلب العفو كي نقطع مسلسل الشر، وليس عن أفعال الشر التي نصبو من العفو، بالعكس، أن يضعف إمكانها ويقوينا في مواجهتها.
سورية اليوم ليست إطاراً للصفح ولا للوعد، لا ماض نتغلب بالعفو على حقيقة أن ما وقع فيه لا ينعكس، فنتركه يمضي وينقضي، ولا مستقبل نعرف بالوعد كيف نسير نحوه بثقة، فنجعل من الآتي حليفاً لنا. ما وقع من هول مستمر في الوقوع وعدم الانعكاس، وما لا يمكن توقعه مستمر في الانهيار فوق الحاضر ونثر الحطام حوله، مثل "ملاك التاريخ" في أطروحات والتر بنيامين في "في مفهوم التاريخ". كان من شأن إطلاق سراح الماضي بالصفح أن يساعد على النسيان، ومن شأن الوعد أن ينزع الخوف من الآتي المجهول، فيوسعان معاً من مساحة الحاضر، يفتحانها على ماض يتراجع وعلى مستقبل ينفسح. بعبارة أخرى، يساعد الوعد على حمايتنا أفراداً ومجتمعاً من المستقبل الذي لا يعد من تلقاء نفسه بغير المجهول والمفاجئ والخطر، ويساعد الصفح برمي أثقال الماضي الذي لا سبيل إلى تغييره عن كواهلنا، أثقال من شأنها سحقنا في النهاية تحت وطأة الغل والكراهية والثأر. في غيابهما معاً نعيش في حاضر ينسحق بين ماض لا يمضي وبين مستقبل يسير القهقرى ولا ينفسح. محاصرين بين "ملاكي تاريخ" شيطانيين: أحدهم يمسك بنا من الخلف، ويُبقي أقسى تجاربنا حاضرة معنا لا تتقادم، والآخر يقف في وجهنا مثل سد كتيم لا نرى من خلاله ولا نستطيع التخطيط والاحتساب. قد يمكن تعريف الأبد بهذا الحصار بين ملاكي شر.
ظاهرٌ أن الأبد ليس مجرد شعار لدولة الأسديين، وليس أمداً زمنياً طويلاً جداً، بل هو سجن زمني ضيق، ينشأ من انسحاق الحاضر بين ما لا ينعكس من سوء وقع وما لا يُتنبأ به من خطر داهم. ما كان من شأنه أن يشكل حاضراً فسيحاً هو ما يثابَر على إلغائه: دفع الماضي إلى الوراء بالصفح، ودفع المستقل إلى الأمام بالوعد. فبما هو إلغاء للوعد، يلغي الأبد احتمال أن يكون المستقبل مختلفاً عن الحاضر بأي صورة. وبما هو رفض لطلب العفو، فإنه يطابق بين ما كان وما سيكون، فلا تخفف، ولا وداع للماضي. إنه، مرة أخرى، إكراه على العيش في أسر حاضر مؤبد.
والأبد هو ما يحكم على سورية أن تكون أرض مباد، لا "أرض ميعاد" أو وطن وعود، أرض لعنات لا أرض صفح وغفران. ليس ما وقع في البلد طوال نحو تسع سنوات أسوأ مما في وقع في بلدان أخرى كثيرة، لكن الخاصية الأشد شؤماً لما وقع في سورية هو أنه منبع الشر الأساسي يعاد إقراره عملياً دون أي تعديل، ودون عوض من أي نوع للضحايا، ودون اعتراف بأن لهم قضية. وهو ما يرجح احتمال أن الشر الأكبر من كل ما عرفنا من شر لا يزال أمامنا. نعلم بالمقابل النازية أسقطت وتحقق مقدار من العدالة للضحايا، ونال الناجون تضامناً عالمياً واحتراماً كبيراً، وتسنت فرص للحداد على من لم تكتب لهم النجاة، وتُرعى ذكراهم إلى اليوم بمشاركة واسعة وبسخاء. ضحايانا أقل بكثير، هذا صحيح، لكن الأبد مستمر، والإبادة، وليس هناك أي مؤشرات على أن ما يقتضيه الأبد من إبادة سياسية قابلة للتسييل إلى إبادة فيزيائية سيتوقف حين قد يتوقف جريان الدم. هذه وضعية مفتوحة على دمار لا نهائي. وأجسر على القول إن هذا شر أكبر من شر آيخمان، لأنه وإن لم يقتل الملايين بعد، فإن ما يبدو من إقرار دولي للحصار في الأبد (خلافاً للنازية، وقد كانت لديها تطلعات أبدية مشابهة)، يجعل أبدنا مفتوحاً حصراً على مزيد من اللاعدالة، ومن الحرمان من حداد، ومن إهدار الذكرى وحماية الذاكرة. على قتل لا ينتهي.
العفو، والتسامح كشكل انتقالي للمجتمع، ممتنع كلياً في مثل شروطنا، الخالية من التعدد، والقائمة على احتكار المجرمين للعفو وعلى الحرب ضد المستقبل.

4
لعله يلزم شيئان من أجل تأسيس العفو والتسامح. أولهما تجربة عدالة مؤسسة في شكل عقاب على الجرائم الأكبر، ثم الاستغفار أو طلب الصفح. إذا صفحنا دون عدالة، فسنفعل ذلك تكرماً، من أجلنا لا من أجل من طلبوا العفو، فلا ينفتح ذلك على مصالحة واحترام. وإذا بالعكس تحقق قدر من العدالة دون عفو، كان محتملاً أن يتبادل الجناة والضحايا المواقع على ما حصل في العراق بعد سقوط نظام صدام.
التسامح، أو "التصافح" كتبادلية، لا قوام له إن لم يؤسس على العدالة، بما فيها المحاسبة على أسوأ الجرائم. كان لبنان خلال ما يقترب من ثلاثة عقود مثالاً لشكل متعفن من التسامح المنفصل عن العدالة، كثفه شعار عفى الله عما مضى. الماضي لم يمض بالضبط لأنه أريد له أن يمضي دون عدالة، دون تجربة مؤسسة لتسامح معافى وللعيش المشترك.
ولا تطرح الإسلامية، وفي سجلها جرائم ارتفعت لأن تكون نهجاً مثل الأسديين، سؤالاً مختلفاً بخصوص اللانعكاس واللاتنبؤ، وبالتالي وجوب العفو والوعد كأفعال تعلو على الرابطة الدينية ولا تنحصر فيها. وعلى أي حال ليس هناك مثال معلوم طلب إسلاميون فيه الصفح على شر ارتكبوه. عند الإسلاميين، السنيين منهم والشيعة على حد سواء، ثمة ربط جوهري بين العدالة والهوية: شرعنا هو شرع رب العالمين، إذن نحن عادلون! نحن ورثة آل البيت والحسين المظلوم، إذن نحن عادلون! وفي الحالين لا نطلب عفواً من أحد لأننا على الحق في كل حال، ولا نعد بشيء غير أنفسنا، نحن الوعد. هذا باطل. فالعدالة مسألة دور وليس مسألة هوية، مسألة ممارسات فعلية وليس مسألة وعي ذاتي. فك الارتباط بين العدالة العامة والهوية الخاصة هو كذلك من ألف باء مقاومة الطائفية.

5
ماذا نفعل حين لا مجال للوعد في وجه ما يمتنع التنبؤ به، ويكون ذلك تجربة جمعية؟ ربما ننذر بالمخاطر، نمارس الوعيد كأنبياء غاضبين، ننذر بخراب عظيم قادم. كان التنبؤ هو الشكل الأبرز للسياسة في سورية قبل الثورة.
ثم ماذا نفعل حين يمتنع الصفح ولا يطلبه الجناة المعتدون؟ نلعن، وندعو بلعن روح الشرير. هذا شكل للسياسة ظهر بقوة بعد الثورة السورية. يحل المنذر واللاعن محل السياسي. ينفتح عالم ديني من نوع ما بقدر ما ينغلق عالم السياسة. قد يمكن تعريف أرض المباد بهذا الانقلاب لعالم دنيوي تاريخي إلى عالم ديني بتوسط الأبد.
وبقدر ما إن الأبد ليس شيئاً آخر غير الموت، فإن فرصنا في تجاوز هذا العالم الديني مرهونة بقدر كبير بالانتهاء منه (الأبد)، وعودة الزمان مجلى للفعل والتغير. والحياة.