علاقة الثورات المضادة بجدلية الريف والمدينة


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 6457 - 2020 / 1 / 6 - 19:14
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


تناول الكثير من علماء الإجتماع ظاهرة الثورات وعوامل نجاحها وفشلها، وقد تطرقنا في مقالات سابقة إلى أسباب فشل الثورات، وحددناها بعدة عوامل، ومنها رغبة نخب مهمشة أخد مكان النخب الحاكمة بإستغلال طموحات الطبقات الشعبية، لكن بمجرد ما يصلون إلى السلطة يقومون بنفس ما قامت به النخب الحاكمة السابقة في قمع وإستغلال هذه الطبقات الشعبية التي صعدت بها كما يقول عالم الإجتماع الإيطالي باريتو، ولهذا نصر دائما على وضع آليات نظام سياسي يمنع ذلك، وتكون في خدمة الطبقات الشعبية التي هي وقود كل الثورات، لكن لا تستفيد منها بشكل كبير. كما تناولنا في مقالة سابقة لنا عنوانها "الثورة الديمقراطية بين ماركس وبن خلدون" حللنا فيها ثورات الربيع العربي لنتوصل إلى نتيجة تشاؤمية مفادها أنه يستحيل إنجاح الثورات الديمقراطية في بلدان منطقتنا دون إحداث قطيعة مع مختلف العصبيات الدينية واللسانية والقبلية والجهوية وغيرها، فقد كانت هذه العصبيات سلاح الأنظمة الإستبدادية للقيام بثورات مضادة، وذهبنا إلى درجة الحرص على المطالبة والنضال من أجل قيام ثورة صناعية في بلداننا تطور قوى الإنتاج التي هي كفيلة بتغيير البنى الفوقية المتمثلة في شكل الدولة والذهنيات والثقافة وغيرها التي ستضع بدورها أرضية إجتماعية لنظام ديمقراطي ناجح، وأستندنا في ذلك على فكرة ماركس التي تقول بأن تغيير البنية التحتية المتمثلة في تطوير قوى الإنتاج يؤدي حتما إلى تغيير البنية الفوقية المتمثلة في الثقافة وشكل والدولة والذهنيات وغيرها، ومنها إنتشار قيم الديمقراطية في المجتمع ( أنظر الحوار المتمدن عدد5888 بتاريخ 30/05/2018).
تعد الأدبيات الماركسية من أهم الأدبيات التي تناولت قضية الثورات، خاصة أن مفكرو الماركسية يركزون كثيرا على الطبقات والتركيبة الإجتماعية لتفسير ذلك، فمثلا أعتبر أنجلس أن للفلاحين دورا رئيسيا في ثورات ما قبل الرأسمالية مشيرا إلى ثوراتهم في ألمانيا في القرن17م، لكن أصبحت الأرياف والفلاحين يشكلون العناصر الرئيسية في كل الثورات المضادة التي عرفتها أوروبا بعد الثورة الصناعية وبروز الرأسمالية منذ نهاية القرن18م.
حمل ماركس وغيره من المفكرين الماركسيين الفلاحين مسؤولية فشل ثورات 1848 وكومونة باريس1871، ويبرز ماركس ذلك بجلاء في كتابيه "18برومير للوي بونابرت" في1851’ وكذلك كتاب "الحرب الأهلية في فرنسا" في 1872 أين حلل كومونة باريس، بل أعاد هو وزميله أنجلز تحت تأثير كومونة باريس النظر في بعض الأمور، فأدخلا تعديلات على البيان الشيوعي الصادر بعد ثورات1848. عادة ما فسرت رجعية الفلاحين في فرنسا بإصلاحات نابليون بونابرت التي أعطت ملكيات لهذه الطبقة، وتحول إلى صنم يقدسه الفلاحون والريفيون بحكم إنتصاراته الحربية، ولهذا دعم هؤلاء الفلاحون الريفيون لوي نابليون في ثورته المضادة في 1851 معتقدين أنه مثل قريبه نابليون بونابرت، مما أعطته دفعا قويا للقضاء على الجمهورية وتحويل فرنسا إلى أمبرطورية إستبدادية.
يشكل الفلاحون والريفيون مشكل بالنسبة للكثير من المفكرين الماركسيين للقيام بثورتهم، فنحن نعلم جميعا أن ماركس يقول بإستحالة قيام ثورة شيوعية إلا في البلد الأكثر تصنيعا لأن هذه الثورة هي نتيجة البروليتاريا، وهم عمال المصانع الذين سيكتسبون وعيا طبقيا بإستغلال ملاك وسائل الإنتاج لهم ونهب قيمة العمل التي ينتجونها والإكتفاء بإعطائهم أجر حديدي لتجديد طاقات العمل فقط، لكن حاول لنين إدخال عنصر الفلاحين والأرياف في إشعال ثورة في روسيا الضعيفة من ناحية التصنيع وضعف طبقة البروليتاريا، مما جعل الإتحاد السوفياتي بعد الثورة البلشفية في 1917 يركز على الصناعة، خاصة الثقيلة منها كي تبرز طبقة البروليتاريا كمرحلة لبناء الإشتراكية، فدخل لنين في صراع مع العديد من المفكرين الذين بقوا ملتزمين بطرح ماركس وبعدم الإستناد على الفلاحين، لكن تبين فيما بعد أن الذين أفشلوا الثورة الإشتراكية في روسيا هم الذين قادوها لأنهم من الطبقة البرجوازية ممثلة في انتلجانسيا ومثقفين حولوا الحزب الممثل للبروليتاريا والمجسد لدكتاتوريتها إلى مجرد جهاز أنتج برجوازية أخرى سماها اليوناني كارنيليوس كاستورياديس"برجوازية بيروقراطية، وهو ما حدث في كل الدول التي تبنت الإشتراكية بالإعتماد على الحزب الواحد.
أما ماوتسي تونغ في الصين فقد غير كل النظرية الماركسية المبنية على البروليتاريا، وعوضها بالفلاحين الذين قادوا هذه الثورة بواسطة المسيرة الكبرى المبنية على المرور بأطراف المدن، أي بالأرياف وتجنيد الفلاحين بهدف محاصرة المدينة البرجوازية، وهو نفس ماحاول القيام بها تنظيم داعش بإيحاء من المخططين له، لكنه فشل في ذلك، فدخل ماوتسي تونغ في خلاف أيديولوجي مع الإتحاد السوفياتي، لكن اليوم أنهار الإتحاد السوفياتي، وأستمرت الصين الشيوعية التي مزجت بين إقتصاد السوق والحزب الشيوعي الواحد، وكأنها عادت إلى نفس طرح لنين قبل وفاته، وهي السياسة الإقتصادية الجديدة التي تسمح بالملكيات الفردية، وهو نوع من عودة إلى الرأسمالية كمرحلة ضرورية لابد من المرور عليها لخلق بروليتاريا تمهد للشيوعية كما قال ماركس.
ان كان الفلاحين يشكلون التركيبة الإجتماعية التي تستخدم للثورات المضادة في أوروبا، فإن الوضع ليس كذلك بالنسبة لماوتسي تونغ، لأن الصين أصلا فلاحية تماما، وذهب فرانز فانون نفس المنحى في الجزائر أين رأى أن طبقة الفلاحين يشكلون القوة الضاربة للثورة الجزائرية، وهو ما أعتمد عليه النظام الجزائري في عهد بومدين، فبدل تمدين الفلاحين والأرياف حاول ترييف المدن لدرجة إرسال الطلبة إلى التطوع في الأرياف كي يأخذوا عنهم بعض التقاليد، ويزودونهم بتقاليد أخرى، أي عملية مزج بين الريف والمدينة، لكن وصول ذوي الجذور الفلاحية والريفية إلى السلطة في الجزائر في1962 كان سببا رئيسيا في إستمرار العصبيات المختلفة سواء كانت دينية أوجهوية أو قبلية وغيرها الذي لازالت تعاني منه الجزائر إلى حد اليوم، وقد لعبت ولازالت تلعب هذه العصبيات دورا كبيرا في سياسات الثورة المضادة اليوم التي تسعى لإجهاض الثورة السلمية التي انطلقت منذ22فيفري2019، وقد ظهر ذلك بجلاء ووضوح، ويبقى السؤال المطروح هو هل ستفشل الثورة السلمية في الجزائر بسبب هذه العصبيات كما وقع لثورات الربيع العربي في 2011؟.
يبدو أن أثناء الثورة التحريرية في الجزائر(1954-1962) قد ظهر طرحين غير معلنين بصراحة، أحدهما فانوني يعتمد على الريف والفلاحين وآخر لعبان رمضان يعتمد على المدينة والذي خطط منذ1956 لأخذ المدينيين قيادة الثورة، ولعل قرأ عبان رمضان بذكاء نظرية بن خلدون القائلة بأن البدو ومنه حتى الريفيين يحطمون دائما كل محاولة تراكم حضاري بإستغلال الدين والعصبية القبلية، ولهذا أراد لقيادة الثورة التحريرية القيام بعملية تمدين الجزائريين، خاصة بعد إسترجاع الإستقلال كي تبنى جزائر متحضرة، لكن فشل عبان رمضان في مسعاه بعد إغتياله على يد قادة ذوي جذور ريفية لم تتمدن بعد، ولم يرق لهم محاولات عبان رمضان إدخال المدينيين والمثقفين بقوة في الثورة التحريرية ودفعهم إلى دفة القيادة.
يرى البعض، ومنهم الفرنسي فرانسوا بورغا أن الترييف الذي عرفته بلدان منطقتنا هي التي أنتجت بعض التيارات الدينية المتطرفة، ولو أنها تظهر منتشرة بقوة في المدن، لكنها في الحقيقة هي منتشرة على حواف المدن، وتتشكل من مهاجرين من الأرياف غير قادرين على التأقلم مع الحياة الحضرية للمدينة، فلجأوا إلى التطرف الديني لإيجاد هوية لهم، وإن ذهبنا هذا المذهب، فقد لعب هؤلاء دورا كبيرا في الثورات المضادة أثناء الربيع العربي سواء بعنفهم أو توظيفهم من الأنظمة الإستبدادية ضد القوى الديمقراطية، وهو ما يطرح علينا اليوم إشكالية موقع هؤلاء في مختلف الثورات بين من يطالب بإقصائهم تماما ومن يرى بإدماجهم في العملية الديمقراطية بهدف تخليصهم من مشكلة الهوية والإندماج في المدينة، وكأننا نعيد طرح نفس الإشكال الذي طرحه لنين حول إشراك الفلاحين والريفيين او ذوي الجذور الفلاحية في الثورات أم لا؟