خسائر لعدم الإكتمال


حمدى عبد العزيز
الحوار المتمدن - العدد: 6428 - 2019 / 12 / 4 - 20:55
المحور: سيرة ذاتية     

اكتشفت مؤخراً أن أحلامي كلها فقد متتال وخيبات وخسارات تلاحق بعضها كأمواج تهاجم تيارات الوعي الباطن ، وتحول دون وصولها لشواطئ آمنة ..

أحياناً أقع في حبائل قوة نصب غامضة فأكتشف أنني قد استبدلت سيارتي الخاصة بسيارة رثة تشبه عربات نقل الركاب الريفية القديمة ، ووقفت أمامها أسأل نفسي بحسرة شديدة عن كيف سأبرر لأولادي هذه الإنتقالة المفاجئة ، وهذه الخيبة غير المبررة !!

، وهذا مايحعلني أقوم صباحاً ، وأفتح نافذتي التي تطل علي سيارتي الهيونداي الماتركس ذات الموديل الحديث الذي أصبح قديماً بمرور أكثر من عقد كامل علي شرائها كإستعمال حديث بمدخراتي التي تكونت عبر عقود من سنوات التوفير من حوافزي ومكافآتي ، وبدلات ساعات العمل الإضافي التي كنت اتحصل عليها بجوار راتبي ..

أطل عليها فأجدها وأتأكد أنها في مكانها .. فأدرك أنني أمسك بالحلقة الحديدية المثبتة علي رصيف شاطئ الوعي بالواقع المادي الملموس المعاش ، وأتلقف لفحة البرد الصباحية التي غالباً ماتتسبب في أدوار البرد التي أصبحت تصيبني في أعوامي الأخيرة أكثر من خمسة مرات في العام ، وهذا عبء شديد بالنظر إلي أنني قد سبق لي أن أجريت جراحتين علي مدي عقدين من عمري في العمود الفقري ، ولذلك فإن أدوار البرد والأنفلوانزا قد بدأت تؤثر في علي نحو مضاعف ..

كان مطاردي دائماً مايفشل في اللحاق بي .. فقد كنت أستبق قدومه بالجري تحليقاً في الهواء بمجرد أن أفرد ذراعي لإرتفع عن الأرض فيرتد مطاردي الذي لاأعرف له ملامح محددة علي عقبيه خائباً ، وأفوز أنا بما أريد ، ولكنني منذ مدة وحتي الآن لاأعرف سر العطب الذي سرعان مايطرأ علي أجهزة طياراني الداخلية بمجرد أن أطلق ساقي للريح فارداً ذراعي فأسقط بين يدي مطاردي ، وتحت هيمنة عيناه اللامعتين بالشر وسط وجهه المريع الذي لاأستطيع تحديد معالمه..

لم أعد أجد تفسيراً لعجز لمبات الإضاءة علي إحداث ولو ضوء شحيح حين أضع أصابعي المرتعبة علي كافة أذرار لوحات الإضاءة المصلوبة علي جدران غرف المكان الذي أحاول إضاءته فراراً من كائن ما يقترب مني حاملاً مصيري المحتوم بين يديه ، كما لاادري كيف لم ينغلق الباب الذي أوصدته في وجهه ، وكيف استطاع النفاذ منه إلي داخل المكان ؟

أقع تحت وطأة ذلك حتي يحدث أن أتنفس الصعداء حين أدرك أنني أمسكت بها .. بالحلقة الحديدية -أياها- تلك المثبتة علي رصيف شاطئ الوعي بالواقع المادي الملموس الذي أحياه بالفعل ..

فيما عدا ذلك يظهر لي مديري البيروقراطي الفظ العظيم الذي يشبه في هيئته وحضوره ودوره الأبوي الهيراركي شخصية أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ ..

يظهر ليعتلي عرشه علي الإدارة مجدداً ، ويقرر نقلي من إدارة وحدتي إلي ماكنت عليه قبل أن يعود إلي مكانته الأولي جالساً علي كرسي المكتب ذاته ، يأمر بإعادتي كمجرد كاتب إداري لإعمل تحت إمرة أحد تلاميذي الذي ينظر لي آسفاً كلما كلفني بعمل جديد ملقيا جملته المتكررة :

(أعرف أنك كنت مديري وأستاذي ولكن الأوامر هي الأوامر وحضرتك سيد العارفين ) ..

يقول لي مرؤسي المباشر الذي كان تلميذي ، الحاج فتحي يريدك أن تذهب إليه فوراً ..

فأذهب إلي الحاج فتحي مديري الذي يشبه السيد أحمد عبد الجواد ، والقابع وراء مكتبه الخشبي ، فيبدأ كالمعتاد في تقطيمي ولومي علي تدني إنتاجي ، وفلاحي في الكتابة والسياسة ساخراً من أنني لم أحقق سوي قبض الريح وحصد خيبات الأمل من ورائها ، ثم يمد يده تحت طاقم مكتبه الجلدي ساحباً ملزمة بها أكثر من خمسين ورقة فلوسكاب مسطرة ، دافعا بها أمامي بحدة قائلاً :

- عليك بأخذ كشوف المتحصلات واللف بها علي العملاء طبقا لعناوينهم المدونة ..

، فآخذ الكشوف طائعاً ذليلاً محطم الكبرياء ، ألف بها عزي العملاء الذين يسألون في أسي ممزوج بالدهشة والذهول عما فعل بي كمدير محترم كانوا يسعون هم إلي مكتبه لقضاء أشغالهم ..

كلما صحوت بعد ذلك أول شئ أقوم به هو أن أمسك بالحلقة الحديدية المثبتة علي شاطئ الحقيقة المعاشة الآن ، واتذكر أنني خرجت علي المعاش بعد أن. بلغت السن القانونية ، وأن مديري الذي يشبه أحمد عبد الجواد قد مات منذ مايقترب من الثلاثين عاماً ، وأنني أصبحت مديراً بعد وفاته بسبعة سنوات قفزت فيها علي عدة وظائف إدارية قبل أن أصبح مديرا ، وأنني لم أكن أشبه مديري السابق .. ليس لأنني فقط كنت أكره ذلك .. ولكن لأن جميع من كنت أرأسهم في العمل كانوا يقتربون مني في السن ومنهم من كان يدير لي حملاتي الإنتخابية عندما كنت أترشح لعضوية مجلس إدارة النقابة كاشتراكي يؤمن بحقوق زملائه الباعة لقوة عملهم ولو كان ذهنيا ، وأخوض المعارك ضد المدراء من أجلهم (لا أعرف كيف شطب تيار الوعي الباطن المسئول عن إنتاج مثل هذه الأحلام دورتين من العمل النقابي من تاريخي ليلقيني مكتوف الإرادة أمام مديري الذي يشبه السيد أحمد عبد الجواد؟) ..

مديري القديم الذي كان يشبه السيد احمد عبد الجواد في جبروته الأبوي في الواقع المادي الملموس إلا بفارق ارتداء البدلة والكرافت والنظارة الطبية .. هو كان في الحقيقة قد مات فجأة عند عودته من مقر عمله إلي بيته ، وقد حول زملائي واقعة سقوطه علي عتبة منزله قبل أن يهم بقرع جرس الباب إلي سيرة يتناقلونها في حين كنت أنا لاأهتم بذلك .. فالرجل إنسان وقد مات واذكر أني ذهبت لحضور جنازته في بلدته ، وتضرعت مع المتضرعين له بالرحمة ، ونسيت بعدها كل شئ عن أيامه ، ومواجهاتي معه ، ومكائده الإدارية لي حتي انتصرت عليه عندما نجحت أنا في انتخابات النقابة ، وسقط هو في انتخابات مجلس الإدارة

ستقولون لي مالعلاقة بين النظام الأبوي والنظام الإداري ، سأقول لكم أننا في الشرق هم ..

في أول مجيئ الأستاذ فتحي الذي سرعان ماأصبح الحاج فتحي كرس جل وقته وحيله البارعة لتأكيد سلطته علي الموظفين فكان يطلب منهم اعتبار وحدة العمل التي يرأسها أسرة واحدة ، واستطاع نسج هذا الوهم وترسيخه في أذهان الموظفين في أول عام لولايته ، ثم ما أن رسخت فكرة أن وحدة العمل التي يرأسها أسرة واحدة ، يعرف كبيرها وعائلها كل شاردة وواردة في حياة أفرادها حتي يحل لهم مشاكلهم ويعالج أوجاعهم الحياتية بكلمات مطبطبة وحكم متوارثة عن الآباء والأجداد ..

أعطي له الجميع مفاتيح ومفردات حياتهم الخاصة والعامة بما في ذلك حياتهم الجنسية مع أزواجهن ..

هكذا أصبح الجميع أسرة ، ولابد للأسرة من رب ، ولا يوجد بالطبع إلاه ربا لهذه الأسرة الكبيرة ، ومن هنا بدأ فرض حبروته الذي بدأ يتسع رويداً رويداً بما يملكه من صلاحيات إدارية أقلها كتابة التقارير الخاصة للمسئولين في الأعلي عن مرؤسيه ، وآخرها سلطة توقيع الجزاء المباشر التي حصل عليها مدعمة بمحبة رؤسائه الأعلون الذين يحبونه ويرونه مثلاً يحتذي به القيادة والإدارة ..

أقول لكم سراً ربما لن تصدقوه
تجاوز الحاج فتحي موقعه كمدير لوحدة العمل التي كنت أعمل بها إلي أفق غاية في البطراياركية لدرجة أنه كان يسمح لنفسه حين يوبخ البعض من تابعيه وخلصائه الذين يصبون في أذنه كل يوم تقارير شفوية عن زملائهم ماذا قالوا وماذا يفعلون في العمل وفيما بعد العمل

كان يسمح لنفسه وهو يوبخ هؤلاء الخلصاء بالتلميح باستخدام ألفاظ غاية في قلة الأدب وخدش الحياء يستقبلونها ، بل أنني أخجل أن أحكي أنني رأيته ذات يوم يمد يده علي قفا أحدهم وكان رجلاً في الأربعين من عمره أمامي أنا الذي كنت أنا لم اتجاوز الرابعة والعشرين من عمري ، وكان هو يسميني من المشاغبين المطرودين من جنة الأسرة ، لهذا فأنا محروم طوال مدة جلوسه علي مكتبه من درجة الإمتياز التي يحصل عليها المطيعون الطيبون ، هو مد يده علي قفا أحد خلصائه المطيعين ليرهبني ، وقد فطنت أنا لذلك فقد كنت عضواً في تنظيم سياسي معارض للسادات وكنت أعرف مثل هذه الأفعال ، وكنت مدرباً علي التعامل معها .. وهكذا اختمرت داخلي فكرة أن أكسر هذا التابو الضخم أمام نفسي أولاً ، ثم أمام زملائي الذين كنت أري أن هناك سحقاً إنسانياً جسيماً قد حل بهم لابد أن يتقدم أحدهم لكسره ، وإن لم يكن هو أنا الذي قرأ وآمن بماقرأ وبما استخلصته بصيرته كشاب هام في عالم الأم لجوركي ، والقدم الحديدية لجاك لندن ، والعين الحديدية لشريف حتاته ، وأرخص ليالي ليوسف إدريس ، وعماليات الأبنودي ، وقصائد عبد الوهاب البياتي وأمل دنقل ، وعرف وزامل عبد المجيد أحمد المناضل العمالي الذي كان صيته في مصانع كفر الدوار زاعقاً كالطبل ، ورأي كيف يتعامل معه زملائه العمال كمسيح مخلص ..

هكذا عزمت علي الترشح لانتخابات النقابة ونجحت لدورتين كنت فيهما ناجحاً فيمانجحت وفاشلاً فيما فشلت ، ولكنني ألقيت منذ اليوم الأول لترشحي حجراً علي وهم تجسد السيد أحمد عبد الجواد بيننا أنا وزملائي فصار منهم علي الأقل من يطلب منه التعامل معه كرئيس في العمل فقط علي أن يكون له احترامه إنسانياً في تبادل مشروط للإحترام ، وهذا مافعلته فيما بعد عندما أصبحت بدوري رئيسا للعمل ، ووصلت به إلي درجة مرتفعة من المودة المشتركة والصداقة في إطار إحترام قيم العمل ..

هكذا تأتيني أحلامي التي لم يقترب منها حلم واحد علي الإكتمال بحيث يستحق أن تحتفظ به الذاكرة ..

.. هكذا هي دائماً أحلامي التي تخطئ طريقها إلي ذاكرتي ..
فأقوم صباحاً بلا أحلام أحكيها لأحد ..

______________
1 ديسمبر 2019