التطور الفلسفي لمفهوم الأخلاق وراهنيته في المجتمع الفلسطيني (1 - 10)


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 6412 - 2019 / 11 / 18 - 15:00
المحور: القضية الفلسطينية     

مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتاريخي
المفهوم Concept: "هو فكرة محدده تمثل الخصائص الأساسية للشيء الذي تمثله"[1] "هو شكل من أشكال انعكاس العالم في العقل يمكن به معرفة ماهية الظواهر، وتعميم جوانبها وصفاتها الجوهرية. والمفهوم نتاج معرفة متطورة تاريخيا، ترتفع من مرحلة أدنى إلى مرحلة أعلى، وتلخص هذه المعرفة – على أساس الممارسة – النتائج المتحصل عليها في مفاهيم أكثر عمقا، ولهذا فإن المفاهيم ليست جامدة وليست نهائية وليست مطلقة، بل هي في عملية التطور والتغيير ترقى إلى رتبة الانعكاس المطابق للواقع"[2].
بناءً على ما تقدم، نستخلص بأن "مفهوم الأخلاق هو شكل من أشكال الوعي الاجتماعي (إلى جانب الفلسفة والعلم والفن والسياسة والدين) تنعكس فيه الخصال الاخلاقية (الخير، العدالة، الحق... إلخ) ، والاخلاق هي جماع قواعد ومعايير حياة الناس، تحدد واجباتهم كل تجاه الآخر وتجاه المجتمع"[3]، هو مفهوم نسبي ، تطور حسب المراحل التاريخية ، والاوضاع الداخلية الطبقية لمجتمع معين في كل مرحلة من المراحل، فالتطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي الذي حدث في سياق الانتقال من نمط اجتماعي اقتصادي الى آخر ، قاد ضمناً وعلى نحو مفصح عنه الى تحولات في البنية الأخلاقية.
فالقيم الأخلاقية ليست أبدية ولا مطلقة، إنما هي نسبية تابعة لعملية التغير المستمر الذي يؤثر في دوافعها الاجتماعية والبيولوجية والفيزيولوجية وغير ذلك من الدوافع .
"قد يكون مفيداً فى البداية أن نطرح بعض الصعوبات التى تواجهنا إذا ما حاولنا أن نتوصل إلى تعريف لما يطلق عليه الأخلاق أو القيم الأخلاقية ، فهو مفهوم قد يتسع "ليشير إلى كل ضوابط السلوك التى يلتزم بها الأفراد فى حياتهم اليومية ، وقد يضيق ليشير إلى ضوابط سلوكية محددة ، أى تلك التى توصف بأنها أخلاقية، وقد يختلف الناس فيما يدخل تحت الأخلاق وما يخرج عنها، وبما أن الأخلاق مفهوم نسبى ، فإن ما يعتبره شعب من الشعوب أخلاقياً قد لا يعتبره شعب آخر"[4] إذا كان يعيش ظروفاً وأوضاعاً متخلفة بائسه ومعقده ومنقسمه كما هو حال شعبنا.
"وثمة صعوبة ثالثة تتعلق بنطاق الأخلاق ومجال تأثيرها : هل هى قيم فردية يتبناها الفرد مختلفاً عن الآخرين ، أم أنها قيم جماعية تشترك فيها الجماعة بأسرها ؟ وهل يمكن التمييز بين القيم الفردية والقيم الجماعية؟ وما حدود التداخل بين المستويين؟ "[5].
ونصادف "رابعاً معضلة التمييز بين المفهومات المختلفة التى تشير جميعها بشكل أو بآخر إلى الأخلاق . من ذلك مفهوم الأخلاق morals ومفهوم القيم الأخلاقية moral values ، ومفهوم التوجهات القيمية value orientations ، ومفهوم الاتجاهات الاخلاقية moral attitudes ومفهوم الأخلاق المهنية ethics ، وعلاقة كل هذه المفاهيم بمفهوم الثقافة culture أو الأطر الثقافية، وأخيراً هناك مشكلة المدخل النظرى الذى ينطلق منه الباحث فى فهم الأخلاق : هل هو مدخل فلسفى ، أم مدخل انثروبولوجى ؟ أم حتى مدخل ثيولوجى فقهى . ولعل هذه الصعوبات هى التى جعلت موضوع الأخلاق أو القيم الأخلاقية يستعصى على الحصر والدراسة العلمية"[6].
فإلى جانب اقرارنا أن الاخلاق – في الوعي الشعبي العفوي- هي مجموعة العادات والاعراف والقواعد التي يؤمن بها هذا الشعب أو ذاك في مرحلة معينة من مراحل التطور التاريخي ، إلا أن بعض الفلاسفة يرون أن موضوع الاخلاق "لا يكون مجرَّد دراسة تقريرية للعادات الخلقية السائدة بين الناس؛ لأنهم يرون أن مهمة الأخلاق إنما تنحصر في وضع الَمَثْل الأعلى وبيان الكمال الأخلاقي وتشريع القانون الخلقي من خلال فرض القواعد التي ينبغي على الانسان أن يسلكها في حياته"[7].
"وهكذا، تصبح الأخلاق في نظر هؤلاء الفلاسفة هي نظرية الَمَثْل الأعلى، وقد بقيت الأخلاق إلى عهد قريب مبحثاً فلسفياً نظرياً يتداوله الفلاسفة ويخوض فيه علماء الأخلاق بوصفه علماً فوضعوه على قدم المساواة مع المنطق وعلم الجمال، وقالوا إن موضوعه هو قيمة الخير، كما أن موضوع المنطق هو قيمة الحق، وموضوع علم الجمال هو قيمة الجمال"[8] .
إن المشكلة الفلسفية للمعرفة الأخلاقية ، تطرح طائفة لا تحصى من الأسئلة التي تتناول ما يتصل بها من مفاهيم ومبادئ وقيم. مثال ذلك : ما أصل مفاهيم الخير والعدالة والشرف والكرامة ؟... هل هي وليدة التجربة أم أنها فطرية، وجوابي على ذلك انها وليدة التجربة.
تعريف الأخلاق :
أجمل معجم "لالاند" تعريفات الأخلاق في دلالات أربع:
الأولى : هي أن الأخلاق جملة قواعد السلوك المقبولة في عصر أو لدى جماعة من الناس. وبهذا المعنى يقال: أخلاق قاسية، أخلاق سيئة، أخلاق منحلة ، أخلاق طيبة ، كريمة أو صالحة ..الخ ، وأنا اضيف هنا أن هناك أخلاق وقيم نتاج لكل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي الاقتصادي لشعوب هذا الكوكب.
والثانية : هي أن الأخلاق جملة قواعد السلوك التي تعتبر صالحة صلاحاً لا شرطياً.
والثالثة : هي أن الأخلاق نظرية عقلية عن الخير والشر، وهذه هي الأخلاق الفلسفية.
والدلالة الرابعة : هي ان الأخلاق جملة ما يتحقق في العلاقات الإجتماعية من أهداف حياة ذات صبغة إنسانية أعظم.
ننتقل الآن إلى تعريف مفهوم الاخلاق فنقول : أنّ الأخلاق ظاهرة اجتماعية يتم صياغتها بصورة واعية و هادفة، بما يتوافق مع المتطلبات التاريخية في كل مرحلة من مراحل تطور المجتمعات البشرية ، وهي أيضاً شكل من أشكال الوعي الاجتماعي ،يقوم بمهمة ضبط وتنظيم سلوك الناس في كافة مجالات الحياة الاجتماعية بدون استثناء ،في السياسة وفي العلم ، وفي العمل وفي البيت والأمكنة العامة ... إلخ.

"فالأخلاق كمنظومة تتحدد بناء على الواقع الاجتماعي والطبقي المحدد، وأيضا بناء على الخصوصيات الحضارية للجماعة البشرية المحددة في كل مرحلة تاريخية بعينها. فبما أن الموقف من الأخلاق يعكس في العمق موقفا اجتماعيا طبقيا... بالتالي من الصعب الحديث عن الأخلاق بالمعنى المجرد... فالأخلاق هي منظومات ومفاهيم وسلوك نَضَجَ وتبلور في التجربة الاجتماعية"[9].
الأخلاق بين الديمقراطية والاستبداد:
"في البلدان الديمقراطية، يتساوى جميع المواطنين أمام القانون، وبقدر ما يكون هؤلاء أحراراً تكون دولتهم حرة وقوية، وفي البلدان المتأخرة حيث التسلط والاستبداد يتساوى جميع المواطنين أيضاً، ولكن بصفتهم لا شيء. الدولة الديمقراطية قوية بشعبها، ودولة الاستبداد قوية على شعبها.
المواطنون في البلدان الديمقراطية ذوات حرة متساوية في الحقوق وفي الكرامة الإنسانية، تشارك بنشاط في الحياة العامة؛ والرعية في عالم الاستبداد موضوع، والرعايا موضوعات لإرادة المستبد ، فلا ترقى منزلتها ومنزلتهم فوق منزلة الأتباع والعبيد. ومن ثم فإن دوام الاستبداد وألفة الرعايا له تجعل من أخلاقهم أخلاق أتباع وعبيد. الاستبداد والعبودية صنوان، هكذا كانت الحال في الماضي، وكذلك هي اليوم"[10].
"الاستبداد المعاصر كسلفه القديم، يقوم على احتكار الثروة والسلطة والقوة، ووضع اليد على جميع المرافق العامة، وعلى جميع مجالات الحياة، ويمتص قوة عمل المجتمع، ويختزل الوطن كله في شخص المستبد. ويلتمس لنفسه المشروعية من عقيدة دينية أو عقيدة سياسية، قومية أو اشتراكية يفرضها على المجتمع كله بالعسف والإكراه، ولكي يستتب له الأمن يصطنع المستبد قوى للأمن علنية وسرية، وهذه تصطنع جيشاً من المخبرين والوشاة يتكاثر كالخلايا المسرطنة"[11].
نخلص مما تقدم، إلى أن الاستبداد يقتل في الإنسان شخصه القانوني، إذ يسلبه جميع حقوقه، ثم يقتل فيه شخصه الأخلاقي، فتنغلق دائرة الاستبداد؛ ويغدو بالإمكان إعادة إنتاجه .
وما كان بوسع الاستبداد أن يقتل الشخص الأخلاقي في الإنسان لو لم يتمكن من قتل الشخص القانوني فيه، ولو لم يزعزع قاعدة الحقوق الطبيعية والمدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية .
بالطبع، يفرح المستبدون (حينما تأخذهم العزه بالاثم) بتحويل شعوبهم إلى قطعان، ومن دون أن يدروا أن ضعف شعوبهم الفعلي هو قوتهم الوهمية، ومن دون أن يدروا أن ضعف الشعوب محمول بتراكمات داخليه تتفاعل وتزداد في انتظار لحظة القطع والانفجار في وجه المستبد.
ذلك "إن قتل الشخص القانوني ثم قتل الشخص الأخلاقي في الإنسان هو قتل روح الاجتماع المدني وروح المواطنة؛ ولذلك قيل من لا يدافع عن قوانين بلاده لا يحسن الدفاع عن وطنه، ومضمون القوانين التي يجدر بالمواطنين أن يدافعوا عنها هو الحقوق ومعيارها هو العدالة، والعدالة هي التجسيد الواقعي للمساواة"[12].
"لقد فهم الكثيرون كارل ماركس وكأنه ضد الأخلاق، بينما ماركس في الواقع هو نموذج المفكر الثوري الأخلاقي بامتياز.. إنه ضد الأخلاق البرجوازية المجردة والغيبيبة التي تحاول إيهام المجتمع بأن المشكلة مجرد سلوك أخلاقي .. وليس نتاج بنى اقتصادية وسلطة سياسية هدفها تكريس الاستغلال... إنه لم يَسقُط في مصيدة فلسفة الأخلاق الغيبية الوعظية.. وإنما اندمج في الفعل الثوري والفلسفي والفكري لكي يرتقي بالوعي الاجتماعي والتحريض على الفعل من أجل التغيير الحقيقي"[13].
"الفكرة هي أن التغيير ليس مجرد حالة ذهنية أو فكرية.. بل موقف وفعل سياسي مباشر بهدف تغيير البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المادية السائدة.. أي البنى التي تولد كل هذا الإسفاف الأخلاقي والثقافي والسلوكي.. فبدون تغيير تلك البنى سيبقى الوعي خاضعا لعلاقات القوة المبنية على السيطرة على وسائل الانتاج... والمستندة إلى العمل المأجور الذي في جوهره استغلال لعرق وجهد وعمر وحياة القوى المنتجة من قبل طبقات طفيلية هدفها أولا وأخيرا الربح وتركيم الثروة، بمعنى أن تغيير هذه العلاقات اللاأخلاقية في جوهرها ينطلق من تغيير الواقع ذاته... ودور الفكر والأيديولوجيا هنا هو تعزيز هذه العملية الملموسة... أما أن يتحول الفكر إلى عملية وعظ أخلاقي لا تمس الواقع والطبقات المستَغِلَّة... فإنه يصبح في هذه الحالة جزءا من منظومة القهر ذاتها... بهذا المعنى فإن القيم الأخلاقية ما لم تكن قوة فاعلة من أجل كشف الاستغلال والقهر والدفاع عن حقوق ومصالح الناس.. فإنها فقط تعزز الوهم بإمكانية تعميم العدالة وتحقيق الحرية عن طريق الوعظ الأخلاقي"[14].
"بهذا المعنى بالضبط يتحدد الموقف الماركسي من الأخلاق... أي أن الأخلاق بذاتها كمفاهيم ليست هي قوة التغيير بل إن الالتزام بالفعل السياسي والاجتماعي لتغيير الواقع هو الذي يعطيه القيمة الأخلاقية الكبرى... التي ستنتج في سياقاتها منظومة أخلاقية بديلة منسجمة مع الواقع الجديد.
هذه هي الأخلاق الثور ية وليس الوعظ الأجوف الذي يواصل الثرثرة عن الأخلاق ولكن بدون جرأة ووضوح في مواجهة أسباب القهر والظلم والاستغلال كعلاقات وقوى طبقية"[15].
[1] ويكيبيديا - الانترنت
[2] الموسوعة الفلسفية – روزنتا / يودين – دار الطليعة – بيروت – 1981 – ص488.
[3] الموسوعة الفلسفية – المصدر السابق – ص14.
[4] د. أحمد زايد - مصادر الأخلاق الفردية والجماعية: ندوة القيم – الانترنت – 11 يناير 2013.
[5] د. أحمد زايد - المصدر السابق
[6] د. أحمد زايد - المصدر السابق
[7] د. سدير طارق علي - ما هي فلسفة الأخلاق؟ - الانترنت : موقع موضوع- السبت 29 سبتمبر 2007
[8] د. سدير طارق علي – المصدر السابق.
[9] نصار ابراهيم – جدل السياسة والأخلاق والطبقات – الانترنت – 4/2/2016.
[10] جاد الكريم الجباعي – محنة العقل محنة الأخلاق - الانترنت
[11] جاد الكريم الجباعي – المصدر السابق.
[12] جاد الكريم الجباعي – المصدر السابق.
[13] نصار ابراهيم – مصدر سبق ذكره.
[14] نصار ابراهيم – مصدر سبق ذكره.
[15] نصار ابراهيم – مصدر سبق ذكره.