أجوبة على أسئلة الحوار المتمدن عن الحراك الجماهيري و الثوري في العالم العربي


مازن كم الماز
الحوار المتمدن - العدد: 6411 - 2019 / 11 / 17 - 02:44
المحور: ملف: الحراك الجماهيري والثوري في العالم العربي، موقف ودور القوى اليسارية والديمقراطية     

ج 1 – الحراك الذي يمكن وصفه بأوصاف كثيرة كالثوري و الجماهيري , هو في الأساس نتيجة الواقع المزري عربيا , نتيجة الفساد و النهب المنفلت للنخب الحاكمة و الحياة المزرية لأعداد متزايدة من البشر .. أما إذا تحدثنا عن آفاق هذا الحراك فأعتقد أنها محدودة جدا , أتحدث هنا بالتحديد عن العراق و لبنان .. إن الاحتكام إلى أساليب الديمقراطية التمثيلية أي الانتخابات سيعني باختصار إعادة إنتاج النظام لأن الناس ستعود فورا إلى طوائفها و ستنتخب السادة المتوجين لهذه الطوائف أي النخبة الحاكمة نفسها .. إذا ركزنا على إمكانية تجاوز النظام الطائفي في لبنان و العراق فالحل يكمن إما في ديكتاتورية ثورية أو في ديمقراطية مباشرة تتجاوز النخب الطائفية الحاكمة و هو ما لا يبدو أن الحراكين في العراق و لبنان يفكر بها أو يدعو إليها .. ما يتبقى إذن هو أن تمر هذه الاحتجاجات كفشة خلق عابرة أو أن تنجح في فرض تغيير في صراع القوى الإقليمية و الدولية أي قلب التوازنات الهشة اليوم بين القوى الإقليمية الرئيسية في الرياض و الدوحة و طهران و أنقرة و هو ما يفترض أن كل هذه القوى تحاول أن تفعله .. للأسف يبدو أن الشعوب ليست بالذكاء الذي ننسبه إليها , رغم كل غضبها لن يتزحزح إيمانها بالطائفية إلا بعد دماء و مآسي و آلام أكبر .. الشعوب الأوروبية التي ننسب إليها عادة قدرات أكبر لم تفقد إيمانها بآلهتها و جنرالاتها إلا بعد سلسلة من المجازر و المذابح استمرت على مدى ثلاثة قرون و التي أقنعت في نهاية المطاف من بقي منها على قيد الحياة بضرورة تجاهل أوامر الكتب المقدسة و رجال الدين بذبح بعضهم البعض .. إحصائيا نحن ما زلنا بحاجة لمجازر أكبر كي تصل شعوبنا لنفس الاستنتاج , و واقعيا أيضا لأننا ما نزال بعيدين عن نقطة الافتراق عن العالم القديم و الكفر بدوغماه و آلهته , بينما يهتف العراقيون و اللبنانيون ضد الطائفية اليوم بدأ جيرانهم السوريون للتو إطلاق دعوات ذبح الآخر الطائفي , و بدلا من الجنة الموعودة أصبحت ليبيا صومال جديدة بفارق وحيد هو وجود النفط و آلاف مؤلفة من العبيد الأفارقة .. لكن يبقى من الاحتمالات الممكنة نظريا أن تتمكن "شعوبنا" من الوصول إلى هناك بطريق أكثر اختصارا من نظرائها الأوروبيين لكن هذا سيكون مفاجأة بكل المقاييس

ج 2 – لا يمكن أن تتحول الأنظمة القائمة إلى دول مدنية ديمقراطية علمانية حديثة , هذا مستحيل تماما .. أما عن أي الطرق التي توصل إلى مثل هذه الدول فهو قضية أكثر تعقيدا مما قد يبدو .. الحقيقة أن التقدم في هذا الطريق هو اعتباطي فقط و إذا حدث و مشينا فيه فإن هذا سيكون نتيجة أفعال كثيرة جدا و متناقضة في أهدافها أكثر من مجرد فعل وحيد : ثورة هنا أو "إصلاح" هناك أو نتيجة هذه القوة أو بسبب رغبة تيار أو مثقف أو سياسي بعينه .. كل القوى السياسية و الفكرية الفاعلة اليوم تسعى فقط وراء السلطة و هي مستعدة لفعل أي شيء في سبيل ذلك و حتى إذا قبلنا بافتراضاتها أن وصولها إلى السلطة يعني قيام الدولة المدنية الديمقراطية الموعودة فإن هذا أكثر من مبالغة أو إطراء , إن كل القوى الفاعلة لا تكترث فعلا ببناء دولة مدنية ديمقراطية علمانية أو مصالح الجماهير الخ , إنها تريد من هذا و ذاك ما يناسب هيمنتها فقط , و الجماهير نفسها ليست مهووسة كما نعتقد بالدولة المدنية الديمقراطية .. ما تريده الجماهير بالفعل هو حياة أفضل إلى جانب هوسها التقليدي بموروثها و غيره من مبرراتها لكي تستر جهلها و عجزها و لتبدو أجمل و أفضل مما هي عليه في الواقع .. قد تبدو الديمقراطية و الدولة المدنية شعارات براقة و ذات جاذبية ما لكنها لا تتجاوز ذلك .. الحقيقة أكثر تعقيدا , أنه حتى الأنظمة التي أصبحت اليوم تستحق لقب أخطر و أكبر أعداء الديمقراطية و المدنية بل و "الشعوب" , هذه الأنظمة قد عملت بصورة موضوعية للدفع باحتمال قيام دولة مدنية حديثة : صدام , الأسد , عبد الناصر و أشباههم بنشرهم التعليم بين الجماهير فتحوا المجال أمام وعي أكبر بين الجماهير التي كانت ستكون أكثر عجزا نتيجة وعيها المتخلف و محدودية تفكيرها في السابق .. هذا لا يعني أن هذا كان جزءا من مخطط مدروس لتوعية الجماهير .. بعض الأشخاص الرجعيين جدا , لعبوا أدوار مهمة في هذا المجال .. علي باشا مبارك , أحد من ساهموا بتعميم التعليم و نشره بين الفلاحين المصريين , وقف ضد الثورة العرابية و كان خادما مطيعا للحكام المستبدين من أسرة محمد علي .. الديكتاتور السوري حسني الزعيم أيضا لعب دورا كبيرا في إطلاق عملية تغيير اجتماعية ثقافية واسعة رغم أن هذا أيضا حدث بشكل غير مقصود .. أحد مصائب الثورة السورية ليس فقط في أنها فتحت صندوق باندورا الإسلامي بل في أنها ساهمت في حرمان جيل كامل من التعليم , من تطوير تفكيره و أكثر من تشكيل قدراته النقدية و أنها ضخت قوة جديدة في عملية التلقين الاجتماعي و الأخلاقي لتصبح أكثر فعالية و تاثيرا من ذي قبل

ج 3 – الجيش و الشرطة هما حماة الأنظمة , تضاف إليهما الميليشيات التي أثبتت أنها أكثر فعالية في حماية النظام كما أثبتت الحالات العراقية و السورية و اليمنية و الليبية .. لا يوجد حل للأسف أمام هذه التشكيلات المسلحة النظامية و شبه النظامية , إما أن تسقط من داخلها و هذا يحتاج إلى أن تكون قد تحولت إلى بنية متعفنة تماما من الداخل كما حدث مع جيوش و أجهزة القمع في أوروبا الشرقية في نهاية الثمانينات لكن لا يبدو هذا واقعا اليوم في بلادنا , أو أن تسقط بحروب أهلية .. بالمناسبة ليست الشرطة و الجيش وحدها من يحمي الاستبداد , كل ما يقمع الحرية يحمي الاستبداد .. تعالوا نتساءل مثلا عن أهمية الفكر في النشاط البشري , إذا توافقنا أنه مهم يمكن عندها أن نقول أن كل ما يقمع الفكر , كل من يمارس أو يدعو لقمعه و كل من يقبل أو يصمت على هذا القمع يحمي الاستبداد و يقويه لا يضعفه .. أحد أكبر معضلة تفضح صدقية شعارات التحرير و الخلاص الحالية و من يرفعها هو السؤال التالي : كيف يمكن تحرير البشر بينما تبقي عقولهم و أجسادهم مسجونة و أسيرة

ج 4 – أعتذر عن إحباط الآمال في دور أكبر للمرأة في مجتمعاتنا , لأن هذا لا يتعلق فقط بالثورة بل بالتطور و الوعي الاجتماعي و الثقافي و الأخلاقي العام .. الثورة تؤدي إلى تفلت مؤقت في آليات القمع و الرصد و المراقبة و الهيمنة , الحكومية و القطيعية في نفس الوقت لكنها لا تحطمها إلا إذا كانت واعية بما تفعل .. لا تسقط السجون لوحدها , يجب الوعي بوجودها ثم أن توجد الرغبة و الإرادة لتدميرها ..

ج 5 – حسبما أعرف فإن مشاركة اليسار و القوى السياسية عموما ضعيفة و غير مؤثرة .. و لا أستطيع أن أقول الكثير عن إمكانيات التنسيق بينها .. أعتقد أنها تفتقد عموما ليس فقط للجماهيرية الكافية بل أيضا للجرأة اللازمة لتحقق إنجازات ما في الشارع .. هل تستطيع أن تجدد نفسها ؟ لا أعتقد , أكثرها ثورية يحاول نفض الغبار عن ما يعتبره ثوري في عقائدها و دوغماها و تعتقد أنه كاف و صالح لإستعادة بعض ألق اليسار القديم أو تكرار المعجزة البلشفية .. لكن حتى إذا افترضنا أنها تضم لينين أو أكثر , انتهازي عند اللزوم و مبدئي عند اللزوم , قادر على تمييز الفرص التي تخلقها الثورات بإضعاف الأنظمة القائمة و حساس تجاه مزاج الشارع و قادر على مخاطبته و مداعبته و تخديره في نفس الوقت , ثوري حقيقي و مستعد في نفس الوقت لقبول مساعدة جنرالات الجيش الألماني و عقد صلح بريست معهم و ذبح بحارة كرونشتادت و مغازلة الفلاحين الأغنياء و المتوسطين أو الغولاغ عند اللزوم , حتى بافتراض أنها تضم لينين أو أكثر فإن الظروف هي التي ساهمت في انتصار البلاشفة و لينين إضافة إلى ميزاته المتعددة .. هناك عوامل عدة تقف في وجه قيام لينين عربي , عراقي أو لبناني أو سوداني الخ : قناة الجزيرة و أصحابها و أموال الغاز الهائلة التي يملكونها تفضل أصحاب الذقون لا البذلات و الكرافتات و هي التي تقابل اليوم جنرالات الجيش الألماني الذين كانوا يرحبون و يخططون لثورة روسية تخرج عدوهم هذا من الحرب العالمية الأولى , كما أن منظمات المجتمع المدني قد أصابها مرض المعارضات المزمن أي الفساد و الترهل كما أن خطابها موجه أساسا لحلقة ضيقة من المثقفين و الناشطين الذين يستطيعون خلق الكثير من الضجيج و القليل من الطحين فقط رغم أهمية هذا الضجيج في الحد من انفلات القطيعية و هوس الهوية الذي يهدد بكوارث أو مجازر منفلتة نحاول تفاديها منذ عدة عقود و لكنها تعود لتنبعث بقوة أكبر كل مرة .. قد يكون السؤال الأكثر واقعية هو كم من المجازر و القتلى نحتاج لنكفر أخيرا بالطوائف و أي شيء يمكن أن ينتج عن ذلك .. يجب ألا ننسى أن الحكام الذين يجلسون اليوم في المنطقة الخضراء ببغداد و يطلقون النار على الشباب في ساحة التحرير هم نفسهم الذين عارضوا ديكتاتورية رهيبة كنظام صدام و أن ملالي إيران الذين يطلقون النار اليوم على شبابهم كانوا قد جاؤوا إلى السلطة عبر ثورة شعبية حقيقية وعدت بتحرير المستضعفين و أننا احتفلنا للتو بمرور ثلاثة عقود على ثورات أوروبا الشرقية التي انتهت وعودها المشابهة بالحرية و الحياة الأفضل إلى أنظمة يمينية عنصرية نصف دينية رجعية و بالتسول على أبواب أوروبا الغنية , هكذا يصبح السؤال ملحا عندها : أين المفر