تحرير الدولة من عصابات النهب


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 6410 - 2019 / 11 / 16 - 17:10
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



عرفت علاقة الدولة بالطبقات السائدة نقاشا علميا واسعا منذ قرون، خاصة في القرنين19و20، وهو ما يجب أن يعود بقوة اليوم في منطقتنا (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) التي تعرف بعض بلدانها حركات شعبية لتغيير الأنظمة السائدة كما يقع في الجزائر مثلا، وهو ما يسميه الشعب بالثورة السلمية التي أبهرت العالم منذ 22فيفري2019، لكن لعل الكثير لايدرك عمق الصراع وجوهره، ولايعلم دلالات بعض المصطلحات المستخدمة مثل "إستيلاء عصابة على الدولة وإختطافها"، ففي الحقيقة هذا الإختطاف، ليس جديدا، ويتمظهر اليوم بشكل جلي في توظيف وتحويل أجهزة الدولة الإقتصادية والقمعية والإعلامية والتعليمية والثقافية وغيرها إلى أدوات ليس فقط لنهب ثروات الشعب، خاصة الريع النفطي من مجموعات مصالح صغيرة جدا، بل لتبرير ذلك النهب بإستحمار وإستغباء الكثير وإسكات كل من يحتج على ذلك سواء جسديا بإعتقاله أو تصفيته أو معنويا وإعلاميا وثقافيا بتشويهه كي لايوقظ الشعب ضد مستغليه وناهبي ثرواته، وهو ما يطرح أمامنا اليوم ضرورة إعادة النقاش حول هذه المسألة بشكل علمي وأكاديمي كي نمنع تكرار نفس الظاهرة بعد إنتصار هذه الثورة السلمية، وسيحيلنا كل ذلك إلى العودة إلى طرح إشكالية نشأة الدولة وووظيفتها وكيفية تحويلها من دولة في خدمة مجموعات وطبقات على حساب الطبقات الشعبية إلى دولة في خدمة كل المجتمع بكل أطيافه، خاصة الطبقات الشعبية التي هي عرضة للفقر والبؤس بسبب هذا الإستغلال المكشوف أو الناعم.
تعددت النظريات حول نشأة الدولة وظيفتها، فبغض النظر عن النظرية التقليدية القائلة بأنها مجرد تطور من أسرة إلى قبيلة ثم نواة دولة تحكمت فيها عملية التضامن ومواجهة غارات الآخرين عليها لسلب منتجاتها، لكن يبدو أن هوبز Hobbes طور هذه الفكرة إلى القول بأن بسبب التقاتل بين الناس في المجتمع الواحد جعل الجميع غير مؤمنين على حياتهم، فأتفق هؤلاء كلهم على التنازل عن حرياتهم لشخص قوي يضمن لهم الأمن والسلام سواء في الداخل أو لمواجهة الخارج، فأصبح دكتاتورا أو ملكا يورث السلطة لأبنائه، ويمتلك كل الصلاحيات، ويستمد شرعيته من الحفاظ على الأمن، لكن لم يعرف المجتمع الأمن والسلام بحكم ظهور أشخاص أو عائلات ينازعونه السلطة مستخدمين عدة أساليب كالدين أو الأيديولوجية أو الثقافة وغيرها، فمن هنا جاءت فكرة التداول السلمي على السلطة بواسطة الإنتخابات التي هي مبدأ أساسي في الديمقراطية التي هي في الحقيقة حلا سلميا لكل التناقضات السياسية والأيديولوجية والثقافية والطبقية وغيرها في المجتمع، ولاتتلخص الديمقراطية فقط في الإنتخابات، بل مرتبطة أيضا بإحترام الحريات الأساسية ومبدأ المواطنة والفصل بين السلطات وإستقلالية القضاء والتداول السلمي على السلطة وغيرها من المباديء المتعارف عليها عالميا اليوم.
فقد تطورت هذه الفكرة الديمقراطية على يد الكثير من المفكرين في أوروبا، ومنهم جون لوك بفكرة تحديد صلاحيات الحاكم بدستور يحفظ أمنهم وأملاكهم وسلامتهم، لكن دون حكم مطلق للحاكم كما يقول هوبز، فمن هنا بدأت تتبلور فكرة الديمقراطية أو الملكية الدستورية التي ستتطور على يد مونتيسكيو بفكرة "فصل السلطات"، وكذلك جون جاك روسو بفكرته "سيادة الأمة" عبر ممثلين لها يتم إنتخابهم إلى برلمان تكون مهمته الأساسية التشريع وسن القوانين، وهو ما يسمى ب"السلطة التشريعية" التي تعد أهم سلطة على الإطلاق في أي دولة بحكم أن التشريعات هي التي تحدد، وتؤثر في حياة أي شعب أو مجتمع كان، لكن تطبيق نظرية روسو بالتمثيل بإنتخابات على على أساس دوائر جغرافية (أي ولايات وعمالات وغيرها) أدى إلى إقصاء الكثير من شرائح المجتمع من التمثيل والدفاع عن مصالحها، وهو ما دفعنا إلى طرح فكرة إستبدال ذلك بالتمثيل على أساس شرائح إجتماعية وفئات مهنية كما وضحناها بشكل جلي في كتابنا "النظام البديل للإستبداد-تنظيم جديد للدولة والإقتصاد والمجتمع-"، وهو مبدأ أساسي في هذا النظام البديل إلى جانب أسس أخرى لخصناها في عدة مقالات، ومنها مقالتنا في الحوار المتمدن"أسس جديدة لدولة ديمقراطية وإجتماعية-من أجل نظام سياسي بديل"(أنظر الحوار المتمدن عدد 4504 بتاريخ6/7/2014).
تعرضت فكرة الديمقراطية في الغرب في القرن19 إلى نقد على يد بعض المفكرين، ومنهم ماركس وأنجلس، وأنطلقا في ذلك من نظرية جديدة لنشاة الدولة تقول بأنها تعود إلى ظهور الملكية الخاصة التي أدت بدورها إلى ظهور الطبقات، فأنشات الطبقة السائدة الدولة لحماية مصالحها في وجه الذين تستغلهم بواسطة أجهزتها كالجيش والشرطة والقضاء والدعاية وتخدير المستغلين بواسطة التعليم ووسائل الإعلام والمعابد الدينية وغيرها.
يرى ماركس وأنجلس أن الدولة وشكلها تتحدد حسب قوى الإنتاج التي تحدد علاقات الإنتاج كبنية تحتية، والتي تؤثر بدورها على شكل الدولة كبنية فوقية مثلها في ذلك مثل تأثيرها أيضا على الثقافة والذهنية والدين والأخلاق والقوانين والأيديولوجيات وغيرها، ويذهب ماركس وأنجلس إلى القول بأنه بمجرد ما تزول الملكية الخاصة، سيزول معها الصراع الطبقي، فتزول بدورها الدولة التي هي مجرد جهاز في يد الطبقة السائدة لإستغلال الطبقة المسودة، لكن يرون أنه قبل إزالة الدولة يجب المرور بمرحلة قصيرة تتسم ب"دكتاتورية البروليتياريا" التي ستلغي الملكية الخاصة، وهو ما سيؤدي إلى زوال الطبقات نهائيا الذي سيؤدي بدوره إلى زوال الدولة لأنها مجرد جهاز في يد الطبقة السائدة.
لكن تبين بعد الثورة البلشفية في روسيا في 1917 التي كان من المفروض بعد إقامة دكتاتورية البروليتياريا لمرحلة محددة، سيؤدي حتما إلغاء الملكيات الفردية إلى الرفاهية بحكم نهاية الإستغلال الطبقي، فتزول الدولة حتما بحكم عدم وجود أي طبقة سائدة ستحتاجها لقمع وإستغلال الطبقة المسودة، لكن ما وقع هو نقيض ما كان مرجوا تماما حيث ظهرت طبقة برجوازية بيروقراطية حولت الدولة السوفياتية إلى غول كبير، وهو ما حذر منه ليون تروتسكي في كتابه "الثورة المضادة" في1936 متهما ستالين بالإنحراف عن مباديء الثورة البلشفية الأصيلة، وقد تتبع اليوناني كرنيليوس كاستورياديس cornelius Castoriadis نمو هذه البرجوازية البروقراطية بشكل علمي منذ 1949، وخصص لها مجلته "بربارية أو إشتراكية".
يتبين من كل ما سبق أن الدولة ضرورية لضمان أمن المجتمع كما قال هوبز، ويستحيل إلغائها تماما، لكن يمكن تخفيف ثقلها على المجتمع كما يذهب اليساري الأمريكي ناعوم تشومسكي الذي أبرز بأن منظر فكرة الفوضوية باكونين Bakounineقد أسيء فهمه، وهو لايدعو إلى الفوضوية بالشكل الذي تم تصويره، بل يدعو إلى ما أسماها تشومسكي "إشتراكية تحررية" أي عدالة إجتماعية مرتبطة بحريات أكبر للمواطن، وتزيل عنه ثقل الدولة وأجهزتها القمعية التي تحدث عنها بشكل كبير ميشال فوكو Michel Foucault في الكثير من كتاباته أين ربط كل شيء الدولة والخطاب والعلم والثقافة وغيرها بالسلطة والصراع حولها، لكن السلطة بشكلها ومفهومها الواسع، وبرهن أن كل إنسان مهما كان يبحث عن السلطة سواء كانت سياسية أو إقتصادية أو دينية وغيرها، ونلاحظ أن ما يقوله فوكو يتطابق بشكل كبير مع ما تورده الكتب الدينية السماوية، ومنها القرآن الكريم بأن آدم قد أكل من الشجرة الملعونة، لأن أبليس قد قال له أن ذلك سيعطيه ملكا لا يبلى، والملك هي إحالة إلى السلطة بمفهومها الواسع، مما يوحي أنها المحرك الأساسي للصراع كما يقول فوكو، وأن الصراع حولها يكشف حقيقة الإنسان وباطنه، وهو ما يتجلى في الرواية الدينية بظهور آدم عاريا بعد أكله من تلك الشجرة، وهو ترميز إلى ظهور حقيقة الإنسان عارية لاغبار عليها عند أي صراع حول السلطة، وهو مانراه يوميا فعند أي صراع كبير حولها يتم سفك الدماء والقتل والتعذيب وغيرها، وهو ما يدفعنا للتفكير في حل لوضع حد لكل ذلك، وقد حاول كل من ذكرناهم آنفا حل هذه المشكلة سواء كان هوبز أو لوك أو ماركس او أنجلس وحتى فوكو الذي تحدث كثيرا عن السلطة في عمقها.
لكن يختلف ماركس وأنجلس عنهم جميعا بربطهما السلطة السياسية وتشكيل الدولة بالسلطة الإقتصادية، فالطبقة السائدة تحول الدولة إلى أجهزة قمع للطبقة المسودة لمواصلة إستغلالها لها تارة بشكل قمعي مباشر كما يقع في الأنظمة الإقطاعية والعبودية أو بشكل غير مباشر كما يقع في الأنظمة الرأسمالية، ويتم إستغلال عدة أفكار وأيديولوجيات للإبقاء على تلك السيطرة بشكل ناعم، فمثلا لو ننتبع فكرة الحرية في الأنظمة الرأسمالية كأمريكا، فالمقصود منها أساسا هو حرية الملكية الفردية كما يقول ستيوارت مل، والتي يعتبرها ماركس وأنجلس، بل حتى روسو أنها سببا للإستغلال والتفاوت الطبقي في المجتمعات، لكن لم يتطرق ماركس وأنجلس إلى ظاهرة أخرى، وهي أن السلطة السياسية أيضا تؤدي بدورها إلى خلق طبقة وسلطة إقتصادية، وهو ما وقع في الأنظمة الإشتراكية كالإتحاد السوفياتي اين أستولى الثوار على أجهزة الدولة، لكن بدل إقامة الإشتراكية فعلا تحولوا هم بدورهم إلى إستغلاليين بشكل آخر، وهو ما سماه تروتسكي الذي كان معهم ب"البرجوازية البروقراطية"، فأستغل ووظف هؤلاء المقولات والشعارات الماركسية لخدمة مصالحهم بعد تحريفها عن مضمونها الحقيقي، وهو نفس ماوقع في الجزائر بعد1962 بالمتجارة بشعارات ثورة نوفمبر التحريرية، فوقع بذلك لأفكار ماركس وأنجلس في الإتحاد السوفياتي والدول المتبنية لها نفس ماوقع لكل الأفكار الثورية التي جاءت بها مثلا الأديان السماوية في وقت ظهورها كما يقول الإيراني علي شريعتي في كتابه "دين ضد الدين" عندما يقول أن كل دين يستولي عليه الإستبداديون والإستغلاليون بعد وفاة نبيه، فيوظفونه لخدمة مصالحهم الخاصة بتواطؤ مع الكهنة ورجال الدين والفقهاء .
ان هذا كله يطرح أمامنا مشكلة تحويل الدولة إلى دولة في خدمة كل المجتمع، خاصة بعد إنتصار الثورات، فمثلا اثناء أي ثورة مثل الثورة السلمية في الجزائر اليوم نجد بداخلها طبقتين، فهناك طبقة تريد أن تبرز نفسها كنخبة، لكن في عمقها تريد تعويض النخبة السائدة الآن، بل ممكن التفاوض معها كي تشاركها في الإمتيازات على حساب الطبقات الشعبية المحرومة التي يمكن أنها لا تعي بإمكانية سرقة ثورتها وتضحياتها كما وقع في كل الثورات السابقة، وقد قالها فيلفريدو باريتو Vilvrido Pareto صراحة بحكم تتبعه حركية النخب، بأن النخب الصاعدة تقف إلى جانب الطبقات المحرومة أثناء الثورات، لكنها تتحول إلى مستغلة وقامعة لها بعد صعودها إلى السلطة، ولمنع ذلك كله طرحنا نظاما سياسيا بديلا وبعيدا عن الديمقراطية البرجوازية أين سيجد الجميع مكانهم، وهو نظاما مبنيا على التمثيل المهني وشرائح المجتمع أين سيكون مجلسها الممثل لها هو السلطة العليا في البلاد، خاصة في المجال التشريعي الذي له التأثير الأكبر في المجتمعات، ويجب أن تكون في خدمة كل شرائح المجتمع وفئاته المهنية دون إستثناء، فكل شريحة أو فئة مهنية تمتلك حق الفيتو في أي قانون يخصها، وفي حالة تناقض المصالح فيما بين عدة شرائح وفئات مهنية يتم التفاوض فيما بينها للتوصل إلى إتفاق وسط بتنازلات من كل الأطراف، ويتلخص هذا النظام في إنتخاب الممثلين على أساس شرائح المجتمع وفئاته المهنية دون حصولهم على أي إمتيازات كي تبق مصالحهم مرتبطة بمصالح الذين يمثلونها مع تطبيق صارم لمبدأ "من أين لك هذا"، وطبعا هذا مبدأ وحيد من ضمن عدة مباديء وأسس لنظام سياسي وإقتصادي بديل وضحناه بالتفصيل في كتابنا "النظام البديل للإستبداد-تنظيم جديد للدولة الإقتصاد والمجتمع-"، وسيكون أيضا من مهام هذا المجلس التوزيع العادل للريع على كل الفئات ومنع إستيلاء السلطة القائمة على الريع كله، وهذا كمرحلة إنتقالية فقط قبل تحويل الإقتصاد من إقتصاد ريعي تابع للرأسمالية العالمية بحكم تحكم طبقة الكمبرادور فيه (أي إستيراد-إستيراد) الى إقتصاد منتج بتحويل هؤلاء الكمبرادور بفعل قوانين وآليات وميكانيزمات إلى الإستثمار في القطاعات المنتجة للثروة ومناصب العمل، وهذا موضوع آخر تطرقنا إليه بالتفصيل في العديد من كتبنا ومقالاتنا.