سيناريو قطيعة من داخل النظام شبيهة بقطيعة نوفمبر1954


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 6404 - 2019 / 11 / 9 - 14:20
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تعرف الجزائر كل جمعة مسيرات مليونية سلمية ومبهرة للعالم أجمع تعم كل ترابها الوطني في وسط تعتيم إعلامي من الفضائيات الجزائرية وفضائيات أجنبية كثيرة إما لأنها تدعم السلطة في الجزائر أو دفعت لها أموال الشعب مقابل السكوت، لكن تميزت الجمعة الخاصة بذكرى ثورة أول نوفمبر1954 بخصوصية كبيرة جدا، ليس فقط في ضخامتها، بل في تعهد المتظاهرين بأنهم سيواصلون النضال من أجل تحرير الجزائر من سلطة سرقت هذه الثورة، وحرفتها عن أهدافها، وتستغل دماء الشهداء وهذا الرأسمال الرمزي لنهب وسلب ثروات الشعب.
حلت الذكرى65 لإندلاع ثورة نوفمبر1954في ظروف تتسم بإهتمام شعبي كبير بها، خاصة من الشباب الذين فاجأوا المعتقدين بأنهم لايولونها أي أهمية، لكن يلاحظ إختلاف إهتماماتهم اليوم عن إهتماماتهم السابقة التي كادت أن تقضي على روح نوفمبر بعد تعرضهم لتشكيك البعض فيها وفي رموزها بفعل تشجيع غير بريء من أطراف لشهادات فاعلين تاريخيين ضخمتها بعض وسائل الإعلام، ولم يكن الهدف منها معرفة حقائق الثورة، بل تخوين وتشويه رموزها، مما يسمح بإبراز رموزا مزيفة يريدون تحويلها أصناما تعبد، ويأتي على رأس هؤلاء الرئيس السابق عبدالعزير بوتفليقة الذي وضعت صوره في لوحات يقدم لها الولاء، مما كان أحد الأسباب التي أستفزت الشعب الذي أهين في كرامته.
لقد مر الشعب الجزائري بظاهرة عبادة الشخصية عدة مرات في تاريخه المعاصر بتقديس الحاكم، وكان أمرها عشية ثورة نوفمبر، حيث كان مصالي الحاج زعيم الحزب الوطني الإستقلالي صاحب الأمر والنهي داخل التنظيم، ووصل إلى درجة التقديس من بعض مناضلي حزبه لدرجة منع أي إنتقاد له وإعتقاد البعض أنه يستحيل على الجزائر أن تقوم بثورة ضد الإستعمار الفرنسي بدونه، وأصبح يعتبر نفسه هو الحزب، إن لم نقل هو الجزائركلها، وهو ما دفع مفجرو ثورة التحرير في1954 إلى القضاء على هذه الظاهرة المرضية وإستبدالهم فكرة الزعامة بالقيادة الجماعية، ونشير أن هذه الظاهرة قد حذر من بذورها المناضل الكبير والرجل الثاني في نجم شمال أفريقيا عمار عيماش بعد مصالي الحاج في رسالته لمناضلي التنظيم في1936.
يدل إهتمام شباب اليوم برموز الثورة والإستلهام منها على مدى إرتباطهم بها، مما زعزع المراهنون على إنهاء هذا الإرتباط بدعوى معارضة نظام يستغل الشرعية الثورية للبقاء، وتناسى هؤلاء أن معارضة النظام ليس معناه التخلص من رأسمال رمزي يستخدمه، بل تحرير الرموز الوطنية الجزائرية منه، وجعلها ملكا ومفخرة للشعب كله، وهو ما يتجلى بوضوح في حركية الشعب الجزائري اليوم.
يختفي وراء هذا الإهتمام رغبة قوية للإستلهام من هذه الثورة بمعرفة تطوراتها وعوامل إنتصارها ومقارنة ذلك بالحاضر، ويلاحظ تركيزا على طبيعة القطيعة التي أحدثها أول نوفمبر بحكم تجاوزه الثوري لأزمة كادت أن تعصف بعقود من النضال والتضحيات لتحرير الجزائر، وهو ما يعني إمكانية أن يخرج من رحم أي أزمة تحول جذري كما حدث في1954.
عرفت الحركة الوطنية الجزائرية بمكوناتها الإستقلالي والإصلاحي عشية الثورة أزمة حادة لدرجة يأس الشعب الذي أتهم قياداتها بالعجز والفشل. عادة ما يدفع الاهتمام الموضوعي بهذه المكونات إلى التركيز على التيار الإستقلالي المتمثل في الحركة من أجل الإنتصار للحريات الديمقراطية التي هي إمتداد وإستمرارية لنجم شمال أفريقيا ثم حزب الشعب الذي تحول إلى تنظيم سري بواجهة علنية هي الحركة من أجل الإنتصار للحريات الديمقراطية وبتنظيم شبه عسكري هو المنظمة الخاصة، وقد عانى هذا التيار كثيرا سواء من الإستعمار أو من بعض الإصلاحيين المتمثلين في جمعية العلماء وجماعة فرحات عباس وغيرهم من الملتزمين بالعمل في إطار النظام الإستعماري وتحقيق إصلاحات فقط دون المطالبة الصريحة بإسترجاع الأمة الجزائرية إستقلالها، وكان بعضهم ينعت مناضلي الإتجاه الإستقلالي بالغوغاء والمغامرين والحالمين والغير واقعيين بسبب راديكاليتهم وإصرارهم على طرد الإستعمار بكل الوسائل.
عرف هذا التيار الإستقلالي عدة أزمات منذ نشأته نتيجة تكتلات وصراعات الأجنحة الذي يبدو أنه مرض مزمن في المجتمع الجزائري خاصة والمجتمع المغاربي عامة، ومنها أزمة1936 بين مصالي وعيماش التي كانت أحد اسباب نشوبها هو الموقف من الحرب الأهلية في إسبانيا حيث رفض الأخير أي عيماش فكرة مصالي بإرسال مناضلين جزائريين من نجم شمال أفريقيا للقتال إلى جانب القوى الشيوعية في إسبانيا، ثم عرف نفس التظيم أزمات الأربعينيات، خاصة بين لمين دباغين ومصالي بسبب الصراع حول الزعامة وخوف مصالي من بروز دباغين المثقف وصاحب التعليم العالي على حسابه، فوظف مصالي مسألة الهوية في 1949 للتخلص منه ومن أنصاره متهما أياه ب"البربريتية" التي أختلقها مصالي عمدا لتكريس سلطته الإستبدادية داخل الحزب وإبعاد كل خصومه (يمكن العودة في ذلك إلى كتابنا "دعاة البربرية في مواجهة السلطة"، وكذلك مقالتنا "الجذور التاريخية للتوظيف السياسوي لمسائل الهوية في الجزائر" في الحوار المتمدن عدد4784 بتاريخ22/04/2015).
بلغت صراعات الأجنحة داخل التنظيم الإستقلالي أوجها في1953 بين المركزيين والمصاليين التي كادت أن تعصف بالتنظيم الثوري، حيث طالب المركزيون بدمقرطة الحزب، وهو ما رفضه مصالي، ووصل الصراع إلى درجة إستخدام العنف بينهما، فأعتقد الإستعمار أن هذه الأزمة ستخلصه نهائيا من الإتجاه الإستقلالي، لكن خرجت من رحمها مجموعة ثالثة مستقلة عن الجناحين المتصارعين هي اللجنة الثورية للوحدة والعمل بقيادة محمد بوضياف وديدوش مراد، فحاولت في البداية حل الأزمة وتجاوزها بجمع الجناحين المتصارعين، إلا أنها فشلت، وكان بإمكان مصالي تبني وقيادة هذه المجموعة التي طرحت عليه فكرة قيادة ثورة التحرير في خضم بحثها عن شخصية معروفة تكون واجهة لها، لكنه بقي سجين صراعات الأجنحة معتقدا بأن هذه المجموعة الثالثة ما هي إلا إمتداد لخصومه من المركزيين، فضيع عن نفسه دخول التاريخ من بابه الواسع.
أحدثت هذه المجموعة الثالثة قطيعة نهائية مع الجناحين المتصارعين وتجاوزتهما بإنشاء جبهة وجيش التحرير الوطنيين وإشعال فتيل الثورة، ثم فرضت على الآخرين (المصاليون،المركزيون،العلماء،جماعة فرحات عباس وغيرهم) إما الإلتحاق بهم كأفراد، ويحلوا تنظيماتهم أو الموت تحت عجلات قطار الثورة، فظهرت جبهة وطنية واسعة تسمى ب"جبهة التحرير الوطني"، فأصطبغت الثورة بطابع الشمولية بمشاركة كل المناطق والأطياف والطبقات والتوجهات السياسية والثقافية والأيديولوجية الذي كان عاملا رئيسيا في إنتصارها. فبهذا تمكنت مجموعة مناضلين بسطاء في حركة الإنتصار من أجل الحريات الديمقراطية المنضوين في المنظمة الخاصة من تحويل الأزمة العميقة لتنظيمهم إلى قفزة كبرى في تاريخ الكفاح الوطني بعد إحداثهم قطيعة مع كل الأحزاب التقليدية والأجنحة المتصارعة داخل التنظيم المنتمين إليه، كما أقامت قطيعة مع عبادة الشخصية والسياسة السياسوية الممارسة بواسطة إنتخابات مزورة يستغلها الإستعمار لإرشاء قيادات حزبية بإمتيازات في إطار خطة محكمة يقودها الإستعماري الناعم جاك شوفاليي الذي لازال يسمى به أحد أكبر أحياء العاصمة الجزائرية اليوم، مما يطمس حقيقة هذا السياسي الذي يظهر كأنه متعاطف مع الجزائريين بحكم رئاسته بلدية الجزائر عشية الثورة، ويتناسون أنه كان وزير الدفاع في الحكومة الفرنسية عند بداية ثورة التحرير، فسياستة تدخل في إطار محاولة إضعاف الحركة الوطنية، خاصة التيار الإستقلالي منه بإستمالة المعتدلين وتقويتهم على حساب الراديكاليين بإستخدام قفاز من حرير.
تمثل ثورة نوفمبر قطيعة مع نخب منهكة أفسدها الجري وراء إمتيازات على حساب القضية الوطنية، وتبرر ذلك بالواقعية وفن الممكن وإعتبارها كل عنف ثوري بأنه مؤامرة إستعمارية لتكرار مجازر08ماي1945، فكانت هذه هي قراءات العلماء و جماعة فرحات عباس وغيرهم غداة إندلاع ثورة نوفمبر، لكن تمكنت الثورة بقيادة عبان رمضان نزع هذه الغشاوة عنهم وإقناعهم بالإلتحاق بالثورة التي أعطاها مؤتمر الصومام تنظيما وفعالية أكبر بعد ما سادها ضعف التنسيق في بداياتها.
نستنتج مما سبق أنه بالإمكان تحويل الأزمات إلى قفزات كبرى، والتي عادة ماتكون نتاج صراعات أجنحة يتم تجاوزها بطرف شبابي ثالث يحدث قطيعة مع الجميع، وهو ما قام به شباب أول نوفمبر، لكن عادت للأسف ظاهرة صراع الأجنحة فيما بعد، فكم الجزائر بحاجة اليوم إلى قطيعة نهائية مع هذه الظاهرة المميتة، فالجزائر تقفز خطوات جبارة كلما أحدثت قطيعة مع صراعات الأجنحة، لكنها تعود في كل مرة بأشكال أخرى، فتعرقل حركية الشعب الجزائري، فهل سيقوم طرف ثالث من داخل النظام الذي لايمكن أن نعتبره كله فاسدا، بل يضم أيضا وطنيين ديمقراطيين، خاصة في صفوف الشباب المتعلم تعليما عاليا جدا، فيحدث هؤلاء قطيعة مع الجناحين المتصارعين داخل النظام، ويمدون يدهم لهذه الثورة الشعبية السلمية التي لاتختلف كثيرا عن ثورة نوفمبر إلا في سلميتها، فيساعدونها على تحقيق أهدافها بتغيير النظام من نظام مستبد إستغلالي إلى نظام ديمقراطي وإجتماعي؟