حكومة الرئيس وبرلمان الشعب.


فريد العليبي
الحوار المتمدن - العدد: 6396 - 2019 / 11 / 1 - 23:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تتشاور حركة النهضة هذه الأيام مع عدد من الأحزاب البرلمانية لتكوين الحكومة القادمة في تونس ويدها على قلبها خوفا من المستقبل، في ظل الأزمة الشاملة ، أما عينها فمشدودة الى العراق ولبنان وغيرهما من الأقطار ، حيث لا تزال الانتفاضات العربية تتدفق موجة بعد أخرى، ومن هنا حاجتها الى حكومة قوية يمكنها الصمود أمام العواصف والزوابع العاتية ، التي قد تهب على تونس خلال الأشهر والسنوات القادمة .
وسرعان ما واجهت تلك المشاورات مثلما كان منتظرا مأزقها ، فكل حزب يريد لنفسه الفوز بما استطاع من الحقائب الوزارية ، وأولها حزب حركة النهضة نفسه الذي يبتغي الحصول على نصيب الأسد ، مُستندا الى كونه الفائز بالمرتبة الانتخابية الأولى .
وذلك المأزق يهمه قبل غيره فنصره التشريعي محدود جدا ولا يمكنه من تشكيل الحكومة لوحده مثلما حلم دوما بذلك ، وهو ما تدركه بقية الأحزاب البرلمانية القريبة منه ، لذلك ترفض صراحة رئاسته للحكومة وتطلب مشاركته السيـــــطرة على وزارات استراتيجية الخ ..وبدا واضحا أن الأمر لا يتعلق بتباين في البرامج السياسية ، وإنما بصراع على المواقع الحكومية ، فبينما تسعى حركة النهضة الى مزيد التمكين بوضع يدها على أغلب أجهزة الدولة تحاول الأحزاب الأخرى نيل نصيبها أيضا مما تغدقه تلك الأجهزة من منافع .
وإذا عدنا الى الدستور في تعامله مع تلك المشكلة لاحظنا أنه يأمر رئيس الجمهورية بتكليف الحزب الحائز على المرتبة الأولى بتشكيل الحكومة خلال شهر يمدد مرة واحدة ، فإن فشل في مهمته يتولى الرئيس القيام بمشاورات لتكليف شخصية أخرى تؤدي المهمة ذاتها خلال شهر ، وفي حال الفشل يحلُ البرلمان ويدعو الى انتخابات سابقة لأوانها . ومن هنا فإنه دستوريا لا يزال الوقت مبكرا للمرور الى الخطوة الثانية ، وستعمل النهضة خلال الأيام القادمة ما استطاعت الى ذلك سبيلا على تشكيل حكومتها بجلب أكثر ما يمكن من الأحزاب الى صفها ، بتوزيع الهدايا عليها أملا في شق صفوفها ، مُدركة أن المرور الى حكومة الرئيس يعني إقرارا مبكرا بفشلها ، لذلك تتحاشاه اختيارا ، ولكنها لن تتردد في تجرع مراراته اضطرارا .
لا تريد النهضة لحكومتها القادمة أن تكون في مواجهة معارضة برلمانية فاعلة ، فضلا عن الاحتجاجات الشعبية المرتقبة ، لذلك ستكون سعيدة بمشاركة أوسع الأحزاب البرلمانية إياها تنفيذ سياسات لاشعبية في المستقبل القريب ، ستفرضها لامحالة الأزمة الشاملة. و إذا تعذر ذلك وركبت تلك الأحزاب رأسها ، من المرجح إقبالها على حكومة الرئيس ، التي ستجد فيها طوق النجاة وحلا ممكنا لتقاسم الورطة مع آخرين، وهي التي تدرك جيدا عزلتها محليا وعربيا ودوليا ، في حال شكلت حكومة مع بقية مكونات الإسلام السياسي القابعة على يمينها .
اما تأكيدها مرارا أنها ستكون الحكومة كما يلذ لها ويطيب ، وأن رئيسها سيكون منها وربما الغنوشي نفسه ، وأنه لا سبيل للتحايل على الدستور وأنها ستؤدي واجبها ، وإن تعذر يكون المرور رأسا الى انتخابات سابقة لأوانها ، فإنه من قبيل المناورة للضغط على تلك الأحزاب حتى تنصاع الى رغبتها .
من المرجح أن مبادرة حكومة الرئيس ستكون إذا ما وجدت طريقها الى التطبيق حلا للتناقضات الثانوية بين الأحزاب البرلمانية ، فهي ستمكنها من الاتحاد تحت راية رئيس الجمهورية ، الحائز على نسبة أصوات تفوق النسبة التي تحصلت عليها مجتمعة ، ومن ثمة ستحتمي بشرعيته بحثا عن دعم شعبي .
كما أنها تمثل مخرجا مناسبا لحفظ ماء الوجه بالنسبة الى بعض الأحزاب التي وعدت ناخبيها بعدم التحالف مع حركة النهضة ، وأنها ستكون في المعارضة في حال شكلت الحكومة وكان رئيسها منها ، إذ بإمكانها القول في هذه الحالة أنها في حكومة الرئيس لا في حكومة النهضة .
كما إن قيس سعيد سيجد هو أيضا في تلك الحكومة ما يبحث عنه ، حتى لا يكون منعزلا في قصر قرطاج دون حزام سياسي في باردو و القصبة ، فحكومة الرئيس تجد هوى في نفسه. غير أنه سيكون في حرج شديد فأمامه الآن طريقان ، طريق الباجي قائد السبسي التوافقي بما فيه من مساومات و صفقات ، وطريق الشعب الذي يريد تحقيق مطالبه المؤجلة حتى الآن في الشغل والتنمية ، واذا جازف باختيار الطريق الأول فإن الثقة بينه وبين المحكومين لن تتحقق وسينظر الشعب الى القصور الثلاثة على أنها متحالفة ومتحدة ضده ، متآمرة عليه، وأن الانتخابات لم تكن تنافسا بين برامج سياسية ، وإنما صراعا على الفوز بالحكم واقتسام غنائمه .
وكان لافتا قول الغنوشي ، البارع في مخاتلة الرؤساء ، من بورقيبة حتى سعيد ، أنه يفتقد الباجي قائد السبسي اليوم وأكثر من أي وقت مضى ، في رسالة الى الرئيس الجديد حتى يكون مثله في السير على طريق التوافق ، تمهيدا لدفنه سياسيا ، مثلما حدث مع المرزوقي والسبسي نفسه من قبله ، فهو يريد حكومة دون معارضة انتخابية ، أو على الأقل بمعارضة هزيلة ، مكونة من بقايا التجمع الدستوري ، للإيحاء أنها تمثل الثورة ، ورئيسا تابعا يُزين وجه حزبه في المحافل الدولية ، غير أنه في علاقته بالشعب وعلى ضوء نسبة المقاطعة غير المسبوقة للانتخابات التشريعية ، وفي ظل انكشاف زيف وعوده الانتخابية السابقة ، يُغامر بأن يكون الشارع برلمان الشعب ، الذي لا برلمان سواه .