الحلقة الثامنة عشرة: حراك الشعب السوري من الأمل بالتغيير إلى الكارثة


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 6393 - 2019 / 10 / 29 - 08:54
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الفصل السادس
مواقف وسلوكيات للمعارضة خدمت النظام
8-اللامنطق" في منطق الثورة والمعارضة "
بعد أن دفعته الثورة السورية، كما دفعت كثيرين غيره لمغادرة الحقول المعرفية أو العملية التي كانوا يشتغلون بها كليا أو جزئيا، إلى حقل السياسة ليشتغلو فيه معارضة، وليشغل فيه هو شخصيا رئيس المجلس الوطني السوري، احد تشكيلات المعارضة السورية الناشطة في الخارج بصورة رئيسية، يحاول برهان غليون العودة إلى حقل اشتغاله الرئيس، اعني حقل الثقافة والكتابة ذات الطابع الفكري التنظيري، بعد أن تم إقصاؤه عن رئاسة المجلس المذكور، وذلك في مقالته المطولة " في منطق الثورة والمعارضة ". غير أنه كما صار معلوما لم يقدم الكثير إلى حقل السياسة، بل أساء إليه، على حد زعمنا، إذ استسهل إغواء السياسة فجعل من نفسه مطية لقوى سياسية سورية، وغير سورية لتحقيق مآربها، وكان في كثير من الحالات مجرد قارئ لبيانات عسكرية، أو مرددا لشعارات الشارع دون إضافة، اعني تلك الإضافة التي تشكل بحثاً في ممكنات هذه الشعارات في الحقل السياسي، ومصارحة الشارع بها، لا دفعه ليتعلق بأوهام كثيرة، أفاد منها النظام كثيرا ، ودفع ثمنها شعبنا وبلدنا دما ودمارا. لقد وضع السيد غليون كل نتاجه الفكري، وتاريخه الثقافي الذي يتعارض مع كثير من الأدوار السياسية التي قام بها على الرف، ليفسح المجال لتقدم ما هو سياسي فيه، وهو يعلم انه ليس أصيلا، وعندما حاول العودة إلى حقل اشتغاله الرئيس، كما بدا في مقالته المشار إليها، ظهر وكأنه قد فقد كثيراً من موضوعية الكاتب الرصين، فجاء فيها متحيزا ومحرفا الوقائع لتخدم اتجاه تحيزه. وأكثر من ذلك فقد جاءت المقالة مليئة بالمغالطات المعرفية. ولتأكيد ما ذهبنا إليه سوف نحاور الدكتور برهان من خلال مقالته " في منطق الثورة والمعارضة "(58).
لقد استهل الدكتور غليون مقالته بالقول" ليست المصطلحات التي استخدمت ولا تزال تستخدم للتعبير عن الثورة السورية بريئة، ولا عفوية، ولكنها تعكس المصالح العميقة، وأحيانا غير الواعية لمستخدميها.."، وهذا يشمل بالتأكيد حتى تلك المصطلحات التي يستخدمها النظام والتي تبدو للسيد غليون على أنها شديدة الوضوح الأمر الذي دفعه إلى إخراجها من دائرة المناقشة، بل واعتبرها واضحة وبديهية ومعروفة اليوم من الجميع، وهي حقيقة ليست كذلك.
بالطبع لا أريد على الأقل في هذا الموضع أن أناقش مصطلح " الحرب الأهلية أو الطائفية" ولا مصطلح "العصابات" ومن ثم " المجموعات الإرهابية " التي يستخدمها النظام، وتعكس "نكران الواقع" لديه وتؤكد على "إرادة الحرب المعلنة ضد الثورة"، غير أنني سوف أسمح لنفسي بإصدار حكم سوف أعمل على البرهنة عليه في سياق هذه المقالة الحوارية، يقول بان النظام نجح للأسف في جعل الواقع يملأ هذه المصطلحات بمضمون مناسب، بعد أن كانت لأشهر من عمر الثورة فارغة ، وساعدته للأسف بعض أطراف المعارضة التي عمل في صفوفها الدكتور غليون، كما ساعدته دول عربية، وغير عربية، قريبة وبعيدة، ادعت صداقة الشعب السوري.
ما إن ينتقل السيد غليون في الفقرة التالية من مقالته لمناقشة استخدام مصطلح "المعارضة" من قبل الأوساط الدبلوماسية الدولية، ووسائل الإعلام الأجنبية والعربية حتى يتجاهل ما استهلمقالته به من معيار منهجي. فهذه "الدبلوماسية الدولية" وكذلك" وسائل الإعلام الأجنبية والعربية" ليست حيادية تجاه ما يجري في سورية، ويدرك كثيرون اليوم أن الدول الواقفة وراء هذه الدبلوماسية الدولية، ووسائل الإعلام المختلفة لا تتبنى فكرة الثورة في سورية أصلاً، التي يتبناها السيد غليون بصورة خاطئة، ولذلك فهم لم يخلطوا بين " الواقع" والصورة المشكلة عنه، والتي يعتبرها السيد غليون "خاطئة". هذه الأوساط تدرك جيدا كيف تعبر عن مصالحها، ولا بد أنه سمعها منهم مرارا كما سمعها كثيرون في المعارضة. ألم يقل له الروس إذا كانت لديكم "ثورة" فلماذا انتم بحاجة إلى مجلس الأمن، ألم يقل له البريطانيون والأمريكان والفرنسيون وغيرهم بما يعني ذلك. هؤلاء جميعا لا يعدون ما يجري في سورية شأنا داخلياً، بل يتعاملون معه انطلاقا من مصالحهم، وليس من مصالح الشعب السوري. ما يهم الروس فعلا من الأزمة في سورية هو أن تعود روسيا إلى المسرح الدولي قطبا فاعلا بعد أن أهينت في البلقان وفي ليبيا وفي جورجيا وفي غير مكان. والدول الغربية التي تدعي صداقة الشعب السوري عينها مفتوحة على إيران تشاركها في ذلك بعد الدول العربية في الخليج، وهي إذ تتدخل في الشأن السوري فمن أجل إضعاف الوضعية الاستراتيجية لإيران، وليس حبا بالشعب السوري، أو انتصارا لمطالبه المشروعة والمحقة. وبالطبع فإن الحاضر الأكبر في كل ذلك هو إسرائيل فهي قائدة الأوركسترا، وأزعم أن الدكتور غليون يعلم ذلك جيداً. وإلا ما معنى أن يرسل لها رسالة تطمين عبر مجلس العلاقات العامة اليهودي في أمريكا، بواسطة مسؤول العلاقات الخارجية في مجلسه الدكتور رضوان زيادة. كم من الأوهام ساهم غليون وغيره في تسويقها كان ثمنها دما وخرابا معممين. من هذه الأوهام سوف اذكر في هذا الموضع واقعتين سمعتهما من السفير البريطاني عندما كنت في زيارة له في بيته في دمشق ضمن وفد لهيئة التنسيق تلبية لدعوة منه، إذ استفاض بالحديث عن استحالة التدخل العسكري الخارجي المباشر في سورية بأية صورة كانت، في الوقت الذي كان كثيرون ممن أسميتهم في مقالتي في الشرق الأوسط" المعارضون بالصدفة"(59) يؤدون دور قارئ البيانات العسكرية...نريد حظرا جويا...نريد ضرب المواقع العسكرية للنظام.. نريد.....لكن هم لا يريدون. وعندما دخل علينا المعارض المعروف رياض سيف الذي كان هو الأخر على موعد مع السفير، قلت للسفير هلا تفضلت وأعدت ما قلته لنا أمام الصديق رياض، أجاب بأنه قاله له ذلك مرارا،
بل وطالبه بعدم جعل الشعب السوري يتعلق بالأوهام. وختم حديثه عندما هممنا بالانصراف بعبارة لا يمكن أن أنساها إذ قال : " مشكلتكم في المعارضة السورية أنكم لا تأخذون بعين الاعتبار وجود إسرائيل، فهي لاعب رئيس فيما يجري في سورية، وتريد الاستفادة منه إلى أقصى حد ممكن". نعم هي لا عب رئيس وكيف لا تكون وهي ترى شعبا لطالما كانت تخشاه يقتل، وجيشا صرف عليه شعبه مليارات الدولارات يتمزق وينهار، في مواجهة مباشرة بينهما. الأطراف الدولية يا سيد غليون لم تخلط بين الواقع والصورة الخاطئة عنه، ولم تكن خططها فاشلة، وفي مقدمتها ما سميته بمبادرات الحوار " بين السلطة والمعارضة من اجل انتقال سلمي للسلطة"، لأنها بالأساس لم تكن تريد تنفيذ هذه المبادرات أصلاً. لنتذكر كيف كانت قرارات الجامعة العربية تنتقل من تصعيد إلى تصعيد، وكيف كانت الدول التي تدعي " صداقة الشعب السوري" تعمل على إفشال ما كانت تطرحه هي نفسها من مبادرات(مبادرة جنيف مثلا)، وكيف اجتهدت لإفشال خطة كوفي عنان. ما تريده الدول الغربية عموما ومن وراءها إسرائيل هو مزيد من تفسخ واستنفاع المجتمع السوري، وانهيار دولته، وليأتي بعد ذلك من يحكم سورية بديمقراطية مفصلة، أو من إعداد السوريين أنفسهم لا فرق. فهذه الدول حقيقة، لم تكن متجاهلة لديناميكيات " الثورة التي تسيطر على الأرض، وتتحكم بالتحولات والأحداث" على حد قول غليون، بل كانت تدرك جيداً أن الثورة التي " تسيطر على الأرض" لم تكن تتحكم " بالتحولات والأحداث" الجارية، لأن عناصر التحكم وأدواته كانت في مكان أخر، وكانت المعارضة الخارجية بصورة رئيسة إحدى الأدوات التنفيذية لذلك للأسف. السيد غليون نفسه كان قد اكتشف كما يقول في البند (1) من اقتراحاته المتعلقة بتوحيد الكتائب المسلحة " أن دولا صديقة تعمل على المشروع ذاته" أي توحيد الكتائب المسلحة، وحتى بدون التشاور معه. هل تساءل السيد غليون لماذا تقوم بذلك؟ ولمصلحة من؟ أبقي السؤالين بلا جواب كامل، مع ذلك أقول من يتحكم بالسلاح سوف يتحكم بكل ما يفضي استخدامه إليه. وأتفق معه فيما ذهب إليه من قول في مناسبة أخرى بأن " من يتحكم بالتمويل يتحكم بالسياسة ومآلها".
لقد كانت واضحة لنا منذ البداية المخاطر التي سوف تنجم عن عسكرة الثورة، لذلك لم تكن إحدى لاءات الهيئة الشهيرة التي عملت عليها مع غيري " لا لعنف النظام، ولا لعسكرة الثورة" تعبيرا عن ترف فكري، أو عن جمود، أو عجز عن رؤية تغير الواقع، كما اتهم غليون وغيره الهيئة بها، بل رؤية في العمق واستشراف للمآل. من غير المفيد اليوم، من الناحية السياسية، القول مثلا لو بقيت الانتفاضة سلمية لسقط النظام، وذلك بتسريع تفككه وتوحيد العالم من حولها، لأن الوقائع على الأرض تقول غير ذلك، تقول أنها لم تعد سلمية. لكن السؤال ذاته سوف يظل مشروعا وصحيحا في الحقل النظري، حقل المبادئ والقواعد. وحتى لا يتسرع احد، كما جرت العادة ويقول: لماذا تتجاهلون النظام، أليس هو المسؤول عن كل ذلك؟ لماذا نلوم الدول الأجنبية التي تدافع عن مصالحها، ولا نلوم النظام. بالفعل علينا أن نلوم النظام ونلوم أنفسنا أيضاً، قبل وضع اللوم على الآخرين! وهذا ما أقوم به في هذه الحوارية مع السيد برهان غليون أردتها أن تستفيد مما كتبه لعرض بانورامي لمجريات الأحداث في سورية طمعا في أخذ العبر والاستفادة منها، رأفة بهذا الشعب العظيم الذي ضحى بالكثير، وهو على استعداد تام للاستمرار بالتضحية، لكن علينا كسياسيين أن لا نكذب عليه، ولا نجعله يتعلق بالأوهام.
بطبيعة الحال يمكن قول الكثير عن النظام وتحميله المسؤولية عما يجري في البلد، ولا أجد حرجاً في تجاهل أي خلاف محتمل مع أحد ينتقد النظام حتى ولو أعطى لخياله بعض الحرية في هذا المجال. لقد كان النظام شريكا تنفيذيا لكل متربص شرا بسورية وشعبها، من خلال حكمه لها عبر آليات الفساد والنهب، وتخريب المجتمع السياسي والمدني، وأجهزة الدولة، وتركيزه على كل ما يحافظ على السلطة ويبقيها في يد مجموعة أمنية مالية متمحورة حول عائلة. وهو اليوم يقوم بدوره باستقامة تامة، من خلال رفضه وبعناد لأية حلول سياسية للأزمة، رغم كل ما تسبب به لسورية وشعبها من دمار وخراب وتفتيت لوحدة الشعب، وجعل سورية مفتوحة أمام كل متدخل ناقم، أو ذي مصلحة خاصة. ورغم الطبيعة الطغموية للسلطة فلا يجوز نعتها بأنها جاهلة ولا تدري ماذا تفعل، بل العكس تماما ولديها إضافة إلى خبرائها مستشارون أجانب غب الطلب. وعندما اختارت السلطة منذ اليوم الأول الخيار الأمني لقمع الانتفاضة الشعبية فكانت تدرك أن استمرار المظاهرات السلمية سوف تسقط النظام، وتفقده شرعيته في نظر جمهوره أولا، وبنظر الدول الأجنبية ثانياً، وكانت سوف تسرع بتفكيكه. تحضرني بهذه المناسبة انتفاضة الحجارة للشعب الفلسطيني، فعندما كانت سلمية سلاحها الحجارة فقط صار العالم كله ينتقد إسرائيل، حتى أصدقاؤها لم يعد بمقدورهم الدفاع عنها بسهولة وبلا حرج، وعندما تحولت إلى مسلحة تنفست إسرائيل الصعداء واستطاعت في النهاية القضاء عليها.
هذا هو واقع السلطة، لكن ليس هو ذاته واقع الجمهور الذي خدعته تحت عناوين وشعارات كثيرة ،هي أصلا لم تكن أمينة لها، مثل شعارات المقاومة والممانعة وغيرها، وكان ينبغي على المعارضة السياسية أن تهتم به، لا تعامله كجزء من السلطة، وتدفعه بالتالي للالتفاف حولها ودعمها. صحيح أن هذا الجمهور قد بدا يبتعد عنها اليوم أكثر فأكثر، لكن بعد أن ساهم تأخره في وعي ما يجري في إطالة عمر النظام، والمسؤولية كاملة تقع في ذلك على المعارضة السياسية. منذ البداية عمد النظام إلى إخافة هذا الجمهور عن طريق استثمار الخطاب الطائفي الذي ظهر هنا وهناك، وضخمه كثيرا تحت عناوين "خطة بندر بن سلطان" أو "الإمارات السلفية"، أو "العصابات الإرهابية" أو غيرها وقد خدمه كثيرا في هذا المجال خطاب العرعور ومن على شاكلته. ومع أنها كانت في البداية بلا مضمون فعلي تقريبا، لكن اليوم لا يمكن القول أنها بلا مضمون، ونحن نشاهد الرايات السوداء في كل مكان، وحتى تسمية كتائب الجيش الحر والمسلحين المحليين، عداك عن الوحدات القتالية للمجاهدين بأسماء موحية، استفاد منها النظام ولا يزال ليخيف الجمهور الصامت، عداك عن جمهوره هو بالذات، وليبقيه محايدا أو داعما له. ماذا عملت المعارضة السياسية تجاه ذلك كله، وخصوصا تلك التي تدعي تمثيل الشارع، لا شيء سوى تبني وترديد خطاب الشارع(وهي تعلم جيدا كيف كان يتم اعداده؟!!)، في عملية مزاودة صريحة عليه. حتى عمليات القتل الهمجية التي مارسها بعض حملة السلاح ، والتي كان يجب إدانتها جرى تبريرها بحجة أن النظام يفعل مثلها وأكثر.
نعم لقد تحكم الشارع المتظاهر سلميا بخيارات واتجاهات المعارضة السياسية، أما اليوم فقد صار المسلحون هم الذين يحددون سقف السياسة، وفصائل المعارضة السياسية خصوصا في الخارج تلهث في تسابق مثير للسخرية لتبني هذه السقوف. حقيقة "عندما يتخلى السياسي والمفكر عن دورهما" وهو عنوان مقالة كنت قد نشرتها في جريدة النهار اللبنانية، يصيران أي شيء، إلا ما كان بهما تحديدا لهما(60).
في الفقرة الثالثة من البند(1) يقرر الدكتور غليون وهو يخاطب الدبلوماسية الدولية ووسائل الإعلام الأجنبية..، "أن انقسام المعارضة ذاته لا ينبع من الاختلاف السياسي والأيديولوجي
وإنما من علاقتها بقوى الثورة وأحداثها، ومن التنافس فيما بينها على إعطاء معنى لحدث الثورة الكبير، أو أحيانا كثيرة، من استخدامها لتأمين مواقع في حركة التغيير تضمن لها في المستقبل الحصول على مناصب قيادية". نعم هناك كثيرون دفعت بهم انتفاضة الشعب السوري إلى مسرح السياسة ليؤدون فيه أدوارا لا علاقة لها بالثورة، بل بحثا لهم عن موقع فيها، هؤلاء أسميتهم في مقالتي المشار إليها في جريدة الشرق الأوسط " المعارضون بالصدفة"، ويتميزون بأنهم الأكثر صراخاً، وفي حالات ليست قليلة نصبوا أنفسهم ناطقين باسم الثوار وتشكيلاتهم على الأرض، بدون علمهم. أما القول بأن المعارضة السياسية اختلفت بالعلاقة " بقوى الثورة وأحداثها" فهو قول يقول نصف الحقيقة. الحقيقة هي أن المعارضة السياسية لم تختلف تجاه حدث الثورة ذاته، بغض النظر عن المصطلحات التي استخدمت لاحتواء الحدث معرفياً، بل اختلفت تجاه الطرق والأساليب، التي ينبغي أن تنتهجها قوى الثورة لكي تنتصر. وكانت حاضرة وبقوة أيضا كقضية خلافية بين فصائل المعارضة السياسية العلاقة بالدول العربية والأجنبية المتدخلة في الشأن السوري، وفي هذا كله لم تكن الخلفية السياسية والأيديولوجية غائبة. هناك قوى في المعارضة، ومنذ البداية، كانت مقتنعة بأن النظام السوري لا يسقط إلا بتدخل عسكري خارجي، دون أن تكون متأكدة من استعداد دول قادرة على التدخل للقيام بذلك. ولم تطرح أية بدائل وخيارات سياسية، بل استمرت في تغذية وهم التدخل العسكري الخارجي في سورية لدى قطاع واسع من المتظاهرين، ودفعتهم إلى تسمية جمعات الثورة بأسماء عناوين هذا التدخل. وحتى اليوم، ورغم الدمار الذي طال مدنا وبلدات سورية، ورغم العدد الكبير من الشهداء والمعتقلين والمهجرين، فهي مصرة على عدم طرح أية خيارات سياسية، بل الاستمرار في تغذية وهم آخر لا يقل فداحة عن وهم التدخل العسكري الخارجي وهو وهم إسقاط النظام بالقوة. لكنها هذه المرة وجدت من يشاركها تغذية الوهم بالدعوة إلى التسلح، أعني العديد من الدول العربية والأجنبية، لكن ليس بالقدر الذي يحول الوهم إلى حقيقة، ليس بالقدر الكافي لإسقاط النظام، لكنه بالتأكيد بالقدر الكافي لتدمير سورية، في لعبة السلاح المزدوجة بين قوى النظام المسلحة، وقوى الجيش الحر، والمسلحين المحليين والجهاديين. ومن المحتمل، وبعد أن يصل تفسخ الوضع في سورية إلى حالة مرضية لهذه الدول الخارجية، ربما سوف تعمد إلى فرض حل سياسي.
ويعلم الدكتور غليون جيدا حجم تدخل دول عربية وأجنبية بعينها في شأن معارضة الخارج إلى درجة إملاء عليها سياساتها، وتحديد أشكال تنظيمها، وكيف لا تتدخل ولها حوامل كثيرة في صفوف هذه المعارضة، فهو كان طرفا في كل الحوارات التي نجم عنها تشكيل المجلس الوطني السوري، بعد أن حالت هذه الدول دون تشكيل كيان معارض موحد في الدوحة أو في اسطنبول أو في القاهرة. غليون نفسه اتهم جماعة الإخوان المسلمين بإفشال اتفاق الدوحة، لكنه لم يشر إلى دور تركيا في ذلك. ثم من الذي حال دون تنفيذ اتفاق القاهرة الذي وقع عليه، وتعرض جراء ذلك إلى حملة تشهير مؤسفة من حلفائه؟
على الطرف الأخر كانت معارضة سياسية ترفض التخلي عن استقلالية قرارها، ولم تقبل العروض التي قدمت لها من دول عربية وأجنبية، بل قبلت التهديدات التي وجهت إليها لتشويه سمعتها إعلاميا، ومحاصرتها سياسياً، وأصرت على تقديم خيارات سياسية باستمرار للخروج من المأزق الذي وصلت إليه الأوضاع في سورية من جراء الصراع المسلح. هذه المعارضة الناشطة بصورة خاصة في الداخل وفي مقدمتها هيئة التنسيق ومن ضمنها حركة معاً، وكذلك العديد من القوى المنضوية في ائتلاف وطن وفي المنبر الديمقراطي لم تسوق لوهم، ولطالما حذرت من المسارات التي ترغم قوى الثورة على الأرض بسلوكها، سواء من قبل النظام باستخدامه للعنف المنفلت من أية قيود أخلاقية أو سياسية، أو من قبل بعض فصائل المعارضة السياسية الناشطة بصورة خاصة في الخارج.
تحت بند (2) يتحدث الدكتور غليون عن الاختلاف بين الثورة والمعارضة، مورطاً نفسه في جملة من المغالطات المعرفية. فالثورة بحسب غليون " ظاهرة من نوع الظواهر الطبيعية التي لا تخضع لمعايير العقلانية السياسية العادية، ولكنها تستمد هويتها من منطق آخر تماماً هو منطق الانفجار. فهي ظاهرة موضوعية لا ترتبط بأي وعي نظري صوري، أو إعداد مسبق، أو مسار مخطط له، ولا يتحكم بها أي إدراك سياسي، أو غير سياسي". إن من يقرأ هذا النص للدكتور غليون يجد نفسه حقيقة أمام ظاهرة من ظواهر الطبيعة" بركان" كما يحلو له تشبيه الثورة به، لا أمام ظاهرة تجري في المجتمع حيث جميع العمليات التي تجري فيه بما فيها العمليات الثورية، بل بالأخص هذه الأخيرة، تحكمها دائما المصالح التي يشترطها بالضرورة الوعي بها، بغض النظر عن صواب أو خطأ هذا الوعي. من الغرابة حقاً أن ينزلق الدكتور غليون هذا المنزلق غير الصائب معرفيا، وهو الذي اشتغل طويلاً في حقل الدراسات الفكرية التنظيرية، فيعمد إلى أسطرة الثورة بجعلها خارج أية ممكنات إدراكية نظرية، أو سياسية. وأكثر من ذلك فهو يدين نفسه كما هو متعين في مقالته التي نحاور.
بداية الثورة في مفهومها النظري لا تكون بدون توافر شروط ثورية موضوعية وذاتية، وفي مقدمتها توافر رؤية ثورية وبرنامج لتنفيذها، وقيادة ثورية. هكذا كانت منذ ثورة اسبرتاكوس من اجل تحرير العبيد، مرورا بالثورة الفرنسية، والثورتين الروسيتين في عام 2005 وعام 2017. وهكذا كانت أيضاً في ثورة تونس ومصر وحتى في الثورة الليبية رغم كثرت العوارض المصاحبة التي شوهت في بعض الأحيان مشهد الثورة. والثورة لا تشكل " ظاهرة من نوع الظواهر الطبيعية التي لا تخضع لمعايير العقلانية السياسية العادية"، لأنها ببساطة تحدث في المجتمع وليس في الطبيعة، وما يحدث في المجتمع يخضع دائما لمنطق العقلانية السياسية، أو النظرية المعرفية. بالطبع ليس مطلوبا تحرير مفهوم الثورة في إشارته إلى ما يجري في سورية من ضغط العواطف والمؤثرات الأخلاقية عندما يستخدم في الحقل السياسي، لكنه عندما يستخدمه في الحقل النظري لإنتاج معرفة صادقة بما يجري فعلا فهو يورط نفسه بمشكلات نظرية ومعرفية. في مقالة لنا بعنوان " في الثورة التطورية والثورة البنيوية"(61) التي حاولنا فيها الإجابة على تساؤلات ما يجري في كل من تونس ومصر في حينه قلنا أن العوامل الموضوعية المتراكمة في المجتمعات العربية تؤسس لثورة تطورية أصيلة في الحقل السياسي تعيد للبنى المجتمعية المختلفة قوة اشتغالها بفعالية في إطار التشكيلة الرأسمالية، وليس قطعا وتفارقا معها. وفي مقالتنا " أفاق الزمن القادم " التي نشرناها في 6/آذار من عام 2011 (62)، أي قبل بدء "الثورة" في سورية قلنا أن ما يجري في تونس ومصر سوف يحدث في سورية لأن الواقع الموضوعي الذي يعيشه الشعب السوري لا يختلف عن مثيله في الدول العربية الأخرى ، وسوف يشكل ما يجري في هذه الدول تحفيزاً قويا للسوريين يغنيهم عن وجود قيادة سياسية تقود الثورة، أو على الأقل تكون جاهزة لقيادتها وتوجيهها الوجهة الصائبة التي تحقق لها أهدافها. من هنا أخذت الثورة في سورية في بدايتها شكل التمرد المتردد هنا وهناك، لتتحول من جراء رد النظام العنيف عليها إلى انتفاضة جماهيرية، وصارت في نهاية 2011 واقفة أمام مفترق طريق: فإما تسلك طريق اكتمال تحولها إلى ثورة بالمعنى النظري، وتنتصر، وإما تسير في طريق الفشل، وهذان هما الخياران الوحيدان التي يطرحها التاريخ أمام الثورات فلا وجود لطريق وسط. لكي تسير الثورة في الطريق الأول ينبغي أن تنجح المعارضة السياسية في أن تشكل القيادة السياسية الفعلية للثورة، وهذا ما هو متعثر حتى الآن، أو أن يتوحد الثوار على الأرض أولاً ويشكلوا قيادتهم السياسية ثانياً وهذا أمر لا يزال بعيد المنال على ما يبدوا. ثم هناك مخاطر مستجدة قد تحول دون استكمال الثورة لمقومات تحولها من وضعية الانتفاضة المجتمعية شبه الشاملة إلى ثورة بالمعنى النظري للكلمة، وذلك من جراء ظهور تشوهات كثيرة في خطابها السياسي وشعاراتها، جراء إرغامها على التحول من النهج السلمي إلى النهج المسلح، ودخول قوى عديدة هذا الميدان لا علاقة لها بالحرية والديمقراطية، ولا حتى بالكرامة التي يطمح لها السوريون، وهي في مجملها ليست أكثر من قوى استبدادية استبدالية لا ثورية. يضاف إلى ذلك وهذا أمر مهم جداً، حجم التدخلات الخارجية الكبير في شان الثورة السورية، والتي تتعارض كثيرا مع منطق الثورة ومشروعها في الحرية والكرامة والديمقراطية، سواء من أعلن منذ البداية اصطفافه إلى جانب النظام ، أو من أعلن نفسه صديقا للشعب السوري، إلى درجة تكاد تصير معها سورية ساحة لصراعات هذه القوى الخارجية، وليس مسرحا لعمليات ثورية. فعلى خلاف الثورة التونسية والمصرية حيث تمكنت الثورة من فرض إرادتها على القوى الخارجية وحالت دون تدخلها الحاسم في شؤونها، بل وعلى خلاف مع الثورة الليبية حيث كان التدخل الخارجي حاسماً، لأن هذا التدخل كان موحدا في الاتجاه، فإن الثورة السورية عانت من تدخل هذه القوى الخارجية منذ البداية بصورة مختلفة في الاتجاه ، وساهمت للأسف بعض القوى المعارضة والشخصيات السورية في ذلك من خلال جعل أنفسها حوامل له.
من جهة أخرى فإن مفهوم السيد غليون عن المعارضة السياسية مثل مفهومه عن الثورة تعتريه الكثير من الشبهات النظرية المعرفية ، وحتى عندما يستخدمه في الحقل السياسي يبدو غير مستقيم. يقول السيد غليون إن " الفرق بين الثورة والمعارضة هو كالفرق بين منطقين وديناميكيتين اجتماعيتين مختلفتين تماماً، فلا تعمل المعارضة إلا بمنطق السياسة القائم هو نفسه على الحوار والتفاوض للوصول إلى تسويات أو حلول وسط ترضي، ولو جزئيا على الأقل، الأطراف المتنازعة". إن من يقرأ هذا النص للدكتور غليون لا بد وان يتصور نفسه يعيش في فرنسا، أو في أي بلد يعيش شعبه في ظل ديمقراطية مستقرة، لكن ما إن ينتقل إلى البلدان التي تعيش في ظروف التحولات الثورية حتى يتبين لنا خطأ هذه التعميم. المعارضة الحقيقية في ظل الثورة تعمل وفق منطق الثورة ذاتها، وهي بالتالي جزء منها لا مفارقة لها. نعم في الظروف السياسية المستقرة تلجا المعارضة السياسية التي تعمل وفق ذات القوانين والظروف التي تعمل فيها السلطة إلى ما يسمى بالحلول الوسط، حتى وهي تستبدلها سياسياً، وهي والسلطة التي تعارضها يشكلان معاً محرك العمليات التطورية الجارية في المجتمع . أما في زمن التحولات الثورية فإن المعارضة الحقة، أي الثورية، تعمل وفق منطق مختلف عن منطق السلطة، إنه منطق الثورة الذي لا يكتفي باستبدال السلطة بل بتغيير أساسها القانوني والفكري والسياسي وحتى الاقتصادي. والحوار أو التفاوض مع السلطة في هذه الحالة ليس بالضرورة أن يكون هدفه التوصل إلى حلول وسط، فالثورة لا تعرف مثل هذه الحلول، بل " مساعدة المهزوم مبدئيا على تحقيق هزيمته الفعلية" بأقل الخسائر الممكنة. المعارضة السورية للأسف وبضغط من العوامل العاطفية والأخلاقية، وربما بضغط من مصالح أخرى لا علاقة لها بالثورة السورية رفضت منطق الحوار أو التفاوض، وكأنه رجس اخلاقي فظيع، بحجة أن ذلك سوف يشكل في الحد أدنى خدمة للنظام, واكتفت بالمزايدة على الشارع بشعاراته. بالطبع أنا هنا لا أنسب إلى الشارع الخطأ، وكنت ولا زلت أقول من حق الشارع أن يرفع الشعارات التي يراها مناسبة، فهو بطبيعته حقل تعبوي، إنه قبضة التاريخ التي تهز أسس وأركان النظام الاستبدادي في سورية، لكن ليس هذا من حق المعارضة السياسية التي يفترض بها أن تكون العقل المفكر والسياسي له. المعارضة السياسية الحقة، أي الثورية، في ظروف التحولات الثورية من واجبها، ومسؤوليتها أن تبحث في الممكنات السياسية لشعارات الشارع، وان تصارح الشارع بها، لا أن تزايد عليه وتدفعه للتعلق بأوهام لا طائل منها، سرعان ما ترتد عليه لاحقا بأضرار كثيرة. للأسف الشديد هذا كان حال كثيرين من أطراف المعارضة السورية في الخارج التي تحولت إلى مجرد مردد لشعارات الشارع، أو قارئ لبيانات حربية، كما تفعل اليوم في هذه المرحلة المستجدة من مراحل الثورة السورية. إنه من الثورية بامتياز أن تقول لمن تثور ضده في وجهه ومباشرة عليك الرحيل، وإنك لن تهدأ حتى يرحل، لا أن تكتفي بالصراخ من وراء الحدود. ولا ضير في أن تقول ذلك، مراعاة للظروف التي تحيط بك( إذا كنت في داخل البلاد)، بمصطلحات وعبارات تؤدي الغرض ذاته، لكن بصورة مواربة بعض الشيء، فذلك من باب الحكمة السياسية ليس إلا. تحضرني في هذه المناسبة الحملة الإعلامية الشرسة التي شنت على هيئة التنسيق في حينه لأنها تسلك هذا المنهج، فاتهمت تارة بأنها الوجه الأخر للنظام، أو أنها تريد الحوار مع النظام هكذا بلا شروط. وحتى في الكثير من مبادراتها اتهمت دون وجه حق، أنها تريد إنقاذ النظام، وكأن النظام على وشك السقوط. وبالمناسبة لا يزال كثير من المعارضين مستمرين في بناء مواقفهم السياسية منذ بداية الثورة وحتى اليوم على أساس أن النظام على وشك السقوط، لكنه لا يسقط، ولن يسقط هكذا لمجرد الرغبة في ذلك. ويتكرر الموقف ذاته من المؤتمر الذي دعت له هيئة التنسيق مع بعض القوى المعارضة في الداخل تحت عنوان" إنقاذ سورية"، فاعتبر على إنه مؤتمر لإنقاذ النظام وليس لإنقاذ سورية!!.
في البند (3) يتابع الدكتور غليون تفسيره لأسباب تمايز المعارضة عن الثورة لكن موقعه خارج كليهما. لا في البداية ولا في النهاية لم يكن من الممكن اتفاق منطق المعارضة بالطريقة التي يفهمها الدكتور غليون مع منطق الثورة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن واقع القوى المعارضة السورية، على افتراض وجود هكذا معارضة مكتملة التكوين والبنيان، وهي غير ذلك حقيقة ( إنها عناصر معارضة وتنظيمات أقرب إلى الأخويات التي تمارس السياسة كنوع من الطقوس السرية- انظر مقالتنا " أدوات قديمة لا تصنع جديداً"(63)، كان من المستحيل اتفاق منطقها مع منطق الثورة. بداية لأن الثورة انطلقت على شكل تمرد في درعا لتمتد لاحقاً وبتردد ملحوظ إلى أغلب المحافظات السورية، بتحفيز قوي من الخارج، وليس من المعارضة السياسية السورية، سواء الناشطة في الداخل أو الخارج، على أهمية ما راكمته في الواقع الموضوعي من أسباب لنضج القيام بالثورة، وذلك من خلال نضالاتها السابقة التي جعلت من قيم الحرية والديمقراطية حية في الذاكرة المجتمعية. ومع أن ثورات "الربيع العربي" كانت تملأ المشهد السياسي في كثير من الدول العربية، وتشغل الإعلام العربي والعالمي، فكانت المعارضة السورية بكل أطيافها، والأغلبية الساحقة من مثقفي وكتاب سورية يرون استحالة قيام الثورة في سورية لأسباب كثيرة، منها أن رئيسها شاب، وتحكمها سلطة مقاومة ممانعة، وتدعم بالتالي جميع فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق، وهي تقف حائلا في وجه المخططات الأمريكية والصهيونية إلى غير ذلك من الأوهام التي خلقها النظام خلال نحو أربعة عقود وتقبلها الذهن المعارض على أنها حقائق. وفي حالات قليلة كان قلة من بعض المعارضين يفسر استحالة أن يثور الشعب السوري على نظامه بسبب طبيعة النظام الأمنية القمعية هذا من جهة، وبسبب الخوف الذي تراكم في نفوس المواطنين من جراء الممارسات القمعية الإرهابية للنظام وبصورة خاصة ما نتج عنها خلال الأحداث التي عاشتها سورية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي جراء الصراع بين النظام والإخوان المسلمين.
لكن ما إن بدأ الشعب السوري يثور على نظامه حتى شكل ذلك نكزة قوية للمعارضة أفاقتها من ثباتها ومن جمودها القاتل، فتهافتت على الثورة لترى فيها فعلا كما شخص ذلك الدكتور غليون " بساط الريح الذي سيحملها إلى تحقيق برنامجها السياسي وأهدافها"، وصار كثيرون يزاودون حتى على الثوار ذاتهم فيدعون أنهم المخططون لأحداث الثورة، والقابضون على الدفة فيها، والمحددون لأهدافها. بل صار البعض يدعي انه الذي يخطط لانشقاق عناصر النظام عنه، في مسرحية هزلية بائسة.
لقد كانت المعارضة السورية متمايزة خلال المرحلة الأولى من الثورة والتي استمرت نحو ستة أشهر منذ بدء انطلاقتها الأولى في درعا وغلب عليها الطابع السلمي، والخطاب الوطني الجامع في الشعارات والمطالب، واخذ التمايز يتعمق خلال المرحلة الثانية حيث باتت الثورة تزاوج بين المظاهرات السلمية واستخدام السلاح للدفاع عن النفس وحماية المتظاهرين، مع استمرار الخطاب الوطني الجامع من حيث الأساس، لكن في الوقت ذاته بدأت تظهر بعض الأعراض الجانبية المصاحبة مثل الدعوة للتدخل العسكري الخارجي والخطاب الطائفي والدعوات للانتقام وما شابه. واخذ التمايز يتعمق أكثر في المرحلة الثالثة عندما أخذ استخدام السلاح والعنف يسيطر على كامل مشهد الأحداث في سورية، وغاب الخطاب السياسي وصار لسان حال الجميع تقريبا يزايد على الجيش الحر والمسلحين المحليين بالدعوة غلى حمل السلاح وقراءة البيانات العسكرية. لقد كنت من خلال موقعي في هيئة التنسيق الوطنية مواكبا لهذه المتغيرات في مسار الثورة ونبهت مرارا إلى المخاطر المحتملة عليها من جراء هذه التحولات، وتحملت مع الهيئة في سبيل ذلك ضغوطات هائلة سواء من الشارع الثائر، أو من قبل المعارضة في الخارج التي شنت عليها حربا إعلامية شرسة كادت تنسيها معارضتها للنظام، تساعدها في ذلك وسائل إعلام دولية ذات تأثير في الشارع السوري، بل تعرضت لضغوطات من دول اشترطت عليها تخليها عن نهجها لكي تفتح لها أبواب الدعم والتمويل والاحتضان، لكن الهيئة استمرت على نهجها في ذلك الحين، وهي لم تعاني من انهيار مواقعها كما يزعم الدكتور غليون، بل الآخرون بدأوا يعانون من انهيار المواقع، نتيجة تغيير المواقف وتذبذبها، بسبب القراءات الخاطئة لمجريات الثورة في سورية وانعدام المواقف النقدية منها. لقد ظلت الهيئة بعيدة عن أي تأثير أو إملاء خارجي، ورفضت أي مساعدة تقدم لها من الخارج وخصوصا المساعدات المالية، لأنها كانت تدرك منذ البداية أن من يقدم الدعم المالي ومقرات الإقامة والسلاح والدعم الإعلامي سوف يتحكم بمستخدميها، وهذا ما أدركه الدكتور غليون في مرحلة من مراحل اشتغاله في العمل السياسي المعارض كرئيس للمجلس الوطني السوري، وهو ذات الأمر الذي أفصحت عنه السيدة بسمة القضماني، من خبرتها في العمل لدى الآخرين، بعد انسحابها من المجلس الوطني السوري. وليس ببعيد اليوم الذي سوف يدرك فيه الجميع صواب نهج هيئة التنسيق، بعد أن يتضح حجم المأزق الذي وضعت الثورة فيه من جراء تخليها عن سلميتها، ولجوئها للعسكرة كخيار استراتيجي بضغط من النظام من حيث الأساس، واستجابة لدعوات دولية معروفة، واستعداد كثير من الثوار على الأرض لقبول ذلك واستسهاله. هذا لا يعني أن الهيئة بلا أخطاء، بل لديها الكثير منها في جميع المجالات السياسية والتنظيمية وفي مجال الأداء.
وإذ يعترف الدكتور غليون بأن التعارض " بين منطق الثورة ومنطق السياسة " وهو تعارض مزعوم كما بينا سابقا، قد أثر على " مكانة المجلس الوطني" الذي أعلنته " الثورة ممثلا لها في الفترة الأولى" وهو بطبيعة الحال لا يحدد هذه الفترة الأولى، لنعرف متى انتهت صلاحية المجلس الوطني كممثل للثورة، لكنه مع ذلك يعترف بأنه فشل في اعتماد نهج سياسي يؤلف بين " منطق الثورة" ومنطق " السياسة" بسبب " سد النظام الطريق أمام أي حل سياسي" وهو بذلك يعترف بنجاح النظام بجر الثورة والمعارضة إلى الحقل العسكري الذي بنى عليه كامل استراتيجية. ليقرر في الجملة التالية موقفا في غاية الدقة النظرية وحتى العملية أي السياسية إذ يقول "بهذا الفشل (فشله هو ومعارضته في الخارج) تم القضاء على أي أمل في تحويل المعارضة السياسية إلى قيادة سياسية للثورة ، وبالتالي إلى المواءمة بين الثورة والسياسة التي من دونها لا يمكن وجود أي أفق للخروج من المواجهة والتصعيد المستمرين من دون قاتل أو مقتول". بالطبع لم يلحظ في جملته هذه التناقض بين ما قرره سابقا من فهمه الخاص للثورة التي لا تعترف بأية قيادة سياسية لأنها فعل من أفعال الطبيعة" بركان" وبين ما حاول القيام به من المواءمة بين منطق الثورة ومنطق السياسة. لكنه في منطوق عبارته المقتبسة يحسم أمره بان الثورة ليس لديها خيار سوى أن تكون القاتل، وبالتالي لا معنى لوجود السياسةـ ولأنه لا مكان لها في ظل " استمرار النظام في نهج الحرب الشاملة الاستئصالية، يصعب على السياسة أن تؤمن لها مكاناً في دائرة الثورة التي تنزع هي أيضا إلى جعل التصعيد في العنف تجاه النظام خيارها الأول(بل الوحيد لتستقيم تكملة الجملة)، وترى في أي مسعى لفتح طريق آخر غير المواجهة إضعافا لها أمام آلة حرب نظامية لا تعرف إلا صناعة الموت والدمار". هنا بالضبط يكمن دور أساسي للسياسة لا يكتفي بتنبيه الثوار إلى مخاطر الاستجابة لما يريده النظام منهم ، ففي حقل المواجهات العسكرية يتفوق النظام، وليس من أمل لتغيير تفوقه في ظل التوازنات الدولية والإقليمية، والداخلية أيضاً، بل لا ينفك يقدم مبادرات سياسية لرفع الغطاء السياسي عن النظام أمام العالم، وأمام خلفيته الاجتماعية، وأمام أجهزته في ذات الوقت التي يحمل فيه الثوار السلاح. لنلاحظ كيف أن سلطة النظام استمرت في طرح خيار الحوار مع المعارضة، مع أنها حقيقة تخشى ذلك، كغطاء سياسي ضروري لنهجها العنيف الذي لا تعرف غيره، وليس ثمة من يرغمها على تغييره. أذكر جيدا كيف أرسلت موفدا من هوامشها إلى هيئة التنسيق ليبلغ قيادة الهيئة بأنها إذا رفضت مبادرة جامعة الدول العربية الأولى فإن السلطة على استعداد لتلبية بعض مطالب الهيئة من قبيل الانسحاب من بعض المناطق، وإخلاء بعض الموقوفين، وكان المجلس الوطني قد رفضها في حينه، لأنها عندئذ تعفي نفسها من قبول المبادرة بحجة أن المعارضة رفضتها. وعندما قيل للموفد أن الهيئة للتو أصدرت بيانا تعلن فيه موافقتها على المبادرة أسقط في يده.
من الأهمية بمكان أن يؤمن جميع الثوريين من ثوار على الأرض، ومعارضة سياسية بحتمية النصر على النظام، فذلك لا يزودهم بزاد معنوي فقط، بل ينبغي أن يحفزهم، كل في موقعه، ومن خلال دوره على القيام بما يجعل ذلك حقيقة في اقرب وقت ممكن وبأقل التكاليف المحتملة. في هذا السياق من الأهمية بمكان نقد السلاح كما نقد السياسة من اجل أن لا تنحرف عن مثار الثورة التي دفع في سبيلها شعبنا تضحيات كبيرة ولا يزال مستعدا لمزيد من التضحيات شريطة أن تحقق له كما يقول الدكتور غليون " التحرر وبناء دولة ديمقراطية مدنية تعددية تساوي بين جميع مواطنيها وتضمن حقوقهم وفي مقدمتها حقهم في الحياة.." هنا بالضبط تكمن مهمة جليلة، ودور مشرف، ينبغي على سياسي الثورة ومفكريها القيام به، لأن مخاطر السلاح حتى على افتراض نجح في إسقاط النظام سوف تكون كبيرة جداً، بدون مشروع سياسي وقيادة سياسية قادرة على ضبط السلاح واستخدامه في الاتجاه الذي يخدم الثورة، لا أن يستبدل حالة بحالة مشابه، أو نظام استبدادي ربما بأسوأ منه.
الدكتور غليون محق كل الحق في إثارته لهواجس كثيرة تتعلق بالمخاطر التي تنجم عن فقدان الثوار لقيادة سياسية تحظى بثقتهم، توجههم باتجاه الأهداف السياسية للثورة، في ظل فوضى انتشار السلاح في بلد " يحتل موقعا استراتيجيا وجيوسياسيا خطيراً في منطقة ذات خطورة استثنائية". فالسلاح غير المضبوط بالسياسة يصير فوضويا بامتياز، ويصير استخدامه لمجرد القتل، أو فرض النفوذ، أو الخوات وغيرها، وفيها جميعها ليس للثورة مكان أو دور. وفي هذه الحالة ينبغي الاعتراف بفشل الثورة، لكن بعد أن شاركنا جميعاً في المعارضة والثوار على الأرض مع النظام في تدمير الدولة والبلد والمجتمع.
الثورة لا تكون بدون قيادة سياسية " تملك رؤية نظرية وعملية واضحة" على حد قول الدكتور برهان غليون المتناقض مع تأسيسه لمفهوم الثورة، لكن الصحيح نظريا وعمليا أي سياسيا، ويعني هذا أن استخدام مفهوم الثورة هو استخدام سياسي ليس إلا، محاطاً بكثافة الحضور العاطفي والنفسي الناجم عن قوة الرغبة بالخلاص من هذا النظام المستبد. ومن الواضح أن استخدامي له بكثافة في هذه المقالة الحوارية مع ما كتبه الدكتور غليون في " منطق الثورة والمعارضة" لا يخرج عن هذا الإطار. أما من الحقل النظري المعرفي فإن ما يجري في سورية ليس سوى انتفاضة شعبية متحولة من تمرد مجتمعي واسع، تسعى لاستكمال شروط تصيرها في ثورة تطورية، أي سياسية. في مقدمة هذه الشروط كما صار واضحا ضرورة وجود رؤية سياسية لبديل النظام ( النظام المنشود) وضرورة وجود قيادة سياسية. وإذا كانت الرؤية السياسية يمكن القول أنها موجودة في مجمل رؤى المعارضة السياسية، والتي تكثفت مؤخرا في الوثائق التي صدرت عن مؤتمر المعارضة السورية في القاهرة، اعني وثيقة العهد ووثيقة المرحلة الانتقالية، فإنها لا تزال بعيدة جداً عن تكوين قيادة سياسية للثورة. انطلاقا من هذه الوضعية، وكذلك من تفاؤل الدكتور غليون بقرب سقوط النظام، الذي للأسف لا استطيع مشاركته فيه، يطرح الدكتور غليون جملة من الإجراءات التي يعتقد أنها يمكن أن تطمئن " الرأي العام السوري والدولي، وتقلل من
مخاطر السقوط" ريثما تتشكل مثل هذه القيادة.
بالطبع لا أريد مناقشة الدكتور غليون في مقترحاته، فهي على كل حال وجهة نظره، وهو مشكور عليها، فلمجرد أن يتقدم بمقترحات في هذا المجال هذا يعني أنه مهتم بمصير الثورة، وبحسب منطوق الحكمة العربية " إذا أصاب فله حسنتين، وإن أخطأ فله حسنة واحدة"، لذلك سوف أتقدم بمقترحاتي مباشرة.
1-العودة إلى الخطاب الوطني الجامع والشعارات المعبرة عن الوحدة الوطنية والحرية والكرامة والديمقراطية، وتجنب الخطاب الطائفي، والجهوي والإقوامي، وكل ما يفتت أو يوحي بأن الثورة هي ثورة فئة معينة، وان هناك فئات بكاملها مع النظام ضد الثورة.
2-ينبغي العودة إلى المظاهرات السلمية، على أن يتم ابتكار أساليب عديدة للاحتجاجات السلمية مثل الإضرابات والاعتصام، أو جعل المدن قفراء من خلال البقاء في المنازل، ورفع الرايات على الشرفات وأسطح الأبنية.
3-ونظرا لتعذر المقترح السابق بالنظر لفوضى السلاح المنتشر وغلبة الخيار العسكري على السلمي، ينبغي دون إبطاء توحيد فصائل الجيش الحر والمسلحين المحليين في هيكل تنظيمي واحد وتحت قيادة عسكرية واحدة، وتحديد العقيدة القتالية له وضبط استخدام السلاح وتحديد مهماته في إطار استراتيجية واضحة تحمي الثورة وأهدافها، وبما يراعي حقوق الإنسان والقانون.
4-العمل بلا تأخير على توحيد الرؤية السياسية للمعارضة والجيش الحر، على أن تشكل هذه الرؤية أساس الخطاب السياسي والإعلامي لجميع فصائل المعارضة السياسية. في هذا المجال يمكن لوثائق القاهرة أن تشكل أساس هذه الرؤية، بعد إزالة التباينات تجاه بعض بنودها أو الأفكار الواردة فيها، أو الاتفاق على تركها خارجها.
5-ضرورة إيجاد لجنة قيادية للمعارضة السياسية والجيش الحر من ممثلين عن التشكيلات المعارضة الرئيسية المجلس الوطني وهيئة التنسيق والمنبر الديمقراطي وائتلاف وطن والمجلس الوطني الكردي بواقع ممثل واحد عن كل تشكيل معارض يضاف إليهم ممثل عن الجيش الحر، تتابع تنفيذ الرؤية السياسية المشتركة، وتمثيل الثورة في المحافل الدولية والعربية، وفي علاقاتها بالدول والمنظمات وغيرها.
6-التقدم بمبادرة سياسية مشتركة تغطي احتياجات الثورة خلال المرحلة الجارية حتى بدء المرحلة الانتقالية تقوم هذه المبادرة على أساس مبادرة جامعة الدول العربية الثانية في 22/1/2012 وعلى ما توصلت إليه الدول دائمة العضوية في جنيف، متضمنة إمكانية القبول باستفتاء شفاف ونزيه ومراقب دوليا على شرعية النظام ككل.
7-ضرورة التعامل بإيجابية مع مهمة الأخضر الإبراهيمي، والمبادرات الدولية المختلفة بما لا يمس الثوابت الأساسية للثورة، وهي رحيل النظام خلال أجل معلوم، من أجل بناء نظام ديمقراطي تعددي بديل. وفي هذا المجال من المهم نقل الصراع إلى الحقل السياسي حيث لا يملك النظام عناصر قوة متفوقه.
8-توحيد الخطاب الإعلامي للمعارضة السياسية وتوجيهه باتجاه النظام وحده، وتجنب الحملات الإعلامية والمهاترات بين فصائل المعارضة المختلفة، وتجنب التوتر فيه وكذلك لغة التخوين والمزايدة.
9-التخلص نهائيا من الارتهان للخارج سواء سياسياً أو ماليا أو عسكريا والحفاظ على استقلالية إرادة الثورة وخياراتها، على تبنى العلاقات مع جميع الدول في ضوء مصالح الثورة ووفق احتياجاتها. من المهم في هذا المجال عدم خلق أعداء إضافيين للثورة غير النظام مهما كانت الاختلافات معهم حقيقية وعميقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
58-برهان غليون، في منطق الثورة والمعارضة، http://www.umayya.org تاريخ الدخول 2/11/2018
59- منذر خدام، المعارضون بالصدفة، http://www.syrianchange.wordpress.com تاريخ الدخول 2/11/2018
60- منذر خدام، عندما يتخلى السياسي والمفكر عن دورهما، http://www.saotalissar.org تاريخ الدخول 2/11/2018
61- منذر خدام، في الثورة التطورية والثورة البنيوية،www.m.ahewar.org تاريخ الدخول 2/11/2018
62- مرجع سبق ذكره
63- منذر خدام، ادوات قديمة لا تصنع جديدا،www.m.ahewar.org تاريخ الدخول 2/11/2018