في حلم استعادة الوحدة 5


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 6385 - 2019 / 10 / 20 - 03:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

فِي حُلْمِ اسْتِعَادَةِ الوَحْدَةِ
الفَتْرَةُ الانْتِقَاليَّةُ .. وكُونْفِيدرَاليَّةُ الدَّوْلَتَيْنْ (5)
دَوْرُ الدِّبلومَاسِيَّةِ الشَّعبيَّةِ فِي التَّأسِيسِ لِلتَّسَاكُنِ الإِثْنِي
بقلم/ كمال الجزولي


«نُحييكم تحيَّة الشَّوق والمحبَّة، وما مسرَّتنا إلا بكم، فأنتم بعضنا ونحن بعضكم، لا نكتمل إلا بكم ولا يسوؤنا إلا ما ساءكم، سنعمل على أن نعود كما نودُّ، فراقنا كان قاسياً، ولكن التئام شملنا ممكن، فأنتم نصفنا الحلو، وعندما نقول السُّودان نتخيل هذه الخريطة الأليفة الكثيفة بالتَّنوُّع والتَّعدُّد، فلنقترب، ونتعاضد، ونعمل سويَّاً من أجل تقدُّمنا، وتطوُّرنا، ونمائنا المشترك».
رسالة محمَّد ناجي الأصم
إلى شعوب جنوب السُّـودان
بمناسبة التَّوقيع على وثائق الفترة الانتقاليَّة18 أغسطس 2019م


+++

«هذا هو ديدن الشَّعب السُّوداني الذي صنع أكثر من ثورة. إن حلَّ المشكلة السُّودانيَّة يعني حلَّ مشكلة الجَّنوب، ومشاكل إثيوبيا، وإريتريا، وتشاد، وليبيا، وغيرها من دول الجِّوار، لذا نحن سعداء بنجاح ثورة ديسمبر 2018م. إن مستقبل العلاقة بين الدَّولتين، في ظلِّ التَّغيير الذي يشهده السُّودان، وفي ظلِّ الحكومـة المدنيَّة الجَّديدة، سيكون مبهـراً، حيث
ستتعاونان كدولة واحـدة يكمِّل بعضـها بعضـاً، أو كدولتين متقاربتين في حـلِّ كـلِّ القضـايا
العالقة بينهما .. حتَّى أبيي».
تصريح دينق ألور
وزير خارجيَّة جنوب السُّودان السَّابق
ومسؤول ملف أبيي الحالي
لدى زيارته للخرطوم ضمن وفد الرَّئيس سلفاكير
للمشاركة في احتفالات التَّوقيع على وثائق الفترة الانتقاليَّة
تاسيتي نيوز ـ الخرطوم؛ 18 أغسطس 2019م


X
(1) في 29 ديسمبر 2009م أجاز المجلس الوطني الانتقالي "قانون استفتاء جنوب السُّودان لسنة 2009م". وخلال الفترة ما بين 9 ـ 15 يناير 2011م تمَّ إجراء ذلك الاستفتاء. وفي فبراير 2011م: سلمت مفوَّضيَّة الاستفتاء نتيجته النِّهائيَّة لرئيس الجُّمهوريَّة؛ وحيث لم تتسلم المحكمة العليا أيَّ طعن في تلك النَّتيجة، فقد اعتمدها رئيس الجُّمهوريَّة، وأعلنها في السَّابع من نفس الشَّهر. وفي التَّاسع من يوليو من ذلك العام انتهت الفترة الانتقاليَّة، حيث كان ذلك هو يوم تنفيذ نتيجة الاستفتاء بانفصال/استقلال الجَّنوب الذي مرَّت، في التَّاسع من يوليو 2019م، الذكرى الثَّامنة لتأسيسه في ما صار يُعرف، رسميَّاً، بـ "دولة جنوب السُّودان" التي ما لبثت أن غرقت، للأسف، في حرب أهليَّة لا تبقي ولا تذر!
(2) وربَّما لهذا السَّبب، بالذَّات، كان الحدث المؤسف الآخر، والذي لم تفت ملاحظته على المراقبين، هو أنه، برغم زعم الأرقام، وقتها، أن نسبة التَّصويت لصالح ذلك "الانفصال/الاستقلال" بلغت98.83%، فإن الذِّكرى المشار إليها مرَّت، مع ذلك، دون أيِّ ابتهاج شعبي، أو احتفال رسمي، ما ينطوي، دون شكٍّ، على دلالة لا تخفى! ولولا خشية البكاء على اللبن المسكوب، لقلنا إن النَّدم ما ينفكُّ ينهش ضمائر الكثير من السِّياسيِّين، وعموم الانتلجينسيا الجَّنوبيَّة الذين دَفعوا نحو الانفصال دفعاً، وهللوا له تهليلاً، ثمَّ ما لبثوا أن أفاقوا على مشهد جُّثث الرِّفاق مثقوبة برصاص بنادق الرِّفاق، يعبرها الهواء، كما الغرابيل، ومنثورة، تنهشـها الضَّواري والجَّوارح عبر شوارع المدن التُّرابيَّة، وتعرُّجات المماشي العشبيَّة!
(3) تفادي مآل هذه البكائيَّة، وإيقاف هذا النَّهش للضَّمائر، لن يتحقَّقا إلا بعد أن تمتدَّ الأيدي الوطنيَّة الرَّحيمة لتطفئ بؤر اشتعال المزيد من الحرائق، خصوصاً في دارفور والمنطقتين، وحول حزام السَّافانا المرشَّح أكثر من غيره لمثل هذا الخراب، وبالأخصِّ "أبيي" التي جُحِدَت "مشورتها الشَّعبيَّة"، فما أجريت تلك "المشورة"، كما كان ينبغي، بالتَّزامن مع استفتاء الجَّنوب، حسب اتِّفاقيَّة "نيفاشا"، والدُّستور الانتقالي لسنة 2005م الذي انبثق منها! فهل ثمَّة ما يمكن أن ينعش أملاً في النُّفوس بإمكانيَّة التَّأسيس، خلال الفترة الانتقاليَّة المرتقبة، لسودان "موحَّد"، مجدَّداً، على أيِّ نحو؟!


XI
(1) لنبدأ بجنوب كردفان، على سبيل المثال، حيث:
أ/ يفترض الاقتصاد السِّياسي لعلاقات "المسيريَّة ـ دينكا نقوك"، ملاحظة الميل الحادث، وإن ببطء، وإن بتعثُّر، نحو "خرط يد" المسيريَّة، بنظارتيهم الرَّئيستين، العجايرة والفلايتة، من التزام التِّسعينات القديم بالتَّلبية السَّلسة لسياسات المركـز الحـربيَّة، والاتِّجاه، بدلاً من ذلك، لتغليب مصالح المجتمعات المحليَّة، وإيلاء المـزيد من الاهتمـام لضـرورة التَّعايش السِّـلمي بين مكـوِّناتها الإثنيَّة.
ب/ في السِّياق أوردت الأنباء، أواخر نوفمبر 2016م، اتِّفاق القبيلتين على سوق مشتركة بمنطقة "أنيت"، لتفعيل تجارتهما الحرَّة، وسط ترحيب المجتمَعين، والالتزام بمواصلة الحوار كمدخل لتأسيس واستدامة سلام اجتماعي أهلي(15).
(2) هذا "الحلَّ الشَّعبي" الذي أضحى يُعرف بـ "أسواق السَّلام" في "دِفرة"، لا يقتصر على ثنائيَّة "المسيريَّة ـ دينكا نقوك"، بل يشمل كلُّ الإثنيَّات الوطنيَّة، شمالاً وجنوباً، وبطول الكيلومترات الـ 750 على امتداد حزام السَّافنا غرباً وشرقاً، مقدِّماً النَّموذج الملهم على ضفَّتي "بحر العرب"، وفاتحاً أوسع الأبواب لتطوير هذا النَّوع الجَّسور من المبادرات الشَّعبيَّة التي تترسَّم خطى مبادرة "آدم"، الأكبر حجماً، والأوسع طموحاً.
(3) مع نهايات يونيو وأوائل يوليو عام 2011م، تحوَّلت الحدود بين المجموعتين الجَّارتين، على ضفَّتي "بحر العرب"، من إداريَّة إلى دوليَّة، ينتشر حولها 9 ملايين راع شمالي، و4 ملايين راع جنوبي. وفي ورقته القيِّمة الموسومة بـ "الدِّبلوماسيَّة الشَّعبيَّة في المجتمعات الرَّعويَّة: حالة السُّودان وجنوب السُّودان نموذجاً"، يلاحظ الإداري والباحث النَّابه علي جمَّاع أنه لم يكن من الميسور للذِّهنيَّة الرَّعويَّة على جانبي النَّهر أن تستوعب تبعات تلك المستجدَّات، مثلما لم يكن من الميسور، أو حتَّى من المعقول، أن تتحقَّق، لمجرَّد عدم الثَّقة المتبادلة، رغبة الحكومتين في أن تنتهي، بضربة واحدة، كلِّ أشكال العلاقات والأنشطة المشتركة، أو أن تتغيَّر، بين ليلة وضحاها، سبل كسب العيش، تبعاً للواقع الجَّديد. ضف إلى ذلك أنه ليس لدى الرُّعاة، لا هنا ولا هناك، أدنى استعداد لرؤية قطعانهم ينهشها الجُّوع والعطش، بسبب الإرباك والتَّعويق النَّاجمين عن المناورات السِّـياسـيَّـة لدورات الحـيـاة المـوسـمـيَّـة، فضـلاً عـن إهـدار النُّظم الرَّعويَّة، وإهمال العـوامـل المناخـيَّة، والبيئيَّة، والإيكولوجيَّة(16).
(4) ويواصل جمَّاع رصده لما حدث، بالنَّتيجة، حيث قرَّ قرار الرُّعاة، على الجَّانبين، لتخطي كلِّ الحواجز الإداريَّة والسِّياسيَّة عبر "الدِّبلوماسيَّة الشَّعبيَّة"، فأمسكت قياداتهم، وقيادات منظمات المجتمع المدني، والشَّباب، والنِّساء، بزمام مبادرة جسورة لعقد مؤتمرات سلام قاعديَّة، بصرف النَّظر عن موافقة أو عدم موافقة الحكومتين. ومن ثمَّ شهدت أواسط فبراير 2012م عصف أدمغة مرموق على جانبي الحدود، إذ انعقد بمدينة الميرم، بجنوب كردفان، خلال يومي 14 ـ 15 من ذلك الشَّهر، "مؤتمر المسيريَّة التَّحضيري" الذي صاغ ورقة تفاوضيَّة تضمَّنت حزمة توصيات حول القضايا المرغوب في مناقشتها مع جيرانهم المباشرين، دينكا ملوال، وعلى رأسها "الحفاظ على التَّعايش السِّلمي التَّاريخي بين الطرفين، عبر اتِّفاقيَّات وبروتوكولات رعويَّة وتجاريَّة، دون اعتبار لإرادة السُّلطات الحاكمة على الجَّانبين. كذلك، وبالنَّظر إلى تردِّي الظروف الإيكولوجيَّة، والبيئيَّة، والمناخيَّة، فقد اتُّفق على وجوب التَّركيز على تقليل أعداد القطعان، والاهتمام بتحسين نوعيَّتها، وتشجيع سعاية الأنماط الجَّديدة من الماشية غير المترحِّلة، وشبه غير المترحِّلة، لتمكين السُّلالات الأعلى إنتاجيَّة من النَّاحية الاقتصاديَّة، والأكثر قابليَّة للتَّسويق، بما يناسب متغيِّرات الإيكولوجيا، ومتطلبات الحياة شبه غير المترحِّلة؛ ومناشدة الحكومتين بإخلاء الحدود من التَّوتُّرات العسكريَّة، وإتاحة المجال للتَّفاعل الطبيعي والهادئ بين المجموعتين، بحيث تستطيعان التَّعامل مع بعضهما البعض بشكل أفضل. أمَّا بشأن الرَّعي، والوصول إلى الماء، وتجارة الحدود، فقد اتَّفقت المجموعتان على تفعيل التَّفاهمات السَّابقة بينهما، سواء تلك القائمة على العرف، أو على القانون العام، أو على أسس الإدارة التَّقليديَّة؛ كما يلزم عقد مؤتمر سلم قاعدي داخل كلٍّ من المجموعتين، وفي ما بينهما، بوساطة الرُّعاة أنفسهم، مع التَّرحيب بأيِّ تسهيلات تقدمها منظمات المجتمع المدني، أو المنظمات غير الحكوميَّة، أو المؤسَّسات الحكوميَّة، أو الأمم المتَّحدة". أمَّا دينكا ملوال فقد سبقوا المسيريَّة بأربعة أيَّام إلى عقد مؤتمرهم التَّحضيري، وصياغة موقفهم التَّفاوضي بالمقابل، في 10 فبراير عام 2012م(17).
(5) ثمَّ انعقد، لاحقاً، المؤتمر القاعدي العام المشترك للمجموعتين بأويل، عاصمة ولاية شمال بحر الغزال الجَّنوبيَّة، من 19 إلى 21 فبراير عام 2012م، واختُتم بإبرام بروتوكول مشترك يعبِّر عن أسف الطرفين لنشوب الحرب بينهما، والتزامهما بإنهاء التَّوتُّر، وإزالة مسبِّبات الإعاقة غير المبرَّرة للتَّنمية؛ كما صدرت، بالإجماع، توصيات المؤتمر وأهمُّها تدشين تجارة الحدود، وترسيم المسارات الموسميَّة، ومراقبة الحقوق على الأراضي، وخطوط المياه، وحقول الزِّراعة، ونزع سلاح الرُّعاة عند اختلاط المجموعتين أثناء موسم الجَّفاف، وتشكيل محاكم للفصل في النِّزاعات، في مناخ من الاحترام المتبادل، والتَّعايش السِّلمي، وحماية الحقوق، بمنأى عن كلِّ ضروب التَّحيُّزات السِّياسيَّة؛ وحثِّ الشَّباب على دعم السَّلام بالأنشطة والهيئات المشتركة، الرِّياضيَّة والثَّقافيَّة؛ وإلى ذلك تشجيع التَّزاوج بين المجموعتين(18).
(نواصل)

المصادر:
(15) الميدان؛ 24 نوفمبر 2016م
(16) http://www.pastoralismjournal.com/content/3/1/12
(17) نفسه
(18) نفسه

***