منهجان فى التنمية الاقتصادية (1)


أحمد بهاء الدين شعبان
الحوار المتمدن - العدد: 6376 - 2019 / 10 / 11 - 10:10
المحور: الادارة و الاقتصاد     


الحوار بين المتخصصين والدارسين، حول مسالك التنمية المادية والروحية للشعب، والدروب المؤدية إلى الازدهار والتقدّم، لا يتوقف، فهو أمر لصيق بحياة البشر، ويستهدف، بالأساس، تلبية حاجاتهم، وتوفير أسباب راحتهم.

ونشير فى هذا السياق إلى مدرستين هامتين، لكل منهما أعمدتها الفكرية، ومُحدداتها الأيديولوجية، وتطبيقاتها العملية، ونتائجها المتحققة على أرض الواقع، سلباً وإيجاباً: أولهما مدرسة "الحرية الاقتصادية الكاملة"، أو "الليبرالية الجديدة"، والثانية المدرسة التى تؤمن بفكرة "الاعتماد على الذات"، وتسخير "الموارد الذاتية"، كاستراتيجية بديلة للتنمية.

والمدرسة الأولى صار لها الغلبة فى مناطق عديدة من العالم، ووجدت دَفعةً قويةً فى أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتى والمعسكر الاشتراكى، فى العقد التاسع من القرن الماضى، حتى تجرأ أحد مُنظريها، "فرانسيس فوكوياما"، فى مؤلفه:"نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، فاعتبر أنها وضعت "نهاية التاريخ" لا سبيل لتجاوزها، وكأن فردٌ ما، أو عناصر طبقة اجتماعية مُعَـيَّنة، قادرين على إيقاف عجلة الزمن عند لحظة مُحددة، وتجميدها إلى الأبد، وبالضد للقانون الأساسى للوجود الإنسانى، وهو قانون "التغيير"، الذى صاغه الفيلسوف الأغريقى "هيراقليطس"، فى عبارة واحدة، بسيطة وشهيرة: "إنك لن تنزل النهر وحده مرتين"!

وقد برز كمفكر رئيس لهذا التوجُّه السياسى ـ الاقتصادى، البروفيسور"ملتون فريدمان"، عميد "مدرسة شيكاغو" للاقتصاد بالولايات المتحدة الأمريكية، الذى غادر الحياة منذ سنوات قليلة، بعد عمرٍ قارب القرن الكامل، وكان له تأثيرٍ طاغٍ على المئات من تلامذته، من مختلف دول العالم، الذين أُطلق عليهم "أوعيال، أو أولاد شيكاغو"، حيث راحوا يروجون، ويدفعون دولهم ومؤسسات بلدانهم إلى الانصياع لفكار "فريدمان"، والذى لا يرى خلاصاً للبشر كافة، إلّا فى التخلِّى الكامل عن أى دور اقتصادى ـ اجتماعى للدولة، وإطلاق العنان لرأس المال، دون أدنى عوائق أو رقابة، كى يصنع مابداله فى كل بقاع المعمورة!

وقد تبلورت أفكار وتوجهات وسياسات وتطبيقات "ميلتون وتلامذته"، فى مجموعة من المبادئ المتكاملة، التى يتوجب على الدول اتباعها كـ "حزمة" واحدة، لا تنازل عن جزء فيها، أُطلق عليها سياسات "إجماع واشنطون" (Washington Consensus)، وهى المبادئ التى صاغها "جون ويليامسون"، بروفيسور الاقتصاد الأمريكى، وأحد قادة "البنك الدولى"، فى عشر نقاط مترابطة، هى:
(1) الانضباط المالى.
(2) إعادة توجيه أولويات الإنفاق العام إلى مجالات تُقدّم عوائد اقتصادية عالية (أى تحويل مجالات الخدمة الأساسية، كالرعاية الصحيّة، والتعليم الأساسى، والبنية الأساسية، إلى مرافق تستهدف تحقيق الربح.. إلخ).
(3) الإصلاح الضريبى، (بمعنى "تقليل فرق الهامش الضريبى" بين المالكين والمواطنين العاديين، لصالح الطرف الأول، مع توسيع القاعدة الضريبية، بحيث لا تستثنى أحداً مهما كان وضعه الاجتماعى متردياً).
(4) تحرير سعر الفائدة، لتقليل العبء المالى من الاقتراض، على الرأسمال، إلى أدنى حد.
(5) تحقيق سعر صرف تنافسى (أى تعويم العملة المحلية).
(6) تحرير التجارة، دون أدنى قيود أو ضمانات، (لصالح الدول القوية اقتصادياً) ،وإزالة كل العقبات من أمام حركة الاستثمار الأجنبى فى أى مجال، وبالشروط التى يختارها.
(7) تحرير تدفق الاستثمار الأجنبى المُباشر من أية ضوابط، أو قيود، أو التزام بالقوانين المحليّة.
(8) الخصخصة الكاملة لجميع مؤسسات ومرافق الدولة الإنتاجية والخدمية.
(9) رفع القيود (الحواجز) على دخول أو خروج السلع.
(10) تأمين حقوق الملكية، المادية والفكرية.

وقد صارت هذه المبادئ العشرة، التى حظت بموافقة المؤسسات المالية الرأسمالية الأساسية فى العالم: (وزارة المالية الأمريكية، البنك المركزى الأمريكى، البنك الدولى، صندوق النقد الدولى، الجماعة الأوروبية)، والتى تُقر فرض سياقات السوق الحرّة، دون قيد أو شرط، أو اعتبار للظروف والملابسات الخاصة بكل دولة، وفتح كل الأبواب، دون أى ضوابط، أمام رأس المال المحلى والأجنبى، وتجيم دور الدولة تحجيماً كاملاً (إلّا كخادم للرأسمال)، بمثابة شبكة عنكبوتية تأخذ بخناق دول العالم الفقير والنامى والطامح للانعتاق من مرارات الفقر والتخلف. فهل هى قدرٌ لافكاك منه؟ سؤال مهم يبحث عن إجابة.
------------------------
*جريدة "الدستور"، الخميس 3 أكتوبر 2019

منهجان فى التنمية الاقتصادية (2)*
أحمد بهاء الدين شعبان

تحدثنا فى المقال السابق عن منهج "النيو ليبرالية" فى التنمية الاقتصادية والسياسية، والذى يدعو إلى كف يد الدولة، تماماً، عن أى دور اقتصادى، ومنعها من القيام بـ "واجباتها" الاجتماعية، اكتفاءً بـ "وظيفتها" كـ "خادم" للرأسمال، و"حارس" لمصالح الاحتكارات الكبرى، و"مساعد" للـ "سوق"، فى ظل "توافقات واشنطن"، وما تشيعه "مدرسة شيكاغو" الاقتصادية من قواعد و"مبادئ"، أدى الالتزام بها إلى استفحال أوضاع التبعية الاقتصادية للمركز الغربى القوى، وتفاقم الأزمات المتعاقبة، وازدياد اتساع الفجوة بين الطبقات، مما أصبح يًهدد السلم الاجتماعى، بصورةٍ ملحوظةٍ على نحو ما نرى!

واليوم نعرض لمنهج آخر، يصح أن يُسمّى "المنهج البديل"، وهو منهج "الاعتماد على الذات"، وتفعيل الطاقات الكامنة فى المجتمع، واستنهاض إرادة مجموع المواطنين، لتجاوز الأزمات، وإعادة بناء الدولة.

وهذا المنهج ليس جديداً، وقد شاع الحديث عنه ومحاولة تطبيقه مع نهوض حركات التحرّر من قيود الاستعمار، ثم خبا بانكسار هذه الحركة، وهناك إرهاصات تُبَشِّرُ باستعادته لبريقه.

وهو منهج يرفض توجُّهات الرأسماليات التابعة، التى تبنى نمطاً داخلياً مُتفسخاً للاقتصاد، الموجّه ـ بشكل أساسى ـ لخدمة واسترضاء الخارج، ويورط البلاد فى مديونية خارجية متزايدة، ويفرض مظالم اجتماعية كبيرة، وبطالة عالية، و"نمو" اقتصادى هش، وفقر متزايد، وتجريد للاقتصاد المحلى من طابعه الوطنى، خضوعاً للتقسيم الدولى المُجحف للعمل، مع نزح مستمر لعوائد جهد المجتمع إلى الخارج، مصحوبا باستبداد سياسى يحمى هذه التوجُّهات.

ولتحقيق هذا المنهج يلزم السعى لـ "فك الارتباط" بالمنظومات التابعة، المُجحفة السائدة، والتحرّر من القيود التى يفرضها النظام العالمى الجائر القائم، والذى يبسط السيطرة الكاملة على موارد الدول (المتخلفة)، من خلال شبكة الآليات المالية والنقدية، وفى مقدمتها: "البنك"، و"صندوق النقد" الدوليين، وكذلك باحتكاره للتكنولوجيا المتطورة، وأدوات إنتاج وإدارة المعلومات والمعرفة المتقدمة، وهو ما يُلخصه عالم الاجتماع "إنريك أوتيزا"، فى دراسته الهامة المعنونة بـ: "الاعتماد الجماعى على الذات: استراتيجية بديلة للتنمية"، بـ "تحقيق الحد الأدنى من التبعية، والحد الأقصى من الاستقلال، والحد الأمثل من الترابط، فى سياق علاقات متباينه كيفاً مع بلدان المركز".
غير أن هذا الأمر، لا يعنى القطيعة مع العالم، أو الانكفاء على الذات، أو الانغلاق عن العالم،وإنما إعادة توجيه بوصلة الاقتصاد الوطنى لسد حاجات المجتمع، لا لخدمة الخارج وتلبية مطالبه.

وينهض هذا المنهج على "عامود أساس" هو التعبئة الشاملة للقدرات المحلية، وتوجيهها، لا لتلبية حاجات الخارج، وإنما لتغطية احتياجات المجتمع من مأكل وملبس وسُبل حياة وضرورات وجود، فى إطار جدول أولويات موضوعى، وركيزته: توجيه جهد المجتمع نحو تفعيل طاقاته الإنتاجية، الزراعية والصناعية، وابتكار طرق حديثة مناسبة لتعظيم إنتاجية المجتمع، والحد من الاعتماد على الاستيراد لإشباع حاجاته حتى"البسيط" منها، وتحرير الإرادة الوطنية من الارتهان لمصادر الإقراض وجهات التمويل!

ولذا فإن هذا المنهج يقتضى أوسع أشكال المشاركة الشعبية الإيجابية، ويعتمد على اقتناع الناس بضرورته وجدواه، وثقتهم فى أنه يحقق مصالحهم، ويحل مشكلاتهم، ويضعهم على مداخل تقدّم حقيقى، يُشاركون فى صنعه، ويجنون نتائجه.

ومن المفيد الإشارة إلى أن هذا المنهج ليس منهجاً أجنبياً أو مُستورداً، وقد سعت مصر، فى الستينيات، باتجاه تحقيق جانباً مهماً من شروطه، كما بُذلت جهود عميقة، لبحثه واستيضاح عناصره، فأفردت له "الجمعية المصرية للاقتصاد السياسى والإحصاء والتشريع" بحوث ومناقشات مؤتمرها العلمى السنوى السادس للاقتصاديين المصريين، (القاهرة: 26 ـ 28 مارس 1981)، الذى عُقد تحت عنوان: "نحو اقتصاد مصرى يعتمد على الذات"، بمشاركة مجموعة من العلماء والمختصين الكبار، (منهم الأساتذة: د. رمزى زكى، ود. أحمد سعيد دويدار، د. مصطفى السعيد، ود. محمد عبد الشفيع، ود. عمرو محيى الدين، ود. مصطفى الجبيلى، ود. جلال أمين، ود. ابراهيم العيسوى، وغيرهم).
---------------------------