ذهنية الغنيمة والثورات


رابح لونيسي
الحوار المتمدن - العدد: 6370 - 2019 / 10 / 5 - 20:19
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


كتبنا في مقالة سابقة عن من وراء إنحراف الثورات، وحملنا المسؤولية للطبقة البرجوازية، خاصة المتوسطة منها التي تعمل دائما على إقصاء الطبقات الشعبية من صناعة القرار كي تستفيد هي من توزيع الثروة على حساب هذه الطبقات لتتحول إلى طبقة إستغلالية وإستبدادية جديدة، فحاولنا إعطاء الحل والبديل لمنع الإنحراف بالدعوة إلى بناء نظام سياسي تمثيلي جديد تمثل فيه كل شرائح المجتمع وفئاته المهنية بتحويل النظام الإنتخابي المبني على دوائر إنتخابية محددة على أساس جغرافي(ولايات، عمالات ومحافظات) إلى دوائر إنتخابية مبنية على أساس شرائح المجتمع وفئاته المهنية كي تمثل كلها على عكس الأول الذي يمكن أن تغيب عنه الكثير من الفئات والشرائح المهنية، ويبقى نظامنا السياسي البديل مصالح كل ممثلي الشرائح الإجتماعية والمهنية مرتبطة بمصالح شريحتهم وفئتهم المهنية مع منع أي إمتيازات لهم أو شراء ذممهم من السلطة أو رجال المال بتطبيق مبدأ "من أين لك هذا؟" على الجميع(أنظر مقالتنا "من وراء إنحراف الثورات؟" في الحوار المتمدن عدد 6365 بتاريخ30/9/2019).
لكن إن تناولنا هذه القضية في إطار منع إنحراف الثورات، لكن ماهي أسباب فشل الثورات ذاتها ووقوف بعض الشرائح والطبقات إجتماعية والمهنية إلى جانب السلطة القائمة وضد الثوار، لايمكن لنا تناول كل الأسباب في هذه المقالة، ونكتفي بالتركيز على عامل رئيسي هو ما يسميه البعض بشراء الذمم من السلطة القائمة لإسكات المعارضين أو كسب مؤيدين، وسننطلق في تحليلنا من نتائج رائعة توصل لها المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابة القيم "العقل السياسي العربي"، أين يقول بعد تتبعه هذا العقل منذ الفتنة الكبرى إلى اليوم بأن هناك ثلاث محددات وراء هذا العقل السياسي، ولازالت سائدة إلى حد اليوم، وهي القبيلة والعقيدة والغنيمة، ليتوصل في الأخير إلى القول بأنه لايمكن لشعوبنا الخروج من مجتمعات ما قبل السياسي إلى مجتمعات سياسية حديثة فعلا إلا بالقطيعة مع هذه المحدداتن ويتم ذلك بالإنتقال من القبيلة إلى أحزاب وتنظيمات نقابية ومن العقيدة إلى أيديولوجيات ومن الغنيمة الممثل اليوم في إقتصاد الريع إلى إقتصاد منتج، لكن توقف الجابري عند هذا الحد دون طرح حلول وميكانيزمات عملية لهذا الإنتقال.
استند عابد الجابري في دراسته على مجموعة من الدراسات الغربية، ومنها كتاب "اللاشعور السياسي" لروجيس دوبري، الذي توصل بعد سنوات من الدراسة للممارسة السياسية في الإتحاد السوفياتي إلى فكرة مفادها، أن لكل أمة ودولة ممارسة دينية حتى ولو كانت تلك الدولة معادية للدين، ويستدل على ذلك بالنظام الشيوعي في الإتحاد السوفياتي الذي يراه أنه لا يختلف عن الممارسات والتنظيمات الدينية للمسيحية، ونعتقد أن قسنطنطين ملنيك قد وضع كتابا يتطرق فيه إلى نفس الفكرة وسماه ب"روما الثالثة"، وطبق فيه نفس المنهج على الإتحاد السوفياتي، كما أستند الجابري أيضا على التحاليل الماركسية للمجتمعات ما قبل الرأسمالية وتشكيلاتها الإجتماعية، ومنها التي انتقدت نمط الإنتاج الآسيوي، خاصة دراسة الماركسي المجري لوكاتش .
لكن في كل هذا العمل أستند عابد الجابري في دراسته بشكل أخص على عبد الرحمن أبن خلدون الذي حلل المجتمع المغاربي، والذي يقول أن الدولة تحددها العصبية القبلية والدين، وأضاف الجابري بأن أبن خلدون قد قال بفكرة الغنيمة، لكن لم يركز عليها كثيرا، وبذلك توصل الجابري إلى ما أسماه محددات العقل السياسي العربي التي أشرنا إليها آنفا وهي: القبيلة والغنيمة والعقيدة، أي بتعبيرنا المعاصر اليوم هي القرابة والريع والأيديولوجية.
تبين لنا تاريخيا وواقعيا أن الريع الذي هو التعبير المعاصر للغنيمة هو العامل الرئيسي في وقوف فئات وشرائح إجتماعية ومهنية ضد التغيير الثوري، فمثلا الجيوش والقوات الأمنية تحمي السلطة مقابل ريع يعطى لها، ويوزع بشكل هرمي من القمة إلى القاعدة، وهي ظاهرة قديمة، فمثلا معروف أنه في تاريخ العثمانيين في كل البلاد التي سيطروا عليها كانت السلطة تدفع ريوع للإنكشاريين، وكلما زادت مطالب هؤلاء في الريع أو الغنيمة ثاروا من أجل إعطائهم أكثر لدرجة وقوع إنقلابات متتالية وعدم إستقرار بسبب ذلك، فأصبحت الدولة أو السلطان هو رهينة إرضائهم بالعطايا والغنائم، فالريوع التي تعطى للجيوش في منطقتنا تعطى لقيادات كنوع من إستقلالية في ميزانيتها وعدم القدرة على مراقبتها، ثم توزع على شكل هرمي من القمة إلى القاعدة، لكن يختلف مصدر الريع من بلد لآخر، فمصر مثلا يأتيها ذلك بالنسبة لجيشها من أمريكا على شكل معونة سنوية، ثم يحوله إلى إستثمارات إقتصادية يتحكم فيها، ويعود أرباجها على قيادات هذا الجيش بشكل خاص، ولهذا يقال أن الجيش المصري متحكم في الإقتصاد، وله إقتصاد خاص به، فعندما حاول مبارك ترجيح الكفة لصالح أطراف مدنية، ومنهم رجال أعمال والمقربين منه، عمل الجيش على دعم ثورة المصريين في البداية في2011 كي يطيح بمبارك، وتعود له الكعكة الكبيرة فيما بعد، فقد فسر البعض، ومنهم مسؤول المخابرات الفرنسي آلان شوييهAlain Chouet في حواراته الطويلة في 2011 بأن تحليق الطيران المصري مثلا على رؤوس المتظاهرين في ميدان التحرير، بأنها مجرد رسالة من سلاح الطيران الذي كان مبارك يرعاه أكثر مقارنة بالأسلحة الأخرى، بأن له حقه الكبير في الكعكعة بعد إعادة النظر في توزيع الريع بعد سقوط مبارك، كما نجد الكثير من القطاعات تستفيد من الريع مقابل سكوتها أو دعمها للسلطة، فعادة ما يوزع هذا الريع على شكل هرمي من القمة بشكل كبير، ثم ينزل إلى القاعدة على شكل فتات، فكلما كان الريع كبيرا ساد الإستقرار بشراء مايسمى في الجزائر مثلا ب"السلم الإجتماعي" الذي عادة ما يتم على حساب الإقتصاد الوطني، وهو في الحقيقة مجرد مهدئات فقط للحفاظ على السلطة لاغير، لكن عندما ينقص الريع بإنخفاض أسعار النفط مثلا يتم الحفاظ على توزيعه دون مساس بنسبه في القمة مقابل تخفيضه بشكل كبير في القاعدة، فهنا تطلق السلطة نوعا من الحريات تعوض بها نقص الريع، وتسمح بالتعددية الشكلية المبنية على الطائفية والمناطقية والجهوية تحت غطاء أيديولوجي، لكن يعطى الريع لقيادات الأحزاب ومختلف قيادات التظيمات النقابية والجمعيات المدعية أنها معارضة مقابل إسكاتها لأتباعها بالأيديولوجية وعدم مواجهة السلطة ومبررات أخرى، وهذا ما وقع في الجزائر في الحقيقة بعد1988، فلهذا تجد الأحزاب مثلا في الجزائر تتحرك حسب الريع الموزع على قياداتها من السلطة القائمة، ولهذا لفظتها الثورة السلمية اليوم كلها تقريبا لأن الشعب فهم اللعبة جيدا.
ان ظاهرة الغنيمة وتوزيعها ليست جديدة، فقد بدأت مع الخلفاء الراشدين، وكانت تأتي من غنائم الحروب في غالب الأحيان، فكانت تستمال القبائل المختلفة بواسطة توزيع غنائم عليها وعلى شيوخها الكبار، فحتى في المعارك أثناء الصراع حول السلطة يمكن أن ينقلب الوضع تماما في أي لحظة بسبب القدرة على إستمالة قبائل كانت مع الطرف الخصم بإعطائها غنائم وأموال كبرى، وهو ما لازال يتم حتى الآن في مجتمعاتنا، لكن بشكل غير مباشر، ولايمكن التحرر من ذلك إلا بالتخلص من النظام الريعي وعدم ترك السلطة تتحكم في توزيعه في بدايات الأمر قبل الإنتقال إلى إقتصاد منتج الذي سنتحدث عن كيفية ذلك فيما بعد، وسيتحقق إبعاد السلطة عن توزيعه بالبرلمان الإجتماعي الذي تحدثنا عنه، وبتحويل السلطة إلى منظم للحركية الإقتصادية بدل تحكمها في هذه الحركية وتوزيعها الريوع أو الغنائم حسب مصالحها، ويتم دورها المنظم طبقا للقوانين التي يضعها البرلمان الإجتماعي الممثل لكل الشرائح المهنية والإجتماعية التي تحوز على حق الفيتو، وبتعبير إقتصادي أدق تطبيق فعلي في البداية لقانون العرض والطلب في الإقتصاد الطبيعي الذي تحركه اليد الخفية حسب آدم سميث.
يطرح الجابري في نهاية بحثة " العقل السياسي العربي" ضرورة الإنتقال من العقيدة إلى الأيديولوجية ومن القبيلة إلى التنظيمات الحزبية والمهنية والنقابية ومن الغنيمة أو الإقتصاد الريعي إلى الإقتصاد المنتج، لكن لم يوضح لنا طريقة ذلك، وقد سبق لنا أن طرحنا المسألة في عدة مقالات وكتابات من قبل، وقلنا بضرورة تحرير الإقتصاد من الريع الذي يوزع من السلطة القائمة على الموالين لها ومنعه على المعارضين لها، وذلك بإعطاء سلطة هذا التوزيع إلى المجلس أو ما سميناه بالبرلمان الإجتماعي الذي سيتحول بدوره إلى السلطة العليا في البلاد بحكم أنه يجسد كل الأمة بداخله عبر ممثليها على أساس مهني وفئات إجتماعية، فهو الذي سيتحكم في توزيع الثروة، خاصة في وضع نظام إقتصادي ريعي يعتمد على مداخيل النفط في الكثير من دولنا كالجزائر، لكن هذا الريع بعد توزيعه يتحول إلى إقتصاد كمبرادوري، لأن من يوزع عليهم يحولونه في غالب الأحيان إلى قطاع إستيراد-إستيراد لأنه سيسهل عملية الربح، ويمكن نزعها منهم إن لم يلعبوا دورا في خدمة السلطة، هذا من جهة ومن جهة اخرى هي خدمة غير مباشرة وشراء ذمم للقوى الرأسمالية الغربية التي يعطى لها جزء كبير من هذه الريع مقابل دعمها لهذه الأنظمة على حساب الشعوب، ويتم ذلك إما بشكل مباشر بإمتيازات في قطاع المحروقات مثلا كما سيقع في الجزائر قريبا بقانون محروقات جديد لايختلف عن ما حاول القيام به بوتفليقة وشكيب خليل في 2005، كما يتم أيضا بإعطاء أسواق لهذه القوى، ومن ضمن هذه الأسواق هو تحويل المستفيدين من الريوع إلى إستيراد-إستيراد أو مانسميه بالكمبرادور، فيخدمون بذلك الإقتصاد الرأسمالي الغربي، فيبقى إقتصادنا إقتصاد تابع مرتبط بالمركز الرأسمالي، وللخروج من ذلك قلنا من قبل في عدة كتابات بضرورة تحويل الكمبرادور إلى الإقتصاد المنتج بإنشاء المصانع، مما سيحول الإقتصاد من إقتصاد ريعي تحول بدوره إلى كمبرادوري خادم للإقتصاد الرأسمالي الغربي ثم تحويله إلى إقتصاد منتج تخلق الثورة ومناصب العمل بواسطة قوانين تفرض على أصحاب المال الإستثمار في القطاعات المنتجة سواء صناعية او فلاحية أو غيرها(أنظر في ذلك مثلا مقالتنا "لاتقدم إلا بفك الإرتباط بالمركز الرأسمالي" في الحوار المتمدن عدد 5386 بتاريخ29/12/2016)، وبهذا الشكل ستقوم عندنا ثورة صناعية كما وقع في أوروبا، وهي ما من شأنها خلق بنية تحتية ستغير بدورها البنية الفوقية المتمثلة في شكل الدولة والذهنيات والثقافة، فتتغير ذهنية الشعب من ذهنية قبلية وطائفية إلى ذهنية ديمقراطية ومواطنية طبقا لقانون كارل ماركس القائل بأن البنية التحتية المتمثلة في قوى الإنتاج هي الكفيلة بتغيير البنية الفوقية المتمثلة في شكل الدول والذهنيات والثقافة وغيرها، وبتعبير آخر فإن القضاء على إقتصاد الريع المتحول إلى كمبرادور وتحويله إلى إقتصاد منتج هو المفتاح الرئيسي للقضاء على ذهنية الطائفية والقبلية وبناء مجتمع حديث وإنساني(أنظر مقالتنا "شروط الثورة الديمقراطية بين ماركس وبن خلدون" في الحوار المتمدن عدد5888 بتاريخ 30/05/2018).

البروفسور رابح لونيسي