الشيوعية ليست من خيارات الإنسان بل من قوانين الطبيعة


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 6367 - 2019 / 10 / 2 - 18:39
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

الشيوعية ليست من خيارات الإنسان بل من قوانين الطبيعة

يقر الجميع بأن المشاعية البدائية كانت من قوانين الطبيعة فرضت على الحيوان الإنسان في مقاومته لخطر الإنقراض . إنتقال المشاعية البدائية إلى النظام العبودي كان أيضاً من شروط الطبيعة ولم يكن خياراً إنسانياً . تهيأت الفرصة الطبيعية الضيقة جداً لخمسة أجناس من الحيوانات الشبيهة بالإنسان، كما يؤكد الأنثروبولوجيون، لتطور العقدة العصبية فيها لأن تقيم علاقة خاصة مع الأشياء المحيطة بها في الطبيعة وهو ما سمح لها باستخدام بعض تلك الأشياء البسيطة في إنتاج حياتها درءاً للإنقراض كما انقرضت الأجناس الأخرى المماثلة التي لم تُقِم عقدتها العصبية مثل تلك العلاقة ؛ وكان ذلك أول تغريب (Alienation) تتجشمه الحيوانات الشبيهة بالإنسان في رحلتها المصيرية نحو الأنسنة المتكاملة . خرج الحيوان الشبيه بالإنسان على ذاته ومد يده يتناول أشياء من الطبيعة تساعده على إنتاج حياته .

مع ظهور أولى أدوات الإنتاج الأولية البسيطة في المجتمعات البشرية كالرفش والمعول ترتب أن ينقسم المجتمع إلى طبقتين، طبقة تملك أدوات الإنتاج وهم السادة، وأخرى تعمل في الإنتاج بواسطة تلك الأدوات المحدودة وهم العبيد . تشكل المجتمع العبودي من خلال الزراعات المحدودة، كالبستنة (Horticulture) . وما إن استبدل الرفش والمعول في قلب الأرض بالمحراث الخشبي تجره الحيوانات وتضاعفت بذلك قوى الإنتاج باستخدام قوى الحيوانات في فلاحة الأرض حتى تلاشى المجتمع العبودي ليظهر بدلاً عنه المجتمع الإقطاعي والتوسع في الزراعة (Agriculture) ؛ وبدل السادة ظهر الإقطاعيون وبدل العبيد ظهر الأقنان . كان السبب الرئيسي في انهيار النظام الإقطاعي ليتشكل بدلاً عنه النظام الرأسمالي هو ظهور المحرك البخاري في بداية القرن الثامن عشر الذي ضاعف قوى الإنتاج عدة مرات ، وظهر الرأسماليون بدل الإقطاعيين والعمال بدل الأقنان .
وهكذا نجد أن فعالية الأدوات التي يستخدمها الإنسان في إنتاج حياته هي ما يتسبب في انتقال المجتمع من شكل إلى آخر ؛ تطور قوى الإنتاج بعناصرها الثلاث، الطاقة والأدوات والجهد البشري (Labour Power)، هو السبب المباشر في تشكيل المجتمع الشكل المناسب لهذه القوى ودرجة تطورها . تعاظم قوى الإنتاج الذي اقتضاه تطور النظام الرأسمالي سواء كان ذلك بالطاقة الحرارية أو الكهربائية أو الذرية، وتطور أدوات الإنتاج ومنها الأتمتة والروبوتات، وتوظيف معظم قوى العمل المتاحة وتطور مهاراتها، كل ذلك يستوجب بالطبع تشكيلة اجتماعية جديدة وهي التشكيلة الشيوعية التي خلص إليها ماركس ورفيقه إنجلز .
وثمة حادثة ذات دلالة في هذا السياق وهي أن إنجلز كان قد أخذ ماركس في عربة تجرها الخيول إلى وسط لندن ليفاجئه بواجهة أحد المحلات تعرض محركاً كهربائيا . تفرج ماركس مشدوهاً بفرح غامر وصاح يقول لإنجلز بعيون دامعة .. " ألم أقل لك بأن الشيوعية ستتحقق !؟" . كان ماركس قد استشرف الشيوعية من التطور المتلاحق لأدوات الإنتاج وليس من رغبة الإنسان في الحرية والعدالة الإجتماعية كما يسيء العامة الإعتقاد، ومنهم كثيرون من الشيوعيين أنفسهم، بأن الحياة الشيوعية كانت خياراً لماركس وقد رآها تستجيب لأقصى ما يطمح إليه الإنسان من حرية وعدالة اجتماعية .
في الحقيقة أن العمودين اللذين أسسا لعمارة الماركسية الشاهقة والمتعددة الشرفات، وهما المادية الديالكتيكية والإقتصاد السياسي، لا يقولان كلمة واحدة سواء عن الحرية أو عن العدالة الإجتماعية، بل إن مفردتي الحرية والعدالة الإجتماعية غائبتان تماما عن قاموس الشيوعية .

ما كان الشاب كارل ماركس ابن الثامنة عشرة لينتقل من كلية الحقوق في بون إلى كلية الفلسفة في برلين خلافاً لرغبة والده لو لم يكن منفتحاً على الحياة بعمقها الإنساني ويتمتع بخصيصتين نادرتين وهما العبقرية التي تتجاوز المألوف والأنسنة المكتملة فيه خلافاً للمألوف أيضاً والتي قد يبلغها الإنسان بعد قرن طويل في الحياة الشيوعية .
بفعل هاتين الخصيصتين النادرتين اللتين تميّز بهما كارل ماركس رأى أن توزيع الحقوق كما تعلّمه كلية الحقوق هو عمل لاإنساني بغض النظر عن المرجعية التي يحتكم إليها، حيث تخصيص الحقوق لجهة ما يعني بنفس الوقت حرمان جهة أخرى منها . لذلك انتقل ماركس ليدرس الفلسفة في برلين حيث العميد هيجل الذي طبقت شهرته الفلسفية الآفاق . في مدرسة هيجل استطاع ماركس أن يضع حداً لمختلف الفلسفات المعتمدة على الفكر المثالي (Contemplation/Speculation) ومنها فلسفة هيجل وينقل الفلسفة إلى دائرة العلوم حيث تعتمد على قوانين مادية حدّية صارمة لا تخضع للفكر البشري وتخرصاته . لقد اكتشف مثال العبقرية كارل ماركس القانون العام للحركة في الطبيعة (ديالكتيك الطبيعة) وهو الإكتشاف الأهم في كل تارخ البشرية، وقبر بذلك كل أركان الفلسفة المعروفة عبر التاريخ بما في ذلك ديالكتيك هيجل . في ديالكتيك الطبيعة كل الأشياء بما في ذلك المجرات الفضائية بحالها إنما هي تهيُّؤات مؤقتة لا تلبث أن تزول لتحل محلها تهيؤات أخرى .
رفْضُ ماركس المبدأي لتوزيع الحقوق وأية مبررات يُحتكم إليها، دفعه ذلك إلى البحث في توزيع الحقوق عبر نظام الإنتاج القائم وهو النظام الرأسمالي . في العام 1845 بدأ يبحث في نشوء الطبقات الحديثة، البورجوازية والبروليتاريا (German Ideology) وفي السنة التالية46 بحث في العمل المأجور (Labour and Wages) أي توزيع الحقوق كما يحكمه الصراع الطبقي في النظام الرأسمالي، وفي السنة التالية 47 كتب البيان الشيوعي بالإشتراك مع رفيق حياته فردريك إنجلز (Communist Manifesto) مستنكراً العمل المأجور وما يحكم من توزيع للحقوق، بل ويستنكر فكرة "الحق" كفكرة بورجوازية معادية لتطور الإنسان وحقه في الحياة وما كانت تلك الفكرة لتكون إلا لتبرر حقيقة قصور قوى الإنتاج عن تغطية الحاجات الحيوية للمجتمع ؛ وعليه فإن تكامل قوى الإنتاج حتى إنتاج كل ما يحتاجه المجتمع في حياته بكل تجلياتها من شأنه أن ينفي فكرة الحق نفياً قاطعاً ونهائياً حيث لا تعود لازمة من لوازم الحياة . وحتى مبكراً في دولة دكتاتورية البروليتاريا السوفياتية قبل الستينيات، قبل إلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا، لم يكن هناك أية حقوق حتى للبروليتاريا نفسها طالما أنها لم تكن تعمل بأجر ؛ ما كان يعود على العمال السوفيات قبل الستينيات ليس أجراً منسوباً لإنتاجهم، بل ما يكفل المعاش المقبول منسوباً لمستوى الدخل القومي .

لكن ماركس العبقري، وهو أبو المادية الديالكتيكية، لم يكن ليقبل لنفسه أن يكون مجرد مبشر بالشيوعية دون منطق يعتمد التحليل المادي . لذلك كرس نشاطه بعد البيان الشيوعي (1947) في التحليل المادي للوصول للشيوعية وهو ما اقتضاه الغوص في النظام الرأسمالي وتشريحه بمبضع الجراح الماهر حتى الكشف عن كل أعضائه وخلاياه ووظائفها وأن يقضي كل حياته دون أن يكمل التشريح .
ثمة ثلاث حقائق كبرى وجدها ماركس في تحليله العبقري للنظام الرأسمالي وهي ..
1 . النظام الرأسمالي نظام عالمي يسود كل العالم دون استثناء في وحدة عضوية متكاملة خلافاً لكل الأنظمة السابقة وهو ما يحكم أيضاً على أن يكون أي نظام إجتماعي يخلفه نظاماً عالمياً بحكم الوحدة العضوية .
2 . النظام الرأسمالي هو نظام الإغتناء اليومي، حيث القيمة التبادلية لمنتوجات قوى العمل هي دائما أكثر من القيمة التبادلية لقوى العمل نفسها والفرق بينهما سماه ماركس فائض القيمة (Surplus Value) . فائض القيمة المتحقق كل يوم عمل تجلى باغتناء يومي للمجتمع الرأسمالي .
3 . النظام الرأسمالي وبسبب إرتكازه على عمود واحد هو فائض القيمة فتح الآفاق واسعة لتعاظم قوى الإنتاج وخاصة العمل المأجور المتمثل بأعداد البروليتاريا . تطور النظام الرأسمالي تجلى بتزايد أعداد البروليتاريا بالملايين في المراكز الصناعية .

الخلاصة التي خلص إليها ماركس تقول أن التعاظم الهائل لقوى الإنتاج الذي اقتضته وسمحت به أحكام النظام الرأسمالي لن تقوى هذه الأحكام على احتوائه ؛ بل إن دأب الإنسانية على تعظيم قوى الإنتاج سيحطم بالتالي أحكام النظام الرأسمالي وعلاقات الإنتاج التي تحكمه وسينتهي الصراع الطبقي عبر التاريخ بانتصار البروليتاريا على الطبقة الرأسمالية، وبذلك تختفي المجتمعات الطبقية إلى الأبد . ولما لا تعود أية معوقات تعيق تعاظم قوى العمل الموظفة بكاملها في الإنتاج دون أدنى شروط لتكون قادرة على إنتاج ما يزيد على حاجات المجتمع، فتتلاشى إذّاك القيمة التبادلية لكل المنتوجات لتبقى قيمتها الإستعمالية فقط . وتلك هي الشيوعية .

خلاصة القول هنا هي أن ميكانزمات تطور المجتمعات البشرية تعمل بعيدة عن رغائب الإنسان . دأب الإنسان على تعظيم قوى الإنتاج هو الشرط الأولي لحياة الإنسان وهو الشرط الوحيد الذي يضمن عدم انقراض الجنس البشري فهو لذلك ليس خياراً للإنسان ؛ وعليه نطق ماركس حكمته الشهيرة .. "صحيح أن الإنسان يصنع التاريخ لكن ليس كما يرغب" .
الشيوعية ليست خياراً اختاره ماركس لتحقيق الحرية والعدالة كما يسيء الإعتقاد كثيرون، بل قانوناً تفرضه الطبيعة بعيداً عن رغبات الإنسان وأية قيم إنسانية رفيعة .

عاشت البشرية جمعاء آلاف السنين حياة يحكمها ويفصّلها قانون واحد وحيد هو قانون القيمة، قيمة العمل (Labour-power Value) فبات من الصعب عليها أن تتصور أن ثمة حياة إجتماعية مقبولة على الإنسان يمكن أن تتشكل بعيداً عن كل أثر لقانون القيمة .
بدأ قانون القيمة يتأسس مقرراً لعلاقات الإنتاج وتشكيل هيكل المجتمع حالما بدأ الإنسان ينتج حياته بواسطة أدوات إنتاج بدائية . قيمة المنتوج هي قيمة قوى العمل اللازمة لإنتاجه . ذلك هو قانون القيمة كما عرفه سائر علماء الإقتصاد . مع تطور أدوات الإنتاج وتشغيلها بالحرارة والكهرباء وتطور مهارة العامل من جهة ثالثة تضاءلت كمية العمل البشري اللازم لإنتاج نفس المنتوج . ما استشرفه ماركس مبكراً هو أن التطور السريع في إنتاج الطاقة الحرارية والكهربائية والتطور المتنامي في مكننة أدوات الإنتاج وازدياد فعاليتها وتطور القوى البشرية من حيث الكم والنوع جراء تطور النظام الرأسمالي، كل ذلك من شأنه أن يضيّق هامش قوى العمل في إنتاج المنتوج فلا يعود لها أثر كبير في قيمة المنتوج وهو ما يتسبب في هبوط معدل الربح فلا يعود بالتالي توظيف رأس المال في الإنتاج يستحق المغامرة . عندذاك وقد غدا الإنتاج أمراً غريزياً في الإنسان يعمل وحده على تحقيق الذات وليس على حفظ النوع فقط، عندئذٍ سيمارس الإنسان عملية الإنتاج متطوعاً وبإبداع غير معهود فلا يكون للمنتوج قيمة غير القيمة الاستعمالية . تلك هي الشيوعية حيث تنعدم كل القوانين وكل الحقوق وكل السلطات وتعيش الإنسانية دون احتساب، من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته .
نحن الشيوعيين تعلمنا في مدرسة ماركس وإنجلز ولينين وستالين أن نكرس حياتنا ليس من أجل تحرير عمال العالم فقط بل من أجل تحرير الإنسان من كل ما علق به من أقذار عبر تاريخه الطبقي الطويل لآلاف السنين .