التدين العراقي في منظور علي الوردي


سلمان رشيد محمد الهلالي
الحوار المتمدن - العدد: 6357 - 2019 / 9 / 21 - 18:24
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

(ان الكاهن لم يخلق الدين خلقا ولكن استخدمه لاغراضه فقط ,كما استخدم السياسي ماللانسان من دوافع فطرية وعادات) ديورانت
اولا : اصل الدين
يشكل الدين والتدين نسقا اجتماعيا ملاصقا لحياة الانسان منذ العصور البدائية الاولى وحتى الازمان الحديثة , ومن اجل ذلك عبر الفيلسوف الالماني فيورباخ عن هذا التلازم بالقول (ان الانسان حيوان متدين) , وهذا التلازم بين الانسان والدين يرجع في ارهاصاته الاولى الى حالة الخوف والعجز امام الطبيعة , فكلمة (الخوف) تحمل معنى الدين عند الرومان , فيما كانت كلمة الدين Religio تشير الى حالة الخوف والرهبة , واليوم الديني Religious (يوم القيامة او الدينونة) هو يوما مخيفا . واصل الدين هو الاعتقاد بوجود قوى خارقة للطبيعة غير مرئية تمتلك قدرات هائلة تتحكم فيها بالكون والمصير والقضاء والقدر والحياة والموت , قد يطلق على تلك القوى تسمية الاله او الله الذي بيده كل شيء في الحياة الدنيا , ثم تطور ذلك الوعي البدائي الى اختراع عالم اخر متخيل وحياة اخرى بعد الموت بظهور (الاله القاضي) الذي يجمع الناس في مشهد عام يسمى يوم الدينونة او القيامة ويحكم بين الناس ويعاقب الملحدين به والمسيئين والعصاة بالذهاب الى مكان مظلم وموحش فيه نيران مستعرة يسمى (الجحيم) . فيما يثيب الصالحين مع الناس والمعترفين بوجوده والاشخاص المقربين منه كالانبياء والاولياء بالذهاب الى مكان مريح فيه انهار واشجار وماكولات - وربما حتى نساء (كما في حالة الاسلام) - يسمى (الجنة) .
ولانريد الدخول بتفاصيل الدين واصوله وتطوره وانماطه عبر التاريخ , وانما سنذكر اهم الاراء عن مفهوم الدين واصله ونشاته عند الفلاسفة والمفكرين الكبار واهمهم :
1 . هيغل : اعتبر الفيلسوف الالماني هيغل الدين حالة ضرورية للروح في ملازمة العقل ضمن تطورهما الجدلي , ويعني هذا أن وجوده ليس بالصدفة , وإنما هو عمل ضروري من أعمال العقل ، وأن أشياء كثيرة في الديانات لا تؤخذ بمعانيها الحرفية فقط , لكن تؤخذ بمعناها الداخلي ومضمونها الفكري , أي أن هناك مساحه فاصلة بين الإنسان وبين الخالق , وما أسماه هيغل بالعقل الكلي الذي هو الله ,وبين العقل الجزئي الذي هو الإنسان . واعتبر هيغل الدين نوعا من الشقاء والاستلاب او الاغتراب Alienation في حالة الحصول على الافتراق بين المتناهي (الانسان) واللامتناهي (الله) , وضرب لنا مثلا على ذلك بالديانة اليهودية (وطبعا كلامه يشمل الاسلام) التي اسست (التمركز حول الله) , والفصل بين الدين والحياة , لانها ديانات تقوم على العبودية , واصفا لنا الرجل اليهودي بانه رجل غريب منعزل لايعرف له وطنا , فهو يشعر بالحاجة الى اله يحميه ويقف الى جواره , واعطى نموذجا على ذلك حياة النبي ابراهام (ابراهيم) (ايقونة الديانات التوحيدية الثلاث) , حيث يقول : ان الوحدة القاسية التي كان يعانيها قد دفعته الى تسليم حياته تماما لله ,لانه وجد في الحضرة الالهية حصنا منيعا يحتمي منه ضد العالم الخارجي . واكد هيغل ايضا ان صلة الرجل اليهودي بالله لم تكن في يوم من الايام صلة ايجابية تقوم على المشاركة والمحبة , بل مجرد صلة سلبية تقوم على العبودية والرهبة . ولم تكن العلاقة بين بين الله والانسان علاقة ذات بذات بل علاقة موضوع بموضوع , لانها في الاخير ليست سوى ديانة شرقية تقوم على مقولة العبد والسيد .
اكد هيغل ان الدين يقوم على ثلاث اقسام رئيسية هى : الله والسلوك الديني والعبادة . كما ميز بين نوعين من الدين : الدين الموضوعي وهو اللاهوت باعتباره نسقا من الحقائق . والدين الذاتي وهو الجانب الحي الذي اصبح حياة دينية . واذا كان اللاهوت مجرد (حرف ميت) فان الدين الذاتي هو مايستحق فقط ان نطلق عليه اسم (الدين) , لانه يتعلق بالقلب ويتصل بالعواطف والمشاعر , ويتحول الى افعال واعمال , لان الدين مقره القلب . وتحول الدين الى لاهوت جامد يعني تحول بصر الانسان من الارض الى السماء , حيث عالم (الماوراء) بحيث يصبح عاملا من عوامل اغتراب الانسان وشقائه . لذا يجب أن لايقتصر الدين على العقائد الجامدة ولا يجوز تعلمه من الكتب ولا يجب أن يكون لاهوتياً , بل يجب أن يكون قوة حية تزدهر فى الحياة الواقعية للشعب , اي فى عاداته وتقاليده وأعماله وإحتفالاته . ويجب ألا يكون الدين أخروياً ( متعلقاً بالآخرة بل دنيوياً إنسانياً , وعليه أن يمجد الفرح والحياة والحياة الأرضية , لا الألم والعذاب وجحيم الحياة الأخرى ) .
2 . فيورباخ : ذكر الفيلسوف الالماني فيورباخ اراء كثيرة عن الدين واصوله النفسية والاجتماعية والفلسفية لايمكن ادراجها كلها في هذه الدراسة المختصرة , ولكن يمكن ذكر اهم نقطتين فيها حول اصل الدين وهى :
أ . ارتباط الدين بالخوف من الموت , او مااطلق عليه فيورباخ (شعور الانسان بالتناهي والمحدودية) , واحساسه بانه سوف ينتهي يوما من الايام , واذا عاش الانسان للابد ولم يمت , فربما لن يكن هناك دين او وجود لفكرة الله . ومن هنا اكد فيورباخ (ان المقبرة التي تمثل نهاية الفرد تمثل موضع ميلاد الالهة) , او كما ذكر ديورانت (ان الخوف – كما قال لوكريشس – اول امهات الالهة وخصوصا الخوف من الموت) .
ب . الشعور بالتبعية والاعتماد والافتقار والمحدودية امام الطبيعة هو الاساس النفسي للدين . وذكر فيورباخ هذا الراي تفصيلا بالقول (حينما نتعمق في ديانات الانسان البدائي وكذلك ديانات الانسان المتحضر وننظر في حياتهم الداخلية فاننا لانجد تفسيرا مناسبا من الناحية السايكولوجية للدين سوى الشعور بالاعتماد والتبعية) .
3 . ماركس : اكد الفيلسوف الالماني كارل ماركس إلى أن العامل الاقتصادي المادي هو الذي يحدد سيرورة التاريخ وأحداثه ، لأن المادة هي المقوِّم لكل شيء ، وكل ظواهر المجتمع وأحواله ، كالدين والسياسة والفن والأخلاق , وما يحدد ظهور فلسفات ونظريات علمية معينة في زمان ومكان معينين هو ذلك العامل المادي والظروف المواتية له ، من قبيل نظام تقسيم العمل وأشكال الإنتاج في المجتمع وأنماطه، ومن ثمَّ تصبح الحياة المادية أساس الوعي والشعور الإنسانيين . وعلى هذا الاساس فالدين عند ماركس في واقع الأمر لا يعني المقدس والمطلق والأمور الروحية وكل ما يزعمه الدين حول نفسه ، وما يقوله عن غايات ممارساته ، بل الدين في حقيقة الأمر غطاء للأحوال غير الإنسانية التي تشوب منظومة العمل والإنتاج داخل المجتمعات ، هو غطاء للرأسمالية، ومهمته جعل بؤس الحياة أكثر احتمالًا، لذا تذيع مقولته الشهيرة عن الدين بوصفه «أفيون الشعب». وقد صاغ ماركس هذا الراي بالقول : إن الإنسان يصنع الدين، وليس الدين هو الذي يصنع الإنسان. وإن الدين هو بالفعل الوعي الذاتي والاعتبار الذاتي للإنسان الذي إما أنه لم ينجح بعد في شق طريقه إلى نفسه أو أضاع الطريق ثانية . بيد أن الإنسان ليس كائنا مجردا يقبع خارج العالم . الإنسان هو عالم الإنسان (الدولة والمجتمع). الدولة والمجتمع ينتجان الدين، الذي هو وعي مقلوب للعالم، لأنهما هما عالمان مقلوبان . الدين هو النظرية العامة لهذا العالم... ملجأه الأخلاقي، كمالته الرصينة والقاعدة الشاملة للمواساة والتسويغ فيه. إنه التحقيق الخيالي للجوهر الإنساني .... لذلك فالصراع ضد الدين هو بصورة غير مباشرة صراع ضد ذاك العالم الذي يمثل الدين عبيره الروحي . إن المعاناة الدينية هي تعبير عن المعاناة الواقعية واحتجاج على المعاناة الواقعية . الدين تنهيدة الكائن المضطهد ، قلب عالم لا قلب له ، وروح شروط بلا روح . إنه أفيون الشعب.
4 . فرويد : اكد عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد ان الدّين نشا منذ البداية، كدفاع ضد قوى الطبيعة الشريرة ، وتحويل لاواع للمخاوف الإنسانية من الطبيعة وقواها اثناء مرحلة الطفولة البشرية ، بحيث أمكن للإنسان أن يتعامل معها، مثلما يتعالم مع الآخر الإنساني . فالأفكار الدّينية تنبع من نفس الحاجة التي تنبع منها سائر فتوحات الحضارة ومنجزاتها : ضرورة الدفاع عن النفس ضد تفوق الطبيعة. ويرجع فرويد الأفكار الدينية إلى الأوهام : إن المذاهب الدينية جميعها أوهام لا سبيل إلى إقامة برهان عليها، ولا يمكن أن يزعم أي إنسان على أن يعدها صحيحة وعلى أن يؤمن بها. والسبب في ذلك يعود إلى أن الدين هو هذيان مرضي جماعي او عصاب قهري حكمته عودة المكتوب ، يحمل كل خصائص الأعصبة المرضية، وان علاقة العصاب بالدين علاقة تلازم وتشارط فلاوجود لاحدهما دون الاخر (العصاب دين فرد والدين عصاب جماعي) . واما اصل الدين فقد ارجعه فرويد الى الاحلام والاعتقاد بوجود الارواح , لان الاعتقاد بوجود الارواح جاء من خلال الاحلام ورؤية الاموات بعد دفنهم في المنام . وبما ان الانسان يعتبر الحلم انعكاس لواقع حقيقي وليس افراز اللاشعور وانبعاث المكبوت , فانه اعقد ان هناك روح تبقى حية محلقة في الارجاء تتجول في مكان ما , تبقى فيه بعد ان يدفن الجسد تحت التراب , وهذا المكان تطور في الديانات اللاحقة الى قسمين (الجنة والجحيم) . وربما اعتقد ان تلك الارواح بامكانها القدوم لهذا العالم ليلا فاسماها الاشباح . وهذا النمط الاجتماعي الذي شكل اساس الدين مازال عندنا سائدا الى الوقت الحاضر , لان (انسان عصور ماقبل التاريخ لازال يعيش داخل لاشعورنا دون اي تغيير) كما يقول فرويد .
وقد استلهم اراء فرويد حول العصاب الجماعي للدين الكثير من الكتاب ابرزهم لمفكر البريطاني ريتشارد داوكنس بقوله (اننا اذا واجهنا انسانا مصابا بالهلوسة نعتنا حالته بالمرض العقلي , بينما لو واجهنا مجموعة من الناس مصابة بالهلوسة نعتنا تلك الظاهرة بالدين) . فيما ربط الشاعر الالماني غوته بين الجهل والدين بالقول (ان من يمتلك العلم والادب لايحتاج الى الدين , ومن لايمتلك العلم والادب فهو يحتاج الى الدين) . وقال احد علماء الغرب (لكي تقنع شخصا جيدا ان يفعل شرا .. تحتاج الى دين) .
وبعد هذه المقدمة الضرورية عن الدين واصوله يجب ان نذكر بان هناك فرقا بين الدين والتدين , وقليلون من العراقيون يعرفون هذا الفرق بين الاصطلاحين . فالدين هو مجموعة من الافكار والمعتقدات والتعاليم والنصوص المقدسة , فيما ان التدين هو فهم الانسان او المجتمع لذلك الدين , اي ان الدين هو النص الثابت والتدين هو تطبيق الانسان لهذا النص تطبيقا عمليا من خلال الية الفهم والتاويل . وفي الديانات التوحيدية او الحالة الاسلامية فان الدين هو وضع الهي اي نصوص وتعاليم وتصورات وقواعد وتشريعات جاء بها الوحي من كتاب او سنة (اراء النبي) , والتدين وضع بشري والتزام انساني وتطبيق عملي لها . ويبدو ان العامة من الناس قد فطنوا لهذا الفرق فقالوا ان هناك تدين حقيقي وصادق وهناك تدين مغشوش وكاذب . والتدين لايقصد به التدين الشعبي فحسب , وانما يدخل به حتى تدين النخبة والصفوة من رجال الدين والمجتهدين , لانهم فهموا الدين والنصوص والايات القرانية والاحاديث من خلال الية التاويل والفهم الشخصي لها , وبالتالي فهم يعبرون عن التدين الخاص بهم ولكن بصورة اكثر عقلانية واعتدالا وموضوعية من التدين الشعبي المنغمس بالطقوس والقشور والمظاهر والسطحيات .
ثانيا : الدين والتدين عند العراقيين
شكل الدين والتدين في حياة العراقيون نسقا راسخا من المعتقدات والطقوس والتصورات حتى يمكن القول انه روح المجتمع Community Spirit . ولعب دورا محوريا فيه اكثر من اي مجتمع اخر (لان الانسان في هذا المكان كان يشعر على الدوام بانه يعتمد كليا في استمراره بالوجود على ارادة الالهة) - كما قال جورج رو في كتابه العراق القديم - ويمكن استعراض عشرات الادلة على قوة النسق الديني وهيمنته في العراق من خلال معطيات عدة اهمها كثرة الالهة وتعددها وارتباطها بمختلف الظواهر الطبيعية والكونية والالتزام بالطقوس الدينية والقرابين والنذور والتطهير والصلاة والدعاء والاحتفالات الدينية والترانيم وتفسير الاحلام والتنجيم والتعاويذ والسحر وبناء المعابد والزواج المقدس والسلطة السياسية الكبيرة للمؤسسة الدينية . والنسق الديني في العراق القديم والمعاصر تميز بالارتباك والتناقض والطقوسية والعلاقة الموتورة مع الله , لانه انعكاس للبيئة المعادية والطبيعة القاسية وماتظهره من فيضانات واوبئة وامراض وحرارة وملوحة التربة اولا والاشكال السياسي المازوم ومايعكسه من استبداد واستغلال وظلم وفتن وحروب ثانيا , فكانت الشكوى للالهة والخوف منها والدعاء لها اهم السمات العامة للنسق الديني للمجتمع العراقي .
ان هذه المظاهر الدينية المتعددة والسلوكيات الطقوسية المتنوعة من جانب و العلاقة المازومة مع الله من جانب اخر جعلت الباحثين والمؤرخين في حيرة من امرهم حول هذا التناقض عند العراقيين وطبيعة العلاقة الموتورة مع الدين ,وبالتالي يطرحون هذا السؤال الخالد : هل العراقيون متدينون ؟ وهل للدين انعكاس حقيقي على سلوكهم واخلاقهم ؟ في الواقع ان الجواب على هذا السؤال من قبل الباحثون اخذ منحى احادي , فالبعض قال ان العراقي متدين بطبيعته وسايكولوجيته , واعتمدوا في هذا الجواب على تلك المظاهر الطقوسية التي ذكرناها سابقا , واهمهم الكاتب شاكر سعيد الذي اكد (ان مشكلة العراقيين هى انهم شديدوا التدين وهى عادة سلوكية وظاهرة اجتماعية ورثوها من اسلافهم السومريين الذين كان الدين يشكل محور حياتهم الاجتماعية والسياسية , بل والاقتصادية ,لذا فانهم سرعان مانجروا لحكم الله وهى كلمة الحق التي اراد بها معاوية تزييف عقولهم) . فيما كان جواب الاخرين على النقيض من ذلك , حيث اعتبروا مظاهر التجديف والتناقض والمراوغة والشك والتدليس في الدين دليلا ثابتا على عدم تدين العراقيين وعلمانيتهم الجامحة , وابرزهم في ذلك الدكتور علي الوردي الذي اكد (ان نزعة التدين في شباب العراق الحديث ضعيفة ,وهذه ظاهرة اجتماعية لاحظها كثير من ابناء الاقطار المجاورة عند زيارتهم العراق ) .وذكر ايضا (ضعفت نزعة التدين في اهل العراق وبقيت فيهم الطائفية جيث صاروا لادينيين وطائفيين في ان واحد) . فيما وصف الانسان العراقي الدكتور فالح عبد الجبار بان (علمانيته جامحة) . واما الكاتب سامي زبيدة فقد اكد بان (العراقي اقل ورعا من مصر او حتى من تركيا العلمانية) . لكنني اعتقد ان القضية اعمق من تلك النظرة الاحادية والجزمية الثنائية , لان تلك الاشكالية يجب ان تخضع للجدل والعلاقة الديالكتيكية بين الله والطبيعة من جانب والشخصية العراقية من جانب اخر .
لقد وقع المجتمع العراقي تحت تاثير نظامين من التدين او من حيث العلاقة مع الله ، كلاهما يهدف الى (التطهير) او (الخلاص) من الواقع المزري او السيء الذي يعيشه ، على اعتبار ان الدين او الله يشكل قوة متعالية في يده مقدرات الكون والتغيير ، وهو ما نجده في كثرة الالهة والمعابد والطقوس والشعائر والقصائد الدينية في العهود الرافدينية الاولى ، وانتهاء بالعصور الاسلامية المتأخرة ، والايمان (بان ليس بمقدور الانسان ان يكسب خبزه بلااله شخصي) حتى نستطيع ان نطلق على المجتمع العراقي عبارة ميشيل فوكو الشهيرة (الدين عقل لمجتمع بلاعقل) , و هذا ما يحيلنا الى النتيجة النهائية (العراقي انسان متدين) . الا انه – ومن جانب اخر – نجد ان التدين او الله لا يقدم حلولا واقعية لمعاناة العراقيين الحياتية او مشاكلهم اليومية والموسمية على حد سواء ، والمصاعب التي يواجهونها من البيئة المعادية والطبيعة العمياء القاسية من جهة ، والتداعيات السياسية كالفتن والاستبداد والظلم من جهة اخرى ، ليس بسبب ان الله قد وضع قوانين عامة واساسية للكون ، وتركه يسير وفق نظام محدد على ضوء تلك القوانين دون ان يتدخل بها على قاعدة (لو ان المجوسي عبد النار الف عام ووقع فيها ... لاحرقته) وانما بسبب عدم اهتمام الالهة او الله بالانسان ومعاناته وتطلعاته ، على ضوء قاعدة ارسطو الشهيرة (الكامل لا يهتم بالناقص) اي ان الله الكامل في الصفات والسمو لا يمكنه الاهتمام او الاعتبار للناقص او العاجز ، وهو بطبيعة الحال (الانسان) ، فحصلت من جراء ذلك قطيعة وجدانية واغتراب حاد بين الانسان والله ، تبلورت في مظاهر عديدة اهمها ، الابتعاد عن الدين الحقيقي ، والاطناب في الطقوس الدينية كممارسة اولى ، ثم القيام بالسياقات العقلية والعملية في الامور الحياتية كممارسة ثانية ، تجلت في احدى القصائد الشهيرة (عندما تختط للمستقبل يكون الهك الهك ... واذا لم تختط للمستقبل ليس الهك الهك) ، حتى قيل من جراء ذلك (ان العراقي غير متدين) . بمعنى ان العراقي بحاجة الى الله او الدين لمواجهة اعباء الحياة وصعوباتها المتعددة كمعطى وجداني يدعو للطمأنينة، ومن جانب نجد ان الدين لا يقدم حلولا حقيقية محددة على ارض الواقع – كما ذكرنا سابقا - نتج عن تلك العلاقة سلوكيات متناقضة من التوتر والتجديف والاغتراب ، تمثلت بالابتعاد عن الدين الحقيقي ، والمتمثل بالصدق والايثار والعدل والنزاهة والاخلاص والامانة والاخلاق الحسنة ، والاطناب بدلا عن ذلك في الطقوس والشعائر كالصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس والتماهي مع الممارسات الطقوسية في عاشوراء كالطبخ والمسير لزيارة العتبات المقدسة والمواكب وبناء الحسينيات ورفع الرايات الملونة وغيرها من الاعمال التي يقصد من ورائها التعويض الاجتماعي والتطهير النفسي عن تركه واقصائه لمظاهر وسلوكيات الدين الحقيقي اولا ، وطلب الوجاهة الاجتماعية والسمعة الحسنة عند الناس ثانيا والابقاء على حلقة الوصل الوحيدة – التي يعتقدها - مع الله ثالثا ، فالمجتمع العراقي هو تاريخيا وحضاريا مجتمع المدينة و (المدينة مسرح الشيطان) – كما يقول توينبي - وهي لا تتلائم مع قواعد الدين الحقيقي التي ذكرناها سابقا كالصدق والامانة والنزاهة وغيرها ، وانما تنسجم مع قواعد الطقوس والشعائر الدينية فقط التي ليس لها التزام اخلاقي ووجداني محدد ، ولاتقيد الفرد العراقي في الارتقاء والتطلع والكسب غير المشروع . وقد وصلت تلك الممارسات الطقوسية الظاهرية على مدى التاريخ العراقي الى مديات اصبحت فيها رمزا للدين – او هي الدين الحقيقي - حتى قيل (ان الدين عند البابليين يعنى بالمراسم الصحيحة اكثر مما يعنى بالحياة الصالحة) ، ولا حاجة الى القول ان هذه القاعدة التي ذكرها (ديوارينت) قد انتقلت من الديانات السومرية والبابلية والارامية القديمة الى الدين الاسلامي بشقيه الشيعي والسني ، اللذين لا يبغيان من الفرد العراقي سوى الولاء للمذهب والسلطة اولا ، وممارسة الطقوس والشعائر (المراسم الصحيحة) ثانيا دون الاهتمام بالحياة الاخلاقية الصحيحة او مراعاة السياقات السلوكية الصادقة .
ثالثا : مظاهر التدين عند العراقيين
لم ينشر الدكتور الوردي كتابا مستقلا عن الدين او التدين في العراق , وانما كتب اراء قيمة عديدة توزعت كشذرات متفرقة على اغلب مؤلفاته وكتبه , او ضمن سياقات عامة حول افكاره الاجتماعية , وتطرق كثيرا لهذا الموضوع في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) حول مسارات العلاقة بين المجمع والدين وكيفية فهم الناس له . وقد اكد الوردي (يميل الكثيرون من الفلاسفة والعلماء الى القول ان النفس البشرية تحتاج الى التدين كمثل مايحتاج البدن الى الغذاء . وان التدين يشبه ان يكون غذاء نفسيا للانسان , فالانسان مهدد بالاخطار والمشاكل دائما وهو يخشى الموت , فهو اذن بحاجة الى عقيدة وطقوس دينية تساعده على مواجهة تلك الامور المرعبة . ان الانسان يختلف في هذا عن الحيوان , فالحيوان يعيش لحظته الحاضرة ولايدرك ماذا يخبىء له القدر من كوارث , اما الانسان فهو يمتلك القدرة على التفكير والاستنتاج , فاذا راى غيره يصاب بكارثة , تخيل ان الكارثة ستحل به عاجلا او اجلا . واذا وجد الناس قبله قد ماتوا كلهم او هم على وشك الموت , ادرك بان الموت لابد ان يصيبه ايضا , ولهذا فهو يحتاج الى وسيلة للامل والتفاؤل يتمكن من مواجهة الموت والكارثة) .
ان دراستنا هذه ستقتصر على التدين العراقي في منظر الدكتور علي الوردي وليس عن الدين وتمظهراته العامة , سيما وان استاذ الفلسفة في الجامعة المستنصرية الدكتور علي المرهج قد نشر سابقا مقالا عن (الموقف من الدين في فكر علي الوردي) .
يمكن حصر مظاهر التدين العراقي في منظور الدكتور علي الوردي من خلال النقاط الاتية :
1 . كثرة الشفعاء وانتشار القبب : وهو من اهم تجليات التدين العراقي , وقد يكون ركيزته الاساس , فالعراقي يعتمد على شفاعة الانبياء والائمه والاولياء والسادة بصورة كبيرة في مسارات حياته الدنيوية والاخروية . وهذا النسق الديني هو انعكاس للنظام الاجتماعي الذي يعيشه , فهو لايتصور ان طلباته وحاجاته الحياتيه (المالية والتجارية والزراعية والصحية والتعليمية والامنية) يمكن ان تنجح وتسير دون الواسطة , وبالتالي فان هذا النسق - نسق الشفاعة - لابد ان يكون نفسه في افكاره الدينية , اي انه قريب لمفهوم الواسطة الدنيوي وانعكاس مباشر له . وطريق الشفاعة عند العراقيين هو مراقد الائمة ومقامات الاولياء والسادة المنتشرة على جميع نواحي البلاد , والتي لها وظيفة اجتماعية ودينية مهمة . وهذا يعني ان الوردي قصد بالشفاعة عند العراقيين ليس المعنى القراني الذي يختص بالشفاعة في الاخرة والتي ادرجتها ايات قرانية كثيرة , وانما التشفع الدنيوي الذي هو اقرب لمفهوم الواسطة الدنيوي , مع الاختلاف ان الاول هو يقصد المعطى الغيبي والشخصيات غير المرئية , والثاني يقصد المتنفذين من الوجهاء والسياسيين . وقد ادرج الوردي رؤيته عن الشفاعة الدنيوية بالقول (وهذه ظاهرة اجتماعية نلاحظها في كثرة المراقد المقدسة التي يقصدها الناس ويتوسلون بها ويبثون شكواهم فيها , ومن النادر ان نجد ناحية من البلاد المتحضرة ليس فيها مثل هذه المراقد على وجه من الوجوه , لانه يصعب عليهم ان يطلبوا حاجاتهم من الله مباشرة , فالله في نظرهم كالسلطان العظيم جالس على عرش عال جدا في السماء , وهم يريدون شفيعا يتوسطهم عند الله , لانهم اعتادوا في حياتهم السياسية ان يوسطوا الشفعاء في حاجاتهم عند السلطان , وهم يحسبون الله مثله لايقضي حاجة الا بتاثير الشفعاء والوسطاء .... فهم ينظرون الى الله كما ينظرون لحاكمهم السياسي اذ يحاولون ان يتملقوا ويتزلفوا اليه او يمدحوه او يبرطلوه , ولهذا السبب نجدهم يهتمون كل الاهتمام بالشعائر والطقوس بدلا من الاهتمام بصفاء القلب وسلامة العمل وخلوص النية) . وقد اكد الوردي ايضا (ان المراقد المقدسة قد ساعدت كثيرا في شفاء الامراض وتطمين النفوس من خلال الايحاء النفسي الذي يتاثرون به في داخل المراقد التي تبعث فيهم الثقة والامل ..... وان الحاجة الى القبب او القبور المقدسة لايقتصر وجودها على الريف العراقي وحده , بل هى موجودة في جميع ارياف العالم التي تشبه الريف العراقي في ظروفه الاجتماعية , وكثير ماتوجد في المدن ايضا عندما تتشابه ظروفها مع ظرف الريف) .
2 . تاثير الاحلام : اعتبر الدكتور الوردي للاحلام دورا كبيرا في صناعة نمطا محددا من التدين الشعبي العراقي , وهذا النمط عبارة عن خليط من الكرامات والاساطير والتهويلات والمبالغات الشعبية . ولاهمية هذا الموضوع نشر كتابا خاصا حمل عنوان (الاحلام بين العلم والعقيدة) اكد فيه ان المسلمين هم اكثر من غيرهم تمسكا باوهام الاحلام , حتى انهم ادخلوا بعض الاحلام في في صلب الشريعة . وذكر الوردي ايضا ان الايمان بصحة الاحلام عادة قديمة ورثها الناس من الشعوب البدائية , لان الانسان البدائي لايرى فرقا كبيرا بين مايراه في المنام او مايراه في اليقظة . فالاحلام في نظره تنشا من جراء خروج الروح من البدن عند النوم , وهى عند ذلك تتجول في الافاق . بل ان عالم الاجتماع (تيلر) يقول ان اصل فكرة الروح نشات عند الانسان البدائي من الاحلام عندما راى الانسان نفسه عند النوم . وقد استعرض الوردي راي عالم الاجتماع المعروف (سبنسر) الذي اكد ان البدائيين لايفرقون بين الموت والنوم, ففي كلاهما تخرج الروح من الجسد ,ولكن الفرق انها ترجع للجسد بعد النوم اثناء الاستيقاظ , بينما تتركه نهائيا بعد الموت , وهذه العقيدة هى التي ادت الى نشوء الاديان المختلفة ,لان الانسان عندما يموت اسرع اقربائه الى القيام بالطقوس وتقديم القرابين الى روحه بغية التضرع له والتماس العون منه , ومن هنا نشات عبادة الاسلاف التي هى اول العبادات عند البشر . وقد ذكر الوردي تمظهرات الاعتقاد بالاحلام واهميتها عند العامة في النقاط الاتية :
- الاعتقاد بان الاحلام تكشف الغيب ومايخفيه المستقبل للانسان او حتى للمجتمع .
- الاعتقاد ان الاحلام تكشف المراقد المجهولة للسادة والائمه في العراق ومن ثم بنائها واستغلالها ماديا ومعنويا .
- الاعتقاد بان رؤية النبي واهل البيت والائمه يحمل دلالة حقيقية ومصداقية مؤكدة من الاحداث والتنبؤات التي يطرحها .
- للاحلام دور في تعزيز العقائد الدينية والطقوس الحسينية (كما في حالة الخطيب المعروف عبد الحميد المهاجر) .
- الاعتقاد ان الاحلام هى رسائل من الالهة او من الله او النبي والائمه والاولياء للناس .
فيما ان اصل الاحلام وحقيقتها النفسية ماذكره واكتشفه عالم النفس المعروف سيجموند فرويد . فقد اكد بان الانسان له عقلين : العقل الواعي او الشعور وهو الجانب العاقل من الشخصية ويضم كل الاحساسات والتجارب التي نكون بها واعين باي لحظة . والعقل الباطن اللاواعي او اللاشعور وهو الجزء اللامرئي من الشخصية والذي يحتوي الغرائز والرغبات والاماني المكبوته عبر مراحل حياة الانسان . وان الاحلام تنبع من اللاشعور من اجل اشباع الرغبات التي لم يستطع الانسان اشباعها اثناء اليقظة , فتظهرعند المنام بعد انزواء العقل الواعي . اي ان الاحلام وسيلة لتحقيق رغبة لاشعورية . وهذا هو التفسير العلمي الوحيد حتى الان لماهية الاحلام عند الانسان واسباب حدوثها , واما الباقي من التفسيرات فلايعدو ان يكون تاويلات دينية او شخصية غير علمية لااصل لها .
3 . الشعائر الدينية والطقوس الحسينية : تعد الشعائر والطقوس من اهم جوانب الدين الاصلي وتمظهراته السلوكية حتى قيل (لادين بلاطقوس) . ولانريد الدخول بماهية الطقوس ووظيفتها الاجتماعية والسياسية وتمظهراتها السلوكية , لان ذلك يخرجنا عن اصل الموضوع الذي نحن بصدده وهو رؤية الدكتور الوردي للشعائر الدينية والطقوس الحسينية عند العراقيين , فقد اكد الوردي بان الدين (يبدا في اول امره وظهوره بشعائر بسيطة , ثم تتكاثر وتتراكم مع مرور الايام نتيجة لانعكاس ظروفهم النفسية والاجتماعية . واذا جاءهم مصلح يريد اعادة اعادتهم الى البساطة والاعتدال في تلك الشعائر رفضوا ذلك وشتموه وكفروه) . وهو اشارة ظاهرة لدعوة السيد محسن الامين العاملي لاصلاح الطقوس الحسينية وتحريم التطبير والضرب بالسلاسل في عقد الثلاثينات من القرن العشرين , والتي تعرض بسببها الامين الى التكفير والتهديد من العامة من جانب وبعض الخطباء من جانب اخر .
وذكر الوردي ظاهرة المواكب في عاشوراء بالقول (اعتاد الشيعة في العشرة الاولى من شهر محرم ان يخرجوا بالمواكب العظيمة احياء لذكر مقتل الحسين . وهذه المواكب تسير في الطرقات , وفيها الاعلام والطبول والبوقات , وتقرا فيها القصائد العامية الحزينة وتلطم فيها الصدور , او تضرب الظهور بالسلاسل . وفي يوم العاشر تخرج مواكب التطبير , حيث يلبس اصحابها الاكفان وتسيل الدماء من رؤوسهم ثم يجري بعدئذ تمثيل الواقعة التي قتل فيها الحسين في كربلاء) .
وقد عزى الدكتور الوردي في مذكراته التي نشرها في مجلة (التضامن) اللندنية عام 1991 انغماس الشيعة بالطقوس الحسينية واقامة المواكب والتشابيه وغيرها الى خمسة عوامل وهى :
- التنويم الاجتماعي : اذ ينشا الانسان منذ الطفولة وهو يعتقد ان المعتقدات الدينية والعادات والتقاليد الاجتماعية التي ينشا عليها هى افضل المعتقدات والتقاليد . والانسان الشيعي ينشا على هذا المسار بالنسبة للنظرة الى الطقوس الحسينية , اذ يعتقد انها افضل الطقوس واحسنها .(وبالطبع ان الدكتور الوردي اخطا في ادراج هذا الراي , لانه في الاصل ليس من العوامل التي تؤدي الى قيام وانتشار الطقوس الحسينية , وانما هو تفسير اجتماعي وثقافي للطقوس الدينية بصورة عامة والحسينية خاصة) .
- عامل الوجاهة : واعتبر هذا العامل الاثر الكبير في تنمية الطقوس الحسينية وتزايدها وتصاعد وتيرتها , لان الوجيه في المجتمع يشعر بان من مستلزمات وجاهته اليوم ان يقيم مجلس تعزية في داره , او تاسيس حسينية او موكب او يقوم بعملية الطبخ في عاشوراء .
- عامل التنفيس : اذ ان كثيرا من المشاركين بالمواكب الحسينية هم من الذين اطلق عليهم الوردي لقب (محروم جاه) . فهو في الايام الاعتيادية يشعر بمكانته الاجتماعية الواطئة , لذا نجده ينتظر ايام المواكب لكي يحاول رفع مكانته , وتراه يمشي في مقدمة الموكب لتنظيم سيره او ينوح فيه او يدق الطبول .
- عامل الشفاعة : اذ ان المشاركين في المواكب ومجالس التعزية يعتقدون ان فاطمة الزهراء تنظر اليهم وتحمد مواساتهم في عزاء ولدها الحسين , وهى لابد ان تشفع لهم غدا يوم القيامة . وقد حضر كاتب هذا السطور احدى المجالس الحسينية في نهاية التسعينات من القرن الماضي , وقال احدهم مبشرا الحضور وبصوت عال , انه راى البارحة في الرؤيا ان فاطمة الزهراء وهى جالسة في هذا الديوان , فضجت القاعة بالصلاة على محمد وال محمد , علما ان اصحاب الديوان قد جمعوا اموالهم بالربا والمعاملات الاحتكارية , وقد فرحوا بهذه الرؤيا - ان صحت طبعا - فرحا كبيرا . واعتقد ان هذا العامل مرتبط بعامل التطهير في الاسلام , وهو يعني غفران الذنوب وتطهير النفوس من الاثام من خلال طقوس وسلوكيات معينة , كما في الحج والزكاة والصلاة وغيرها . واما عند الشيعة فان نزعة التطهير تكون امضى في المجالس الحسينية واكثر انتشارا ومقبولية .
- عامل النذر : وهذا العامل يشبه عامل الشفاعة في فحواه النفسي والاجتماعي , فالناس اعتادوا ان يتعهدوا لاحد الاشخاص المقدسين او الائمة المعصومين بتقديم هدية له اذا تشفع لهم عند الله , او لبى حاجتهم في الدنيا , وهذا مايسمونه بالنذر . وبالطبع ان اقامة المواكب والمجالس الحسينية تعد من اهم النذور عند الشيعة طلبا لاحدى الحاجات الدنيوية وليس الاخروية , لان الناس بصورة عامة يكون تركيزها وهمها الاساس على امور الدنيا عادة , ونادرا مايكون همها الاخرة او يوم القيامة .
وقد انتقد الدكتور الوردي ظاهرة الانغماس بالطقوس الحسينية عند الشيعة في عاشوراء والتماهي معها من قبل العامة والسكوت عليها من قبل المجتهدين والمراجع . واعتبرها ظاهرة سلبية اخذت بالتزايد عاما بعد عام على حساب الفهم الحقيقي والاصلاحي للدين الاسلامي . وعد انتشارها امرا منوطا بالرياء وحب المظاهر والتباهي عند الناس , والدليل هو التزايد السنوي الكبير والمهول في عدد المواكب اولا , واقامتها امام الناس في الشوارع والساحات العامة ثانيا . واكد ذلك في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي)(ان هذه الوسائل "ويقصد الطقوس الحسينية" اصبحت الان مستهجنة في نظر المتعلمين الشيعة والكثيرون من فقهاء الشيعة لايرتضونها , وقد اعلن بعضهم شجبها وتحريمها . وهى في الواقع قد صارت الان تنفر الناس من التشيع بدل ان تجذبهم اليه . ولكننا يجب ان لاننسى انها كانت في العهود الماضية ملائمة لعقول الناس وقادرة على التاثير فيهم , فهى كانت من اهم وسائل الدعاية , اذ هى تدفع الناس للمشاركة العاطفية وتتيح لهم مجال التنفيس عما يعانونه من كبت والم) . كما ربط الوردي من جهة اخرى بين اقامة الطقوس الحسينية وبين علامات الغنى والثراء والوجاهة الاجتماعية بقوله (إن كل وجيه أو غني من الشيعة يميل إلى إقامة مجلس يقرأ فيه مقتل الحسين لمدة عشرة أيام، خصوصاً في شهر المحرم وشهر صفر من كل عام. ومن يشهد هذه المجالس ويستمع إلى القصائد الحزينة التي يلقيها الخطباء فيها، وإلى وصفهم مقتل الحسين وأولاده وأخوته وأقربائه ، يحس بالميل إلى البكاء. وقد تفنن خطباء الشيعة في ذلك تفننا عجيباً بحيث استطاعوا أن يحدثوا في كل مجلس يخطبون فيه عويلاً شديداً. وكثيراً ما ينشدون الأشعار العامية بصوت حزين ومنغم فيحدثون أثراً بالغاً في النفوس).
4 . تقديس الائمة والاولياء والصالحين : يتميز المجتمع العراقي على مدى تاريخه بكثرة وجود مراقد الائمة ومقامات الاولياء وحتى الانبياء – ان صحت طبعا – وهذه المراقد والمقامات لم تقتصر على الشخصيات الاسلامية فحسب , بل وجميع الديانات التي ظهرت في هذه الارض او الوافدة اليها . وقد ذكر الوردي (بذل الشيعة امولا طائلة في تشييد مراقد ائمتهم . فطلوا منائرها وقببها بالذهب الوهاج وزخرفوا داخلها زخرفة جميلة جدا يندر ان نجد لها مثيلا في جميع انحاء العالم , وهذه كانت لها اثر بليغ في جذب الناس للتشيع , فاذا زار الفرد تلك المراقد انبهر بهاوبما يشيع فيها منجوء روحاني هائل) . وقد بين الدكتور الوردي وظيفة الاولياء بالقول (ان الاولياء والمقدسين في الحضارات القديمة وظيفة اجتماعية ونفسية لايستهان بها , فهم ينفخون على رؤوس المرضى ويعزون المنكوبين ويفضون المنازعات ويرشدون الناس الى طريق الاخرة . انهم يمثلون الدين للناس تمثيلا حيا واقعيا) .
اعتبر الدكتور الوردي تقديس الائمة عند الشيعة وعصمتهم من الخطا والصعود بهم الى فوق مستوى البشر من الزوائد التي لاضرورة لها اليوم , لان هذا الغلو بتقديس ائمة العلويين كان في الاصل مبدا ثوريا ضد الخلفاء الامويين والعباسيين , ثم انتفت عنه صفة الثورة اخيرا واصبح عقيدة لاروح فيها او معنى , وقال (ان مبدا العصمة له مغزى اجتماعي , فهو عبارة عن انتقاد غير مباشر لما كان عليه سلاطين الاسلام من تسفل وتفسخ) .
5 . عقيدة المنقذ الالهي او المهدي المنتظر : وهذه العقيدة واحدة من اهم تجليات التدين العراقي القديم والتي انسابت للدين الاسلامي بشقيه الشيعي والسني . وقد ذكر الدكتور الوردي في معرض استعراضه لهذه الظاهرة بالقول (ان هذه ظاهرة اجتماعية اخرى نجدها في جميع الحضارات القديمة تقريبا . فالحضر عند تحسسهم بالالم من جور حكامهم ياملون من الله ان يرسل اليهم منقذا يخلصهم (يملا الارض عدلا بعد ان ملئت جورا) وهذا الامل يتحول الى عقيدة بمرور الايام) . واكد الوردي ايضا (ان الشعوب تحلم مثلما يحلم الانسان , فكتاب الف ليلة وليلة مثلا ليس سوى مجموعة من الاحلام الشعبية . والمظنون ان عقيدة المنقذ الالهي ليست سوى حلم راود الشعوب القديمة في بعض مراحل تاريخها حين تتالم من جور حكامها وظلمهم , ثم تشعر بالعجز عن ازاحة ذلك الظلم الواقع عليها , عندئذ تتخيل مجىء يوم يرسل الله فيه من ينقذها من الظلم وينتقم لها من اعدائها . وصدق من قال (الاساطير تمثل احلام الشعوب)) او كما قال شتراوس (الاسطوره حلم جماعي) .
واما الوردي من جانبه فقد اعتبر عقيدة المهدي عند الشيعة اليوم من الزوائد لان (هذه العقيدة هى الاساس التي قام عليه كثير من الثورات في العهود الغابرة . فالمهدي في معناه الاجتماعي هو الثائر , وكثير من زعماء الثورات اطلق عليهم لقب المهدي رغم انهم لم يدعوا المهدية طيلة حياتهم) وضرب مثلا عن ذلك في حالة زيد بن علي الشهيد الذي قتله الامويين بعد ان ثار عليهم , فقد وصفه الامويين بالمهدي رغم انه لم يدعي المهدية قط حتى ان شاعرهم تهكم قائلا :
صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة .......... ولم نر مهديا على الجذع يصلب
وبما ان زمن الثورات الدينية والعلوية قد ولى زمانها , فان وجود هذه العقيدة واستمرارها لايعدو ان يكون مجرد افكار زائدة لااثر لها على الواقع .
ان الحل الاوحد باعتقادي لازالة التناقض بين فكرة المهدي الشيعية التي تفترض ولادته وحياته وطول عمره الذي تجاوز الالف عام بكثير , هو اعتبارها فكرة رمزية وليس مادية وجودية , فكرة تؤكد اهمية العدالة وتحقيقها والسعي اليها من خلال المجتمع والمخلص البطل في التاريخ , والنضال من اجل قيام الدولة العادلة ومواجهة الظلم وترسيخ قيم المساواة والحرية .
6 . المتصوفة والدراويش : يعد التصوف والدروشة من اهم تمظهرات التدين العراقي . واذا كانت الطقوس الحسينية اهم التجليات الشعبية للجماعة الشيعية فان التصوف سابقا والدروشة حاليا تعد من اهم انعكاسات الجماعة السنية . وكما ان العراق هو مهد التصوف الاسلامي الذي ظهرت ارهاصاته الاولى في مدينة الكوفة , فكذا الامر مع الدروشة فقد ظهرت في بادىء الامر في المنطقة التي تضم حاليا مرقد السيد احمد الرفاعي في بطائح جنوب العراق . واذا كان التصوف عبارة عن اذكار وزهد وعبادة , فان الدروشة عبارة عن ممارسات خاصة تضم نوعا من الرقص والذكر والاناشيد الاسلامية التي تتغنى بالنبي واله والاولياء مع اعمال خارقة للطبيعة من قبيل الضرب بالسيوف والقامات واكل الزجاج وغيرها , وهو قريب للسلوكيات التي يقوم بها بعض الجماعات الهند . وقد ذكر الوردي في كتابه خوارق اللاشعور (يعلل العلماء خوارق المتصوفة والهنود بانها نوع من التنويم الذاتي , فالمتصوف ينوم نفسه قبل ان يقوم بتلك الخوارق . والهنود يختلفون في الطريقة التي ينومون بها انفسهم تنويما ذاتيا , فالهنود يروضون انفسهم رياضيات نفسية معقدة وطويلة الامد حتى يصلوا اخيرا الى مرحلة القدرة على القيام بالخوارق .... واما متصوفة العراق فيلجاون الى الغناء ودق الدفوف والى نوع من الرقص والدوران , واذ ذاك يدخلون في شبه غيبوبة يطلقون عليها احيانا (المدد) وليس المدد في الواقع الا تنويما اجتماعيا ... ان خوارق المتصوفة اذن هى خوارق اللاشعور وكلما قل وعي المتصوف اثناء القيام بها قل الخطر عليه منها) . وبين الوردي ايضا (يعتقد المتصوفة ان هذه الخوارق التي يقومون بها اتية من صحة عقيدتهم , والواقع انها اتية من قوة عقيدتهم – لاصحتها , فقوة العقيدة وعمقها وتغلغلها في اللاشعور هى التي تؤدي الى ظهور الخوارق , واما صحة العقيدة فلا شان لها في هذا الامر) .
وقد اكد الوردي التقارب بين التصوف والتشيع من ناحية التقرب الى المراقد والتوسل بالاولياء بالقول (ان الاقطار السنية والشيعية توجد يها مراقد مقدسة يزورها الناس ويتوسلون بها وينذرون لها النذور , وكذلك نجد اشخاصا مقدسين يتبرك بهم الناس ويرجون منهم العون في الملمات والشفاء من الامراض . فالسادة يقومون بمثل هذه الوظيفة النفسية عند الشيعة بينما يقوم بها مشايخ الصوفية عند اهل السنة) .
7 . بناء المساجد والحسينيات : وهى من اهم مظاهر التدين عند العراقيين والسائدة عند الاغنياء والوجهاء والمسؤولين واصحاب السلطة . وكما هو معروف فان الاغلبية من هؤلاء جمعوا اموالهم اما من السحت الحرام والربا والبخل, او من خلال الفساد واستغلال موارد الدولة والحكومة , كما حصل في جوامع صدام حسين ابان تسلطه على مقدرات الدولة بين (1979 – 2003) . وقد انتقدهم علي الوردي بقوله (انهم ينهبون عباد الله ويبنون بيوت الله) . وقال ساخرا في موضع اخر (من الممكن القول بانه كلما كان الظلم الاجتماعي اشد كان بناء المساجد وتشجيع الوعظ اكثر , فاذا بنى الظالم الغاصب مسجدا بنى الله له في الجنة قصرا فخما , واذا هو اغدق النعم على الوعاظ اعطاه الله من الحور العين والولدان المخلدين مايعوض له عما فقده في هذه الدنيا الفانية من الجواري والغلمان!!) .
8 . اقامة المجالس الدينية والحسينية : وهو من تمظهرات التدين الحديثة العهد عند العراقيين , وربما ترجع الى قرنين من الزمان . وذكر الوردي في كتابه اللمحات ان اول مجلس حسيني بهذه الصورة عقد عند ال كبه في بغداد , وقد اخذ الوجهاء والتجار والعلماء والسادة الشيعة باقامة مجالس وعظية دينية لذكر واقعة كربلاء ووفيات الائمة يلقيها احد الخطباء المختصين بهذا الشان لقاء مبلغ مالي نقدي او هدية عينية قد تكون محاصيل زراعية مثل الحنطة والشعير والشلب او ملابس جاهزة وقطعة قماش . وقد اكد الظاهرة الدكتور الوردي بالقول(ان كل وجيه او غني من الشيعة يميل الى اقامة مجلس يقرا فيه مقتل الحسين لمدة عشرة ايام خصوصا في شهر محرم وشهر صفر من كل عام , ومن يشهد هذه المجالس ويستمع للقصائد الحزينة التي يلقيها الخطباء والى وصفهم مقتل الحسين واولاده واخوته واقربائه يحس بالميل الى البكاء) . وللاسف اخذت هذه المجالس تقام للوجاهة والتباهي والرياء عند الكثير من الناس - وخاصة محدثي النعمة الجدد - فبعد ان كانت تقام على الفطرة والبساطة في العقود الماضية , اصبحت الان ذات هدف وظيفي وتطهيري للاموال السحت والحرام من الربا والغش وغيرها . وقد انتقد هذه الظاهرة الدكتور الوردي بقوله (ان الفرد يجوز له ان يعمل مايشاء وينهب مايشاء , ولكي يرضي عنه الله تعالى يجب ان يعطي جزاء ماينهب الى العباد والزهاد والوعاظ لينوبوا عنه امام الله يستغفرون له) .
اعتبر الدكتور الوردي (عزاء الحسين) من الزوائد في التشيع الحاضر. واكد ان عزاء الحسين كان في بدء امره شعارا للنقمة على الدولة ودعاية ضدها , تطور بمرور الزمن حتى صار مجموعة من الطقوس التي لامعنى لها .... والشيعة المعاصرون قد نسوا المبدا الذي ثار في سبيله الحسين , واهتموا باللطم والبكاء , وكأن هذا الهدف الاكبر الذي قتل من اجله امامهم الثائر .. .) . واكد الوردي ايضا (يزور الشيعة قبر الحسين بمئات الالوف كل عام ثم يرجعون من الزيارة كما ذهبوا – ولم يفعلوا شيئا غير النواح واللطم .... انهم اليوم ثوار خامدون فقد خدرهم السلاطين وحولوا السيوف التي يقاتلون بها الحكام قديما الى سلاسل يضربون بها ظهورهم وحراب يجرحون بها رؤوسهم .... شبهنا التشيع في وضعه الراهن بالبركان الخامد , فهو قد كان في يوم من الايام بركانا ثائرا ثم خمد على مرور الايام) .
9 . الحيل الشرعية : ويقصد بها التخريج الفقهي لبعض الاشكالات والصعوبات الدينية التي تواجه الافراد من اجل التخلص من اعبائها او تبعاتها الشرعية من خلال تاويلات متكلفة لااصل شرعي حقيقي لها . والحيل الشرعية هى من اهم تجليات التدين العراقي ومبتكراته العجيبة التي يهدف من ورائها الافراد تحقيق مارب ومكاسب مالية بحيل شرعية . وقد تمظهرت تلك الحيل في معاملات عدة لاحصر لها ولكن يبقى اهمها معاملة الربا والفائض والاجل والورق , حيث ساهم بعض فقهاء السوء في تخريج الحيل الشرعية لبعض المرابين والتجار من اجل تبرير حالة الغش والجشع لقاء مبالغ معينة او هدايا عينية . وقد ذكر الدكتور الوردي تلك الظاهرة بالقول (لقد برع الفقهاء بما يسمونه بالحيل الشرعية ,فهم يستطيعون ان يجدوا مسوغا شرعيا لكل عمل مهما كان دنيئا . والسلطان الظالم لايعمل عملا الا بعد ان يجمع الفقهاء ويعرض عليهم الامر, وهم ينظرون حينذاك الى السلطان ,فاذا وجدوه مصمما على ذلك العمل اسرعوا الى مافي جعبتهم من الايات والاحاديث المتناقضة فينفضونها امامه ليختار منها مايلائمه) .
10 . دفن الاموات في النجف : وهو احد تمظهرات التدين التي انفرد بها العراقيون عن جميع دول العالم , وهو دفن الاموات في مقبرة مركزية واحدة تقع في مدينة النجف حيث مرقد الامام علي بن ابي طالب . ويعتقد الشيعة ان الدفن قرب مرقد الامام علي سيجلب الشفاعة المجانية له والدخالة والحماية من العقوبات الالهية التي تحصل مابعد الموت من عذاب القبر او حساب الاخرة وغيرها . ولاحاجة الى القول ان هذه الراي ليس له اي اصل شرعي او عقلي او موضوعي . ورغم ان حركة الدفن قرب مرقد الامام علي لها بواكير اولى ترجع الى القرن الرابع الهجري عندما اخذ السلاطين البويهيين يوصون بدفنهم في النجف , الا انها كانت مقتصرة على النخبة والزعماء وبعض العلماء فقط , ولم يكن لها طابع شعبي عام , ولكن الظاهرة اخذت منحى تصاعدي في القرن السابع عشر , عندما اخذ الايرانيون - وبعد تصاعد الانبعاث الشيعي بعد قيام الدولة الصفوية - الى ترويج فكرة الدفن في النجف , واخذوا ينقلون جثث امواتهم الاف الكيلومترات طلبا للشفاعة والحماية . فيما ان القواعد الشعبية الشيعية في العراق لم تمارس تلك الظاهرة انذاك , وكانوا يدفنون جثث امواتهم في مقابر محلية او في اماكن عالية في الريف تسمى (اليشن) وذلك من اجل حمايتها من الفيضانات المتكررة . واليشن عبارة عن تلال اثرية لمدن مندرسة ومواقع قديمة لم يتم النقيب فيها , الا ان القرن الثامن عشر شهد قيام بعض العراقيون من اهل المدن والعوائل العلمية والوجهاء والتجار بدفن جثث امواتهم في النجف تقليدا لما يقوم به الايرانيون قبلهم , ثم انتقلت العدوى في بداية القرن العشرين الى قيام اهل الريف ايضا بهذا الامر , من خلال الاتفاق من اشخاص محددين بالاجرة يقومون باخذ تلك الجثث الى النجف ودفنها هناك .
كان لهذه لظاهرة الدفن المركزي في النجف تاثيرات سلبية على المجتمع العراقي , كان ابرزها انتقال الاوبئة والامراض من الهند وايران للعراق , فضلا عن التكاليف الاقتصادية الباهظة والمعاناة بالنقل وغيرها . وفد تصدى لهذه الظاهرة السلبية بعض المصلحين من علماء الدين المتنورين والليبراليين ابرزهم السيد هبة الدين الشهرستاني في مجلته (العلم) عام 1912 الذي اكد تحريم نقل الجنائز الى النجف , وقد استفتى بهذا الشان مراجع الدين بذلك , وحصل على تاييدهم عن هذه الدعوة , ولكن المفارقة ان العامة العراقيين لم ياخذوا بهذا التحريم الى يومنا هذا , واستمروا بنقل جثث امواتهم ودفنها بالنجف , فيما التزم الايرانيون بهذه الفتوى وامتنعوا عن نقل جنائزهم منذ ذلك الوقت . وتعرض الشهرستاني بعدها للتهديد بسبب اراءه الاصلاحية , وهاجر للهند وبقى هناك سنين طويلة حتى عاد لاحقا للعراق .
ذكر الدكتور الوردي هذا الموضوع في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) بعنوان (دفن الاموات في النجف) مستعرضا تطورها التاريخي واراء الرحالة الاجانب واسباب الدفن عند العامة والاعتقاد الديني وراء ذلك وحركة الاصلاح التي اطلقها السيد هبة الدين الشهرستاني الذي كان الوردي معجبا باراءه التنويرية ومتاثرا باراءه العقلانية , وتبنى هذه الدعوة الاصلاحية عمليا عندما اوصى ان يدفن في مقبرة جامع براثا في بغداد بدل النجف .
وقد فسر الوردي هذه الظاهرة سوسيولوجيا بقوله (ان اصرار العامة على دفن امواتهم في النجف مستمد من اعتقادهم بان الميت سيحصل على حق الدخالة من الامام علي بن ابي طالب , فليس من المعقول في نظرهم ان يمتنع الامام عن حماية رجل قصده ونام في جواره . وقد انتشرت بين العامة اساطير كثيرة تصور لهم كيف ياتي الامام لنجدة الميت ومعاونته والتشفع له عند حساب منكر ونكير او عند قيام القيامة ونصب الميزان , انهم يتخيلون يوم القيامة كجلسات المحاكم التي اعتادوا عليها في حياتهم , ولكنه على نطاق اكبر جدا , هناك يجلس الله على عرشه العظيم ويجلس النبي محمد الى يمينه والامام علي الى يساره , وهذان لابد ان يتشفعا للمحبين لهم والمدفونين بجوارهم . ان دفن الاموات بجوار المراقد المقدسة مستمد في الواقع من نفس المبدا الذي جعل الناس يلجاون الى تلك المراقد في حياتهم من اجل شفاء امراضهم وقضاء حاجاتهم , فهم قد اعتادوا الى الالتجاء الى الوسطاء يبعثونهم في حاجاتهم الى الحكام , وكلما كان الوسيط اعظم جاها لدى الحكام ازداد احتمال النجاح في وساطته , وهم يحسبون الله كحكام هذه الدنيا , اذ هو في نظرهم لايقضي حاجة لهما او يغفر لهم ذنوبهم , الا بتاثير الوسطاء والشفعاء) .
رابعا : دوافع التدين في المجتمع العراقي
وقد يسال احدهم ماهى اهم الاسباب الفاعلة في ممارسة العراقيين لمظاهر التدين المتنوعة واهمها طوفان الطقوس الحسينية التي تزايدت بكثرة بعد سقوط النظام البعثي عام 2003 ؟ في الواقع لايمكن ادراج جميع الاسباب التي تدفع العراقي الى ممارسة الطقوس الدينية ومظاهر التدين الجماعي كالحج والزيارة وغيرها ولكن يمكن حصر اهمها بالاسباب الاتية :
1 . الخوف والرهبة : يشكل الخوف من اهم العوامل التي تدفع العراقيين لممارسة الشعائر والطقوس الدينية . والمقصود بالخوف هنا ليس الخوف الاخروي او الخشية من العقاب الاخروي او التقوى , وانما الخوف الدنيوي او الخوف من المجهول والقضاء والقدر . فالعراقي لايهتم بالاخرة وعقابها , وربما في سريرته الحقيقية لايصدق بوجود مثل هذا الحساب والعقاب حتى نقل عنهم القول تهكما (ياهو طلع من كبره مفشخ؟!) اي لم نجد حتى الان من خرج من القبر وهو مصاب باذى بدني من العقاب الاخروي . والخوف الدنيوي يتعلق بالامان من المصائب والعافية والخشية من الفقر والفشل والفضيحة والعار والذل وغيرها , لذا نجد ان الاغلبية ممن يمارسون مظاهر التدين العراقي انما ينطلقون من هذه الدوافع حتى قيل (ان الخوف اصل التقديس) . وقد حفلت النصوص السومرية الاولى ظاهرة الخوف عند العراقيين بقصائد وابيات شعرية لاعدد لها منها (ان الخوف من الالهة مدعاة للعطف ... والقرابين تطيل العمر ..ان من يخاف الهته تطيل الالهة عمره)
2 . الترغيب : وهو الرغبة بالحصول على المكتسبات الدنيوية وتحقيق الاماني والاهداف والنذور , وكلما يتعلق بالصحة والرزق والزواج والوظيفة والمنصب وغيرها . وهذا الدافع يختلف عن الاول بان فيه جانب اخروي ايضا , وهو الرغبة والطموح بتحقيق المكتسبات الاخروية مثل غفران الذنوب ودخول الجنه والحصول على حور العين وانهار العسل واللبن . والعراقي لايقدم على عمل الا به مقابل , وهذا المقابل قد يكون الحسنات او الغفران او التوفيق او البركة او التباهي حتى يصل الامر الى الرغبة والطمع بحصول على المقابل في البديهيات الاخلاقية مثل بر الوالدين ومساعدة الاخوة والاخوات والاقارب وغيرها . ويبدو ان هذا الدافع قد شكل نوعا من الانماط العليا الاصلية – بحسب عالم النفس يونغ – عند العراقيين الحاليين انسابت لهم من اجدادهم السومريين والبابليين . فقد اكد (ديورانت) ذلك بالقول (ان دين البابلي كان دينا ارضيا عمليا , فلم يكن يطلب في صلاته ثوابا في الجنة , بل كان يطلب متسعا من الارض) .
3 . التطهير : وهو من الدوافع المهمة عند العراقيين ونعني به الرغبة والطموح بتطهير النفس والاموال من الحرام عبر ممارسة تلك الشعائر والطقوس واهمها الحج . فقد وجدنا ان الافراد المرابين والاشخاص الجشعين والسياسيين الفاسدين يمارسون تلك المظاهر من اجل تطهير اموالهم من الحرام التي يعتقدون لاشعوريا ان فيها الكثير من السحت والاشكال . لذا نجد الكثير من العراقيين عندهم اصرار عجيب على تكرار ممارسة الطقوس والانغماس فيها والذهاب سنويا للحج والزيارة وغيرها بسبب الاحساس بالذنب والرغبة بالتطهير .
4 . التباهي والرياء : وهذا الدافع قد يشكل الجانب الاكبر والمهم عند العراقيين في ممارسة الشعائر الدينية والطقوس الحسينية , والسبب هو لان الدين مازال يشكل في الوجدان العراقي قيمة رمزية عالية من التقييم والحكم على الناس , فهو النظام الاخلاقي الفاعل في المجتمع العراقي حتى الان , الا ان هناك تواطوء واتفاق ضمني ان هذا النظام يبقى ضمن ممارسة المظاهر والرياء والتباهي فقط ولايصل الى درجة الفعل الاخلاقي الحقيقي او الامتناع عن الكسب اللامشروع والحرام والتجاوز على الناس واعراضهم بالغيبة او البهتان , والنيل من الاخرين او التسامي عن القيم العشائرية والريفية التي تتناقض كليا مع القيم الاسلامية .
5 . العدوى الوجدانية واللاشعور الجمعي : وهذا الامر ينحصر في الممارسات الطقوسية الجماعية واهمها الطقوس الحسينية الجماعية من قبيل المواكب والتطبير والمسير الى كربلاء وغيرها . فاللاشعور الجمعي من اهم دوافع الافعال عند العراقيين سواء اكان في جانبها الدنيوي (المدنس) او مسارها الديني (المقدس) , لان التماهي مع الجماعة واعرافها وتقاليدها وطقوسها يعطي الافراد احساسا بالتضامن والتكاتف العضوي والتحقيق الهلامي للهوية المفتقدة عند الجماعة الشيعية في العراق .
خامسا : الاصلاح الديني في العراق
اعتبر الوردي مظاهر التدين في العراق مظاهر بدائية ومتخلفة وغير حضارية , او مواكبة للعصر الحديث والتنوير العقلاني , ويغلب عليها طابع الخرافة والاسطورة والتهويل والمبالغة , وقال (ان العامة بوجه عام ميالون للخرافة في شؤونهم الدينية وكثيرا مايبتدعون طقوسا وعقائد جديدة حسب مقتضيات ظروفهم وحاجاتهم النفسية والاجتماعية . والملاحظ ان فقهاء الشيعة يدركون ذلك في اكثر الاحيان ولايستطيعون ان يفعلوا شيئا ازاءه , فهم يخافون من العامة خوفا شديدا ولايحبون معارضتهم في شيىء الا قليلا) . وذكر ان اول من اشار الى ظاهرة الاختلال في الطقوس الحسينية السيد هبة الدين الشهرستاني في مجلة (العلم) النجفية التي كان يصدرها قبل الحرب العالمية الاولى في مقال بعنوان (علماؤنا والتجاهر الحق) اكد فيها سكوت العلماء وخضوعهم للعامة في سلوكياتهم واعتقاداتهم المتخلفة وخاصة في جانب الطقوس الحسينية . وقد خرج لنا الوردي بهذه القاعدة (ان علماء السنه يخضعون للسلاطين لان مواردهم المالية منهم وعلماء الشعة يخضعون للعوام لان مواردهم المالية منهم) (ويقصد به الخمس ) . وقد بين السيد احمد القبنجي ان علماء الشيعة لايخافون العامة , وانما يخافون على دين العامة , اي ان الاغلبية من الشيعة يفهم الدين على انه طقوس ولطم وتطبير واطعام , فاذا شكك العلماء بهذه المظاهر وانتقدوها واعتبروها ليست من الدين في شيىء , فان هذا قد يسبب ردة فعل نفسية قد تطيح بالمذهب الشيعي الذي تعد الطقوس الحسينية ركيزته الاساسية ودعايته الفاعلة , ومن اجل ذلك قيل (لولا حد الردة لما بقى الاسلام بنسخته السنية ولولا الطقوس الحسينية لما بقى الاسلام بنسخته الشيعية) .
وبسبب هذا التناشز الاجتماعي تبلور عندنا في العراق اسلامين مختلفين هما :
1 . اسلام المراجع : وهو اسلام عقائدي واصولي وفقهي محكم يعتمد المسارات العقلانية والمنطقية والنصوص الصحيحة نسبيا في الطرح .
2 . اسلام الخطباء : وهو اسلام اسطوري وخرافي وتهويلي وشعبوي يعتمد المطارحات التراجيدية والاحاديث الضعيفة والموضوعة والغلو والتقديس في طرح الموضوعات في المجالس الحسينية . وهو قريب لمفهوم الدين الشعبي Popular Religiosity الذي وصف بانه الوجه الخفي للتدين الحقيقي او التدين التقليدي الذي عرف بانه ذلك النمط الذي يهدف الى تسجيل الهروب من مواجهة الواقع الاجتماعي القاسي والمضطرب والظالم نحو افاق السكينة والتضامن والاطمئنان . فيما ان الكاتب العراقي السيد احمد القبانجي في كتابه (تشيع العوام وتشيع الخواص) قسم التشيع الى قسمين :
الاول : تشيع العوام او التشيع التقليدي : وهو النمط الراسخ عند العامة من الشيعة الذي يشكل الهوية الجماعية للجماعة الشيعية . ويتميز بالتقليد والاتباعية والتماهي مع الطقوس الحسينية والعاطفية والماضوية والسطحية والتقليدية والازدواجية , وهو للاسف بعيد عن الالتزام الديني الاخلاقي والانساني , ويشكل النسبة العددية الاكبر من الجماعة الشيعية في اي دولة او مجتمع في العالم الاسلامي .
الثاني : تشيع الخواص او التشع العقلاني او التشيع الوجداني : وهو تشيع النخبة التنويرية العقلانية الذي يعتد معيار الاخلاق والانسنة والاعتدال والحرية من الدين والاسلام والتشيع .
والمفارقة ان الناس والعامة يتبعون اسلام الخطباء ولايتبعون اسلام المراجع , والسبب هو لان الاول يتماهى اكثر من عقلياتهم وافكارهم وعواطفهم ويهتم بالجانب الطقوسي اكثر مما يهتم بالمعاملات الحقيقية بين الناس والحلال والحرام وغيرها التي ينفر منها الناس بطبيعتهم , لانها تقف بوجه طموحهم بالغنى والمعالي وسلوكياتهم الانانية والذاتية وميولهم بالمكاسب والمغانم المادية منها والمعنوية .
وطالب الوردي باصلاح مظاهر الدين الاصلي وسلوكيات التدين الشعبي في العراق لانها لم تعد صالحة لروح العصر وتطوره وتنويره نحو افق العصرنة والعقلانية . وادرج في كتابه (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) اربع شروط عامة للاصلاح الديني هى :
1 . ان من يريد اصلاح عقائد الناس ينبغي ان يصلح في الوقت نفسه احوالهم المعاشية وظروفهم الاجتماعية والنفسية . فالعقائد انما نشات نتيجة لتلك الاحوال والظروف , وهى لم تنشا نتيجة المنطق والتفكير المجرد . ان من العبث ان نطالب الناس امرا لايفهمونه ومن الظلم ان نفرض عليهم مالاطاقة لهم به .
2 . ان الاصلاح يجب ان ينبعث من الداخل ولايجوز ان ياتي من الخارج , واعني بذلك الطائفة الدينية التي يراد اصلاحها , اذ ينبغي ان تهتم هى نفسها باصلاح عيوبها ,لان كل طائفة اعتادت ان تنظر في عيوب غيرها وتنسى عيوبها .ان الاصلاح الذي ياتي من داخل الطائفة هو بطبيعته اكثر نفعا واقل ضررا من الاصلاح الاتي من الخارج ,لان كثيرا من الاصلاح الذي ياتي من الخارج يؤدي الى اثارة الاحقاد والخصومات بين الطوائف ,والى جعل كل طائفة تزداد تعصبا لعقائدها العتيقة .
3 . ان الذي يحاول الاصلاح يجب عليه ان يتجنب طريقة الارغام والقسر والاعتداء على الناس ,وعليه ان يتبع معهم طريقة اللطف والرحمة والموعظة اوالمجادلة بالحسنى , لان مداراة العواطف البشرية هى خير طريقة للتاثير في الناس ولجذبهم نحو عقيدة ما , اما الارغام في سبيل العقيدة فهو ينفر الناس منها بدلا من جذبهم اليها .
4 . ان الاصلاح يجب ان تراعى فيه مقتضيات المجتمع وظروفه . فالعقائد هى ظواهر اجتماعية اكثر مما هى افكار مجردة . وقد اخطا المفكرون القدماء حين ظنوا بان الانسان حيوان عاقل , الواقع ان الانسان حيوان اجتماعي , وهو يسير خلف انماط سلوكه وتفكيره حسبما تملي عليه ظروفه الاجتماعية والنفسية , واما العقل الفردي فليس سوى صنيعة من صنائع المجتمع ومظهر من مظاهر الثقافة السائدة فيه . (الدكتور سلمان الهلالي -- الناصرية)