أهم دروس الانتخابات التونسية


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 6354 - 2019 / 9 / 18 - 09:55
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي     

أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية التونسية التي جرت يوم الأحد الماضي لا تتعلّق بهوية الرجلين اللذين سوف يخوضان الدورة الثانية. بل يتعلّق الدرس الأول بنسبة المشاركة في الاقتراع، ويتعلّق الثاني بطبيعة النظام الدستوري الذي حلّ بتونس إثر ثورة السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2010 التي دشّنت «الربيع العربي»، ويتعلّق الدرس الثالث بمصير تلك الثورة، أي مصير السيرورة الثورية طويلة الأمد التي نجمت عنها وذلك ليس في تونس وحسب، بل في عموم المنطقة العربية.
فلنبدأ إذاً بنسبة الاقتراع. من المعروف أنها جاءت شديدة الانخفاض، لا تزيد عن 40 بالمئة من الناخبين القاطنين في تونس، تنضاف إليهم نسبة أعلى من الناخبين في المهجر لتصل النسبة العامة إلى 45 بالمئة. فهذا يعني أن ثلاثة أخماس الناخبين المقيمين في تونس (60 بالمئة منهم)، أي غالبيتهم الواسعة، فضّلوا الامتناع عن التصويت في انتخابات مصيرية بالنسبة لمستقبل بلدهم. وتشكّل هذه النسبة تراجعاً كبيراً بالمقارنة مع الانتخابات الرئاسية السابقة في عام 2014 التي ناهزت فيها نسبة الاقتراع 65 بالمئة، ناهيكم من الانتخابات النيابية التي سبقتها بشهر واحد والتي ناهزت نسبة الاقتراع فيها 70 بالمئة.
ولو أضفنا إلى ذلك أن المرشّح الذي حصل على أعلى نسبة من الأصوات التي أدلي بها، جاءت حصته دون 20 بالمئة بينما لم تبلغ حصة المرشّح الذي يليه سوى ما يناهز 15 بالمئة (عند كتابة هذه الأسطر)، تبيّن لدينا أن الرئيس الذي سوف تتمخّض عنه الدورة الثانية من الانتخابات رجلٌ لم تختره رئيساً في الدورة الأولى سوى نسبة تتراوح بين 6 بالمئة (15 بالمئة من 40 بالمئة) و8 بالمئة (20 بالمئة من 40 بالمئة) من مجموع الناخبين التونسيين! وهذا يعني أن الأغلبية التي سوف يحصل عليها المرشّح الفائز في الدورة الثانية سوف تتشكّل من أكثرية ساحقة من الأصوات «التكتيكية» التي غالباً ما تدفعها رغبة في قطع الطريق أمام المرشّح الآخر أكثر مما يدفعها الرضى عن المرشّح المختار. وهذا ما حصل في الانتخابات الرئاسية المصرية لعام 2012 عندما حاز محمّد مرسي في الدورة الثانية على أغلبية تألفت نسبة 60 بالمئة منها من ناخبين كانوا قد فضّلوا أحد منافسيه في الدورة الأولى.
هذا يشير إلى علّة أساسية في النظام الدستوري الذي اعتمدته كلٌ من مصر وتونس بعد ثورتيهما والذي يستوحي من الأنظمة الرئاسية، الفرنسي منها على الأخص، فهذه صيغة قليلة الوفاء لشروط الديمقراطية الفعلية. وقد كان أحرى بالبلدين أن يعتمدا نظاماً برلمانياً مصحوباً بآليات ديمقراطية حقيقية تتيح للناخبين استبدال نوّابهم لو حاد أي من هؤلاء عن الأهداف التي تمّ انتخابهم من أجلها. وهذه الصيغة الأخيرة هي الوحيدة التي تليق بشعبين قاما بثورتين كان عنوانهما العريض «الشعب يريد»، وقد أطاح حراكاهما الجماهيري بحكومة تلو الأخرى لمدّة ثلاث سنوات بعد بدء ثورتهما.

فإن شرعية الرئيس أياً كان، الذي سوف تتمخّض عنه الدورة الثانية المقبلة في تونس، قد وُلدت هزيلة للغاية بما سوف يجعل حكمه حكماً بالغ الهشاشة في مرحلة من تاريخ تونس سوف تشهد لا مُحال عواصف اجتماعية متعاظمة. وبدل أن يستطيع الشعب فرض مشيئته على الحكم بآليات ديمقراطية، سوف تؤدّي الأوضاع إلى أزمات سياسية ودستورية، لاسيما أن الغموض يكتنف الصلاحيات الرئاسية في النظام الدستوري التونسي الراهن. وهذا دربٌ محفوف بالمخاطر قد يؤدّي في نهاية المطاف إلى الوأد بالديمقراطية على غرار ما حصل في مصر.
هذا وتشير الأزمة السياسية الخطيرة التي كشفت عنها الدورة الرئاسية الأولى إلى أن التجربة التونسية التي يرى فيها الإعلام الغربي «قصة النجاح» الوحيدة الناجمة عن «الربيع العربي»، إنما هي بعيدة في الواقع عن هذه الصورة الوردية. فإن الموجة الثورية العارمة التي اجتاحت المنطقة العربية في عام 2011 كانت في المقام الأول انتفاضة على بؤس الظروف المعيشية وبطالة الشباب القياسية السائدين في منطقتنا. وإذا صحّ أن تونس تنعم منذ ثورتها بحريات ديمقراطية ثمينة وبالغة الأهمية، يبقى أن السيرورة الثورية التي نتجت عن الانتفاضة الكبرى لن ترى «قصة نجاح» حقيقية ومكتملة سوى عندما تشهد ولادة حكم ديمقراطي جذري يلّبي حاجات الجماهير ويستبدل السياسات الاقتصادية القائمة، الظالمة والكارثية، بسياسات تنموية تسمح برفع مستوى معيشة الجماهير الغفيرة وتوفير فرص العمل للشبيبة.
والحال أن نسبة الامتناع بالغة الارتفاع في تونس تعني أن الذي «فاز» بأكبر نسبة من الأصوات بما جعل جميع المنافسين الآخرين هزلى للغاية، إنما هو السخط على الأوضاع المزرية القائمة في البلاد. كما تعني أن ما من مرشّح بين الذين خاضوا المعركة الانتخابية يحوز على مصداقية في تمثيل التغيير الجذري الذي تصبو إليه غالبية التونسيين. هذا وكانت الاحصائيات الرسمية التونسية قد بيّنت سنة 2014 أن أكثر من 70 بالمئة من الشباب الذين تراوحت أعمارهم بين الثامنة عشرة والثلاثين امتنعوا عن التصويت في انتخابات ذلك العام. ويبدو أن هذه النسبة قد ارتفعت مع دخول الذين كانت أعمارهم آنذاك دون الثامنة عشرة إلى الحلبة، بينما يُرجَّح أن نسبة المقترعين بين الذين باتت أعمارهم اليوم تزيد عن الثلاثين وصولاً إلى الخامسة والثلاثين لم تزد عمّا كانت عليه قبل خمس سنوات. ذلك أن استياءً شديداً غمر شباب تونس بعد نشوة مرحلة الثورة الأولى، ولا يني الاستياء يتزايد مثلما تتزايد نسبة البطالة الشبابية ويتزايد بؤس الأوضاع المعيشية بوجه عام.
تلك هي أولى وأهم دروس الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية التونسية. فإن العبرة منها مفيدة لكافة فصائل الحراك الثوري في منطقتنا، ولاسيما التجربة الثورية الأكثر تقدّماً حتى هذا التاريخ، ألا وهي السيرورة الثورية السودانية التي غدت الآن تواجه مسألتي النظام الدستوري والسياسة الاقتصادية الحاسمتين.