القرآن محاولة لقراءة مغايرة 9


ضياء الشكرجي
الحوار المتمدن - العدد: 6340 - 2019 / 9 / 3 - 14:18
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

صِراطَ الَّذينَ أَنعَمتَ عَلَيهِم غَيرِ المَغضوبِ عَلَيهِم وَلَا الضّالّينَ (7)
وهنا تقسم هذه السورة الناس إلى ثلاثة أقسام؛ هي «الَّذينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم»، و«المَغضوبُ عَلَيهِم»، و«الضّالّونَ». إذا أخذنا النص كمفهوم من جهة، وإذا كان التقسيم تقسيما إجماليا، دون نفي أن تكون هناك أطياف بين لون وآخر، وأن ليس هناك أبيض وأسود، أي أبيض يمثله «الذين أنعم الله عليهم»، وأسود يمثله «المغضوب عليهم»، ورمادي يمثله «الضالون»، بل الحياة والأفكار والعقائد عبارة عن تلاوين متعددة ومتداخلة، فيها الألوان النقية، وأغلبها ألوان مزيجة، ليس مزجا ثنائيا وحسب، بل ثُلاثيا ورُباعيا و[...] وعُشارياً و[...] إذا كان الأمر كما مر، فلا اعتراض على التقسيم، لاسيما أنه اعتبر أن هناك مستقيمين مهتدين أنعم الله عليهم، وهناك فريقان آخران غير مهتديَينِ، فريق ظلوم أو مقصر ومتعمد، معاند مكابر، عرف الباطل فأراده واستهدفه وأصابه، كما عرف الحق فأنكره وعانده وعاداه، وفريق جهول أو قاصر ضل من غير عمد، أراد الحق فأخطأه. ولكن من غير شك أن كلا من «الذين أنعم الله عليهم»، و«المغضوب عليهم»، و«الضالين» إنما هم درجات، درجات في مدى ما استحقه الفريق الأول من إنعام الله عليه، ودرجات في مدى ما استحقه الفريق الثاني من غضب الله، ودرجات في مدى ضلال الفريق الثالث. وإننا نعلم أن الصواب والخطأ، أو حسب المصطلحين الدينيين الاهتداء والضلال، وكذلك الإيمان والكفر، والاستقامة والانحراف، والحق والباطل؛ إن كل ذلك نسبي في عالم الإنسان، ففي كل صواب ثمة خطأ، وفي كل اهتداء ثمة ضلال، وفي كل إيمان ثمة كفر، وفي كل استقامة ثمة انحراف، وبالعكس في كل خطأ ثمة صواب، وفي كل ضلال ثمة اهتداء، في كل كفر ثمة إيمان، وفي كل انحراف ثمة استقامة. بينما نرى معظم الدينيين لا يعتمدون النسبية، بل معظم مفاهيمهم مطلقة ونهائية، وعبارة عن صورة من أسود وأبيض، أي يحملون ثقافة الإمّاوَإمّا. وقد ذهب الكثير من المفسرين إلى اعتماد التفسير المصاديقي، بينما الصحيح أن يعتمدوا التفسير المفاهيمي، لأن الثابت هو المفهوم، والمصداق الذي ينطبق عليه المفهوم متغير غالبا. أعني باعتماد التفسير المصاديقي، هو تمسكهم بحديث يفسر الفرق الثلاث الواردة هنا بالمسلمين مصداقا لمفهوم «الذين أنعم الله عليهم»، واليهود مصداقا لمفهوم «المغضوب عليهم»، والمسيحيين مصداقا لمفهوم «الضالين». وعلى فرض أن الإسلام دين الله والقرآن كتاب الله، وعلى فرض صحة نسبة الحديث إلى نبي الإسلام، فمن غير شك لا يمكن قبول التعميم والإطلاق، فلا يمكن أن يكون كل المسلمين ممن أنعم الله عليهم، ويكون كل اليهود قد حل غضب الله عليهم، ويكون كل المسيحيين ضالّين. بل يمكن أن يكون الكلام عن فريق من اليهود، وفريق من المسيحيين، في عهد الدعوة ممن يصح توصيفهم بما وصفوا به، إن صحت روايات المصادر الإسلامية للسيرة والتاريخ، والتي نجد الكثير من أسباب عدم موثوقيتها. ولكن مع كل ما يقال تبقى مثل هذه التقسيمات، وما سيرد من تقسيم في مطلع سورة البقرة، مما يبني الحواجز النفسية بين أتباع الديانات والعقائد، ويؤسس لثقافة كراهة الآخر. وهذا ما دفعت البشرية ثمنه بحارا من دماء وكمّا هائلا ومروعا من مآسي وكوارث. لاسيما إن التقسيم يعتمد العقيدة بدرجة أساسية، والعقيدة غالبا لا تكون اختيارية، والعقاب على ما هو غير اختياري ظلم سافر، ويستحيل على الله أن يكون ظالما، وهذا ما أقره القرآن بقول «إِنَّ اللهَ لا يَظلِمُ مِثقالَ ذَرَّةٍ»، ولكنه نقض هذه القاعدة بعدد كبير جدا من النصوص. والمشكلة كل المشكلة أن الإسلام أسس لفلسفة التوحيد، ولم يعتمد فلسفة التنزيه التي تمثل أقصى درجات التوحيد، والسبب أنه أراد - لا نقول كهدف وحيد بل كهدف مركزي - أن يصنع مجدا شخصيا لمؤسس الإسلام ومؤلف قرآنه. وكل آيات الوعيد القاسية لمن لم يقتنع بالإسلام تعبر عن الأزمة النفسية التي عاشها المؤسس تجاه الذين لم يصدقوه نبيا مرسلا.