النظام الدولي الماثل اليوم


فؤاد النمري
2019 / 8 / 28 - 19:23     

النظام الدولي الماثل اليوم

يحرث الشيوعي في البحر طالما أنه لم يتعرف على النظام الدولي الماثل وعلاقته بالنظام المحلي حيث هو . ما كان كارل ماركس ليكون النجم المضيء في مختلف مسارات الفكر الحديث حتى وبعد إكتشافه الهام لديالكتيك الطبيعة لولا أنه تعرّف على النظام الرأسمالي كنظام عالمي وشرّحه تشريحاً دقيقاً يصف وظيفة كل خلية من خلاياه .
يحضرني هنا أن لينين كان قد أسّر إلى ستالين في العام 1922 أن ثمة فكرة راودته بأن يستقيل من الحزب الشيوعي ؛ ولما استغرب ستالين أن تراود لينين مثل هذه الفكرة الغريبة وهو من هو، فاجأه لينين بالقول .. لأن بين قيادة الحزب ليس من هو ماركسي حقيقي !! تلك الحقيقة التي أمضّت ستالين طيلة حياته فكان أن وبخ أعضاء المكتب السياسي في العام 38 متسائلاً .. " ما بكم لا تقرؤون ماركس !!" وهو ما دعاه لأن يأخذ إجازة ليكتب كتابة الشهير "المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية" ويطلب من جميع أعضاء الحزب قراءته . وما دعاه أيضاً في مؤتمر الحزب التاسع عشر في أكتوبر 52 أن يطالب الهيئة العام للمؤتمر عدم إنتخاب أحد من القيادة القديمة ؛ ولما توالى إذاك أعضاء القيادة في التصريح على أنهم من تلاميذ ستالين، أنكر ستالين ذلك مؤكدا أنه هو نفسه تلميذ للينين وليس لدية تلاميذ .
ليس لدينا أدنى شك في أن القصور الفكري لقادة الحزب الشيوعي السوفياتي كان السبب الرئيسي في انهيار الإتحاد السوفياتي وليس أدل على ذلك من أن الشيوعيين في الجمهوريات السوفياتية سابقاً وفي أطراف العالم المختلفة لم يتعرفوا بعد على أسباب انهيار الإتحاد السوفياتي . كيف يمكن تفسير مثل هذا الأمر !!؟ شيوعي وهب كل حياته في العمل لقضية الشيوعية وفجأة تنهار الشيوعية وهو لا يعلم لماذا انهارت، بل وحتى لا يسأل لماذا انهارت !! ليس شيوعياً على الإطلاق من لم يعرف بعد أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي .

كنا كتبنا كثيراً حول انهيار الإتحاد السوفياتي، والقول الفصل في الحلقة السابعة من مقالنا "في علم الثورة الشيوعية"
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=640851
كما كتبنا كثيراً حول النظام الدولي الزائف الماثل اليوم، والقول الفصل في مقالنا "فصل النقد عن البضاعة"
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=646384
لم يفاجئنا الشيوعيون في مختلف أحزابهم يرفضون ما نقول في الحالتين رغم أنهم لا يملكون أي منطق يبرر رفضهم ؛ هم يرفضون ما نقول لا لشيء إلا لأنهم شاركوا فعلياً منذ خمسينيات القرن الماضي في دفع الإتحاد السوفياتي إلى الإنهيار . إن نسينا فلن ننسى ترحيبهم وتهليلهم بانحراف خروشتشوف سواء بكيل الشتائم لستالين صدوعاً لأوامر العسكر من خارج الحزب أو بالإنقلاب العسكري على الحزب وطرد أعضاء المكتب السياسي في حزيران 57 أو بإلغاء دكتاتورية البروليتاريا في مؤتمر الحزب في العام 61 وإعلان الدولة "دولة الشعب كله" وهي الدولة التي تعني أول ما تعني وقف الصراع الطبقي ورفض الإشتراكية .
شيوعيون استمرأوا الخيانة وراء خروشتشوف ليس بوسعهم أن يوافقوا على ما نقول حتى ولو كان من الحقائق الصادمة .
بل إن هؤلاء الشيوعيين الخونة هبوا مرة أخرى يهللون ويرحبون بظهور غورباتشوف في العام 85 ووصل الأمر بأحد كبارهم لأن يكتب في العام 87 يقول .. كان من حسن حظ البشرية أن يمارس غورباتشوف المداهنة والنفاق حتى وصوله للقيادة من أجل أن يصلح أحوال الإتحاد السوفياتي !! وكنت قد رددت عليه في الصحافة المحلية مؤكدا على أنه سيندم على ما قال وفي وقت قريب جداً . يا لهول الشطط في الخيانة !!

ما يغيب عن فكر الكثيرين هو أن الشيوعية قانون اجتماعي، قانون كليّ النفاذ رغب فيه بعضهم أم لم يرغب ؛ ومن خير البشرية ألا يعارضه الكثيرون فلا يحققون سوى التخلف . فأن يذهب الإنسان كل يوم للعمل فهو يعمل للشيوعية دون أن يعلم حتى وإن آمن بعقائد تنافي الشيوعية . ما يعيق نفاذ قانون الشيوعية هو أن الشيوعيين ومنذ خمسينيات القرن الماضي حيث جرى الإنقلاب الفعلي على الإشتراكية في مركز الثورة في الإتحاد السوفياتي لا يدركون طبيعة النظام الدولي القائم . وهو ما تأكد ليس من اعتبارهم الإنقلابيين في موسكو ما زالوا قادة الثورة الإشتراكية العالمية رغم أن قائدهم بريجينيف، خليفة الإنقلابي خروشتشوف، استعطف قادة الدول الرأسمالية الإمبريالية في مؤتمر هلسنكي 75 لملاقاته في منتصف الطريق " فلا يخسر كلانا " !! وهو ما يعني استعداد العصابة الحاكمة في موسكو للحفاظ على مصالح الرأسماليين الإمبرياليين ؛ ليس هذا فقط بل من إنكارهم الفاضح لانهيار النظام الرأسمالي في سبعينيات القرن الماضي . الولايات المتحدة الأمريكية وكانت آخر قلاع النظام الرأسمالي هي اليوم أكبر مدين في العالم وأكبر مستورد للبضائع ورؤوس الأموال ومع ذلك ينبري هؤلاء "الشيوعيون" يدعون بعيون وقحة أن الولايات الإمبريالية باتت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الدولة الرأسمالية الإمبريالية الأكثر توحشاً .

الدولة الرأسمالية هي تلك الدولة التي يتحقق فيها فائض الإنتاج بحكم نظام الإنتاج الرأسمالي المبني على فائض القيمة . وكي تستمر دولة رأسمالية يتوجب عليها تصدير فائض الإنتاج للخارج وإلا انعكس عليها ذلك بالكساد الذي سيودي بالنظام في حالة عدم تصديره .
الولايات المتحدة اليوم لا تصدر البضائع بل تشتريها من مختلف بلدان العالم وحتى تتمكن من الاستمرار في شراء بضائع العالم فقد تيسّر لها أن تبيع أوراق الدولار إلى العالم كل العالم . العالم يشتري اليوم الدولار بقيمة 2 سنتيغرام ذهبا ؛ ورقة المائة دولار تبيعها أميركا بغرامين من الذهب في حين لا تكلف طباعتها 0.001 غم وهو ما يعني أن الولايات المتحدة تمثل اليوم علي بابا وهي تختار حرامييها الأربعين . الولايات المتحدة ومنذ عشرات السنين لا تصدر قوى العمل المتجسدة حصراً في البضائع وهو تجارة الرأسماليين الوحيدة، بل تبيع عوضاً عن ذلك أوراق الدولار التي لا تحتاج لقوى عمل لإنتاجها بل ينتجها مزورو العملة . الشعب الأميركي يعيش اليوم على حساب عمال الصين وجنوب شرق آسيا دون مقابل أو مقابل تلال من الأوراق الخضراء الشبيهة بالدولارات القديمة عندما كان الدولار يستبدل بخمسين سنتيغرام ذهباً ويستبدل فعلياً اليوم باثنتين سنتيغرام وهو في الحقيقة لا يساوي أكثر من الحبر والورق المطبوع عليه .

هؤلاء القوم ليسوا شيوعيين على الإطلاق طالما أنهم لم يتعرّفوا على النظام الدولي الماثل، فكيف لهم أن يتعرّفوا على طريق الشيوعية !؟ كانت الدولة الرأسمالية تبيع فائض الإنتاج الناجم عن فائض قوى العمل إلى الأسواق الخارجية ؛ وبافتراض أن الولايات المتحدة كانت تبيع فائض الإنتاج إلى الأسواق الخارجية، بينما كانت في الحقيقة لا تبيعه بل تستهلكه في مقاومة الشيوعية، لكن الولايات المتحدة اليوم تعاني من عجز في ميزان المدفوعات دون أن تتمكن من سدّه منذ ثلاثين عاماً . وأعداد البروليتاريا في أميركا انخفضت من أكثر من 70 مليوناً في الخمسينيات إلى حوالي 30 مليونا اليوم، فكيف يمكن الإدعاء والحالة هذه أن الولايات المتحدة ما زالت دولة رأسمالية !؟

في مقالنا الأخير "فصل النقد عن البضاعة" شرّحنا بنية "النظام" الدولي القائم . الدول التي كانت رأسمالية إمبريالية إضطرت لأن تتوقف عن إنتاج البضائع نظراً لأن الدول الطرفية استقلت ولم تعد أسواقاً مفتوحة تستقبل فائض الإنتاج في مراكز الرأسمالية . وكيلا تخسر مراكز الرأسمالية الإمبريالية سطوتها على العالم قررت في اجتماع الخمسة الكبار (G 5) في رامبوييه في نوفمبر 75، قررت تكافلها في الحفاظ على أسعار صرف عملاتها وهو ما يعني قطع العلاقة بين النقود والبضاعة فالنقود ليست إلا معايراً لقيمة البضاعة وهو القانون الأساس في النظام الرأسمالي بصورة خاصة حيث دورته الحيوية تكتمل في (نقد – بضاعة – نقد) . أن تحتفظ السندات المالية بقيمتها بذاتها أمر لا يستقيم بحال من الأحوال . عملت البنوك المركزية في الدول الرأسمالية سابقاً على الحفاظ على أسعار صرف عملاتها في أسواق الصرف من خلال المضاربات المالية في أسواق المال لكن ذلك لم يجدِ إذ هبطت قيمة عملات هذه الدول منسوبة إلى البضاعة حتى بات الدولار الأمريكي في العام 2012 يساوي فقط 3 سنتيمات من دولار العام 1970 .

كفالة مجموعة الخمسة الكبار لآسعار صرف عملاتهم لا تصرف في سوق البضائع، السوق التي وحدها تحدد قيمة النقود كل النقود . وهنا انبرت الصين الشيوعية تغطي الدولار ببضاعتها بقيمة 2 سنتسغرام ذهباً وقد اضطرها إلى ذلك فشل ماوتسي تونغ في أن يجعل الصين عن طريق الثورة الثقافية (65 – 67) مركز الثورة الإشتراكية العالمية بديلا للمركز السوفياتي المنهار .
التقديرات الأولية تقول أن الصين استبدلت فيما بعد اتفاقية (نكسون – دنغ) في العام 72 بضائع بقيمة 10 ترليون دولار، أنفقت منها 5 ترليون واحتفظت بخمس أخرى في احتياطها . ذلك يعني أن الصين الشيوعية تبرعت للولايات المتحدة بمائتي ألف طناً ذهباً وبهذا الثراء الفاحش تمارس الولايات المتحدة سطوتها على العالم وتمكنها من معاقية الدول ليس عن طريق الحرب التي لم تعد قادرة عليها، بل عن طريق منع تحويل عملتها الوطنية إلى الدولار الذي حل محل الذهب في غطاء العملة الوطنية في جميع دول العالم .

وأخيراً هناك حقيقتان صادمتان لا غنى عن اعتبارهما في التعرّف على النظام الدولي الماثل وهما أولاً أن السطوة الأميركية الماثلة اليوم هي سطوة كاذبة تقوم على الدولار الزائف الذي لا يحمل أدنى قيمة بذاته منذ خمسين عاما حيث فقد خلال عامي 72 و 73 فقط حوالي 40% من قيمته، وأن أميركا قطب أوحد في العالم هو كذبة سمجة فدولة لا تستطيع أن توفر غطاء لعملتها وتركن للأجنبي لتغطيتها لا يمكن الإدعاء بأي استقطاب لها .
والحقيقة الثانية هي أن الإحتياطي الصيني البالغ خمسة ترليونات وأكثر من الدولارات هي أيضاً نقود زائفة ؛ بل حتى وبافتراض أن قيمتها بذاتها مثل الذهب، فلو رمت الصين مليون طناً من الذهب في أسواق العالم لبيع الذهب بسعر النكل أو النحاس . عمال الصين لن يجهدوا أكثر لتوفير رغد العيش للشعب الأمريكي .
لذلك سينهار النظام العالمي الماثل خلال سنوات قليلة قادمة . ليس ماركسياً ولا شيوعياً من لا يدرك ذلك .