فوضى بناء المساجد


ياسين المصري
الحوار المتمدن - العدد: 6332 - 2019 / 8 / 26 - 23:37
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

"لقمة تضعها في بطن جائع خير من بناء ألف جامع".
أحد الحكماء
أخيرًا اكتشف الحاكم بأمر الله في مصر شيئًا لم يكن في الحسبان رغم انتشاره على نطاق واسع في ربوع البلاد، ولا يجرؤ أحد على الحديث عنه، لأنه ”خط أحمر“ يحرق كل من يقترب منه، لقد إكتشف مسجدًا يقف عثرة في وسط طريق للسيارات يتم إعداده، ولأن سيادته لم يكتشف ولا يريد اكتشاف من هم الذين زرعوا هذا المسجد كما زرعوا آلاف المساجد الأخرى في طريق تقدم الدولة ورقيها، فقد أمر بإزالته على أن يعاد بناؤه في مكان أحسن وبمواصفات أفضل مما هو عليه!
الهوس الديني أو الخوف منه ليس حكرًا على المصريين وحدهم، وليس حكرًا على الناس العاديين، بل تمكن أيضًا ومنذ زمن بعيد من نفوس القادة والزعماء وأمراء المؤمنين وجميع حاملي ألقاب الفخامة والسيادة، فهو خاصية شاملة كاملة لدي الشعوب المتأسلمة جميعها، وهو يزداد حدة كلما بعدت الشعوب عن أرض آل سعود مهد الديانة، وحاضنة أماكنها المقدسة! حيث يعمل الدين بعيدًا عن الهوس كوسيلة ناجعة لامتلاك البلاد وتسييس العباد لا أكثر ولا أقل، ولكنه في مصر له نكهة عالية وجذوة دائمة بوجه خاص، لوجود - على أرضها -، ما يسمى بالأزهر المنعوت بالشريف دون سبب، ووزارة للأوقاف التي تسعى لأن تكون شريفة أيضًا بلا سبب، وشعب يتم أفقاره ماديًا ومعنويًا كل يوم بلا سبب.
هذا الهوس أو الخوف منه ينعكس بوجه عام في منظومة دائمة من التخلف وبث الكراهية والأرهاب والقتل والتدمير وضعها الشيخ البخاريستاني وأتباعه، لنبي كريم يجب التأسي به دون تحفظ أو تردد.
وما تكاد المنظومة تختل خللًا متواضعًا وتتقدم البلاد خطوة واحدة إلى الأمام، إلََا وينتفض هذا الشيخ البخاريستاني واقفًا من قبره على الفور أو من ينوب عنه، ويرجعها بكل ما أوتي من عنف وعنفوان إلى الخلف خطوتين أو أكثر، ويهيل فوقها مزيدًا من الوحل والغباء!
ولكي تكتب الديمومة لهذه المنظومة، لا بد من إيجاد مفرخة لإمدادها دائمًا بنشء يحمل فيروس التخلف والكراهية والإرهاب والقتل والتدمير، ولهذا قدَّم المسجد نفسه كأهم وأقدم مفرخة على الإطلاق، وما عداها من مفارخ إعلامية وتعليمية أخرى ما هي إلَّا تحصيل حاصل أو عوامل مساعدة، تقل أهميتها أو تزيد حسب العرض والطلب.
من المعلوم أن المتأسلم العادي قد يؤدي من الفرائض الدينية ما يشاء، وقد يتظاهر أمام الآخرين لسبب ما بتأديتها كما يشاء، أو - وهذا هو الغالب والأعم - لا يؤديها على الإطلاق إذا شاء، ويكفيه منها بل ويغنيه عنها إصراره الساذج على تأدية فريضة الحج وحدها، لأنها فريضة وثنية بامتياز وإعلامية - دعائية في المقام الأول، ويرجع الشخص بعد آدائها إلى موطنه كما ولدته أمه، خالي تمامًا من الكذب والرياء والنفاق والخنوع والسرقة والاحتيال والكراهية والفسوق بكل أصنافه، وربما تغفر له أيضًا جريمة القتل التي ارتكبها من قبل. لقد اكتسب الآن لقب (الحاج)، وعليه أن يبدأ الكَرَّة من جديد حتى يعاود الحج مرة أخرى وليست الأخيرة، فباب التوبة مفتوح دائمًا على مصراعيه.
ولكن إلى جانب الفرائض الخمس ظهرت فريضة أخرى، أهم وأقوى، بل وأجدى منها، لأنها تمحي الذنوب جميعًا وتقرِّب المرء إلى الله، وتحسن ظن الناس كمهتدي بالله، حتى وإن لم يهتدي، ألا وهي بناء مسجد لله ليعمِّره من آمن به! والمشاركة في بناء بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ. الفضاء الرحب لم يعد رحبًا بما يكفي للمصلين، أو أن الصلاة فيه لم تعد تقدم الوقاية الإلهية المطلوبة للأغراض الدنيوية. أم أن الأرض لم تعد كما كانت، قد وضعت له ولهم مسجداً وطهوراً؟
وبينما تعمل جميع الحكومات المتأسلمة على الحد قدر الإمكان من الهوس الديني ومنع انفلاته في في بلادها، وحصره فقط في الحالات فردية المريضة أو الحكومية الهزيلة (أوردغان في تركيا يبني ويفتتح أكبر مسجد في أوروبا)، إلَّا أنه في مصر له طعم لا يقاوم وجذوة لا مثيل لها، وأمراء المؤمنين يحكمونها بأمر المولى عز وجل، وليس بأمرهم وحدهم، وكيلا يهن المهتدون ويدعوا للسلم وهم الأعلون والله معهم ولن يترهم أعمالهم، أي لن يظلمهم أجور أعمالهم فينقصهم ثوابها، أن يبنوا مسجدًا إلى جانب كل كنيسة، بل وإحاطة كل كنيسة بمسجدين أو ثلاث أو أكثر، وبمأذنها الناطحة للسحاب، تعلوها مضخِّمات الصوت في كل الاتجاهات لكتم أنفاس المصلين الكنسيَّين.
الجميع يتنافسون على بناء المساجد بجانب المساجد أو أمامها أو خلفها، فوق العمارات أو تحتها، ولما لا؟ فمن بنى مسجدا يبتغي به وجه الله مبَشَّر بالجنة؛ بل ويبني الله له قصرًا فيها. ألفنا الهراء دائمًا للتبرير، بينما واريْنا الحقيقة وأخفيناها في بير، فلا يستطيع أحد أن يفصح عنها أو يقترب منها، فأصبحت المنافسة لا تقتصر على المهتدين من أهل الخير وحدهم، إذ لا بد وأن يشاركهم فيها جميع الحكومات الهزيلة والمؤسسات الشريفة أو التي تريد أن تكون شريفة، وأصحاب النوايا الطيبة والخبيثة على حد سواء. وحتى وإن بقت المساجد خالية على قذارتها ونتانتها، فهي سوف تظل معفية من ثمن استهلاك الكهرباء والمياه وكل أشكال الضرائب لأنها بيوت الله ولوجه الله!!!.
المشكلة الحقيقية في أن الحسنات يذهبن السيئات! إعمل إذن ما في استطاعتك من السيئات، ثم حج واغتصب أرض ليست أرضك وعمِّر فيها مسجدًا بمال غيرك، فتذهب السيئات عن كاهلك، وتقف الدولة الهزيلة مكتوفة اليدين والرجلين مشلولة العقل معدومة الفكر.، فلن تستطيع هدمه ولن تستطيع رفع يدك عمَّا ليس ملكك. سارع مع القطيع إلى بناء أكبر وأفخم مسجد على وجه الأرض، {عَسَى} أَنْ تكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ، و (عسى) هذه لا يجب أخذها بعين الاعتبار لأن السلف (الصالح) قالوا: "إذا رأيتم الرجل يعمِّر المسجد فاحسنوا به الظن" وهذا هو الأهم والأجدى والأنفع لأن حسن الظن من حسن الفطن! ، (مع الاعتذار للإمام الشافعي)
وما دام الله قد أذن ببيوت ترفع ليُذكر فيها إسمه، فلا داعي للحصول على إذنٍ من الدولة، وما هذه الدولة حتى تخالف إذن الله والعياذ بالله؟، لا داعي للإنتظار أو التردد طالما كانت النية خالصة لوجه الله، إنهم يسارعون فقط إلى مغفرة من ربِّهم وجنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، أعدت لهم ولمن والاهم، فلا يهم إن كان المال قد سرق أو استجدى، أو أنه بركة من تجارة، أي تجارة، حتى وإن كانت الدعارة، إنه من فضل ربهم، لا يهم، فالغاية تبرر الوسيلة، وتلغي الفضيلة، والحسنات يذهبن السيئات، والضرورات تبيح المحظورات. الجميع يلهث وراء عمل الخير لنفسه ولأولاده من بعده، وليذهب العقل والمنطق والضمير إلى الجحيم، والدولة وما فيها إلى جيوبهم هم وحدهم.
الرئيس العسكري (السادات) الذي زعم أنه مؤمن، ويحكم كغيرة بأمر الله، ذهب أبعد من غيره، فأعفى أي عقار من الضريبة لو تم تخصيص شقة فيه كمسجد، فامتلأت العمارات على الفور بأشباه المساجد، ولأنها أشباه مساجد بالضرورة، لا بد أن ترفع لها أعلى العمارة مكبرات أو مضخِّمات الصوت في كل الاتجاهات كما ترفع على مآذن المساجد الحقيقية، ليست لغرض الآذان وحده، نظرًا لإصابة السامعين بالصمم، ولكن لنقل خطب الجمعة والصلاة كاملة، فقد يكون الله غافلًا عمَّا يفعلون، الإلحاح هنا واجب ومفيد كما هي العادة، والتحايل على الدولة الضعيفة أو العاجزة يأتي أكله مرات ومرات. إذن ليس من الغرابة في شيء أن يبني أحدهم الدور الأخير مسجدًا في أعلى عمارته الشاهقة والمسروقة بكامل أرضها، ويجعل له مئذنة تناطح عنان السماء، ويضع المضخِّمات الصوتية في جميع الاتجاهات ليمنع عنها معول الهدم، فقد بناها من فضل ربة وبغرق ضميره وموت إنسانيته.
والأزهر المنعوت - دون سبب - بالشريف والأوقاف التي تسعى لأن تكون كذلك، يحميان الفضائل، ويحتاجان إلى عمل لآلاف الخريجين سنويًا ليتنفسوا فيه الصعداء، ويقتاتون بالكلام من أكتاف الفقراء والبؤساء، وينشرون فضائلهم في كافة الأرجاء، فيتسابق المهتدون في بناء المساجد بمال غير مالهم وعلى أرض غير أرضهم ؟ وكأن المتأسلم لم يجد في يوم ما مكانًا لا داخل المسجد ولا خارجه ليصلي؟
يا سادة وطبعًا السيدات معنا، لا يهم أن الآلاف وربما الملايين من عامة الشعب مصابون بالفشل الكلوي ويحتاجون إلى غسيل دوري، ويعانون الأمرين ليجدوا موعدًا، هذا إذا وجدوا المكان والمال اللازمين.
لا يهم أن آلاف، بل ملايين المرضى، لا يجدون سريرًا في مستشفى وهم في أمس الحاجة إليه.
ألا يحتاج المريض يا سادة، وطبعًا السيدات معنا، إلى التعافي من المرض واسترداد صحته كي يستطيع الذهاب إلى تلك المساجد والصلاة فيها، بدلا من تركها فارغة تعاني من القذارة والنتانة؟
ألا يجب أن يحظى الفقير بما يمسك رمقه كي يستطيع الصلاة في المساجد المتوفرة بقلب سليم ونية خالصة لوجه الله؟
لماذا يحتاج إلهكم إلى المزيد من الأماكن كي يُعبَد ويذكر إسمه فيها، ولا يحتاج لقلوب صادقة، ونفوس نقية وعامرة بقدر ما من الإنسانية؟
إذا كان في هذه الأمَّة التعيسة أشخاص لديهم مقدرة عقلية بالفعل، فلماذا لا يستغلون أموالهم في أمور خيرية؟ أليس في البلاد يتامى وأطفال شوارع بالملايين؟، ألا تحتاج البلاد إلى منشآت صناعية لتشغيل العاطلين عن العمل وإعالة أسرهم وهم بالملايين؟، أليس من الأجدى والأنفع بناء مستوصف أو مستشفى أو مدرسة بدلا من تبديد الأموال في أبنية لا يحتاج إليها الله والناس أجمعين؟
أليس من الأفضل والأحسن أن نتباهي ونتفاخر بعمل إنساني يعلي من شأننا أمام الله وأمام البشر أجمعين؟
ألا تعرفون يا سادة أن المبالغة في إنشاء المساجد أو التصريح ببنائها دون حاجة، علامة واضحة على العجز والوهن وضعف الإيمان.
ومازلنا نقول بأن المساجد نزعت عن دورها وجوهرها الحقيقي وهو الصلاة بخشوع وهدوء، لتصبح وسيلة للمنفعة الدنيوية بإسم الله وبمباركة من رجال الدين ورجال الدولة المهووسين باللعب بالدين.