ماركس فيلسوفاً


عبدالرزاق دحنون
الحوار المتمدن - العدد: 6330 - 2019 / 8 / 24 - 10:41
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

عنون المفكر العراقي الراحل هادي العلوي إحدى مقالاته باسم "لينين فيلسوفاً" نشرتها مجلة "الحرية" التي كانت تصدرها الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين "شراكة" مع منظمة العمل الشيوعي في لبنان. وقد أكد فيها ان لينين كان فيلسوفاً على الأقل في كتابه المهم الذي تُرجم إلى العربية تحت عنوان: "المادية والمذهب النقدي التجريبي". يقول هادي العلوي في بداية مقاله: يفترض تاريخ الفلسفة شروطاً للتفلسف، يتوقف عليها ترسيم المرء في قائمة الفلاسفة، وعلى رأسها توفر المنهج، فالباحث في الفلسفة على طريقة الهواة الذين تعنيهم الفكرة الفلسفية أو يقفون عند مجرد التوفيق بين الآراء لا يرقى إلى مرتبة الفيلسوف. ومثل هذا الباحث قد يصل مع توفر الاحتراف إلى معلم فلسفة فإذا اتقن المنهج واختار مذهباً معيناً ينشط فيه ارتقى إلى رتبة الشارح، وللشارح نفسه درجات تبدأ من معلم فلسفة وتنتهي بالفيلسوف.

وحين نمعن الفكر في كلمة فيلسوف ودلالاتها في الثقافة العربية نجدها مبهمة غامضة الحدود، يمكن إيجازها بمن درس العلوم الطبيعية والإلهية والخلقية درساً متقناً وكانت حياته موافقة لنتائج بحثه، ونطلق عليه اسم فيلسوف أو حكيم. وغالباً ما يكون المنهج المتسق والقدرة على الإبداع شرطين لا غنى عنهما لتفرقة الفيلسوف عن غيره.

لا خلاف أن كارل ماركس كان فيلسوفاً حتى بمقاييس الغرب الصارمة، ولكنه جنح نحو تضمين الفلسفة بعداً إنسانياً ظاهراً وحول مهمتها من تفسير العالم إلى تغيره. وأنا هنا أحاول التشبه بمنهج هادي العلوي في البحث، وعلى كل حال إن التشبه بالكرام حميد. وهذه فرصة لتصحيح غلطة بسيطة من هادي العلوي آمل أن تُصححها دار المدى للثقافة والنشر حين تُقدم على طبعة جديدة من كتاب "مدارات صوفية" وهو دراسة قيمة في تراث الثورات المشاعية في الشرق حيث جاء في باب الأبدال الصفحة 146 من الطبعة الأولى عام 1997:

كارل ماركس من أسرة يهودية تنصرت. عاش في ألمانيا ما بين 1813-1883 ومات عن سبعين عام.

والصحيح أن كارل ماركس ولد في 5 مايو/ أيار 1818 ومات في 14مارس/آذار 1883 عن عمر بلغ الخامسة والستين عاماً ودفن في مقبرة هايغيت، لندن، المملكة المتحدة.

كارل ماركس فيلسوف وعالم اقتصاد وعالم اجتماع ومؤرخ وصحفي ومناضل اجتماعي واشتراكي ثوري، وما لم يقله مؤرخوه وأتباعه عنه إنه فيلسوف حكيم. وعندما نقرأ مؤلفاته الجدلية نقرأ كاتباً نبيهاً واسع الأفق والاطلاع لا يهمل ظاهرة مؤثرة في الحدث المدروس اقتصادية أم اجتماعية أم مادية أم نفسية أم روحية. والماركسية عند ماركس دليل عمل، طريقة، نهج، لا عقيدة فهو يتجاوزها حين يكتب. ولعلها نادرة تاريخية أن ماركس هو الوحيد الذي كان يتجاوز نظريته حين يكتب ويفكر بتأثير عقله الجدلي الشمولي. وليس الماركسيون مثل ماركس.

كارل ماركس فيلسوف بشروط الفلسفة الأوروبية الحديثة. وفلسفته فرعان: المادية الديالكتيكية وهي فلسفة الطبيعة والمادية التاريخية وهي فلسفة التاريخ. ولا علاقة للمادية الديالكتيكية ببرنامج ماركس الشيوعي على حد تعبير هادي العلوي، والدمج بينهما افتعال، فالشيوعية موقف اجتماعي كما قال هادي مراراً. وقد يكون المرء مادياً ديالكتيكياً ولا يكون شيوعياً. أما المادية التاريخية فهي فلسفة الإنسان. والإنسان في العموم جُبل من مزيج من العلاقات المادية والروحية ولا يستقيم أن يكون مادياً صرفاً.

يقول هادي العلوي:

لا نجد في كتابات ماركس عروضاً مفصلة لماديته التاريخية سوى جذرها الأكبر، العامل الاقتصادي الذي يسير التاريخ. ولكن ماركس لم يجعل العامل الاقتصادي حاصراً لحركة التاريخ. وهذا ليس في فلسفة ماركس بل في منهجه. ومنهج ماركس غير فلسفته. هنا يكون الفاعل في التفكير والاستنتاج عقل واسع يستوعب أكثر من مجرد عامل أحادي حاصر. والعبقري يتجاوز نفسه وثوابته المنطقية باستعمال العقل. وقد فعل العقل فعله في توسيع آفاق المفكرين وإخراجهم من حدود التمذهب إلى الشمولية التي تتسع لشتى المناهج والأفكار والمذاهب.

أين تكمن فلسفة ماركس الحكيم؟

لم يكن ماركس ينظر إلى الإنسان بوصفه بهيمة بل كائن مادي روحي. ولكن تجريد الإنسان من حاجاته المادية على يد سلطة الدولة وسلطة المال جعل ماركس يركز على هذه الحاجات أولاً. وهذا هو التفكير المشترك مع حكماء الشرق، التفكير في حرمان الناس من حاجاتهم المادية والنضال لإشباعها بمعنى العمل على إيجاد الراحة للخلق. وهؤلاء كانوا في زمانه العمال وكانوا لا يزالون السواد الأعظم من سكان أوروبا.

كان ماركس مرهف العاطفة كغيره من الحكماء ومن ذلك حبه الشديد لزوجته جيني، كان قلبه يتوهج عشقاً لها، ولعل السبب أنه كثيراً ما كان يفارقها لكثرة مهامه، والفراق يؤجج الحب. وقلبه فيما عدا ذلك عامر بالوجدان مهموم بمعاناة المعذبين في الأرض.