قالوا: خليفة بساسي


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 6321 - 2019 / 8 / 15 - 16:09
المحور: الادب والفن     

توضيح

وقفات وليست مواقف، فالمواقف من ورائها غاية ما، والوقفات كلمات أو لحظات تَعِدُنا وتُعِدُّنا لنتخذ موقفًا، هدفي ليس هذا أو ذاك، هدفي توثيق بعض الكتابات عني في هذا المنبر، وفي هذه اللحظة الحاسمة من عمري الأدبي، وأنا أعيد زيارة الكتاب المقدس، وأتعرض لشتى ردود الفعل، وهي كذلك مناسبة لأرتاح.


رواية المسار لأفنان القاسم الطريق الصعب إلى الحلم الممنوع

الروائي الفلسطيني أفنان القاسم يعد من أغزر الروائيين العرب إنتاجًا، كتب لحد الآن أكثر من عشر روايات، ترجمت خمس منها إلى الفرنسية، عدا عن مسرحياته ومجاميعه القصصية ودراساته، وآخر ما ظهر له رواية "المسار"، هذه الرواية الهامة التي نود الوقوف عندها، وفي الوقت ذاته، حث النقاد على فحصها ودراستها وتناولها، وباختصار، الاقتراب منها، للابتعاد عن تهمة التكاسل والتراجع في زمن ساخن، تحت حجة ضيق الوقت وحجم الرواية أو "ثمنها"!

تمثل "المسار" منعطفًا جديدَا في مسيرة أفنان القاسم الروائية، وهي بصفحاتها ال 670 أضخم رواية عربية تصدر لحد الآن، هذا إذا ما استثنينا ثلاثية نجيب محفوظ طبعًا. ورغم أن "المسار" تمثل امتدادًا لما سبقها من أعمال (في المضمون خاصة)، فإن أفنان القاسم تخلى فيها عن النموذج الروائي الذي اتبعه في ما سواها من روايات، وخلافًا "للباشا" و "النقيض" و "العصافير لا تموت من الجليد" حيث يجد القارئ نفسه أمام شخصية بارزة تسيطر على الرواية من أولها إلى آخرها، فإن "المسار" تكاد تكون مجوعة روايات في صلب رواية واحدة. وهكذا نجد أن لكل من محمود وشعبان والمسلم وشريف روايته "الخاصة"، لكن مجمل هذه "الروايات" يُكَوِّن ملحمة شعب، والقارئ مدعو لمعايشة هذه الملحمة، مأساة الشعب الفلسطيني ومسيرته قبيل حرب الأيام الستة وأثناءها وبعدها.

أبعاد شمولية

تبدأ الرواية بإحدى قرى الداخل الفلسطيني، ثم تتفرع وتمتد هذه الفروع لتصل إلى يافا-تل أبيب-القدس-الضفة الغربية-السودان-القاهرة-الكويت-المغرب-الفيتنام، وهذا الانفتاح على هذه الآفاق البعيدة أحيانًا (فيتنام مثلاً) توصل إليه الكاتب بانتهاجه طريقتين:


1) أن يتتبع شخصياته أثناء تنقلاتها من مكان إلى آخر، ويصف لنا كل ما تقع عليه عيناه أو يصل إلى أذنيه.
2) أن يفسح المجال لإحدى الشخصيات لتحدثنا عن تجربتها في هذا المكان أو ذاك (الرجل الأسود يحدثنا عن السودان، الجندي الأمريكي-الصهيوني يحدثنا عن تجربته في الفيتنام، غسان يحدثنا عن تجربته في الكويت... إلخ)، وهذا ما أعطى للرواية أبعادًا شمولية، وأظهر لنا القضية الفلسطينية بكل تشعباتها وملابساتها محليًا وعربيًا وعالميًا.

حركة الزمن

ورغبة الكاتب الملحة في إبراز الواقع بكل ملابساته جعلته يذهب بعيدًا في الوصف، فيتوقف الزمن أو يكاد، وتنعدم الحركة، ويبقى الكاتب يتنقل بكاميراته على كتفه من مكان إلى آخر لتسجيل كل ما يمكنه تسجيله، وهذا خاصة في القسم الأول. ولعل مرد ذلك إلى حالة الكساد والفراغ والضياع التي تعاني منها كل الشخصيات تقريًبًا، وكأنها تعيش على هامش التاريخ، وخارج نطاق الزمن، وقد أبرز الكاتب ذلك بروعته في اللوحة التي رسمها للمقهى وهي تعج بالزبائن، وهل هناك أبلغ من هذا الرمز للحياة خارج حدود الزمن عندما يوقف الكاتب كل الساعات: ساعة قاسم-ساعة المقهى- ساعة صاحب المقهى-وساعات كل الزبائن:

"كانا يريدان السؤال عن الوقت، ففي مقهى فلسطين لم يكن الوقت يجري، أو بالأحرى قد توقف، والناس فيه يلعبون النرد والورق، ويشربون القهوة والخمر، ويصيحون، ويضحكون... كانت اللحظة هناك ميتة، وكان هناك متحف للضياع!" (1)

ولا يتحرك الزمن من جديد إلا بهروب شعبان من إسرائيل، وانتقالنا إلى الضفة الغربية، فتكثر الحركة، ويشتد الغليان، ويتحرك الزمن، وبسرعة.

أكثر من دلالة

ولنا أن نشير إلى أن معظم الأحداث تتم تحت جنح الليل، وفي ظلام دامس، ولهذا الرمز أكثر من دلالة:

عدم وضوح الرؤية لدى الغالبية من الأشخاص حيث نجدهم جلهم يتلمسون طريقهم وسط هذا الظلام، ويبحثون عن مسلك للخروج من البوتقة التي يعيشون داخلها. وهل هناك أكثر تعبيرًا لهذا الضياع من أن يجعل الكاتب إحدى شخصياته (شعبان) وبعد مسيرة أكثر من يوم يجد نفسه في المكان الذي انطلق منه؟!:

"البرج الطويل للمعسكر الإسرائيلي كان ينتصب في الوادي، والسارية التي عليها علمهم كانت هناك، وكان كوخ الراعي إسحق وحظيرته في الجهة المقابلة، كنت أعود إلى نقطة البدء من جديد." ص 248

ومنذ البداية، منذ الصفحة الأولى، كان شعبان يتخبط في الظلام:

"في الخارج، طائر الليل. كان صداحه يبحر في الكون راحلاً على مراكب الدجنة، وشعبان يمضي دون أن يرى الطريق." ص 9

الأرض محور رئيسي

أما المحور الرئيسي للرواية، فهو الصراع من أجل الأرض، صراع طرفي النزاع فيه الصهاينة (يعقوب، السمسار، الحاكم... إلخ) والفلسطينيون (شعبان، محمود، المسلم... إلخ).

وإذا كانت للصهاينة حكومة تحميهم وتساندهم في هذا الصراع، فالفلسطينيون يعيشون عزلاً، حيارى، كل يبحث، بطريقته الخاصة، عن سبيل يُمَكِّنُهُ إما من استرجاع أرضه أو من التشبث بها، فالفلاح (الفلسطيني بصفة عامة) المخلوع من أرضه يظل يجري وراء السراب، وراء الحلم، حلم استرجاعه هذه الأرض، يطارد هذا الحلم في المدينة وعلى الحدود وفي الضفة:

"خلعوه من الأرض... ليطارد الحلم في المدينة" ص 13

"أول شيء سيفعله، سيقطع الحدود، وسيعبر إلى الضفة، الضفة-الحلم" ص 12

وهذا هو حال شعبان، أو بينما تطارده المحاكم العسكرية كما هي حال المسلم، وفي الضفة الغربية كما هي حال شريف.

وهؤلاء الأشخاص، وهم يغادرون أرضهم، يحلمون بالعودة إليها. وهذا السفر، هذا الجري وراء الحلم، هو طريقهم إلى العودة:

"وتذكَّرَ الأرض، وصمته وبراءته، عقابه وجزاؤه، موته وحياته، وأكد أنه لا يتركها، فهو سيعود إليها بعد أن يأتي بالحلم الممنوع." ص 13

من خلال تجربة شعبان ومحمود نرى أن الكثيرين، في ذلك الوقت، يحلمون بالعودة، وهذا الحلم سيتحقق عن طريق الضفة، ومن الخارج، عن طريق عبد الناصر الذي يهدد ويعد بالمجيء:

"قولي له إن أباك قد هرب من الوطن لأن الوطن لا يريده، وهو لم يترك الوطن إلا ليعود إليه (وتوهجت في خياله صورة عبد الناصر كعمر بن الخطاب فاتحًا) سأعود إليك يا أمينة." ص 191

ولعل المسلم هو الشخص الوحيد الذي "اهتدى" إلى الحل الأفضل بنظرنا: البقاء في القرية، وانخراطه في المنظمة:

"كان على المسلم أن يمنعهم من إرغام أمه على تأجير الأرض، أن يرغمهم على إعادة أرضه، وانخرط في المنظمة، وبدأ يعمل من خلالها، وبدأ يعمل من خلالها مع عدد من الفلاحين." ص 220

وهذا الانخراط في المنظمة يأتي نتيجة فشل كل مساعيه لدى الحاكم العسكري الإسرائيلي والمحاكم من جهة، ونتيجة اقتناعه بأن أرضه في حاجة إلى المنظمة كما أن المنظمة في حاجة إليه وإلى أمثاله ص 169.

مبدئيًا رجحت كفة الصراع لصالح الشاويش يعقوب والسمسار والحاكم العسكري (الصهاينة)، فمحمود يقبع في السجن، وشعبان مطارد من أجل جريمة لم يرتكبها. غير أن الصراع لم ينته، فشعبان فر إلى الضفة مطارِدًا حلمه الممنوع، والمسلم انخرط في المنظمة.

المسار الطويل

فلنتتبع شعبان الآن في مساره الطويل هذا إلى أية نتيجة سيصل به؟

لفرار شعبان دور بارز في الرواية وذلك لسببين على الأقل:

أولاً) الانتقال في المكان سيمكننا وسيمكن شعبان من الاطلاع عما يجري في فلسطين المحتلة وعما يجري في الضفة الغربية المقابلة، فالإسرائيليون يستعدون استعدادًا حثيثًا لخوص الحرب التي أعلن عنها هارون "بحدسه" منذ زمان ص 94.

لقد شاهد شعبان الحشود على الحدود، ولقد شاهد المدنيين يستعدون لخوض الحرب أيضًا من ناحيتهم، بل نراهم يتحرقون شوقًا لخوض غمارها:

"أشعر أني سأقتحم العالم، يا ليت الحرب تقع الآن، الآن حالاً." ص 241

أما شعبان، فهو يرى أن هذه الحرب لا تعنيه لا بقليل ولا بكثير:

"إنها لا تهمني على الإطلاق." ص 94

ونجتاز الحدود، ونصل إلى الضفة، لنقف على مدى استعداد الطرف المقابل (الأردن والعرب بصفة عامة)، فماذا نجد؟

اللوحة الأولى

أول لوحة يقدمها لنا الكاتب هي محاكمة شريف بتهمة توزيع "منشورات حزبية محظور تداولها ومحرمة تحريمًا مطلقًا في عرف القانون، وهذه المنشورات لا تكتفي بالتشكيك لدى العامة، وبث الذعر والفساد العقائدي، ونشر الأفكار السامة فقط، بل تدعو المواطن إلى التمرد جهرًا ضد الدين والدولة." ص 288

اللوحة الثانية

واللوحة الثانية التي تطالعنا من الضفة هي سهرة "ماجنة" لمجموعة من الشبان: "ترنح... ترنح... ترنح... كانت الحجرة حمراء، وقد اشتعل فيها ضوء بارد، وكان شريف يثني رأسه من فوق الأسطوانة، وقد بانت له هيئة تعبد مفرط. وكان عدنان يحتضن سابو، ومازن يحتضن سعيد، وقاهر يحتضن غسان، واسكندر يحتضن أحمد، ويوسف يحتضن مصطفى، وكانوا يترنحون وسط النعاس والدخان والضوء البارد والموسيقى." ص 363

ثانيًا) هذا الفرار سيضع حدًا لأحلام شعبان وأمثاله، حلم الخلاص الآتي من الضفة، الضفة-الحلم التي ستكون لشعبان جحيمًا وأي جحيم! والتي ستجعله "يهودي" بالرغم عنه.

وتقع الحرب ونتائجها معروفة.

تساؤلات وآفاق مستقبلية

الذي يهمنا من هذه الحرب هو التساؤلات التي طرحتها، والآفاق المستقبلية التي فتحتها.

في الأرض المحتلة سنة 48، كان شعبان يرى أن هذه الحرب (من الناحية الصهيونية) لا تعنيه ولا تهمه. وفي الأرض المحتلة سنة 67، نجد هناك شبه إجماع على نقطة واحدة على الأقل: أن هذه الحرب لم يقع الإعداد لها البتة، ولم تكد تبدأ حتى انتهت، لحد أن البعض لم يكد يسمع بها:

"نعم من خط النار، لكني لم أسمع عنها حربكم هذه هناك!" ص 447

والبعض الآخر يرى في هذه الحرب مزحة أو مهزلة:

"عدوها مزحة، كما شاء لكم، مثل هذه الحرب التي خاضوها على حسابكم!" ص 452

وفريق ثالث يرى أن النظام "كان يعرف أن الحرب واقعة، ولهذا عمل على أن يخسرها قل ذلك بكثير، وكما يجب، فلا تتجاوز أيامًا ستة!" ص 479

وكأني بالكاتب يتبنى وجهة النظر هذه، فنحن لا نكاد نعثر على جندي عربي واحد يتصدى للعدو، فهم قد انهزموا في اللحظة الأولى أو انسحبوا قبل أن تصلهم قوات العدو (!).

طريق الخلاص

بقي لنا أن نتساءل عن طريق الخلاص كما يتراءى لبعض أشخاص الرواية:

يقول مصطفى: "انتصارنا على العدو اليهودي، عدوي وعدو أجدادي وربما عدو أبنائي انتصار حضاري" ص 578 ويواصل: "أعتقد أنها الطريقة الوحيدة لإفحام العدو، ومن ثم التغلب عليه وقهره، أولاً عن طريق الصدق، وثانيًا عن طريق التقدم والحضارة." ص 579

ويرى بعضهم أنه "يجب أن نتغير، نحن لا نشعر بحركة الأرض رغم أننا في حضنها." ص 404

أما الآخرون، فقد اختاروا طريق العمل وحمل السلاح نسجًا على منوال شريف وعدنان و"الفلاح" ومازن.

النهاية متفائلة رغم كل الصعاب

وتنتهي الرواية على "وقع حوافر تدق الأرض، وإذا بالفجر ينشق عن حصان أسود يأتي معه الوهج، بقي يعدو حتى اجتاز السياج، وانطلق نحوه، وهو ينفض الرأس تباعًا، ويطلق الصهيل." ص 671

وبالرغم من المسحة التشاؤمية التي تكتسيها الرواية، فهي تذهب بنا إلى الشعور بالأمل، الأمل المشرق، الأمل بالغد، بالجيل الصاعد الذي حمل السلاح، ولا ننس أن المسلم لم يبلغ بعد العشرين من عمره، وكذلك الشأن لمازن وبعض الشبان. ورغم أن الصراع يبدو وكأنه حسم لصالح الصهاينة، فهو يأخذ شكلاً آخر: المسلم لم يستسلم، وكذلك محمود رغم أنه فقد عينيه، وقد انضاف إليهما مجدي وشريف وعدنان وغيرهم كثر. والنتيجة التي نتوصل إليها في خاتمة الرواية هي ضرورة الالتحام بالأرض، وأن نكون منها أقرب ما يكون، إلى جانب الانخراط في المنظمة والحزب الثوريين، والعمل من خلالهما.

هاتان النقطتان سيعود الكاتب إلى الإلحاح عليهما من جديد في روايتين لاحقتين: النقيض والعصافير لا تموت من الجليد، ولنا فيهما عودة قريبًا.

(1) أفنان القاسم: المسار، منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1981، ص 214.