العَدَالَةُ الانتِقَاليَّة (2 4)


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 6316 - 2019 / 8 / 10 - 17:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

العَدَالَةُ الانْتِقَالِيَّة (2 ـ 4)
التَّطوُّرُ التَّارِيخِيُّ لِتَطبِيقَاتِ المَفْهُومِ وَالمُصْطَلَح
بقلم/ كمال الجزولي

***
التَّاريخ الفعلي لنشأة مفهوم "العدالة الانتقاليَّة" غير معروف بدقة، حيث جرى تداوله، ابتداءً، في حقل السِّياسة الفرنسيَّة، لكن ظهوره، بدلالته التَّطبيقيَّة الرَّاهنة، فيعود إلى العام 1992م، في كتاب من ثلاثة أجزاء حرره نيل كيرتز بعنوان "العدالة الانتقاليَّة: كيف تنظر الدِّيموقراطيَّات الوليدة إلى الأنظمة السَّابقة"، ويضم أهمَّ الكتابات الباكرة التي استخدم فيها المفهوم ضمن أدبيَّات السِّياسة والقانون في مختلف البلدان، كمفهوم استثنائي يربط بين مصطلحي "العدالة" و"الانتقال"، كما قد رأينا، ويشتغل فقط في البلدان التي تروم استدبار الأوضاع الشُّموليَّة، وإقرار السَّلام، وإنجاز التَّحوُّل الدِّيموقراطي، وترميم شروخات الجَّبهة الدَّاخليَّة، والسَّير باتجاه إعادة البناء الاجتماعي، وتحقيق "المصالحة" الوطنيَّة الشَّاملة، وذلك من فوق تاريخ مثقل بتركة انقسام اجتماعي ناجم عن حرب أهليَّة متطاولة، أو نزاعات داخليَّة مسلحة، أو ممارسات إبادة جماعيَّة، أو قمع وحشي عام، أو تعذيب منهجي للخصوم السِّياسيِّين، أو ما إلى ذلك من انتهاكات حقوق الإنسان أو جرائم الحرب أو الجَّرائم ضدَّ الإنسانيَّة.
بالتالي فإن إدراك محتوى هذين المفهوم والمصطلح، حسبما تمخَّضا عن تجارب وخبرات أكثر من أربعـين بلداً في مخـتلف القارَّات، مثل تشـيلي (1990م)، وغـواتيمـالا (1994م)، وجنوب أفريقيا (1994م)، وبولندا (1997م)، وسيراليون (1999م)، وتيمور الشرقية (2001م)، والمغرب (2004م)، لا يكون بمعزل عن شبكة مفاهيم ومصطلحات يتضمَّنها هذا المحتوى، مثل "لجان الحقيقة ـ الإنصاف ـ إعادة البناء الاجتماعي ـ إعادة تأهيل الضَّحايا ـ المصالحة الوطنيَّة ـ الإصلاح القانوني والقضائي والسِّياسي"، بما في ذلك إعادة صياغة مؤسَّسات الدَّولة كافَّة، المدنيَّة والعسكريَّة. كما تجدر الإشارة إلى أن هذه الخبرات والتَّجارب الدَّوليَّة تمخَّضت عن المركز الدَّولي للعدالة الانتقاليَّة ICTJ، بفضل جهود البروفيسير أليكس بورين والقس ديزموند توتو اللذين يعتبران المهندسَين الحقيقيَّين اللذين أعانا نلسون مانديلا على تحقيق التَّجربة في جنوب أفريقيا. لقد أفضت جملة تلك التَّجارب إلى الارتقاء بخطاب المجتمع الدَّولى من مجرَّد المطالبة بتيسير الوصول للعدالة Access to Justice، فى سبعينات وثمانينات القرن المنصرم ، إلى تعزيز مبادئ المحاسبية Accountability، والتَّشديد على عدم السـَّماح بالافلات من العقاب Impunity، منذ مطالع تسعيناته، حتَّى أضحت هذه الخبرات تشكِّل، في التَّاريخ الإنساني، علامة انعطاف فارقة، وجديرة بالاستهداء بها، لابتداع وإثراء أشكال جديدة، من واقع المخزون الأخلاقي، والدِّيني، والثَّقافي، لدى مختلف الشُّعوب.
هذا التَّطوُّر التَّاريخي لتطبيقات المفهوم لم يقع بضربة واحدة، وإنما بالتَّدريج، وعبر خبرات مختلف البلدان والشُّعوب:
# ففي أوروبا الغربيَّة يعود المبحث إلى ما بعد الحرب الثانية، مِمَّا ينعكس في نموذجي "نورمبرج وطوكيو". لكن "العدالة الانتقاليَّة"، كمفهوم وكمنهج عمل، نضجت أكثر مـع محــاكـمـات جـنرالات اليونان (1975م)، والأرجـنتين (1983م)، وملاحقة القادة النازيِّين الفارِّين، والقبض عليهم، ومحاكمتهم.
# وفي أوربا الشَّرقيَّة أسهمت الجهود المجتمعيَّة في التَّعامل مع انتهاكات الماضي، عبر فتح ملفَّات وكالات الأمن السَّابقة، "مثل قانون سجلات استاسي في ألمانيا 1991م"، في الدَّفع بالنِّضال العالمي من أجل العدالة خلال فترات الانتقال السِّياسي.
# وفي أمريكا اللاتينيَّة أسهمت مؤسَّسات الكشف عن "الحقيقة"، مثل "اللجنة القوميَّة الأرجنتينيَّة لتقصِّي المختطفين، 1983م"؛ والجهد غير الحكومي في الأورغواي، والذي أفضى إلى التقرير الأشهر "الأورغواي: ليس مرَّة أخرى"؛ و"لجنة الحقيقة والمصالحة التشيليَّة، 1990م"، وغيرها، أسهمت إسهاماً كبيراً في تطوير مفهوم "العدالة الشَّاملة" خلال فترات "الانتقال"، استناداً إلى أن "الحقيقة" مبدأ جوهري لا يجب الانتقاص منه. كما وأن الجُّهود الإضافيَّة لتعويض الضَّحايا في الأرجنتين وتشيلي أسهمت أيضا في توفير العدالة للضَّحايا.
# وفي أفريقيا، واستهداءً بتجارب أمريكا اللاتينيَّة وشرق أوربا، كوَّنت جنوب أفريقيا، عام 1995م، "لجنة الحقيقة والمصالحة" لتتناول جرائم التَّفرقة العنصرية. ومنذ ذلك الوقت، أصبح نموذج هذه "اللجنة" آليَّة عالميَّة لـ "العدالة الانتقاليَّة"، حيث تكونت لجان مشابهة في تيمور الشرقية، وغانا، والبيرو، وسيراليون، والمغرب، وغيرها، رغم أنها تمايزت، وابتدعت أساليبها الخاصَّة، ومن أهمِّها إضافة "الإنصاف" بين "الحقيقة" و"المصالحة" في تجربة المغرب.
ويقوم المنطق وراء اجتراح نمط "العدالة الانتقاليَّة" على عدَّة عناصر، منها:
(1) ضخامة الجَّرائم المرتكبة خلال الفترة السَّابقة على الانتقال، والمكوِّنة لتركة الماضي المراد تصفيتها، رأسيَّاً من حيث النوعيَّة، وأفقيَّاً من حيث أعداد المنتهكين والضَّحايا، بحيث تصعب معالجتها جميعها عن طريق إجراءات المحاكم العاديَّة.
(2) كون التَّقاضي العادي أمام المحاكم الجَّنائية يتقيَّد بقواعد صارمة، مثل:
أ/ الإثبات دون الشَّـكِّ المعقـول beyond a reasonable doubt، والـذي يسـتوجـب عـدم
استعجال الإجراءات، وبالتَّالي لا يفي بالكشف عن نطاق واسع من الجَّرائم.
ب/ الاصطدام بين بعض إجراءاته، كعرض العفو Pardon مقابل تقديم إفادات عن أدوار الشركاء King s Evidence، وبين بعض المبادئ القانونيَّة الدَّولية التي تعتبره غير مقبول في حالات الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان وللقانون الدَّولي الإنساني.
ج/ حصانة المعلومات التي يدلي بها الشهود أمام جلسات الاستماع من أن تستخدم فى الدعاوى ضدهم أمام المحاكم العاديَّة، فهذه المعلومات مطلوبة فقط للكشف عن الحقيقة.
أقرب خبرات "العدالة الانتقاليَّة" إلينا هي الخبرات الأفريقيَّة، وتحديداً تجربة المغرب تحت عنوان: "الحقيقة والإنصاف والمصالحة"، وتجربة جنوب أفريقيا تحت عنوان: "الحقيقة والمصالحة"، مع رجحان التَّناسب بين تجربة المغرب وتجربتنا، حال توافقنا على التَّحوُّل المنشود، دون إغفال أكثر من أربعين تجربة عالميَّة أخرى جعلت خطاب المجتمع الدولي الذي كان منصباً، خلال سبعينات وثمانينات القرن المنصرم، على ما يُعرف بتسهيل الَّتقاضي Access to Justice فحسب، يرتقى، منذ مطالع التِّسعينات، باتِّجاه التَّشديد على ما يُعرف بعدم السَّماح بالإفلات من العقاب Impunity.
لقد أفضى جدل التطوُّر الطبيعي لعلاقات وصراعات المجتمع المدني مع النِّظام السَّابق في المغرب، إلى إحداث تحوُّل أكثر تأثُّراً بالدِّيموقراطيَّة داخل بنية النِّظام نفسه، بينما أفضى في تجربة جنوب أفريقيا إلى نموذج مغاير بالاتِّجاه لإنجاز القطيعة التَّامَّة مع نظام الفصل العنصري السَّابق. لقد اضطر الكثير من الجَّلادين لمواجهة ضحاياهم في جنوب أفريقيا، وقدموا اعترافات علنيَّة بما اقترفوا، كما وتمكن الضحايا في المغرب من "..إسماع أصواتهم من منبر عمومي رسمي .. (و) تأسيس حكي وطني حول المعاناة والآلام الماضية" (أنظر: التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة).
ولئن استندت التَّجربة في بيئات الثَّقافة المسيحيَّة، كما في جنوب أفريقيا، على التَّعاليم الكنسيَّة بشأن فضيلة التَّسامح والعفو، فإن مِمَّا يرجح سداد تطبيقاتها في بيئات الثقافة الإسلامية، كالمغرب، أن تعاليم الإسلام نفسه قائمة، في هذا الجانب، على الإعلاء من فضيلة "العفو عند المقدرة". ويقيناً تكفل آليَّة "الاستماع العمومي"، وما شابهها، هذه "المقدرة" بحمل الجَّلادين ونظامهم السِّياسي على "الاعتراف" بـ "الحقيقة" علناً، أو، على الأقل، بتمكين "الضَّحايا" من رواية "ما جرى" علناً أيضاً.
والتجربتان، المغربيَّة والجَّنوبأفريقيَّة، مطروحتان في أفق الخبرة الإنسانيَّة المشتركة، من خلال الاشتباك مع دور المجتمع المدني في عمليَّة التَّحوُّل، أو تجاوز "سنوات الرصاص"، بالمصطلح المغربي، لفظاً للعنف، وتفادياً لنزعة الانتقام، واعتماداً للوسائل الدِّيموقراطيَّة في تقصِّي "الحقيقة"، وأداء "واجب الذَّاكرة"، وفق علم النَّفس الاجتماعي، و"جبر الضرر" بإعادة الاعتبار للضَّحايا، ماديَّاً ومعنويَّاً، ونقل الشَّعب من خانة "الرعايا" إلى خانة "المواطنين"، وابتداع الإصلاحات الهيكليَّة لقطع الطريق أمام الانتهاكات، مستقبلاً، وضمان "ألا يتكرَّر ذلك مرَّة أخرى"، أي إجراء مصالحة حقيقيَّة وكاملة، لا مع النِّظام، كما قد يتبادر إلى الأذهان خطأ، وإنما مع " التَّاريخ الوطني" و"الذَّاكرة الوطنيَّة" في المقام الأول.
لقد شكَّلت التَّجارب العالميَّة في حقل "العدالة الانتقاليَّة"، وبالأخصِّ تجربتا المغرب وجنوب أفريقيا، علامة انعطاف نوعيَّة فارقة في التَّاريخ الإنساني. أما التَّعويل القديم على خداع النَّفس، والشَّعب، والعالم، بفبركة نماذج من مصالحات صوريَّة، وديموقراطيَّات شكلانيَّة يكاد لا يتبدَّى لها مردود سوى الضَّجيج الدَّعائي الذي لا يرُدُّ حقاً، ولا يجبر ضرراً، ومحاولة تسويق موقف مناهض، بعد ذلك كله، للعدالة الجنائيَّة الدوليَّة، باعتبارها محض آليَّة للاستكبار الدَّولي، فقد أمسى نهجاً مفضوح البوار والخسران، بل، بالأحرى، محض وهم غارق في الكساد واللاتاريخيَّة.
وفي الخلاصة، ولتثبيت مبدأ العدالة الشَّاملة في اللحظة التَّاريخيَّة المعيَّنة، فإن الكثير من البلدان تبنَّت استراتيجيات "العدالة الانتقاليَّة"، وفق أشكال متنوعة من التَّطبيقات.

***
في السودان يقتضي التَّطبيق توفُّر إرادة سياسيَّة قويَّة تترجم، عمليَّاً، جوهر المادة/21 من الدستور الانتقالي لسنة 2005م التي توجِّه بأن "تبتدر الدَّولة عمليَّة شاملة للمصالحة الوطنيَّة وتضميد الجِّراح من أجل تحقيق التَّوافق الوطني والتَّعايش السِّلمي بين جميع السُّودانيين". فبرغم ورودها، للأسف، ضمن الفصل الثَّاني من الباب الأوَّل، بعنوان: "المبادئ الهادية والموجِّهات"، على حين كان ينبغي أن تكتسي، وبتفصيل أوفى، صفة أكثر إلزاميَّة من مجرَّد "الهداية"، إلا أن ثمَّة ضرورة سياسيَّة وطنيَّة تستوجب، مع ذلك، الاهتداء بروحها في ضوء الخبرات والتَّجارب المذكورة. وأيَّاً كانت تجربة التطبيق هذه، فإنها ستستوجب:
أ/ إمَّا تغييراً راديكاليَّاً، أو تسوية تقوم على مساومة تاريخيَّة، حيث لا بُدَّ، في الحالين، من فترة انتقاليَّة.
ب/ شكلاً مناسباً من الشَّراكة بين الدَّولة والمجتمع المدني، فـ "العدالة الانتقاليَّة" ليست من أعمال المعارضة السِّياسية، كما وأن "المصالحة" التي تترتَّب عليها، إن أخذت بحقها، ليسـت من ذلك النَّمـط الذي يفضِّـله الشـُّموليُّون تحت عنوان "عفا الله عما سلف"!
(نواصل)

***