استعمل مخَّك و إلَّا فقدته


عبدالرزاق دحنون
الحوار المتمدن - العدد: 6315 - 2019 / 8 / 9 - 13:53
المحور: الطب , والعلوم     

تُجمع الدراسات الحديثة في علوم البيولوجية العصبيَّة على أن المرء يمكنه المحافظة على الرشاقة الذهنيَّة لمخّه حتى آخر العمر, وذلك من خلال تدريب المخّ على القيام بنشاطات مختلفة , وإذا أرادنا المحافظة على مرونة أمخاخنا, فلا بد من أن تكون الرياضة الفكرية التي تمرّن المخّ من ضمن برنامج حياتنا اليومية. فكِّر جيداً في هذه الواقعة :

وجد أحد علماء الآثار قطعة موسيقية مدونة على رقم طيني في وادي الرافدين, يعود تاريخ تدوينها إلى الألف الثاني قبل الميلاد , وقد تم قراءة هذه الإشارات الموسيقية, وتقديمها معزوفة إلى الجمهور في أوروبا عام 1974. شعر المستمعون بالألفة التامة مع الموسيقى المعزوفة, لأن مسافاتها الزمنية كانت مشابه كثيراً لتلك الموجودة في نغمات السلم الموسيقي الحديث. ولا يمكن للمرء أن يجزم ما إذا كان غرامنا بهذه النسب الترددية البسيطة كامن في طبعنا, أم أنها نتاج مرجعية ثقافية مكتسبة قديمة وذات طابع كوني. والملاحظ بعد التجربة أن المخّ البشري ينهمك بكامله في التمتع بتلك الموسيقى, بل هذه النغمات الموسيقية رفعت عمل المخّ إلى أعلى درجات الاستعداد, مما جعله أكثر قدرة على التعامل مع محيطه في البيئة الطبيعية وفي المجتمعين الإنساني والحيواني.

من المعروف أن المخّ البشري يتكون من عشرات البلايين من العصبونات المتضافرة معاً والتي تمتلك خصائص مميزة لا حصر لها. هذه الوصلات السلكيَّة تتبادل الإشارات الكهربائية بصورة محددة زمنياً بدقَّة بالغة, إضافة إلى كمٍّ وافر من الرسل الكيميائية الحيوية المتنوعة, وبسبب هذا التعقيد المذهل, فإن علماء الأعصاب لا يمتلكون المفتاح لفهم عميق لما يقوم به المخّ فعلياً, ولا لفهم نوعية نماذج النشاط التي تصدر من خلايا معينة في المخّ, وتؤدي في آخر الأمر إلى نشوء الأفكار والذكريات والأحاسيس والمشاعر.

وقد شاع قول طريف في الأوساط العلمية: إن البنات يُخلقن من السكر والتوابل بينما يُخلق الصبيان من القواقع والرخويات. ونحن نعلم أن المخّ لدى البنات والصبيان ولدى النساء والرجال ولدى الفيل والنملة ولدى الديدان والفئران أو حتى مخّ أينشتاين, إنما تتكون من خلايا عصبية, وهي تشكل أساس التفكير وتتحكم في السلوك, وهي جميعاً تحتوي على بروتينات وهرمونات, وهي تقوم بالتمثيل الغذائي للكربوهيدرات, وتستهلك الأوكسجين الذي تحصل عليه من مجرى الدم, كطاقة لازمة لأداء وظائف المخّ المتعددة.

من منظور غذائي, إن ما هو استثنائي فيما يخص مخّنا الكبير, إنما يرجع إلى كمية الطاقة التي يستهلكها, والتي تزيد كثيراً عما يستهلكه النسيج العضلي لكل وحدة وزن, ولكن على الرغم من أن البشر يمتلكون أمخاخاً تفوق كثيراً في كبرها - بالنسبة إلى وزن الجسم – كبر أمخاخ الرئيسات الأخرى, فإننا نستخدم من الطاقة الحيوية اليومية نصيباً يفوق كثيراً نظيره لدى الثدييات الأخرى من أجل إطعام أمخاخنا الشرهة. وفي الحقيقة, يصرف استقلاب المخّ في وقت الراحة مقداراً ضخماً يبلغ ربع الاحتياج البشري من الطاقة, وهذا يفوق كثيراً ما تخصصه الثدييات الأخرى للمخّ, والسؤال المهم أين تذهب كل هذه الطاقة؟

المخّ البشري على العموم كتلة حيَّة لديها قدرة عجيبة على العمل وإنتاج الفكر, ونحن نتعلم يوماً بعد يوم آلية عمل المخّ, وننبهر عندما نسير في الشارع ونقابل الناس ونتخيل أمخاخهم داخل جماجمهم. و المدهش حقاً أن يكون المخّ هو العضو الوحيد في عالم الأحياء الذي يختزن المعلومات لمدة قد تزيد عن مئة عام. وبالنظر إلى ما به من تعقيدات, وإلى ما يتمتع به من مقدرة على خلق الأفكار ,فإن المخّ البشري بلا شك هو أكثر الكتل الحية غموضاً وفعالية على كوكب الأرض. وما راكمه نصف القرن الأخير من معلومات عن وظيفة المخّ يضعنا وجهاً لوجه أمام سؤال: ماذا يعني أن تكون إنساناً؟

نحن في هذا المقام لا ندعي وجود إجابات جاهزة و في متناول اليد لهذا السؤال, لكننا نؤكد على أن ما يجعل الإنسان إنساناً هو مخّه الذي ينتج العقل وهذا العقل يميز الإنسان العاقل عن الحيوان الأعجم. وإنسانية الإنسان تتضمن جوانب السلوك والتي تصنف تقليدياً على أنها ذهنية. والأمر الأكثر أهمية هو أن بعض جوانب الحياة الداخلية للإنسان أصبحت الآن مفتوحة أمام البحث العلمي. والواقع أن قلَّة من علماء الأعصاب على المستوى العالمي تتخذ موقفاً ضد المذهب الطبيعي. حيث الغالبية العظمى تؤمن بالبيولوجية التطورية, وتؤمن بالفكرة العامة التي مفادها أنه لا يوجد عنصر غير بيولوجي يتحكم بالمخّ, فالأشياء الذهنية, والعقول في حقيقة الأمر, هي خصائص منبثقة عن الأمخاخ.

في أحدى البحوث المعروفة جيداً في الدراسات العصبية وجد أن الفأر الصغير إذا ما وضع في وسط ملئ باللعب ورفاق اللعب, أي في بيئة مزودة بوسائل الإثراء, فإن قشرة مخّه تبدأ في النمو بعد عدة أيام, وقد أكتُشف أن المبدأ نفسه ينطبق على الفئران المعمِّرة, والتي يتناسب عُمرها الافتراضي مع عُمر إنسان يتراوح بين الخامسة والسبعين والتسعين سنة. وما يقصد هنا بالنمو هو زيادة في حجم الخلايا العصبية لا في عددها, فالخلايا قد انقسمت والتغصنات - من غصون الشجر- قد نمت وانتهى الأمر, والذي يحدث حقيقة هو زيادة في المشابك التغصنيَّة العصبيَّة والوصلات بعد المشابك قد زادت في الطول, وبعبارة أخرى فإن كل جزء في الخلية العصبيَّة قد تضخم .

والذي يحدث عندما يتقدم العمر هو تناقص أو انكماش أو تقلص في حجم المخّ. انكماش في حجم المخّ, كيف ذلك؟ ذلك لا يعني بالضرورة أن المخّ يفقد خلاياه, بل إن الاستطالات الخلوية تجعد, بمعنى تبخل, فتتساقط, فتصير الخلايا العصبية أكثر تلاصقاً. تجعد, وتتساقط؟ نعم تتساقط, ولشرح هذه الفكرة نستعمل اليد, فكف اليد هو جسم الخلية, والأصابع هي التغصنات أو الاستطالات, ومع الاستعمال يمكن حفظ هذه المشابك و التغصنات ممتدة في مكانها وتعمل بشكل جيد كأصدقاء, ولكن بدون البيئة المدعومة بالإثراء فإنها تنكمش, فالأمر بكل بساطة استعملها وإلَّا ستفقدها.

والاعتقاد الذي كان سائداً خلال الستينات والسبعينات وما قبلها من القرن العشرين كان يرى بأن المخّ عضو لا يتغير- بمعنى أنه تركيب بنيته مستقرة وثابتة- وأنه بعد تمام نموه يظل محتفظاً بحجمه ثم ينقص مع دخول الإنسان مرحلة الشيخوخة. لذا فإن علماء التغذية لم يدرجوا الرأس في دراساتهم لأنهم اعتقدوا أن المخّ عضواً ثابتاً جداً.

في المحصلة النهائية يحتوي المخّ نوعين أساسيين من الخلايا, الخلايا العصبيَّة وهي العنصر الإشاري النشط من المخّ. والخلايا الدبقيَّة وهي تتساوى مع الخلايا العصبيَّة في العدد وربما تفوقها, وهي لا تقوم بتوصيل الإشارات العصبيَّة ولكنها تؤدي عدداً من الوظائف الأخرى. فبعضها يعمل كعناصر داعمة للمخِّ, وبعضها يقوم بتكوين الغمد الذي يغلف المحاور العصبية الكبرى بطبقات متعددة, بينما يؤدي بعضها دور جامع قمامة حيث تقوم بالتخلص من النفايات الخلوية التي تتبع حدوث جرح أو موت الخلية, وبعضها يقوم بتعديل الزيادة في تركيز البوتاسيوم خارج الخلايا والتي تصاحب النشاط الإرشادي المكثف في الخلايا العصبية.

ولكن السؤال الملح الآن: كيف لنا أن نتمتع بمخِّ سليم قادر على القيام بوظائفه على أكمل وجه وأحسن صورة؟ إن أكثر الخصائص تميزاً للبشر عن الرئيسات الأخرى هي على الأغلب نتائج فعل الانتخاب الطبيعي لتحسين جودة القوت البشري والكفاءة التي كان أجدادنا يحصلون بها على الطعام. وقد ارتأى بعض العلماء أن المشكلات الصحية التي تواجهها المجتمعات الحديثة مثل البدانة وارتفاع ضغط الدم والمرض القلبي الإكليلي ومرض السكري وغيرها من الأمراض المزمنة, هي نتائج تناقض بين ما نأكل وما كان أسلافنا يأكلونه في العصر الحجري القديم. لأن البحث عن الطعام, واستهلاكه, وكيفية توظيفه في نهاية المطاف لصالح العمليات البيولوجية, تُعدُّ جميعها نواحي حدِّية في إكولوجية الكائن الحي فدينمية الطاقة بين الكائنات الحية وبيئاتها لها تبعات تكيفية على البقاء والتكاثر. وينعكس هذان المكونان من مكونات الأهلية التطورية على الطريقة التي نوزع بها ميزانية الطاقة لحيوان ما, حيث تمثل طاقة الصيانة الطاقة التي تبقي الحيوان حياً على أساس يومي, في حين ترتبط طاقة التكاثر بالمقابل, بإنجاب النسل وتنشئته لصالح الجيل التالي. وهذه الطاقة بالنسبة إلى الثدييات, يجب أن تغطي التكاليف الزائدة التي تجشمتها الأمهات في أثناء الحمل والإرضاع. هذا ويؤثر نمط البيئة التي يسكنها الإنسان في توزيع الطاقة بين هذين المكونين بحيث تستدعي ظروفه القاسية متطلبات صيانة أكبر مقداراً. وعلى الرغم من ذلك يبقى هدف جميع الكائنات الحية واحداً؛ ألا وهو تخصيص موارد كافية لغرض التكاثر من أجل ضمان نجاح طويل الأمد للنوع.

نحن نعلم أنه لا يوجد تماثل في الأمخاخ البشرية فبعض الناس يفضلون حل الكلمات المتقاطعة في الجرائد والمجلات أو ألعاب التسلية البسيطة , وبعضهم يقتل الوقت بلعب الورق أو النرد, بينما البعض الآخر يفضل القراءة و الدراسة والعمل البحثي, والبعض يفضل السفر وزيارة الجيران, والبعض يسعى إلى الحب والعلاقات الإنسانية, هذا حال البشر على امتداد الكرة الأرضية. والعامل الرئيس هنا هو الإثارة, فالخلايا العصبية مخصصة لاستقبال الإثارة, وأظن أن الفضول والشغف بالأشياء وحب الحياة عوامل جوهرية, فإذا حافظ الإنسان على اهتماماته طوال حياته فإن ذلك بالتأكيد ينبه النسيج العصبي, وبالتالي فإن قشرة المخّ سوف تستجيب.

حتى وقت قريب, لم يكن, على ما يبدو, ثمة قواعد إرشادية للأنشطة التي يمكن أداؤها للحفاظ على صحة المخّ وطرق عمله الفكرية والتحليلية. لكن علماء الأعصاب يؤكدون اليوم أن عملية نشوء الأعصاب المخيّة تتأثر كثيراً بنمط معيشة الإنسان, إذ يمكن تقوية وتحسين بنية المخّ والشبكات العصبيَّة والقدرات الفكرية من خلال تجارب المرء في البيئة المحيطة وتفاعله معها, والأمر الآخر الهام هو أن الصحة المخيَّة ليست مجرد حصيلة لخبرات وتجارب الطفولة وموروثات الآباء, بل هي تعكس أيضاً تجارب واختيارات الإنسان في مرحلة البلوغ, وهذا باعتقادي من الأسباب القوية التي تسهم في رفع همم المسنين - هؤلاء القوم الرائعون – كي يعيشوا ما تبقى من حياتهم في عمل منتج حتى بعد سن التقاعد.

بقيت في جعبتي فكرة أخيرة, فنحن نعلم اليوم أن الخبرات المكتسبة في مختلف المجالات تنمي النظام العصبي في المخّ وتزيد القدرة الطبيعية عند البشر للتحكم في نمط العيش في مختلف الظروف والأحوال المحيطة بهم. وكلما ارتفعت القدرات المخيَّة, وبالتالي الفكرية والمعرفية, لدى الإنسان تطورت قدرته على اتخاذ القرارات وحل المشكلات والصعوبات والانفتاح على الأفكار والمعارف الجديدة والخيارات البديلة, كما يمكن - وهذا هو الأهم– أن يؤخر الدخول في مرحلة الشيخوخة لسنين عدة, وبالتالي السير إلى نهاية العمر بثقة واطمئنان .