الولايات المتحدة المجهولة


فؤاد النمري
2019 / 8 / 6 - 20:33     

شاء الناقد أم أبى فإن النقد الإقتصادي السياسي السطحي لا يعمل إلا في التعمية والتجهيل . الشيوعيون المفلسون الذين برزوا في النصف الثاني من القرن العشرين وقادوا الإتحاد السوفياتي العظيم إلى الإنهيار، ومعهم اليساريون بعامتهم ومنهم القومجيون بمختلف نحلهم لا يعلّلون انهيار دعاواهم بغير النقد الإقتصادي السياسي السطحي للولايات المتحدة فيسبونها بسبة الإمبريالية الجامعة لمختلف المساوئ والشرور رغم أن الولايات المتحدة منذ بروزها دولة عظمى على المسرح الدولي لم تمارس قط السياسة الإمبريالية بأبرز خصائصها مثل تصدير فائض الإنتاج مجسداً بالبضائع والأموال . أزمة النظام الرأسمالي في العام 1929 وكانت أعمق أزمات النظام الرأسمالي بدأت واستفحلت في الولايات المتحدة الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على أن النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة لم يكن قد بلغ مرحلة الإمبريالية – تصدير فائض الإنتاج إلى الخارج – وإلا لما حدثت الأزمة الكبرى . طبعاً لم يكن بإمكان الرئيس الجديد فرانكلين روزفلت 1933 معالجة الأزمة بفتح أسواق للإنتاج لأنه بفعل استفحال الأزمة لم يعد هناك في أميركا إنتاج رأسمالي فما بالك بفائض الإنتاج !؟ لم يكن بإمكان أحد آخر غير روزفلت إنقاذ النظام الرأسمالي بمشروعه الجديد (New Deal) القاضي بإنفاق أموال طائلة على البنى التحتية والتي هي بالتحليل العلمي ليست من الإنتاج الرأسمالي إذ لا قيمة تبادلية لها، وبذلك تستبدل الأجور فيها بالبضائع الرأسمالية . إنعاش النظام الرأسمالي تم بالكامل ما بين 1933 و 41 . ما كانت إدارة روزفلت لتدخل الحزب العالمية الثانية لولا إعتداء اليابان على بيرل هاربر (Pearl Harbor) في ديسمبر 1941 والحرب تستهلك كل الإنتاج الرأسمالي على تعاظمه خاصة وأن أميركا تدعمها بريطانيا كانت تعاني من صعوبة المواجهة مع اليابان المسلحة حتى الأسنان، وما كانت لتنتصر على اليابان لولا الحرب السوفياتية على اليابان منذ 9 آب يوم إلقاء القنبلة الذرية على ناغازاكي وحتى الأول من سبتمبر ايلول 45 وسحق كامل جيوشها البرية في منشوريا وتقدر بمليون جندي – النصر للسوفييت والاستسلام في 2 سبتمبر لأمريكا ! ذلك كان الشرط في يالطا في فبراير شباط 45، وعد ستالين لصديقه الصدوق روزفلت .
في الحرب تنامت ذئاب الرأسمالية المفترسة حد السعار وفرضت ذئاب الحزب الديموقراطي على روزفلت أن يتخلى عن نائبه التقدمي هنري والاس (Henry Wallace) في الدورة الرابعة لانتخاب روزفلت في العام 44 واستبدالة بأكثر ذئاب الحزب الديموقراطي سعاراً وهو هاري ترومان(Harry Truman) . بموت روزفلت المبكر في ابريل 45 ماتت السياسة السلمية، سياسة الصداقة مع الإتحاد السوفياتي التي انتهجها روزفلت ونائبه والاس بصورة ثابتة لتقوم بدلها سياسة مجنونة حمقاء تكرس كل مقدرات أميركا الهائلة للحرب على الشيوعية، للحرب على الشيوعية وليس لتطوير النظام الرأسمالي والإنتقال به إلى طور الإمبريالة . سعار الحرب على الشيوعية ورثه ذئاب الحزب الجمهوري بقيادة وزير الخارجية الأكثر سعاراً جون فوستر دالاس (John Foster Dulles) . السياسة الأميركية الحمقاء، سياسة الحرب المجنونة على الشيوعية استهلكت كل مقدرات أميركا خلال ربع قرن فقط منذ مشروع مارشال 1947 إلى إعلان الإنسحاب من معاهدة بريتوم وودز (Britton Woods) في العام 71 أي إنكشاف الدولار الأميركي من كل غطاء وانهياره في عامي 72 و 73 وفقدانه بحدود 40% من قيمته التبادلية مما دفع ببعض كبار الإقتصاديين بالحديث عن انهيار النظام الرأسمالي وهو ما أفقد الرئيس ريتشارد نكسون (Richard Nixon) عقله وجعله يعفي وزير الخزانة جورج شولتس (George Shultz) وهو الأخصائي المرموق بالشؤون المالية في مايو 74 ويستبدله بأحد ذئاب االحزب الجمهوري المسعورين وهو وليم سيمون (William Simon) الذي صاغ إعلان رامبوييه (Declaration of Rambouillet) وتبناه المؤتمر التأسيسي لمنظومة الخمسة الكبار (G 5) على مستوى القمة في 16 نوفمبر 1975 وجعل الهيئة المؤقتة لصندوق النقد الدولي في اجتماعها الطارئ في جمايكا (Jamaica) في يناير 1976 أن تأخذ بمقاصد رامبويية وتقرر خلافاً لقانون النقد الدولي فصل النقود عن قيمتها البضاعية . فصل النقود عن قيمتها البضاعية هو القانون الذي يمكن أميركا اليوم أن تتحكم بالعالم والسبب لمهزلة الأقدار هو اقتصادها الأجوف . ذلك هو التناقض الرئيس الذي على الماركسيين أن يواجهوه قبل غيرهم .
كل تلك الوقائع التاريخية تنفي ليس انهيار النظام الرأسمالي في السبعينيات فقط بل تنفي قبل ذلك أية سياسات إمبريالية مارستها الولايات المتحدة طيلة تاريخها .

الدكتور زيد حمزة كتب في الرأي الأردنية اليوم يهاجم الولايات المتحدة لكن ليس كدولة إمبريالية كما يتعلل بذلك الشيوعيون المفلسون وعموم اليساريين، بل هاجمها كدولة فاشلة إجتماعياً وهو يقتطف عن الكاتب الفوضوي نعوم تشومسكي (Naom Chomsky) أقواله عن اتساع الفقر في أميركا وارتفاع نسبة البطالة وهبوط معدل العمر وارتفاع أعداد المنتحرين وتفشي تعاطي المخدرات وما إلى ذلك من مساوئ .

ذلك كان نقداً سطحياً لا يقدم الولايات المتحدة كما هي على حقيقتها وهو ما يساهم في تضليل القوى التقدمية في العالم خاصة وأن الولايات المتحدة تلعب اليوم دوراً رئيسياً في معاناة العالم من الأزمة الخانقة المستفحلة .
كيف لكل تلك المساوئ التي استعرضها الدكتور حمزة في المجتمع الأميركي لا تحول دون أن يحل الدولار الأميركي محل الذهب في تغطية كل نقود العالم !؟ كيف كان الروبل السوفياتي يساوي 1.5 دولار أميركي في السبعينيات واليوم الدولار الأميركي يساوي أكثر من 60 روبلاً روسياً الوريث الشرعي للروبل السوفياتي !؟ كيف يساوي الدولار الأميركي 1200 دينار عراقي و 1650 ليرة لبنانية و300 ليرة سورية و14 جنيه مصري و60 الف ريال إيراني !!
لماذا تستطيع الولايات المتحدة أن تتحكم بدول كبرى مثل الصين وروسيا ودول من حجم ايران وفنزويلا وكوريا الشمالية وكوبا !؟
دولة تتحكم بالعالم إقتصادياً ودخل الفرد فيها كما يعلنون 56 ألف دولارا في السنة لا يعيرها مختلف المساوئ التي تحدث عنها الفيلسوف الفوضوي نعوم تشومسكي وإن تحدث بحق .
نعوم تشومسكي لم يشر إلى أن الإقتصاد الأميركي يقوم منذ السبعينيات على الدولار المفرغ من كل قيمة ولا يحول دون انهيار مدوي له سوى عصابة الحزب الشيوعي الصيني التي شرعت تتاجر بالربا في مختلف بنوك العالم حفاظا على قيمة الدولار التي تحددها الصين وليس أميركا بقيمة 2 سنتيغرام من الذهب بعد أن كان في العام الأخير من عمر النظام لرأسمالي 1970 بقيمة 50 سنتيغرام، حين لم تكن أميركا تستطيع أن تتحكم بغير بعض الدول الهامشية . أكد البروفيسور فرانسس فوكوياما قي شهور قليلة أن ثلثي الأموال في بنوك العالم هي أموال صينية ومن الأموال الصينية تدفع الولايات المتحدة معاشات جنودها .

لئن ترتب على القوى التقدمية في العالم أن تبحث عن المساوئ والعيوب فيما تعاني منه البشرية الآن يتوجب أن يكون البحث في عيب القوى التقدمية وفشلها في التعرف على التناقض الرئيس في النظام الدولي الماثل اليوم وليس في أميركا كما يبحث تشومسكي ومقلدوه .