نساء بيكاسو الجميلات


عبدالرزاق دحنون
الحوار المتمدن - العدد: 6310 - 2019 / 8 / 4 - 21:08
المحور: الادب والفن     

قليلة هي الانقلابات المسلحة بالعبقرية الشبيهة في جرأتها وصداها وقوة تأثيرها بالانقلاب الفني الذي قام به الرَّسام الاسباني الشهير بابلو بيكاسو في العام 1907 عندما كشف لأصدقائه المذهولين عن لوحة "آنسات أفينيون". و ليس لموضوع اللوحة أية أهمية- بنات هوى بقمصان نوم تكشف مفاتن القد المياس, نهود عامرة بالتحدي, نظرات لينة رقية فيها من الإثارة ما فيها, وقد وقفن عند مدخل باب ماخور بأجساد شبه عارية في أحد الأزقة- اللافت للانتباه هنا هو الأسلوب الذي رسم به بيكاسو لوحته. حتى قيل أن هنالك طريقة للرسم قبل "آنسات أفنيون" وأخرى بعدها, هذه اللوحة غيرت بمفردها مجرى فن الرسم في بداية القرن العشرين.

ما الذي فعله بيكاسو في لوحته تلك لتصبح فاتحة لعصر جديد من الرسم؟ كان اسلوب الرسم منذ عصر النهضة يعتمد تقفي أثر العالم المرئي وعكسه في لوحة تصور الواقع بمجمل تفاصيله إلا أن بيكاسو في لوحته دمَّر هذا الاسلوب دفعة واحدة وذهب في دروب مختلفة في اتجاه تقديم العالم
وكأنه صورة ارتدت إلينا من مرايا مهشمة.
نعم كانت مفاهيم عصر الرأسمالية تتهشم في لوحة اليساري المتمرد. من يجرؤ -تلك الأيام- على الرسم بخطوط مستقيمة واضحة الاستقامة, لذلك قيل عن بيكاسو إنه رسام بدائي الطباع, يُعيدك في رسومه إلى الحالة الأولى التي بدأ فيها الإنسان يلوّن رسومه قبل أكثر من ثلاثين ألف سنة على الصخور في الصحراء الأفريقية. قد أثبت بيكاسو عبر مسيرته الفنية أن الشبه يمكن الوصول إليه بطرق ميسّرة لا تحتاج إلى كثير من التعقيد المدرسي. وكان ذلك الاكتشاف ثورة في فكر الرسم. يوم رسم آنسات أفنيون كان بيكاسو في السادسة والعشرين من عمره وكان قد وقع تحت تأثير الأقنعة الأفريقية التي رآها في أحد متاحف باريس.

كان الأديب الفرنسي "جان كوكتو" يقول: إن أعمال بيكاسو هي مشهد بيتي فسيح. نعم قاد بيكاسو ثورة حقيقية من أجل تغير نظرات الناس ومفاهيمهم إلى فن الرسم. إن اسطورة بيكاسو تندرج هي أيضاً في حكاية نساء قاسمته حياته, ومن الصحيح القول إنه كلما غيَّر عشيقة بدَّل أيضاً في أسلوبه, وهكذا, تنسب المرحلة الزرقاء إلى مادلين, وإلى فيرناند تنسب المرحلة الزهرية وبداية التكعيبية, ومثلت أولغا العودة إلى الكلاسيكية. وقد صرَّح أحد النقاد إنها لصورة مدهشة, لكنها دقيقة: أعمال بيكاسو هي أيضاً تاريخ تقلباته العاطفية.

عثر بيكاسو على آنساته الجميلات في زقاق صغير ببرشلونة اسمه شارع أفينيون، يقول: رسمت نصف اللوحة وشعرت أن ما رسمته لا يطابق ما أريد. رسمت شيئاً مختلفاً، وتساءلت: هل عليّ إعادة رسمها؟ ثم قلت لنفسي: لا لن أعيد رسمها. سيفهمون ما أردتُ فعله. ها هنَّ الآنسات الخمس الجميلات على قيد الحياة بعد أكثر من مئة عام على تخليدهن في لوحة تُطلُّ عليك بأجمل مستوياتها وأكثرها بهاء.