فيتامين الأشعة الشمسية


عبدالرزاق دحنون
الحوار المتمدن - العدد: 6306 - 2019 / 7 / 31 - 18:18
المحور: الطب , والعلوم     

في الماضي القريب كانت الشمس رفيقة دائمة لجدتي زينب, فهذه الأشعة الذهبية ساهمت بقسط وافر في صنع قديد الشتاء من خضار الصيف الطازجة. فالشمس تجفف القرع المفروم والباذنجان المحفور والتين والزبيب بألوانهما وأشكالهما المختلفة, وتجفف أيضاً, عصير دبس البندورة وقلائد البامية وقرون الفليفلة الحمراء والبصل والثوم. ولم تدرك جدتي أن الشمس كانت تصنع لأولادها الفيتامين اللازم لبناء العظام, ولكنها بالفطرة كانت تنشرهم في الشمس مع قديدها, فخرجوا إلى الحياة أصحاء البدن والروح.

كان يسمى علاج الشمس المشرقة, وفي أوائل القرن العشرين وقبل عصر المضادات الحيوية كان تعريض الجسم لأشعة الشمس الطريقة الوحيدة الفعالة لعلاج مرض الكساح عند الأطفال, وهي حالة مرضية تسبب تشوه العظام , وسببها عدم قدرة الطفل على بناء عظام صلبة, لنقص حاد في مستويات فيتامين الشمس.

تزايد انتشار هذا المرض في القرنين الثامن عشر و التاسع عشر, حيث ترافق ذلك مع انتشار التصنيع و انتقال السكان من الأرياف المشمسة إلى المدن الكبيرة المغلقة . و قد لاحظ أحد الأطباء ندرة هذا المرض عند أطفال الريف, ووجد أن أطفال المدن المرضى يمكن شفائهم بعد تعريضهم لأشعة الشمس وحدها. انقضى ما يقرب القرن من الزمان قبل أن يتبين العلماء العلاقة بين المعالجة الغذائية للكساح وبين التأثيرات المفيد لأشعة الشمس, و في أوائل القرن العشرين بيّن الباحثون أن الجلد المعرض لأشعة الشمس إذا أطعم للجرذان المصابة بالكساح يمتلك الخصائص الشافية نفسها التي يمتلكها زيت كبد سمك القد.

في عام 1922 تم التعرف إلى العامل الحاسم المشترك الذي يوجد في الجلد و في زيت كبد سمك القد, و أطلق عليه اسم فيتامين دال. وقد قادت العلاقة الكامنة بين هذا الفيتامين والكساح معظم الأبحاث المتعلقة بهذا الفيتامين خلال الخمسين عاماً التالية نحو معرفة دور هذا الجزيء في بناء العظام, وكيفية عمله في الكلية والأمعاء والعظم نفسه, وطريقة ضبطه لتدفق الكالسيوم من الدورة الدموية إلى داخل العظام وخروجه منها. وخلال الربع الأخير من القرن العشرين اتسعت دائرة الدراسات الخاصة بوظيفة الفيتامين دال وكشفت أن ما يدعى فيتامين أشعة الشمس الساطعة يقوم بوظائف أخرى تتجاوز بناء العظام.

وتوجد الآن دلائل واسعة على أن هذا الفيتامين يمتلك خواص مضادة للسرطان وأنه يعمل كمنظم مهم لاستجابات الجهاز المناعي. فضلاً على ذلك, تبين أن العديد من فوائده التي تم التعرف إليها حديثا, تبلغ تأثيراتها حدها الأقصى عندما يتجاوز مستوى هذا الفيتامين في الدم الحد المشاهد لدى الكثير من الناس. إن هذه الحقائق تدعم القول بأن نقصه الواسع الانتشار يُسهم في حدوث عدد من الأمراض الخطيرة.

من هو الفيتامين دال؟

لكي نفهم أهمية المكتشفات العلمية الحديثة المتعلقة به, من المفيد أن نستعرض أولاً ما هو هذا الفيتامين في الواقع وكيف يستخدم في جسم الإنسان. يشير مصطلح الفيتامين دال إلى جزيئين مختلفين قليلاً, الفيتامين دال 3 يصنعه جلد الإنسان أما الفيتامين دال 2 مصدره النباتات و يمكن للأشخاص الحصول عليه من الأطعمة, ويجب أن يخضع كلا هذين الصنفين إلى عمل عدد من الأنزيمات التي تحولهما إلى فيتامين فعال بيولوجياً . والطريقة المتبعة هي كما يلي :

1- ُيصنع الفيتامين دال3 في الجلد من قبل الخلايا الكيراتينية عندما تقوم الأشعة فوق البنفسجية من الصنف بي والحرارة وبتأثير أحد نواتج الكولسترول الذي يدعى ديهيدروكولسترول بعملها معاً في إنتاج هذا الفيتامين. أما الفيتامين دال2 الذي يوجد في بعض الأطعمة, صفار البيض ومنتجات اللبن والبرتقال والسمك والفطر, فإنه يشتق من جزيء سترولي نباتي سائل. يدخل كلا هذين الصنفين إلى الدورة الدموية.

2-عندما يصل كلاهما إلى الكبد تقلبهما الأنزيمات إلى فيتامين دال25 حيث يعود من جديد إلى الدورة الدموية.

3- يخضع الفيتامين دال25 الجوال في الكلية إلى تحول أخير, إذ تقلبه الأنزيمات إلى الشكل آخر وطلقه إلى الدورة الدموية ويصل إلى مختلف الأعضاء والخلايا, حيث يباشر فعالياته الفيزيولوجية.

يعمل الفيتامين دال على هيئة مفتاح يستطيع تشغيل بعض الجينات, وهذا يؤدي إلى إنتاج البروتينات. وقد يكون لهذه البروتينات تأثيرات فيزيولوجية موضعية أو عامة. ويعتقد أن في الجسم ألف جينة يقوم هذا الفيتامين بتنظيم عملها, منها عدة جينات ذات صلة بمعالجة كالسيوم الجسم وهي التي تفسر دور الفيتامين دال المعروف في تشكل العظام. وخلال العقدين الماضيين حدد العلماء العديد من الجينات الأخرى التي تخضع لتأثيره , ومنها جينات ذات دور حاسم في الدفاعات الخلوية.

وبعد أن أزيلت معوقات فهمنا لفيزيولوجية هذا الفيتامين أدرك العلماء أن بعض فعالياته الواقية لجسم الإنسان قد استنبطت من وظائف تحدث في مصدر هذا الجزيء بالجلد. فالتأثير الكابح لنمو الخلايا السرطانية الذي يبديه الفيتامين يمكن أن يفهم على ضوء ذلك, لأن التعرض الزائد للأشعة فوق البنفسجية يعرف عنه أنه يؤذي دي إن أي خلايا الجلد, وقد يؤدي هذا الأذى إلى تحولها إلى خلايا سرطانية. ويتكهن بعض العلماء أن الاستجابة المضادة للمكروبات التي ينظمها الفيتامين قد تكون عبارة عن تكيف نشأ للتعويض عن دور هذا الفيتامين الكابح لبعض تفاعلات الجملة المناعية الأخرى, وبشكل خاص تلك التي تؤدي إلى التهاب مفرط. ونحن نعلم بالتجربة أن التعرض الطويل للأشعة فوق البنفسجية يؤدي إلى حروق شمسية في الجلد والتي تؤدي بدورها, على المستوى النسيجي, إلى تجمع السوائل وحدوث الالتهاب.

بيّنت الأبحاث أن الفيتامين دال يقوم بوظيفة عامل مضاد للالتهاب يعمل عن طريق تأثيره في الخلايا المناعية. إن البيّنات المباشرة على دوره في إعاقة الالتهاب أتت بادئ الأمر من التجارب التي أجريت على الحيوانات في مطلع التسعينات من القرن العشرين, والتي أثبتت أن الفئران المعالجة بالفيتامين أمكن حمايتها من الالتهاب الذي يرافق عادة الجروح. ومنذ ذلك الوقت أدرك العلماء أن كثيراً من الأنماط الخلوية, ومنها الخلايا المناعية, قادرة على استعماله وعلى قلب إلى دال25 الجوال. وهذا يؤكد أن الخصائص المضادة للالتهاب التي يملكها لا تقتصر فقط على خلايا الجلد ولا على الحروق الناجمة عن الأشعة الشمسية.

شتاء الفيتامين دال

تخترق الأشعة فوق البنفسجية الغلاف الجوي في الناطق الاستوائية بشكل أكثر مما هي الحال في معظم المناطق المعتدلة من الكرة الأرضية التي تتلقى كمية مهمة في فصل الصيف فقط. ولما كان معظم الناس يحصلون عليه بشكل أساسي عن طريق التعرض للأشعة فوق البنفسجية, فإن مستوى الفيتامين دال25 الجوال يتناقص بشكل عام عند السكان كلما ازداد بٌعدهم عن خط الاستواء, على الرغم من وجود اختلافات في مستوياته عند السكان القاطنين على مستوى خط عرض واحد, ويعود ذلك إلى اختلاف الغذاء والعرق, إضافة إلى اختلاف المناخ المحلي والارتفاع عن سطح البحر. وإن ما لوحظ من وجود ارتباط واضح بين بُعد المنطقة عن خط الاستواء وخطر الإصابة بعدد من الأمراض وأكثرها وضوحاً أمراض المناعة الذاتية مثل التصلب المتعدد, حيث يتماشى هذا المرض مع ما هو معروف من فعالية الفيتامين دال في تنظيم عمل الجينات.

التصلب المتعدد مرض مزمن ينجم عن هجوم الخلايا المناعية على الغمد المياليني الواقي الذي يحيط بالألياف العصبية في الجملة العصبية المركزية. تزداد الإصابة بهذا الداء في الناطق الأكثر بُعداً عن خط الاستواء, وتوحي بيّنات مقنعة بأن هذا الشكل من الانتشار ينجم عن نقص التعرض للأشعة فوق البنفسجية من النمط بي, كما أن تطور هذا المرض ونوباته الشديدة تواكب فصول السنة, وتبلغ فعالية المرض أقصى حالاتها في الربيع, حيث يكون الفيتامين دال25 في أدنى مستوياته بعد فصل الشتاء, فيما تنخفض فعالية المرض إلى أدنى مستوياتها في الخريف بعد ازدياد الفيتامين دال3في فصل الصيف.

دلت التحريات الحديثة على وجود علاقة بين خطر الإصابة بالأمراض وتركيز الفيتامين دال25 في مصل الدم الذي قيس بشكل مباشر. فقد قام الباحثون في كلية الصحة العامة بجامعة هارفرد بمسح هائل تناول فحص سبعة ملايين عينة مخزونة من دم أفراد الجيش ومقارنة النتائج بسجلاتهم الصحية لمعرفة من هم الجنود الذين أصيبوا بالتصلب المتعدد بين عامي 1992و2004 وقد وجد الباحثون أن خطر الإصابة بهذا الداء في وقت لاحق كان أقل بشكل واضح عند أفراد الفئة الذين كان مستوى الفيتامين دال في دمائهم عالياً أثناء أخذ العينات. فالجنود الذين تجاوز تركيز الفيتامين دال25 في دمهم 40 نانو غرام في كل ميلي لتر كان خطر الإصابة بالداء لديهم أقل بنسبة 62% مما هو عند الجنود الذين بلغ تركيز الفيتامين دال25 لديهم 25 نانو غرام في كل ميلي لتر أو أقل من ذلك.

إن معايرة الفيتامين دال25 الجوال في الدم هي الطريقة المعتادة لقياس توافر الفيتامين دال في الجسم, حيث تعتبر المعايير الصحية المتفق عليها بشكل عام, والتي تعتمد على حاجات الجسم لتكوين العظام, والقيمة المعيارية التي تراوح بين 30 و45 نانو غرام في كل ميلي لتر تعتبر الحد الأدنى الكافي لتغطية حاجة الجسم. وتعتبر النسب التي تقل عن 20 نانو غرام في كل ميلي لتر غير كافية, وكثيراً ما تتزامن مع نقص كثافة العظام. إضافة إلى البعد عن خط الاستواء, هناك عوامل أخرى تسهم في حدوث نقص الفيتامين دال ويأتي في مقدمتها العرق. فمن المعروف أن أصحاب البشرة البيضاء يكوّنون الفيتامين دال بسرعة تعادل ستة أضعاف سرعة تكوّنه لدى أصحاب البشرة السمراء, لأن المستويات العالية من الميلانين في الجلد الأسمر تعيق نفوذ الأشعة فوق البنفسجية.

لا شك في أن ازدياد وعي الجمهور بأن التعرض المفرط لأشعة الشمس يسبب أذى للجلد, يسهم في الوقت نفسه في إحداث نقص الفيتامين . إن الستائر الواقية من الشمس إذا أحكم وضعها تنقص مقداره الذي ينتجه الجلد بنسبة تفوق 98%. وعلى العموم يستطيع الجلد تكوين كمية كافية منه عندما يتعرض لأشعة الشمس التي قد تحدث فيه احمراراً خفيفاً على الأكثر. وكلنا يعرف المثل العربي القائل: في الصيف ضيعت اللبن. ونحن نقول اليوم, أجمع العلماء في الحقل الطبي على أهمية التعرض لأشعة الشمس بشكل معقول حتى لا نأسف في الشتاء وينطبق علينا المثل الجديد, في الصيف ضيعنا الفيتامين دال.