الإقتصاد الدولي وغطاؤه السياسي (3)


فؤاد النمري
الحوار المتمدن - العدد: 6299 - 2019 / 7 / 23 - 20:22
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

(رد على هذر المفلسين)

النسق الثالث - في الأيام الأخيرة من القرن العشرين عقد في لندن مؤتمر ضم القادة الإشتراكيين لبريطانيا رئيس الوزراء توني بلير، ولفرنسا رئيس الوزراء ليونيل جوسبان، ولألمانيا المستشار جيرهارد شرودر، ولأميركا الرئيس بل كلنتون . قضى رؤساء هذه الدول العظمى ثلاثة أيام وراء أبواب مغلقة وخرجوا بعدها دون أن يعلنوا عما كانوا يتباحثون باستثناء كلنتون ولعله كان اشتراكياً أكثر من الإشتراكيين الأوروبان وأعلن أنهم كانوا يبحثون عن الطريق الثالث (Third Way) اي الإقتصاد غير الرأسمالي وغير الإشتراكي لكنهم انتهوا بعد ثلاثة أيام إلى الفشل التام كما أقر كلنتون .
إذاك كتب منظّر حزب العمال أنتونيو جيدنز (Antonio Giddens) يستهجن كيف يفشل الزعماء الأربعة في رسم الطريق الثالث علماً بأن مجمل الإنتاج في العالم يتم بصورة إفرادية (Individual Production) !؟ جيدنز يقول الحقيقة فالإنتاج الفردي لا هو رأسمالي ولا اشتراكي، لكن جيدنز نفسه ليس أكثر فطنة وذكاء من الرؤساء الأربعة بل هم بزّوه بالفطنة والذكاءً فعرفوا أن الإنتاج الفردي لا يمكن أن يبني فوقه بناء سياسياً بينما جيدنز لم يعرف ولن يعرف وترتب عليه أن يلوم نفسه قبل أن يلوم الرؤساء . وها هو عالم اليوم وعموم الإنتاج فيه يتم بصورة إفرادية بحيث يستحيل وصفه بالرأسمالي يضطر منظروه والمدافعون عنه من كتبة البورجوازية الوضيعة رفاق أنتونيو جيدنز للإدعاء بأن النظام الرأسمالي لم يمت وما ذلك إلا لأنهم لم ينجحوا ولن ينجحوا في ابتداع "الطريق الثالث" .
أخذ منظرو البورجوازية الوضيعة مؤخراً يقولون باقتصاد المعرفة (Knowledge Economy) باعتبار أن المعرفة قد غدت هي العامل الحدي في قيمة السلعة !! كيف يمكن أن تكون المعرفة عاملاً في تحديد قيمة المنتوج وهي أصلاً لا قيمة لها، إذ من يتوسل المعرفة في الإنتاج لا يفقد المعرفة ليغدو بحاجة لتجديدها عن طريق استهلاك قيم أخرى كما يحتاج العامل المنتج ببذل قوى العمل (Labour Power) في جسمه إلى تجديد قوى العمل التي سيبذلها في اليوم التالي من خلال استهلاك قيم أخرى يوفرها له الأجر . الإنتاج الرأسمالي مشحون تماماً بالمعرفة لكن أحداً من مؤسسي علم الإقتصاد، سميث وريكاردو وماركس، لم يتحدث عن المعرفة كمعامل في القيمة .
الإنتاج الفردي لا ينتج لأنه لا يحقق فائض القيمة (Surplus Value) كما أكد ماركس وذلك لأن قيمة الإنتاج هي دائما نفس قيمة العمل طالما أن العمل ليس مأجوراً . وطالما أن الإنتاج الفردي ليس منتجاً فلا يمكن تبعاً لذلك رسم نظام إنتاج لمجتمع لا ينتج . الإنتاج الفردي لا ينتج .

نظراً لعجز منظري البورجوازية الوضيعة عن رسم نظام إنتاج لإنتاجهم الفردي الذي لا ينتج لاقتصاره من جهة أخرى على إنتاج الخدمات التي لا قيمة تبادلية لها أيضاً بجانب المعرفة لذلك نجدهم يستميتون اليوم بالدفاع عن النظام الرأسمالي على الرغم من أن النظام الرأسمالي المقتصر على المتاجرة بقوى العمل ينفي نفياً تاماً اقتصاد الخدمات كما اقتصاد المعرفة المزعوم . يستميتون كل هذه الإستماتة بالدفاع عن النظام الرأسمالي والزعم بأن النظام الرأسمالي لم يمت بل تطور أكثر حتى تمكن من القضاء على النظام الإشتراكي لا لشيء إلا لتشريع هروبهم من الاستحقاق الإشتراكي وهم بذلك يقفون الموقف الصحيح للدفاع عن وجودهم الماثل الذي لا يستحقونه . يحكمون العالم على حساب غيرهم وقد أنفقوا كامل الأصول الرأسمالية ويبادلون خدماتهم بأضعاف أضعاف قيمتها من البضائع من إنتاج فلول الطبقة العاملة .

في العام 1972 أعلنت الأمم المتحدة أن كافة المستعمرات والدول التابعة قد استقلت ولم تعد أسواقاً مفتوحة لفائض الإنتاج في مراكز الإمبريالية . ذلك وحده كان كافياً لانهيار النظام الرأسمالي في مراكزه، فبدون تصدير فائض القيمة إلى خارج الحدود يختنق النظام الرأسمالي غرقاً في فائض إنتاجه حسب ماركس . مع فقدان الأسواق المفتوحة لفائض الإنتاج المتكدس في مراكز الرأسمالية بدأ النظام الرأسمالي يعاني من نزعات الموت فتنادى زعماؤه الخمسة الكبار (G 5) إلى مؤتمر رامبوييه (Rambouillet) في باريس في 16 نوفمبر 75 ولم يجدوا من علاج لتلك الحالة الأخيرة غير إهالة الأموال المكدسة في خزائنهم على الدول المستقلة حديثاً بشكل مساعدات وقروض ميسرة بهدف شراء البضائع المتكدسة في مراكز الرأسمالية . في العام 82 إنتهى العلاج إلى الفشل الذريع فكانت نهاية النظام الرأسمالي . ما يلزم الإشارة إليه في هذا السياق هو أن النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة الحصن الأخير للرأسمالية انتهى سريعا إلى النفوق، رغم أنه وصل بعد الحرب إلى قمة الحيوية، ليس بسبب فقدان الأسواق بل بسبب التخلي عن النهج الرأسمالي . بعد وفاة الرئيس الأعظم للولايات المتحدة الصديق الصدوق للإتحاد السوفياتي ولشخص ستالين، تولى بعده مجرم الحرب عدو الإنسانية (misanthropist) هاري ترومان (Harry Truman ) الذي استخدم السلاح النووي في قتل مئات ألوف المدنيين في هيروشيما وناغازاكي . مجرم الحرب هذا وعدو الإنساتية أسس لسياسة جديدة أخذت بها الولايات المتحدة طيلة الربع الثالث من القرن العشرين وانتهت إلى الموت المبكر للنظام الرأسمالي في أميركا . تلك السياسة الحمقاء والخرقاء التي أسس لها ترومان دون أن يتعظ بنهاية هتلر وهي توظيف كل مقدرات أميركا في محاربة الشيوعية وهو ما يقضي بانفاق كامل عوائد النظام الرأسمالي ليس على تجديد وتعظيم حيوية نظام الإنتاج بل إنفاقها في الحرب على الشيوعية ؛ وعليه فالولايات المتحدة لم تمارس قط السياسات الإمبريالية التي يدعي بها القومجيون وفلول الشيوعيين المفلسين بل كرست كل جهودها بالمقابل لمحاربة الشيوعية . كان روزفلت في مؤتمر يالطا قد وعد ستالين بقرض يصل إلى 10 مليارات دولار , لكن ترومان في العام 47 أنفق بموجب مشروع مارشال 12.5 مليار دولار وهو ما يوازي اليوم 500 مليار مساعدة لأوروبا الغربية من أجل مقاومة الشيوعية ؛ وألح بصورة محمومة على استعادة السفن والشاحنات المعارة للإتحاد السوفياتي في الحرب فكان أن سحب السفن إلى عرض البحر وأشعل بها النيران وسحب الشاحنات إلى حارج الإتحاد السوفياتي وجرى تحطيمها بالحفارات . إلى تلك الحدود المنحطة وصل حقد مجرم الحرب ترومان على الإتحاد السوفياتي – ولعلي هنا ألوم ستالين إذ لم يكن من واجبه أن يعلن الحرب على اليابان ويبيد كامل جيوش اليابان في منشوريا (مليون جندي) ليرغم اليابان على الإستسلام لأميركا، كان على ستالين أن ينتظر حتى تحتل اليابان الولايات المتحدة وكانت قديرة على ذلك رغم القنابل الذرية قليلة الفعل في الحرب على النسق القديم ثم يحرر الولايات المتحدة بالقضاء على اليابان .
كما أنفقت أميركا مئات المليارات على زراعة النظام الرأسمالي من جديد في اليابان وفي ألمانيا ثم في النمور الستة في جنوب شرق آسيا . كان ذلك بالطبع تخلياً عن نهج النظام الرأشمالي بل والعمل ضده في أميركا من أجل الحؤول دون انتصار الشيوعية في تلك الدول . في خضم حرب أميركا على الشيوعية في فيتنام وجدت أميركا نفسها في العام 71 بخزائن فارغة وهو ما يؤكد أن نظام الإنتاج فيها لم يعد ينتج ما يغطي نفقاتها، أي لم يعد رأسماليا يغني البلاد كل يوم بفائض القيمة لجهد العمال . وهكذا وقعت أميركا في الفخ التي كانت قد نصبتها في العام 44 قبل نهاية الحرب بعقد معاهدة بريتون وودز (Britton Woods) التي تقضي بتوفير الدولة من الذهب ما يغطي 20% من كتلتها النقدية كيلا تبرز دولة أخرى وتشعل حرباً أكلافها نقود مكشوفة لا قيمة لها مثل ما حارب هتار . في العام 71 إضطرت إدارة نكسون أن تنتهج نهج هتلر وتخرج من معاهدة بريتون وودز لتطبع مليارات من الدولارات المكشوفة لتنفق على حربها على فيتنام . تبعاً لذلك أصيب الدولار بتدهور كبير في أسواق الصرف فرأى جورج شولتس (George Shultz) وزير الخزانة وهو يحمل درجة الدكتور في الشؤون المالية لأن يعلن رسمياً خفض قيمة الدولار (Devaluation) لكن ذلك لم يشفِ وأعلن في العام 73 خفض الدولار مرتين ورغم ذلك لم يتوقف هبوط الدولار وفقد في السنوات الثلاث 71 – 73 حوالي 40% من قيمته في العام 70 وأخذ بعض أعلام الإقتصاد يتحدثون عن انهيار النظام الرأسمالي مما جدا بنكسون لإعفاء شولتس في مايو أيار 74 وتعيين مكانه وليم سيمون (William Simon) وهو من لا يمتلك من المؤهلات سوى التعصب الشديد للنظام الرأسمالي . الوزير الجديد لم يفلح في تبرير تعصبه للنظام الرأسمالي سوى باستبدال سلطة القيمة البضاعية وهي السلطة الرأسمالية حصراً بسلطة القيمة النقدية المستوردة أصلاً من قيمة البضاعة . مؤتمر الخمسة الكبار أخذ بمشروع سيمون وتعهد بكفالة أسعار صرف عملاتهم في أسواق الصرف، كما وافقت الهيئة المؤقتة لإدارة صندوق النقد الدولي في اجتماعها في جمايكا في يناير 76 على إلغاء معاهدة بريتون وودز وإلغاء الغطاء الذهبي لتعين كل دولة قيمة نقودها . لما كانت كتلة الدولار أكبر كتلة نقدية حل الدولار محل الذهب في تغطية مختلف النقود ؛ ذلك ما سمح للولايات المتحدة أن تطبع من الدولارات ما تشاء بمقدر ما يتحمل الدولار من هبوط غير ملحوظ . ولما كانت الصين تصدر بضاعة ما يزيد على 2 ترليون ددولارا كل عام فباتت هي من يحدد قيمة الدولار الحقيقية وهي القيمة البضاعية . وهكذا بات الدولار الرأسمالي في العام 70 يساوي 40 دولارا من دولارات 2012 غير الرأسمالية .
الغطاء السياسي للإقتصاد الدولي الماثل اليوم يشكل أهم قضية يواجهها عالم اليوم وتحول دون تمكنه من عبور الأزمة التي تمسك بخناقه وتهدده بكارثة كونية لم تعرف مثلها البشرية عبر تاريخها الطويل . زعماء الدول الكبرى الذين اجتمعوا في نهاية القرن المنصرم لابتداع نظام "الطريق الثالث" في الإقتصاد وفشلوا هم لم يجتمعوا أصلاً إلا لأن النظام الدولي الماثل الموصوف خطأً باقتصاد السوق لم يعد مقنعا على العكس من منظري البورجوازية الوضيعة الذين يدعون بجدارة النظام الماثل ويصفونه بالرأسمالي دفاعاً عن وجودهم غير الشرعي في التاريخ . وبمثل هذا الإدعاء يدعي الشيوعيون الخونة الذين خانوا قضية الشيوعية مثل هذا الإدعاء ستراً لخيانتهم .

ثمة مائة إشارة وإشارة تقطع جميعها بنفوق الرأسمالية قبل نصف قرن ليست أقواها دلالة مفاخرة الرئيس الأميركي قبل أشهر قليلة بأن العجز في الميزان التجاري لأميركا هبط لأول مرة منذ سنين طويلة إلى حد 550 مليار دولار
وأن أميركا كما خطبت رئيسة البرلمان الأميركي نانسي بيلوزي في الخريف الماضي تؤكد أن أميركا تستدين كل دقيقة مليون دولار
وأميركا منذ عشرات السنين هي أكبر مستورد في العالم للبضائع ورؤوس الأموال
رؤوس الأموال الأجنبية الموظفة في أميركا تساوي 5 ترليون دولار
وأميركا تدفع معاشات جيشها من المال الصيني
وأكد فرانسس فوكوياما في الربيع الفائت في دبي أن ثلثي الأموال في بنوك أميركا هي أموال صينية
رغم كل ذلك لم ينقطع الشيوعيون المفلسون عن الإدعاء بالرأسمالية الإمبريالية الأمريكاية المتوحشة
تلك هي القضية !!

(يتبع)