خمس شهادات في عبد الباسط الساروت


عبدالرزاق دحنون
الحوار المتمدن - العدد: 6294 - 2019 / 7 / 18 - 21:49
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

(أربعون يوماً على رحيله)

كتب مالك داغستاني:

في يومٍ ما، في الخالدية، أحد أحياء مدينة حمص السورية، كان عبد الباسط الساروت يقف كالرمح ويحرّك ذراعيه كالنسر، ينشد للثورة والحرية والشهداء. وكلما توقف للحظةٍ، كنت أسمعُ النساء والرجال والشباب والأطفال يهتفون "عبد الباسط... الله يحميك". لم أشاركهم الهتاف يومها، فقد كنت مشغولاً بمراقبة الضراعة التي تشعّ من العيون حين يذكرون كلمة "الله يحميك". هل شاهدتُ فعلاً سرب ملائكةٍ ترفرف فوقه لتحميه؟ لستُ متأكداً. لكن ما هو أكيدٌ أنه لا يمكن لعدالة السماء أن تخذل الضراعة التي كانت تتدفــــق من تلك العـــيون.

كتب عبد العزيز البرناوي:

وفي كل ملاعب الدنيا، كنت لا أولي حارس المرمى كبير اهتمام، معلق من أخمص انتباهي إلى الهجوم والدفاع وما بينهما، وبعدك ليس في الملعب سواك. يقولون كنت حارس الكرامة. الكرامة لا تلعب ولا تخسر. الكرامة تربح دائمًا؛ بوصفها فريقًا لا يولد المرء وهو قادر على اختيار ضدّه. وكنت مُجسّدا لذلك. ‏يا لبهاءك الذي يجلله التراب اللحظة. ترنو إليه أحزاننا، وتصغي لنشيدك المبحوح آذاننا، ونعلم أن حظنا من البطولة الرثاء، وحظك من أيامنا الخلود، ولو كنت عابرًا بهذا العمر القصير. سلامٌ عليك في العالمين.

كتب نبيل ملحم:

أحكي عن عالم يغتالك شخصيًا، عن عالم يقوى فيه القوّاد والقوّادة عليك وأنت الفارس. الوضيعون هم الأقوى، في كل شيء هم الأقوى، إن التجربة السورية، كانت تجربة شديدة الثنائيات، ففي الوقت الذي ترى فيه فرسانًا ستجد على الطرف الآخر سمسارًا، خصوصًا في بيئة منتجي الثقافة الذين يسمونهم اصطلاحًا مثقفين، هؤلاء على الغالب يخونون الثورات، ليس في التجربة السورية فحسب. لقد أطلق عليهم المفكّر التونسي العفيف الأخضر لقب: "الكلاب التي تنبح ولا تعضّ"، هؤلاء كانوا بالمجمل عبئًا على الثورة في سوريا، عبئًا عمليًا وعبئًا أخلاقيًا، هؤلاء الذين أول من استدرج إلى خطاب التسلح، وهؤلاء أول من لم يحمل السلاح، ودلّني على مثقف واحد دعا إلى السلاح وحمل السلاح، والفارق شاسع بين من يدفع دمه، وبين من يدفعك لتدفع دمك. الأول بطل، أو أحمق، أو مغامر، أو مقتول، والثاني سمسار. وراجع التجربة السورية برمتها، وراجع تاريخ المثقفين فيها. هل أنتج المثقفون شخصية واحدة ببسالة عبد الباسط الساروت؟ هذا الشاب جاء من ملاعب كرة القدم، وبات دمه ملعبه. لن تجد من يماثله بين أباطرة الكلام والتوك شو والشاشات. ستستغرب إن قلت لك إنني أغار من عبد الباسط الساروت؟
- نعم
الأمر كذلك، لم أر هذا الرجل إلاًّ وهو يركب الريح، هو عاصفة، عبد الباسط الساروت بالنسبة لي يساوي عاصفة، وبوسعي أن أعدّد لك عشرات الشخصيات التي أفرزتها الثورة والذين يشبهون الشورباء، هؤلاء من ضرورات تليين المعدة. عبد الباسط يمثل حلمًا بالنسبة لي. حلم النار، لم أره لحظة إلاّ لهيبًا.

كتب عمار ديوب:

ليس عبد الباسط الساروت سياسياً، ولم تمدّ له يدُ المساعدة؛ حُوصر وجاع وأكل أوراق الشجر، ونحف. ولكنه لم يُصالح، ورفض كل عروض الإغراء، وأصبح من المطلوبين للنظام وبكل السبل، قتلاً أو أسراً، وخُصص لمن يقتله مال، وداهنه بتسويةٍ تُعطيه امتيازاتٍ كُبرى؛ لم يقبل الحارس، ولم يداعبه حلم العودة إلى الطاعة وأيّة طاعة أخرى. حوصر عبد الباسط الساروت في حمص، وحاول الصمود بكل السبل. ويقول الموالي والمعارض إن الأحياء التي أصبح يحكمها مع آخرين لم تتعرض للسرقة والنهب والتعفيش؛ إطلاقا ومطلقاً، فقط أخذوا الطعام والوقود، أي ما يقيهم من الموت جوعا أو برداً. هذا يوضح الأخلاق التي يستند إليها الرجل، والحلم الذي يسعى إليه، فهو لم يكن إلّا ثوريّاً، وفعل كل ما يستطيع للوصول إلى غايته. قُتل أهلُه، وأصيب أكثر من مرّة وقُتل رفاقه. وحينما غادروا مدينته، خرجوا بأسلحتهم الفردية، ومن لم يمت من أهلٍ ظلّوا مع أولادهم المقاتلين. وبعزيمة العودة إلى حمص؛ لم يغادر ذلك الحلم، وظلَّ يجول في فؤاده، وكأنّه حبيبته السرية، ولكنها المعلنة أيضاً، فتطابق في وجدانه السر والعلن، ومات وهو يسعى إلى هدفه. كان في وسع الساروت استثمار أنه رياضي، ومغنٍّ، ولديه حقيقة وأسطورة الحصار والصمود، واستشهاد كثيرين من عائلته؛ أبى إلّا العودة إلى ميادين القتال. من هنا، يمكن أن نفهم أسطورته، والحب الذي كان له قبل الاستشهاد وبعده.

كتب ماهر مسعود:

ليست مهمة تلك القيم التي نتعلمها، بقدر أهمية تلك التي نصنعها، تلك التي ننتجها عبر فعلنا في الحياة. كثيرون هم من يعيشون حياتهم على قيم صنعها غيرهم، قلائل هم من يصنعون القيم عبر التاريخ. ليس مهماً إن كان الساروت علمانياً أو متديناً، ريفياً أو بدوياً أو مدنياً، عبقرياً أو بسيطاً لا يعرف القراءة والكتابة، لأن الساروت كان صانع قيم، وصُنّاع القيم لا يموتون.

لم يصنع القيم عبر خبرته ومعرفته الواسعة، أو علمه وتعلّمه وتعليمه الكبير، فقد كان في عُمر التاسعة عشرة عندما قامت الثورة، طفلاً يلاعب الحياة ويحرس مرماها، يسائلها غاضباً ولا يعرف الأجوبة، يقتحمها ولا يصدق قسوتها. كان وقتها طفلاً يغني في مسارح التظاهرات من دون أن يعلم أنها ستنقلب إلى تراجيديا ملحمية دامية، وأنه سيكون بطلها المأساوي أو أنه سيموت مثل أبطال المآسي في الأساطير الإغريقية.

لم يصنع قيماً للفكر والتفكير، فالأطفال لا يصنعون قيماً بعقولهم، بل بوجودهم ذاته، لا يصنعون المعنى بنظرياتهم الفلسفية والعلمية والأخلاقية، بل يخلقون المعنى بحضورهم، بألعابهم، بضحكاتهم وغنائهم، بأوهامهم وبالحياة النابضة في أجسادهم.

إيمانه بالثورة لم يكن متعالياً أو مثالياً أو معقداً أو محكوماً بحسابات الربح والخسارة والمجد وكل المفاهيم المركبة. كان إيماناً بديهياً بسيطاً كشربة ماء، واضحاً كأفق مفتوح، قاسياً كشعور القهر، صادقاً كضحكة الأطفال.

لم يكن الساروت مثلنا، كان حراً من الأيديولوجيا التي حاصرته فخرج منها بلا تنظير ولا اعتذار، حراً من صراع الأفكار العقيمة التي نخشى تصنيفاتها فنلبس قناع الحكمة. ترك وجهه مكشوفاً ومفتوحاً لرياح الثورة، طحنته عواصفها وتناقضاتها وتقلباتها، غنّى للحرية عندما كان للغناء معنى وللصوت صدى في أرواح السوريين وفي العالم، عندما كانت حمص عاصمة الأمل وأجمل مدن العالم في تظاهراتها. كانت حنجرة الساروت سلاحه الأول، والغناء للثورة معركته المفضلة.

تحول الساروت إلى حمل السلاح بعدما دُهست الأغنيات بالدبابات، تحوّل إلى حمل السلاح ببساطة ثورية، من دون أن يهمه مصدر السلاح أو مصير السلاح، فالبوصلة واضحة في روحه، ضد الظلم، ضد القهر والعبودية. أما طريق الحرية المسالم، فقد جرفته جنازير النظام في بابا عمرو، في البياضة، في الخالدية التي غنى في أزقتها وساحتها مع الراحلة العظيمة فدوى سليمان، في باب السباع الذي قتل فيه أجمل الشهداء، باسل شحادة.

في حمص، قاتل الساروت حتى النفس الأخير، خسر أخوته الأربعة ووالده، ودّع الكثير من أصدقائه، بكى حرقة ليوصل الطحين إلى المحاصرين، قاتل مع شباب البياضة بروح آتية من الأساطير في حرب لا شيء عادلاً فيها.

عندما سيطر الإسلاميون على وجه سوريا المحترق، تحوّل إلى الجهاد ببساطة ثائر، من دون أن يسأل عن مصير الجهاد وأيديولوجيا الجهاد، فالبوصلة بقيت واضحة في صدره، لا عودة للوراء، حتى لو كانت خسارة العالم، كل العالم، هي الثمن.

لم تكن بوصلة الساروت هي الله، ولا الجهاد، ولا السلاح، ولا الأغنيات، كانت بوصلته حرية الشعب السوري، حريته هو بعدما صار روحاً جماعية. شعوره بأحقية الدفاع عن الظلم والقهر والعدالة المسحوقة، كان مثل الحقيقة الثابتة أمام عبثية دولاب الزمن، كل الأفكار والأيديولوجيات والمعاني الكبرى كانت تحت قدميه، أدوات غير مفهومة لما هو مفهوم لديه بالحدس، طرق معقدة لطريقه الواضح. لم تثبت تحولاته إلا أنه كالحياة، تتغير وتمضي، تعلو وتهبط، تجري وتتدفق ولا يعنيها سوى هدف واحد، هو خلق المعنى لمن يحيا.

كثيرون رحلوا، كثيرون هاجروا، كثيرون هُجِّروا، كثيرون غادروا ثورة لم تعد تشبههم، كثيرون اختاروا طرقاً أخرى للثورة، كثيرون عادوا لمملكة الصمت والهزيمة، كثيرون فضّلوا الأمان على الحرية، كثيرون تابوا، كثيرون نسوا، كثيرون ماتوا قهراً.. إلا الساروت، لم تتغير بوصلته، لم يمت قهراً، لم يرحل إلا ليعود، لم يمت عجزاً، لم يمت صمتاً... مات واقفاً، مات فاتحاً صدره للعدم، مات غير معنيٍّ بالعدم، فالموت حرية أيضاً، ولطالما ارتبطت الحرية في سوريا بالعدم.

مات بسيطاً كرائحة الخبز، غريباً كإله في الأساطير القديمة، قريباً كخرافة مقدسة أو حكاية من حكايا الجدات. مات من دون أن يسأل ما معنى المعجزات، فقد كان يعيشها، من دون أن تعنيه معاني البطولات، فقد كان يجسّدها، مات مثل موت الله عند نيتشه، عندما لم يعد للأمل قيمة ولا معنى.

تجسّد حكاية الساروت كل ما نهرب منه، نحن الناجون الأحياء، الخوف من الموت والبكاء على الموتى، الخوف من الإرهاب والوسم بالإرهاب، الخوف من القتل والقتال والمقتلة، الخوف من الفشل، من انعدام المعنى، من مواجهة انعدام المعنى.. الخوف من قسوة الحرية ولا أمانها في سوريا، سوريا أرضنا، أرضنا المقبرة.

تجسد حكاية الساروت حكاية الثورة السورية، الثورة التي رقصت وتمايلت على ألحان الأمل في البدايات، الثورة التي نزفت أجمل أبنائها في العراء من دون أن يضمّدها أحد، الثورة التي أثارت رائحة دمائها كل ضباع الأرض لتنهش في لحمها الطري، الثورة التي لبست ثوب الجهاد عندما تُركت عارية أمام عين التاريخ الوقحة، والقادمين من أصقاع التاريخ، الثورة الباقية رغم أنف التاريخ وضداً من ميوله الفاشية، ميوله التي يحركها اليوم أتفه طقم رئاسي وسياسي حاكم في التاريخ المعاصر من مشارق الأرض إلى مغاربها.