الديمقراطية التونسية.


فريد العليبي
الحوار المتمدن - العدد: 6289 - 2019 / 7 / 13 - 14:43
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


ذكر رئيس هيئة الانتخابات أن عدد المسجلين بلغ 7 ملايين و66 ألفا ، أي بزيادة مليون و 456 ألفا عما كان عليه الحال خلال الانتخابات السابقة ، وهو ما يعني أن النسبة العامة قد ارتفعت قياسا الى العدد الجملي وهو8 ملاين و800 ألف معنيين بالتسجيل ، وأعتبر ذلك نجاحا للهيئة التي قامت بحملة واسعة لتسجيل الناخبين ، غير أن هناك توجسا من ارتفاع محتمل لنسبة المقاطعة.
ويأتي ذلك في ظل الاستعداد للموعد الانتخابي القادم ، الذي ينظر اليه كامتحان آخر للديمقراطية التونسية " الناشئة " وهي التي يقول عنها أقطاب الحكم في تونس أنها تمثل استثناء عربيا من حيث نجاحها ، تعاضدهم تصريحات بعض الساسة في أمريكا وأروبا ، من ذلك ما قاله الرئيس الفرنسي ماكرون عند زيارته سنة 2018 لتونس عن التجربة الديمقراطية التونسية التي تعد الوحيدة الناجحة من تجارب " الربيع العربي " أو ما قالته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت مؤخرا عن تونس التي "تعد مثالا جيدا لبلد تتطور فيه الديمقراطية" .
ويبدو كما لو أن أمريكا والاتحاد الأوربي معنيان بتصدير ديمقراطيتهما الى تونس فالديمقراطية التونسية مستنسخة عن الديمقراطية التمثيلية في تلك البلدان بخيرها وشرها ، ولكن مع فارق جوهري وهو أنه في الحالة التونسية يتعلق الأمر ببلد متخلف اقتصاديا من جهة ، ومن جهة ثانية واقع تحت هيمنة الصناديق المالية الدولية والشركات الاحتكارية الأجنبية وما يتبع ذلك من نتائج سياسية وعسكرية . ومن هنا اخفاقاتها المتتالية ، اذ يتزايد الشرخ بينها وبين المحكومين ويقوى الشعور بأنها ديمقراطية مشوهة لا تحل مشاكل الشعب وانما تخلق المزيد منها ، والتنافس الانتخابي في ظلها عديم الفائدة ، فهو يشبه اعطاء متنافسين في سباق لأحدهم طائرة وللثاني سيارة و للثالث دراجة وللرابع حمارا ، ثم انتظار من سيفوز أولا والنتيجة معلومة ، فمن يمتلكون المال والاعلام ويوظفون الدين ويستقوون بمراكز النفوذ العالمية هم الفائزون لا محالة ،فلا ديمقراطية سياسية دون ديمقراطية اقتصادية .
ومن هنا أهمية التفكير في ديمقراطية بديلة .وقد تكون الديمقراطية المتطابقة مع تطلعات التونسيين هي تلك التي لا تكتفي بالمساواة في الحقوق السياسية ، وانما تضيف اليها المساواة في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ، في بلد انتفض شعبه مطالبا بالتشغيل والثروة . والا كانت ديمقراطية مزيفة مخاتلة مخادعة ، وعودها سراب ، من تشغيل نصف مليون بشر الى "الويفي" المجاني في بلديات حركة النهضة ، ديمقراطية يتحكم فيها المال السياسي والاعلام الفاسد والتدخل الخارجي وخلط الدين بالسياسة وبيع وشراء السياسيين والإعلاميين والنقابيين والمثقفين ومنظمات المجتمع المدني ، ديمقراطية الفوضى حيث لا مسؤولية ولا انضباط بما يشبه حرب الجميع ضد الجميع ، التي يصل الاستهتار فيها حد تخريب قنوات الماء في عز الصيف وقطعه عن جهات بأكملها ، تحت دعوى تحقيق مطلب هنا أو هناك.
لقد جرب العرب تلك الديمقراطية في النصف الأول من القرن الماضي في سوريا والعراق ومصر وغيرها ، وعندما استفحلت شرورها جاءت الانقلابات العسكرية وسط ترحيب شعبي عارم لتضع حدا لها ولكن تلك الانقلابات لم تحل المشكلة ، فقد ساد معها القمع والعسف ، وإن حققت نتائج أفضل اقتصاديا واجتماعيا ، ثم ها أن العرب يعودون اليها بضغط الخارج الأمريكي والأوربي وتحت نيرانه ، مثلما حدث في ليبيا والعراق مباشرة وفي أقطار أخرى بصورة غير مباشرة ، فقد طالب المنتفضون بإسقاط النظام القديم وبالشغل والأرض والثروات ، فاذا بذلك النظام يخاتلهم ويعود اليهم متنكرا ويده في أيدي المستبدين الدينيين والمستعمرين ليطعمهم الخطب ويسحقهم اقتصاديا واجتماعيا بلهيب الأسعار ونار البطالة وتفشي الإرهاب والأمراض . ولا تكاد قناة تلفزيونية وإذاعة تخلو كل يوم وليلة من تهريج ديمقراطي لا بداية له ولا نهاية ، حول أحزاب تتناسل ورموز سياسية تتقاتل فطلق أغلب الناس السياسة وصرعهم الإحباط ، وأصبحت العملية الانتخابية فارغة من أي معنى وسط ما أصطلح عليه بعزوف الناخبين .
إن تونس اليوم مريضة بتلك الديمقراطية الميتة، التي آن أوان دفنها قبل أن يستفحل شرها وتؤدي الى كارثة، وتعويضها بديمقراطية شعبية حية، مستندة الى السيادة الوطنية، تقطع يد التدخلات الخارجية وتغلق الباب أمام تحكم الفاسدين في الاقتصاد والاعلام والسياسة ، وتطرد الشيوخ المتاجرين بالدين من مجالها ، و تحقق الارتباط بين الحقوق السياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، بما من شأنه الافراج عن طاقات الشعب والوطن وتفجير الأرض ثروة.