مأزق الجبهة الشعبية وآفاق اليسار .


فريد العليبي
الحوار المتمدن - العدد: 6254 - 2019 / 6 / 8 - 17:26
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



مثلما كان متوقعا انفجرت تناقضات الجبهة الشعبية، وأضحت صراعاتها المخفية معلنة وانبرى أصحابها قبل أعدائها يتحدثون عن أزمتها. وبينما ينهمك بعضهم لحلها في اطلاق المواعظ الأخلاقية والدعوة الى سبيل الحكمة و الرصانة ، متذمرين من الشتائم وكيل التهم في رد فعل على تناحر بلغ الدرك الأسفل بوصف الاخوة الأعداء بعضهم البعض بالرعونة والطفولية والعمالة والعشائرية والجهوية وخيانة الأمانة ، فالأزمة برأيهم أخلاقية وحلها أخلاقي أيضا ، يرى آخرون أن الأمر يتعلق بأزمة زعامة عنوانها ناطق رسمي أصبح شيخا متعنتا ،غير قابل للنقد ، عوضا عن خلوده الى الراحة ، والتفرغ لكتابة مذكراته ، الى قائل إن المشكلة تنظيمية ، فمؤسسات الجبهة غير قادرة على حسم الخلافات ، وهي فضلا عن ذلك مفتقرة للشرعية ، فالانتخاب مثلا مبدأ غائب فيها ، مما يعني أنها غير ديمقراطية وهناك من همس بأن الصراع يجري على الامتيازات التي يحصل عليها مترشح الرئاسيات ومترشحي النيابيات ، وخاصة جانبها المالي ، وصولا الى تأكيد أنها أزمة سياسية تشمل الموقف من السلطة والمشاركة في الحكم والتحالفات الخارجية ،حيث انعكاس الصراعات العربية و الإقليمية ، ووصل الأمر حد القول أن صفقة فستق إيراني وراء ما يحدث للجبهة في إشارة الى تمويل مشبوه لبعض مكوناتها .
والأرجح أنها أزمة مركبة تجتمع فيها تلك العوامل كلها، غير أن الرئيسي فيها هو العامل السياسي وما يقترن به من إرادة السيطرة والنفوذ، وقد مر ذلك السياسي من الحسابات الانتخابية ومعركة التموقع الى صراع سياسي أشمل ، تمت فيه العودة الى خلافات قديمة جدبدة .
واذا كانت الجبهة قد قدمت نفسها غالبا على أنها متماسكة وأقوى من الصراعات والانشقاقات فإن التصدعات وجدت طريقها اليها مبكرا ، ووقائع تاريخها تفيد ذلك فقد غادر ها مستقلون و أحزاب وأفراد كثيرون ، شكل بعضهم كيانات سياسية بديلة ، بل إن أحزابها ذاتها انقسمت على نفسها ، وعرفت صراعات عاتية ، وهو حال حزب العمال خلال مؤتمره الأخير وحزب الوطد الموجد الذي لم يكن يوما موحدا ، حتى أن رئيس آخر مؤتمر له غادره مؤسسا حزبا منافسا ، ولم تنج بقية مكوناتها من ذلك المصير ،غير أن أزمتها الحالية هي الأكبر حتى الآن .
والواقع أن الجبهة الشعبية تشقها التناقضات منذ ولادتها ، وما يحصل الآن هو تفاقم تلك التناقضات في صلة بالمواعيد الانتخابية القادمة ، وطرفاها الأساسيان حزب العمال وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد ، والسبب سعي كل منهما الى الاستئثار بمواقع سياسية باستثمار اسم الجبهة ، وكان مفجر تلك التناقضات مؤخرا عدم الاتفاق على مرشح للرئاسية فبينما يريد حزب العمال تقديم زعيمه مجددا ترشحه باسم الجبهة ، يرى حزب الوطد الموحد أن أحد قادته هو الأولى بذلك ، ومن هنا فإن الصراع جرى أولا حول المواقع ثم أصبح حول المواقف ، فالجبهة كانت منذ البداية ائتلافا انتخابيا أكثر من كونها جبهة لها مهام سياسية لذلك ضعفت فيها الجوانب التنظيمية والسياسية والفكرية ، وحضرت تلك التناقضات ، وكلما حلت مواعيد انتخابية إلا وكانت تلك الصراعات ،ويبدو أن الجبهة تصل الآن الى نهايتها، وقد تجد خشبة انقاذها في خوض معركتها القادمة تحت علم الاتحاد العام التونسي للشغل .
وإذا التفتنا الى اليسار عامة أمكننا ملاحظة أنه يمثل في تونس حتى الآن قوة ذات شأن مقارنة بما عليه الحال في أغلب الأقطار العربية ، وله تاريخ طويل ومكاسب عديدة و كثير من اليساريين يوجدون خارج الجبهة الشعبية ، وهناك آخرون داخلها ، وما يجمع بين هؤلاء وأولئك هو التذمر من فرقة اليسار وانقسامه ، غير أنهم لم يرتقوا غالبا بذلك الشعور الى مستوى التمثل الفكري/ النظري ، فظلوا مترددين ، عفويين ، منعزلين عن بعضهم البعض أفرادا و أحزابا وحلقات في مجال الممارسة، ومن هنا أهمية الحوار فيما بينهم حول قضايا السياسة والتنظيم ، وعندما يكون ذلك الحوار شاملا وعلنيا ربما أمكنهم التقدم خطوة الى الأمام في مجال تنظيم قواهم . دون نسيان أن الوحدة والانقسام ظاهرتان موضوعيتان فكل القوى السياسية الاجتماعية التي عرفتها البشرية وقعت تحت طائلتهما ،وإذا كان السائد سابقا هو التنظيم الجبهوى دون تعيين المهام السياسية بدقة ، وفي صلة وثيقة بالواقع الملموس ، مما جعل الأمور ملتبسة فإن الوقت قد حان لتنظيم اليسار التونسي جبهويا على قاعدة الوضوح في السياسة استراتيجيا وتكتيكيا ، فالتنظيمي الذي لا يسنده برنامج سياسي واضح المعالم وفهم عميق للأوضاع غير قابل للحياة ، فقد كان للجبهة الشعبية مثلا أرضية سياسية ولكنها مندرجة ضمن السائد في تونس بسياساته ومؤسساته ، ومن هنا كانت غربتها عن السيرورة الثورية التونسية فقد إعتبرت أن الثورة وقعت وانتصرت ولم يبق إلا جنى ثمارها بالوصول الى السلطة ، بينما كان الواقع يقول العكس في ظل إمساك الإسلام السياسي بعنق الانتفاضة التونسية وسيطرته على الحكم ، فكان السباق لجني ثمار لا وجود لها ، والذي حدث بعدها هو اخفاق وخيبة أمل عارمة ارتدت على بنية تنظيمية هشة