إنه عهد الرأسمالية المتوحشة والعنصرية والقمع: فمن سيقاومه؟

نزار حسن
2019 / 6 / 7 - 01:22     

لم نر أي قوة اجتماعية في العقود الثلاث الأخيرة قادرة على مواجهة مشروع الرأسمالية المتوحشة في لبنان الذي حملته الطبقة الحاكمة (ضمنها أصحاب الأموال، وممثليهم في النظام السياسي، وأمراء الحرب، والزعامات الاقطاعية) منذ نهاية الحرب الأهلية. قاد المشروع النيوليبرالي* (التعريف في الأسفل) رئيس الوزراء رفيق الحريري في أواخر القرن الماضي وبداية القرن الحالي، فبرزت بعض قوى اليسار المناصرة للنظام السوري لتواجهه (حركة الشعب بقيادة نجاح واكيم هو المثال الأكثر وضوحًا)، وكان ميشال عون من منتقدي النهج في عدة مراحل.



أمّا في نظام اليوم، فيتسلم المعسكر العوني-الباسيلي قيادة الجبهة الاقتصادية بالتعاون مع الحريري وحلفائهما من أصحاب رؤوس الأموال الكبار، فأصبح الفريقان الأكثر قوة في المؤسسات السياسية في خندق واحد. وبعد أن جلس التيار الوطني الحر على رأس هرم السلطة، برزت الجوانب الأخرى للمشروع السياسي الذي تحمله قيادته، من استغلال الأجهزة الأمنية (وخصوصًا جهاز أمن الدولة ومكتب الجرائم المعلوماتية) لقمع المتطاولين على العهد، الى التحريض العنصري والطائفي الذي يشكّل صلب خطاب باسيل في جولاته وتصريحاته.



فمن سيواجه هذا النهج في هذه المعادلة؟ من سيخوض النزاع الأكبر، أي النزاع الطبقي بين مصالح الأكثرية الساحقة من الشعب من عمال وأصحاب مؤسسات ومهنيين من جهة، ومصالح رؤوس الأموال المستفيدة من السياسات الاقتصادية غير العادلة من جهة أخرى؟ ومن سيواجه الزواج بين هذا المشروع والنهج القمعي والعنصري، وينظر الى هذه الجوانب على أنها جزء من مشروع واحد، مشروع مبني على إستغلال عصر الأزمات لتكريس الانقسامات الطبقية والعنصرية ودفن حلمنا بمجتمع يحترم الحريات؟



يفهم نبيه برّي ومعه وليد جنبلاط أهمية هذه الفترة تاريخيًأ من زاويتها الطبقية. فهما أذكى المستفيدين من موارد الدولة لحماية نظام الرعاية الطائفية (أي الزبائنية)، ولذلك يحاربان خصخصتها (إلا عندما تعوّض حصصهما عن الخسارة)، ويعلمان جيدًا أن المنحى الطبقي لا بد أن يهيمن على السياسة في المستقبل القريب. يحاول بري إعطاء صورة المواجه للمشروع النيوليبرالي من خلال وزير المالية علي حسن خليل، ولكن المواجهة تقتصر على الشعارات الشعبوية، وعندما حاول الخليل الترويج لإعادة هيكلة الدين العام والذي هو الحل الوحيد لتخفيف عبء الدين عن أكتاف الدولة، كانت ردّة فعل السلطة العونية-الحريرية صارمة جدًّا، وجعلوه يقرأ البيان الذي يتراجع فيه عن كلامه ويؤكد عدم المس بأموال المصارف.



أما جنبلاط والنائبان هادي أبو الحسن وبلال عبدالله فيحاولون إعادة إنتاج صورة حزبهم على أنه المدافع عن حقوق العمال والدولة الراعية، مستفيدين من الإرث الفكري لكمال جنبلاط وإسم الحزب والنقمة الدرزية على باسيل وتياره بهدف تسجيل نقاط عليهما ضمن معركة النفوذ في الجبل.




في المقابل، تتشكّل تكتلات مما يسمى "المجتمع المدني" بينها أحزاب ومجموعات صغيرة لا تحمل أي نقد جذري لهذا النهج الاقتصادي أو رؤية لبديل عنه، وتصرّ على تركيز خطابها على انتقاد فساد السياسيين بما أنه الشعار الأسهل لجمع قوى غير متناسقة في المضمون في جبهات وتنسيقيات هجينة نسمع عنها يومًا بعد يوم. 




علينا التنبه لهاتين الظاهرتين، أي محاولة أمراء الحرب والدولة ركوب هذه الموجة، وصعود هذه التكتلات "المعارضة" التي تتجنب أي حديث عن العدالة الاقتصادية، لأنهما تشكلان الخطر الاكبر على المسار التغييري. فإمّا أن نفهم حجم النزاع القادم كقوى تغييرية ونسلّط عملنا السياسي على توجيهه نحو الإصلاح التقدمي الجذري للنظام من خلال تحقيق العدالة الاقتصادية، أم أن نذوب في التاريخ من دون أي أثر، وربما نصبح مجرد منصات لأشخاص ومتمولين يطمحون للانضمام الى نادي السلطة وإعادة إنتاج النظام الذي يفقرنا ويقسّمنا ويقمعنا ويقتلنا ويسرق أحلامنا. أما التحدي الأكبر فهو عدم الاستسلام لصعوبة خوض الصراعات المختلفة في آن واحد، وربط هذا الصراعات ببعضها لفضح كونها جزء من مشروع أوسع يشكل الخطر الأكبر على مستقبلنا.



أشعر بالفخر أن خيارنا في لِـ حَقّي واضح، وجهودنا مبنية على الانخراط السياسي الفعلي للناس في العمل السياسي التقدمي. وأدعو كل من يشاركنا حلم المجتمع العادل أن ينضم الى المسيرة. ستسألنا الأجيال القادمة عمًا فعلناه يوم كان تغيير المسار ما زال ممكنًا، ولا بد من وجود جواب أفضل من "لم نكن ندري".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


* النيوليبرالية هي النظام الاقتصادي-السياسي والنهج الإيديولوجي المبني على الحرية المطلقة للأسواق الرأسمالية وإعادة تعريف دور الدولة في الاقتصاد بعيدًا عن وظيفة التخطيط للتنمية والتوزيع العادل للموارد. في سياق الأزمات الاقتصادية كتلك التي يعيشها لبنان حاليًا، يحمل هذا النهج حلولًا رجعية كزيادة الضرائب على الفقراء (من خلال الضرائب غير المباشرة كالضريبة على القيمة المضافة) بدل زيادتها على أرباح الطبقات الأغنى، وخصخصة ما تبقى من الموارد والمؤسسات العامة، وتخفيض حجم الإنفاق العام، وتجميد التوظيف في المؤسسات الرسمية. وهذا هو النهج الذي تحمله الحكومة (وخلفها الهيئات الاقتصادية) في موازنتها القادمة من خلال إجراءات التقشف الرجعية وتوزيع خسائر الأزمة على الطبقة العاملة وفي المقابل حماية مصالح المصارف والفئات الأغنى. أمّا أكثرها وقاحة فهو تخفيض الأجور، وهو ما طرحه باسيل يوم حاول اقتناعنا بأن الخيار هو بين تخفيض هذه الأجور وخسارتها كليًا.