العمال في ثورة الجزائر: رأس حربة بحاجةٍ إلى تنظيم

تشينو تشوكودينما
2019 / 6 / 3 - 09:57     

الناشر وحدة الترجمة – مركز الدراسات الاشتراكية

ضربت الثورة شمال إفريقيا مرة أخرى بعد أن أجبرت الاحتجاجات الجماهيرية في الجزائر الديكتاتور عبد العزيز بوتفليقة على الاستقالة في 2 أبريل الماضي. وبالرغم من هذا الانتصار، استمرت التظاهرات الجزائرية مطالبةً بإسقاط النظام بأكمله.

أعربت وكالة بلومبرج الأمريكية عن قلقها إزاء هذه التطوُّرات عندما جادل أحد المُعلِّقين قائلًا: “إن الثورات بدون قائد إما تؤدي إلى حرب أهلية أو تُختَطَف من قبل الجيش”. على صعيدٍ آخر، قال محلل بقناة الجزيرة إن سقوط بوتفليقة كان نتيجة للاحتجاجات السلمية. تشير هذه التفسيرات المتضاربة ومحاولات تسمية الأحداث إلى فشل وسائل الإعلام في تحديد مراكز القوة في الجزائر. في المقابل، يرى هذا المقال أن تنامي الإضرابات العمالية قبل وبعد إسقاط بوتفليقة يطرح أن الطبقة العاملة هي الوحيدة التي لديها القدرة على قيادة المجتمع الجزائري للتحرُّر.

تفتتح الثورة الراهنة فصلًا جديدًا في نضال الشعب الجزائري ضد الديكتاتورية، فصلًا يأتي بعد انتفاضة أكتوبر 1988، والربيع الأمازيغي في 2001، والإضراب العام 2003. وتُعبِّر الثورة عن الثقة المتزايدة لدى العمال، علاوة على استيائهم من السياسات النيوليبرالية للطبقة الحاكمة. في 10 مارس، استجابت الطبقة العاملة لنداءات الإضراب العام واستخدمت ثقلها الاجتماعي لتعزيز التعبئة الشعبية التي خرجت بالفعل إلى الشوارع. ودَمَجَ الإضراب بين النضالات السياسية والنضالات الاقتصادية الجزئية ضد النظام من أجل تحسين مستوى المعيشة. وفي الوقت الحالي، لا يزال كلا الشكلين من أشكال النضال يؤثران على بعضهما من خلال وجودهما الكامل في الاحتجاجات والإضرابات. وهذا بدوره يفتح آفاقًا جديدةً لتغييرٍ لاجتماعي أعمق.

الجماهير تدخل التاريخ
اندلعت الاحتجاجات على مستوى البلاد في 22 فبراير 2019 بعد قرارٍ من النظام بتمديد رئاسة بوتفليقة لعهدةٍ خامسة. وفي الأسبوع التالي ازدادت قوة المظاهرات، إذ وصل عدد المتظاهرين في الشوارع ثلاثة ملايين شخص في 48 ولاية جزائرية. شكَّلَت الانتفاضة الشعبية نقطة تحوُّلٍ في حياة الشعب الجزائري ومعاناته طيلة 20 عامًا مع الديكتاتورية والظروف الاقتصادية الصعبة.

وحين انهارت أسعار النفط في العام 2014، كان ذلك يعني تدهورًا في مصدر الدخل الرئيسي للنظام، وتمثَّلَ ردُّ فعل النظام في تجميد الأجور وتقليص الخدمات الاجتماعية. لم يعد لدى الجماهير القدرة على التحمُّل. حمَّل المتظاهرون -معظمهم من الشباب- مسئولية ارتفاع معدل البطالة بنسبة 30% كاملةً على النظام. قال أحدهم: “لا يوجد شيء لجيل الشباب، لا وظائف، لا منازل، لهذا نريد رحيل هذا الرجل العجوز”.

هناك تفاوتٌ كبير بين مستوى المعيشة المتدهور وانعدام الحقوق الديمقراطية، التي يتحمَّلها المواطنون، وفساد نخبة الأثرياء وصراعاتهم الداخلية الواضحة. في العام 2018، طرد بوتفليقة مسئولين عسكريين وآخرين من جهاز المخابرات كانوا على صلةٍ بفضيحة مخدرات واستبدَلَ كذلك رئيس الجمعية الوطنية. بدا ذلك محاولةً منه لتحويل توازن السلطة لصالح الدائرة الملتفة حول الرئيس؛ أي عائلة بوتفليقة، وأقطاب الصناعة، والقطاع من الجيش الذي يتصدَّره قايد صالح، قائد القوات المسلحة. لكن قرار النخبة بتمديد ولاية بوتفليقة للحفاظ على مصالحهم مع السلطة جاء بنتائج عكسية، واندلعت الانتفاضة.

أثبتت الانتفاضة أن الجزائريين تغلَّبوا على خوفهم من قمع الدولة واستعادوا حقهم في الاحتجاج في الجزائر العاصمة، المدينة التي حُظِرَ فيها التظاهر منذ عام 2001. احتجت القطاعات المضطهدة من المجتمع الجزائري واحتشدت في أماكن عملها. نظَّم الصحفيون والموظفون مسيراتٍ ضد الرقابة، وأجبروا وسائل الإعلام الحكومية على تغطية الاحتجاجات. تبعهم الطلاب والمعلمون بتنظيم مسيرات من مدارسهم الثانوية وجامعاتهم. انضم القضاة والمحامون إلى موجة المظاهرات لأول مرة في التاريخ الجزائري. تنامَت ثقة الناس، إذ تطوَّرَت الشعارات من “لا للعهدة الخامسة” إلى “يسقط بوتفليقة، يسقط النظام”.

الإضرابات وروزا لكسمبورج
من المؤكد أن التظاهرات الشعبية أرعبت الطبقة الحاكمة وجعلتها تنقسم على نفسها، مما دفع بعض مؤيدي بوتفليقة والجنرال قايد صالح إلى التعبير عن دعمهم لمطالب الشعب. ولكن الإضراب العام يوم 10 مارس هو ما أجبر بوتفليقة على الخروج بعد يومين للإعلان إنه لن يسعى لعهدةٍ أخرى. أغلقت الإضرابات في جميع أنحاء الجزائر مصانع ومناطق صناعية بأكملها، لا سيما في منطقة القبائل والجزائر العاصمة. نظَّم العمال اعتصامًا أمام مقر شركة النفط والغاز العامة سوناطراك -التي تُوظِّف 120 ألف عامل- مطالبين بتحسين ظروف العمل، ووضع حدٍّ لخفض العمالة، ورحيل النظام، هاتفين: “لا مزيد من فصل العمال.. يسقط النظام”. شلَّت الإضرابات أكثر الموانئ حيوية ونظام النقل العام في معظم المدن، وانتشرت في مختلف إدارات الدولة.

وكما وصفت المناضلة الاشتراكية الألمانية روزا لكسمبورج منذ أكثر من قرنٍ مضى، فإن المعركة الاقتصادية والحركة السياسية ضد الديكتاتورية تُعزِّز بعضها البعض، وتمنح النضالَ زخمًا جديدًا.

في 15 مارس، اندمج الإضراب العام في يومه الأخير مع التعبئة السياسية الأكبر على الإطلاق في الجزائر لأكثر من 14 مليون متظاهر في الشوارع. صار تركيز المتظاهرين آنذاك هو إقالة بوتفليقة. زادت الانقسامات داخل الطبقة الحاكمة نتيجةً للإضرابات والمظاهرات، مما دفع الجنرال صالح لإطاحة بوتفليقة يوم 2 أبريل. تُقدِّم لنا متظاهرةٌ شابةٌ نظرةً ثاقبة للحالة النضالية للناس عند تحقيق هذا النصر، إذ قالت: “لقد كنا نائمين ولكن الآن استيقظنا، الآن لدينا الثقة أننا نستطيع تغيير النظام بأكمله”.

الجيش ضد الطبقة العاملة
في كتابه الكلاسيكي “الدولة والثورة“، يشير الثوري الروسي فلاديمير لينين إلى كتابات كارل ماركس حول كوميونة باريس عام 1871. كَتَبَ ماركس أنه عندما تكون الطبقة العاملة أقلية، فإن الثورة الشعبية لا يمكن أن تتحقَّق إلا إذا كان العمال قادرين على توحيد المضطهدين وراءهم وتحطيم آلة الدولة القديمة. رغم أن هذا ليس هو الحال في الجزائر، فقد أثبتت البروليتاريا الصغيرة من خلال الإضرابات أنها أقوى طبقة في المجتمع. غير أن الجيش الذي حكم الجزائر منذ استقلالها عن فرنسا عام 1962، يقف الآن عقبةً أمام قوة العمال.

بدأت جذور هذه المشكلة عندما صَعَدَ هواري بومدين إلى السلطة، وكان ذلك بمثابة نقطة تحوُّلٍ لجبهة التحرير الوطني من التحالف المسلح الذي يقود البلاد من أجل الاستقلال، إلى ديكتاتورية دولة عسكرية عام 1965. من الشائع رؤية صورة بومدين في لافتات المتظاهرين اليوم، لأنه يمثل تجربة دفع التنمية الاقتصادية في الجزائر من خلال الاستثمار والتصنيع بقيادة الدولة -في تناقضٍ صارخ مع التقشف والليبرالية الجديدة في العقود الأخيرة.

في أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، قام بومدين بتأميم الشركات الأجنبية الكبرى في مجال الهيدروكربونات، وأعاد توجيه صادرات النفط والغاز لبناء صناعاتٍ محلية مثل مصانع السيارات والصلب والكهرباء. كان بإمكان الدولة أن تُوفِّر للعمال فرص عمل مستقرة وتعليم مجاني ورعاية صحية وغيرها من مزايا الرعاية الاجتماعية التي لا يزال الجزائريون يُقدِّرونها حتى اليوم.

ولكن نظام الجنرال كان مُعاديًا للعمال الذين نظَّموا الإضرابات والاعتصامات في مواقع عملهم في فترة 1964-1966. وردًّا على الإضرابات والاعتصامات، ضمَّت الدولة إليها الاتحاد النقابي الوحيد في الجزائر (الاتحاد العام للعمال الجزائريين)، وقامت بتصفية سكرتارية الاتحاد وحلَّت فروعه المحلية. بعدئذٍ خضعت النزاعات العمالية إلى مفاوضاتٍ بين قادةٍ من الاتحاد العام المطيعين للنظام ووزراء الدولة.

أدَّت الأزمة الاقتصادية العالمية في أواخر السبعينيات إلى تراجع عائدات الصادرات في الجزائر، وإعاقة تطور دولة بومدين. توفيَ بومدين في عام 1978 وخفض خليفته الشاذلي بن جديد الإنفاق العام وفتح الجزائر للتجارة الحرة والخصخصة للحصول على قروضٍ من صندوق النقد والبنك الدوليَّين.

وبينما أدَّى نظام بن جديد النيوليبرالي إلى بطالة جماعية، وانعدام الأمان الوظيفي، وإلغاء نظام الرعاية الاجتماعية، فقد أثار أول انتفاضةٍ عمالية كبرى في الجزائر، والمعروفة باسم ثورة أكتوبر عام 1988. تسبَّبَت الأزمة الاقتصادية التي أعقبت انهيار أسعار النفط في منتصف الثمانينيات في إضراباتٍ في الجزائر العاصمة تحوَّلَت إلى معارك دامية بين الشباب من جهة والشرطة والجيش من جهةٍ أخرى. قمعت الدولة الانتفاضة، ولكن بن جديد أُجبِرَ على وضع دستور متعدد الأحزاب والاعتراف بالحق في تكوين جمعيات سياسية. كانت النتيجة هي دعم معظم العمال للأحزاب الإسلامية.

علَّلَ المناضل الاشتراكي البريطاني الراحل كريس هارمان ذلك بأن بومدين وبن جديد شجَّعا الإسلاميين المعتدلين لمواجهة نفوذ اليسار، وأن هذا بدوره فَتَحَ الباب أمام ازدهار المنظمات الإسلامية. على سبيل المثال، كثيرًا ما ساعد وزراء الدولة الإسلاميين في الحصول على أموالٍ من رجال الأعمال لبناء المساجد.

وفي ظلِّ غياب يسار قوي منظم، وجد العمال والفلاحون الفقراء عزاءً في المساجد، حيث أدَّى الخطاب المناهض للغرب ومناهضة الفساد إلى إثارة غضب الجماعات الإسلامية تجاه نظام جبهة التحرير الوطني. فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في أول انتخاباتٍ بلدية حرة في البلاد عام 1990، وفازت في الجولة الأولى من الانتخابات العامة عام 1992. عَزَلَ الجيش بن جديد، ودشَّنَ عقدًا من الحرب الأهلية ضد المليشيات الإسلامية. أجهض الجيش التمرُّد الإسلامي وتمكَّن من تأمين هيمنته على السياسة الجزائرية. وكانت انتخابات 1998 أكبر دليل على ذلك. أدى عبد العزيز بوتفليقة اليمين الدستورية واتَّهَمَ جميع المرشحين الآخرين الجيش بتزوير الانتخابات وسحبوا ترشيحاتهم احتجاجًا على ذلك.

وفي تلك الأثناء، واصَلَت الدولة برامج صندوق النقد للتكيُّف الهيكلي، وباعت الشركات العامة لأباطرة الأعمال الجزائريين والأجانب.

واليوم، يجب أن ندرك أن قرار الجيش بإسقاط بوتفليقة لم يكن إلا محاولة لتهدئة المتظاهرين -وليس محاولة لدعمهم. للجيش مصلحة في إنهاء الثورة لأن تنامي الاحتجاجات الجماهيرية يمكن أن يُعزِّز الانقسامات القائمة بين القادة العسكريين ويفصل بشكل أكبر بين الجنود القاعديين عن قادتهم.

ومع ذلك، استمرَّ الجزائريون في الاحتجاج ضد الحكومة المؤقتة مستنكرين تدخُّلات الجنرال قايد صالح. أوضح أحد الطلاب قائلًا: “لا نريد التغيير في إطار الدستور الحالي، نريد تغيير المجتمع وفقًا لشروطنا، ولذلك رفضنا إعلان الحكومة عن إجراء الانتخابات في يوليو”. وهتفت الجماهير في 26 أبريل: “هناك قايد (قائد) واحد -الشعب”.

تنظيم العمال
لدى الطبقة العاملة الجزائرية فرصةٌ لبناء وتعزيز منظماتها الخاصة لمواجهة سلطة القوات المسلحة. شجَّعَ اعتراف الرئيس بن جديد بالحق في تكوين الجمعيات على تشكيل نقابات عمالية مستقلة جديدة، مثل اتحاد النقابات المستقلة في أوائل التسعينيات. كانت هذه النقابات الجديدة أنشط من الاتحاد العام، ونظمت إضراباتٍ بين قطاعاتٍ جديدة من الطبقة العاملة في التعليم والصحة والنقل العام.

اضطلعت النقابات الجديدة بدورٍ مهمٍ خلال الربيع الأمازيغي عام 2001، عندما اندلعت الاحتجاجات ردًّا على مقتل مراهق على يد الشرطة. كانت البطالة الجماعية ونقص التمثيل السياسي طوال الحرب الأهلية من الأسباب الأساسية لانتفاضة منطقة القبائل الشمالية، فضلًا عن وحشية الشرطة التي أدَّت إلى وفاة المراهق.

أدَّت هذه القضايا إلى تنامي الحركات المناضلة من أجل الاستقلال الذاتي في المنطقة والاعتراف الرسمي باللغة الأمازيغية. في مايو 2001، استجاب العمال لدعوات الإضراب العام في مدينتيّ بجاية وتيزي وزو، مما أعطى الانتفاضة حياةً جديدة. بعد شهر، أنشأ العمال والفلاحون والشركات الصغيرة هياكل السلطة الخاصة بهم من خلال تطوير اللجان المحلية واللجان المشتركة في جميع أنحاء المنطقة. من مايو إلى سبتمبر، نظَّمَت هذه اللجان مسيراتٍ في الجزائر ومظاهرةً من نصف مليون شخص في تيزي وزو، فيما ترك العمال مواقع عملهم للانضمام إلى المسيرة.

اتحدَّ العمال مع المضطهدين في وجه الدولة، وتميَّزَت الانتفاضة بمطالبها الخاصة مثل “سيادة الهيئات المنتخبة على الهيئات المُعيَّنة وقوات الأمن”. فشلت الانتفاضة في الانتشار في جميع أنحاء البلاد، ويرجع السبب في ذلك للنقابات العمالية المستقلة التي لم تكن قد تجذَّرَت بعد في العديد من الأماكن، وبالتالي كانت أضعف من مواجهة وسائل إعلام الدولة ووسائل الإعلام الفرنسية عندما وضعت الاحتجاجات في إطار كونها قضية هوية أمازيغية.

بينما لم تظهر لجانٌ مماثلةٌ بعد في الجزائر، كانت النقابات المستقلة نشطةً في ثورة 2019. ومع ذلك، فإن دعوة اتحاد النقابات المستقلة للعمال الجزائريين للإضراب العام في يوم 12 أبريل لم تجد استجابةً واسعة خارج العاصمة الجزائرية ومنطقة القبائل. يؤكِّد هذا على أن النقابات المستقلة لا تملك نفوذًا بما يكفي لقيادة قطاعات كبيرة من العمال حتى الآن. في المقابل، يُفضِّل الكثير من العمال النضال من أجل السيطرة على الاتحاد العام للعمال الجزائريين، والذي تبلغ عضويته 4 مليون عامل.

في 16 مارس، نظَّم 50 من أعضاء الاتحاد العام اعتصامًا خارج مقره المركزي للمطالبة باستقالة الأمين العام سيدي سعيد. وفشل الاعتصام بعد مهاجمتهم من مجموعةٍ من كاسري الإضراب. ومع ذلك، فإن زيادة الاعتصامات واجتماعات الإضراب طوال شهريّ مارس وأبريل أعطى العمال الفرصة لشنِّ معركةٍ لاستعادة الاتحاد من النظام. قال عاملو البريد في الاعتصام لأحد الصحفيين: “عارٌ على قيادتنا النقابية انحيازها لإدارة الشركة، لأنهم لا يفهمون أن الإضراب هو سلاحنا الوحيد لتحقيق ما نريد”. وتظاهر الآلاف من العمال أمام الاتحاد العام مرةً أخرى في 17 أبريل مطالبين باستقالة الأمين العام.

يتذكَّر العديد من النقابيين الإضراب العام الذي نظَّمه الاتحاد العام لمدة يومين وشلَّ الجزائر في فبراير 2003. أُغلِقَت الموانئ والمطارات والسكك الحديدية والنقل العام ومحطات الغاز والبنوك والمدارس والمستشفيات -أي معظم شركات القطاع العام. نُظِّمَ الإضراب بعد ضغطٍ من الأعضاء القاعديين على قادة الاتحاد العام لاتخاذ إجراء ضد خصخصة نظام بوتفليقة لصناعات الدولة. وبالفعل أجبرت الاحتجاجات الجماهيرية بوتفليقة وحاشيته على التراجع عن السياسات الليبرالية الجديدة. عادت الشركات العامة التي خُصخِصت إلى الدولة، مثل مجمع الصلب “سيدار الحجار”. مكَّنَت عائدات النفط الكبيرة الدولة الجزائرية من دعم المواد الغذائية والحفاظ على مجانية الصحة والتعليم.

ومع ذلك، قال العمال للصحافة إن الاتحاد العام لم يفعل لهم شيئاً منذ عام 2003. أصبح الاتحاد تحت قيادة سيدي سعيد جهازًا للدعاية الانتخابية وإقناع العاملين بانتخاب بوتفليقة. ستدفع استقالة سعيد بالعمال خطوةً للأمام، وستمنح فرصةً لاستقلال الاتحاد العام عن الدولة وهذا سيُمكِّن العمال من شنِّ المزيد من الإضرابات ضد رؤسائهم.

ربيع عربي متأخر؟
يبدو أن حركة السترات الصفراء الفرنسية والثورة السودانية كان لهما تأثيرٌ أكبر على الجزائريين مِمَّا كان للربيع العربي عام 2011. ابتكر الثوار الجزائريون “السترات البرتقالية” لحماية المتظاهرين من الشرطة، وعبَّروا عن تضامنهم مع السترات الصفراء وعدائهم للإمبريالية الفرنسية. قال المتظاهرون “اجمع كثيرًا من الحطب يا ماكرون هذا العام لن تحصل على غازنا”.

على الرغم من أن احتجاجات الآلاف من الجزائريين في أعقاب الثورتين المصرية والتونسية في 2010 – 2011، كانت أعدادهم أقل بكثير من أيِّ مكانٍ آخر في المنطقة. بعض المُعلِّقين علَّلوا ذلك بأن بوتفليقة قدَّمَ تنازلاتٍ اقتصادية مثل خفض أسعار المواد الغذائية، بينما يعزو آخرون الفشل إلى الصدمة الناجمة عن الحرب الأهلية الجزائرية أو الفوضى في ليبيا وسوريا والثورة المضادة في مصر.

تُقدِّم تونس للجزائر مثالًا على إمكانية تحقيق برلمان ديمقراطي برجوازي. وعلاوة على ذلك، شَهَدَ العقد الأخير من ديكتاتورية بوتفليقة حركةً صاعدة تتناول قضايا البطالة والتحرش الجنسي. يمكن اعتبار احتجاجات عام 2011 جزءًا من عودة النشاط للشارع من الشباب الذين مهَّدوا الطريق لثورة 2019. ظلَّت الاحتجاجات التي اندلعت طوال حكم بوتفليقة غير منتظمة ومنفصلة عن بعضها البعض، إذ كانت احتجاجاتٌ جديدة تنفجر بعد أن تُجهَض سابقاتها.

في الثورة الجارية اليوم، هناك تأثيرٌ متبادل كبير بين النضال السياسي والاقتصادي. منذ أواخر مارس، نظَّمَ عمالٌ في شركةٍ تركية جزائرية متعددة الجنسيات اعتصاماتٍ في مواقع عملهم من أجل أجورٍ أعلى، وتطوَّرت هذا النضال إلى إضرابٍ ضد النظام. تطوَّر الوعي الثوري كذلك ليصبح أكثر بكثير مِمَّا كان عليه في 2011. وكما قال أحد المحتجين: “يمكننا تغيير كل شيء، لا نريد أن تُحتَوى تحرُّكاتنا كما حدث في عام 2011. ولا يمكنك تحقيق الديمقراطية مع وجود هؤلاء في السلطة”.

تواصل الثورة الجزائرية لعام 2019 إشراك جميع شرائح المجتمع، لكن الطبقة العاملة تواجه تحدياتٍ مهمة لتعميق الثورة. يجب عليها أن ترفض نفوذ الجيش وأن تصوغ مطالبها. يجب أن تُنشِئ نقاباتها ومؤسساتها المستقلة من أجل انتزاع السلطة. إن الإرث التاريخي للاحتجاجات في الجزائر، إلى جانب الإضرابات والاحتجاجات المستمرة اليوم، يترك الباب مفتوحًا أمام احتمال تحويل هذه الثورة الديمقراطية إلى ثورة اجتماعية.

– هذا المقال مترجم عن مجلة سوشيالست ريفيو البريطانية