في علم الثورة الشيوعية (3)


فؤاد النمري
2019 / 6 / 1 - 19:15     


ما كان ستالين ليتفرغ رغم أشغاله الكثيرة في ذلك المنعطف في حياة الدولة السوفياتية من أجل أن ينقل مناقشات تلك الندوة الإستثنائية في كتاب باسم الندوة "القضايا الإقتصادية للإشتراكية في الإتحاد السوفياتي" نشر في العام 52 إلا لأن موضوعات البحث كانت أهم المسائل التي تواجه تطور الثورة الإشتراكية بحيث طلب ستالين توزيع الكتاب على مختلف كوادر الحزب لأجل دراسته ونقده وترحيب ستالين باستقبال كل نقد لعروضات الكتاب . رغم أن الكتاب تناول بالتحليل الماركسي لمختلف القضايا المفصلية في تلك الإنعطافة في تطور الإشتراكية آنذاك في الإتحاد السوفياتي بعد الحرب الوطنية العظمى إلا أن الكتاب لم يحظَ بالدرس المأمول والمستوجب لا بين صفوف الحزب الشيوعي السوفياتي ولا الأحزاب الشيوعية خارج الإتحاد السوفياتي وهو ما يؤكد هبوط مستوى الحميّة الثورية ومستوى الوعي لدى الشيوعيين كافة لدرجة أن أحد أعضاء المكتب السياسي في الحزب الشيوعي الأردني فيما بعد الإنهيار صاح مستهجناً أن يكون في الإتحاد السوفياتي صراع طبقي !! مع أن الموضوع الرئيسي في كتاب ستالين في العام 52 هو الصراع الطبقي بالإضافة إلى أن الإشتراكية العلمية لا تعني في الجوهر أكثر من محو الطبقات بتعريف لينين ولا يتم ذلك إلا من خلال تسعير الصراع الطبقي، وأن من انقلب على الإشتراكية ويحكم اليوم في سائر جمهوريات الإتحاد السوفياتي الخمسة عشر ليس هي البروليتاريا بطبيعة الحال .
الموضوع الرئيس في الكتاب كما كان في الندوة هو الصراع الطبقي وما كنت قد استغربته حقاً لدى دراستي الكتاب في العام 54 وشكل لدي لغزا لم أستطع تفكيكه طيلة حياتي سوى قبل سنوات قليلة، حيث أن سويتي الفكرية قبل 65 عاماً لم تكن بمستوى الكتاب، هو أن ستالين خليفة لينين والقائد الشيوعي الفذ الذي يقود بروليتاريا العالم في صراعها ضد مختلف الطبقات، وهو من قال في العام38 أن الصراع الطبقي يشتد أكثر فأكثر كلما تقدم البنيان الإشتراكي، بات بعد النصر التاريخي الباهر في الحرب على النازية يبشر بالإخاء الطبقي معارضاً بقوة لكل تسعير للصراع الطبقي !! تفكيك هذا اللغز تحديداً يؤسس لأي بحث جاد في تطور الثورة الشيوعية فيما بعد الحرب العالمية الثانية . ستالين يقود صراعاً طبقياً لا هوادة فيه ضد كل الطبقات غير البروليتارية في العام 38 بات يبشر بالإخاء الطبقي بعد الحرب والإنتصار التاريخي الكبير في العام 51 !! تلك هي المسألة الحدية التي لم يواجهها الشيوعيون بعد، وهو ما أودى بثورتهم .

في المؤتمر العام التاسع عشر للحزب الشيوعي في أكتوبر 52 لم يتردد ستالين في أن يفصح بقوة عن هواجسه حول الأخطار الجدية التي تحيق بالثورة الإشتراكية بالرغم من أن القيادة السوفياتية وعلى رأسها ستالين كانت قد حققت أعظم انتصار في تاريخ الحروب متمثلاً بسحق الفاشية في أوروبا وعلى رأسها المانيا الهتلرية وبرز الإتحاد السوفياتي من خلال الحرب على أنه أقوى قوة في الأرض بل وأن قواه الحربية أكبر من قوى الدول الغربية الكبرى الثلاث مجتمعة . في المؤتمر أهاب ستالين بالمؤتمرين بكل جلاء ودون مواربة لأن يعزلوا قيادة الحزب المتقادمة لأنها لم تعد شيوعية ؛ لكن لأسف ستالين آنذاك ولأسف البشرية جمعاء البالغ لم تستجب الهيئة العامة في المؤتمر لطلب ستالين وأعادت انتخاب جميعهم – تأكيداً على عمق تقديرات ستالين فقد اشترك ثلاثة من تلك القيادة المتقادمة في اغتيال ستالين نفسه بعد ثلاثة شهور فقط – لكن ستالين وهو الحارس اليقظ لمشروع لينين لم يقبل موقف مندوبي المؤتمر وعاد يطالب المؤتمر بانتخاب 12 عضواً إضافياً في المكتب السياسي على أن يكونوا من الشيوعيين المنحازين بقوة للشيوعية وذلك من أجل أن تهدأ هواجسه على مصائر الثورة كما أفصح، وهو ما كان . لو كانت الهيئة العامة للمؤتمر قد استجابت لطلب ستالين ولم تنتخب أياً من أعضاء القيادة القديمة لتغيرت مصائر العالم دون شك ولحققت البشرية أشواطاً كبرى في تقدم الثورة الإشتراكية العالمية وما يرافق ذلك من سعة العيش لكافة سكان المعمورة .

في الندوة حول "القضايا الإقتصادية للإشتراكية في الإتحاد السوفياتي" في العام 51 عارض ستالين بشدة تسعير الصراع الطبقي وأكد أن ذلك لن يكون في صالح الثورة الإشتراكية ؛ كما أن تفوهات ستالين في مؤتمر الحزب والإعلان عن هواجسه حول الأخطار المحيقة بالثورة ومطالبته بتغيير كامل قيادة الحزب، جميع هذه المؤشرات تشير إلى حقيقة لا سبيل لإنكارها، لم يفصح عنها حارس المشروع اللينيني اليقظ، لكنه لم ينكرها وهي أن التراتب الطبقي للمجتمع السوفياتي فيما بعد الحرب ليس هو نفسه فيما قبلها ؛ وأن الدولة السوفياتية فيما بعد الحرب هي "دولة الشعب كله" بالرغم من أن ستالين القائد البروليتاري الفذ هو على رأسها وهو يعمل بوظيفة صمام أمان كيلا تفلت البورجوازية الوضيعة السوفياتية من عقالها . ذلك فقط هو ما كان يفسر موقف ستالين بكل عبقريته المعروفة .
تبدت عبقرية ستالين القائد الفذ للبروليتاريا العالمية ليس في رفضه لتسعير الصراع الطبقي حيث خشي أن يحتمل تسعير الصراع إمكانية انتصار البورجوازية الوضيعة على البروليتاريا وفقدان الثورة الإشتراكية بالتالي، وليس بمطالبته بتغيير قيادة الحزب التي لم تعد تحتمل العمل الشيوعي الصعب واستبدالها بشباب ذوي حميّة شيوعية، بل تبدت عبقريته من طراز لينيني رفيع بقراره تحويل الصناعات الثقيلة التي كان الإتحاد السوفياتي قد درج على تصنيعها منذ انتهاج الإشتراكية في العام 21 إلى الصناعات الخفيفة التي من شأنها أن توسع العيش على المواطنين لكن ما هو أهم من ذلك هو التوسع الصناعي السهل والسريع الأمر الذي يتم بمضاعفة أعداد البروليتاريا الأمر الذي يمكنها من استعادة دولتها الدكتاتورية التي لا شيوعية بدونها وكانت دولتها الدكتاتورية قبل الحرب قد تحولت لضرورات الحرب إلى "دولة الشعب كله" تشارك فيها البورجوازية الوضيعة وطليعتها الجيش بأسهم كبيرة بالرغم من وجود ستالين على رأسها كصمام أمان للبروليتاريا .

قبل نهاية فبراير شباط 53 انعقد مجلس الوزراء واقترح ستالين وهو رئيس المجلس أن يُعفى من الرئاسة وقد بلغ الرابعة والسبعين من العمر ليعين مكانه أحد المنتخبين حديثا عضواً في المكتب السياسي . جوبه ستالين بالمعارضة الشديدة وخاصة من قبل خروشتشوف وبولغانين وبيريا ومالنكوف كون الإقتراح يشير إلى خطة ستالين في الاستغناء عن قيادة الحزب المتقادمة بالإضافة إلى اعتقاد هؤلاء أن أحدهم أحق بالمنصب . فكان أن دعا ستالين هؤلاء الوزراء الأربعة أعضاء المكتب السياسي إلى تناول العشاء معه في منزله في 28 فبراير شباط 53 مؤملاً إقناعهم بقبول اقتراحه .
ما لا مندوحة عن الإشارة إليه هو أن يقظة ستالين في الرابعة والسبعين من العمر ليست كما كانت وهو في خمسينياته أو حتى ستينياته . فهو كان يعلم أن مؤامرة الأطباء اليهود في المركز الطبي في الكرملين على حياة قادة الحزب ما كانت لتكون لولا إهمال بيريا بالقيام بوظيفته بل وكان يعلم بعلاقة بيريا الخاصة باليهود وكان قد أشرف على تنظيمهم خلال الحرب ؛ هذا من الحقائق المعلومة لكن ما لا نعلمه حقاً هو أن ستالين الذي كان يتابع باهتمام التحقيقات في مؤامرة الأطباء اليهود، وقد عين أشهر المحققين آنذاك للتحقيق في المؤامرة، أن المحقق كان قد وجد بعض الإشارات التي تشير إلى بيريا شريكاً في المؤامرة وهو ما تبيّن في الأحداث اللاحقة بعد اغتيال ستالين .
لم يكن لستالين اليقظ طيلة عمره أن يسمح لبيريا المشتبه به أن يدس السم في كأس شرابه في تلك الليلة – وكانت فرصة بيريا الوحيدة ليتغدى بستالين قبل أن يتعشى به ستالين . كان مالنكوف شريكاً في الجريمة وكان خروشتشوف يعلم بها مسبقاً . لا يخامرنا أدنى شك في أن اغتيال ستالين في تلك الليلة الليلاء كان قد قرر المصير البائس للعالم كله لقرن طويل قادم أو ربما لقرنين . صمام الأمان الذي كان يحول دون انفلات البورجوازية الوضيعة السوفياتية من عقالها فُقد ولم يعد يعمل .
لم يكن قد مضى على موت ستالين أيام قليلة حتى قام بيريا بإطلاق سراح الأطباء اليهود مع منع محاكمتهم، وإلقاء القبض على رئيس المحققين ومحاكمته بجلسة سريعة واحدة أصدرت حكما بإعدامه وتم تنفيذ الحكم في الحال وهو ما يدل على أن بيريا لم يكن شريكا في جريمة مؤامرة الأطباء اليهود فقط بل كان هو مدبرها ومخططها . شريكاه في جريمة تسميم ستالين لم يتحملا بيريا يعلم شراكتهما بالجريمة فدبرا اعتقاله ومحاكمته بسرية مطلقة وإعدامه وأذاعا أنه وجد جاسوسا للمخابرات الإنجليزية وارتباطه بها أثناء الحرب الأهلية في العام 1919 !! وفي هذا كذب صراح لا يحتمله عاقل . كان لافرنتي بيريا قد قام بأعمال فوق العادة لانتصار الإشتراكية في جيورجيا وهو من أدار أعمال المقاومة البطولية أثناء الحرب فيما وراء خطوط العدو كما كان المسؤول الوحيد عن المشروع السري لتطوير القنبلة الذرية حتى العام 49 . ما نظم خروشتشوف ومالنكوف طمسه هو أن بيريا هو من نظم عصابة الأطباء اليهود في المركز الصحي في الكرملين بهدف القضاء على زعماء الكرملين الواحد بعد الآخر كي يصل الدور إليه رئيساً للإتحاد السوفياتي أقوى دولة في الأرض وليس عميلاً للمخابرات الإنجليزية ؛ وهو لم يخفِ أنه هو من اغتال ستالين بالسم . ما يدين محاكمة بيريا هو أن أعضاء المكتب السياسي لا تجوز محاكمتهم إلا بمحاكمة علنية مفتوحة للعامة وللصحافة الدولية ؛ لكن السرية المطبقة حتى اليوم إنما استوجبها مشاركة مالنكوف بالإغتيال الذي خلف ستالين رئيساً للوزراء وأمينا عاما للحزب وقد عقبه شريكه في الجريمة خروشتشوف في الأمانة العامة للحزب .

(يتبع)