حافة الهاوية


أحمد بهاء الدين شعبان
الحوار المتمدن - العدد: 6240 - 2019 / 5 / 25 - 21:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

(1)


تدفع الولايات المتحدة الأمريكية، مُجدداً، العالم، إلى معايشة مشاعر القلق والهلع، المترتبة على حشر العالم فى وضعية "حافة الهاوية"، التى استخدمتها فى فترات سابقة، خلال وقائع "الحرب الباردة"، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.

كانت نتيجة الصراع الدامى بين "الحلفاء" و"المحور"، قد أفضت إلى إلى التخلُّص من العدو الشرس: ألمانيا النازية و"الرايخ الثالث" بزعامة "أدولف هتلر"، وبات من الضرورى، بالنسبة للاحتكارات الكبرى المهيمنة على مسيرة الولايات المتحدة والعالم الرأسمالى الغربى، وأساساً "المُجَمَّع الصناعى العسكرى"، أن "يخترع" عدواً جديداً، توجّه له قذائفها وحِمم إعلامها، لكى تضمن تدفق مليارات الدولارات سنوياً إلى خزائنها المتخمة، وكان العدو جاهزاً، حليف الأمس الذى دفع ثمناً باهظاً للانتصارعلى العدو المشترك: إنه الاتحاد السوفيتى السابق و"الشيوعية"، وقد خرج، هو أيضاً، فائزاً فى الحرب، بعد أن قدَّم مايزيد على عشرين مليوناً من الضحايا، فضلاً عن خسائره المادية الهائلة.

دارت آلة الإعلام الجهنمية لشيطنة العدو الجديد، ونشطت هيئات التجسس لاختراق مؤساته، واستُخدمت كافة أسلحة الحصار والتضييق، والهجوم، والتخريب، لزعزعة استقرار الدول الاشتراكية، الواقعة وراء ما أُسمىَّ "الستار الحديدى"، حتى تداعت أركانها فى بداية عقد التسعينيات الفائت، وتفككت أوصالها، مُطلقة للولايات المتحدة، "القطب الأوحد"، فرصة الانفراد بشئون العالم، والعربدة التى لايحدها حدود، فى تقرير شئونه، على نحو ماهو معروف بآثاره ونتائجه.

ثم كان لابد للولايات المتحدة وأنصارها، البحث عن عدوٍ جديد حتى يستمر الوضع، ولا ينقطع تدفق المكاسب الهائلة، (نلاحظ هنا أن موازنة الحرب الأمريكية، للعام القادم (2020) تبلغ 750 ملياراً، أى أكثر من مليارى دولار مع مطلع كل شمس)!

وهذه المرّة وقع الاختيار على "الإسلام" و"المسلمين"، وجرى ماجرى من شيطنة لهما، وإلصاق كل الصفات السلبية والرديئة وتعميمها عليهما، مع قرع طبول الحرب ضدهما، فى ظل الترويج لـمقولات مفبركة جديدة، من نوع "نهاية التاريخ"، و"حروب وصراعات المعتقدات والحضارت"!

وكان من نتيجة هذا التوجّه حرب إبادة الشعب العراقى، ونهب وتدمير تراثه الحضارى، واحتلاله وتقسيمه (واقعياً)، تحت مزاعم مكذوبة، ومبررات مُلفّقة، ثبت يقينا "فبركتها"، باعتراف (أبطالها) وصانعيها!

ولم يكتف مروجو سياسة "حافة الهاوية" بهذا القدر من الخراب والترويع، وإنما أطلقوا شياطين الإرهاب الذى وصموه بـ "الإسلامى"، بتبنيهم جماعة "الإخوان" الإرهابية، واعتمادهم أمراء الحرب وتُجّار المخدرات كأئمة للـ "مجاهدين" فى أفغانستان، ضد جيش "الملحدين" السوفيت، وبتبنيهم ودفعهم لفرق الإرهاب الدينى، لكى تعيث فساداً فى أرجاء الدول التى استعصت عليها، بعد أن وصمتها بـ "الدول المارقة"!

ثم بعد أن أدت هذه الاستراتيجية دورها، واستنزفت أغراضها، بات "اختراع" العدو الجديد أمراً واجباً، وهذه المرّة وقع الاختيار على العدو "الإيرانى" و"الشيعة" الذى يُحقق لأمريكا عدة مكاسب فى آن واحد:
أولاً: تحقيق مصلحة إسرائيل فى الخلاص من واحد من أهم وأقوى جيوش منطقة الشرق الأوسط، والعدو الرئيسى المستهدف، فى الوقت الراهن.
وثانياً: تمزيق المنطقة العربية المُفتتة، بين "سُنّة" وشيعة"، واستنزاف دول الخليج مادياً، بالتخويف من "العدو الإيرانى" وادعاء درء خطره عنهم، وهو ما أعلنه "ترامب" بصفاقتة المتناهية: "عليهم أن يدفعوا ثمن حمايتهم، وإلا سنرفع يدنا عنهم، ليواجهوا مصيرهم بالسقوط فى غضون أسبوعين لا أكثر"!
وثالثاً: إحكام السيطرة على سوق وأسعار ومسار سوق النفط العالمى، بحصار إيران، وتهديد كل من يتعامل معها، وإخراجها من دورها المؤثر فى هذا المجال.
ورابعاً: توجيه ضربة قويّة لسوريا، ولحلفائها فى الداخل والخارج، بحصار دور إيران الداعم.
وخامساً: توجيه ضربة قوية لحلفاء إيران الأساسيين: روسيا والصين.

(2)


بصرف النظر عما ستؤول إليه الأوضاع المتوترة فى منطقة الخليج العربى: حرب كارثية جديدة، لا يعلم مداها، أو نتائجها إلّا الله، أم عملية "تسكين" مُتَدَرِّج تحفظ ماء وجوه "ترامب" وإدراته، فإن الخاسر الأساسى من هذه اللعبة الشيطانية، هم العرب وقضاياهم القومية، إن كان قد بقى من هذه القضايا شيئاً!

وفى ظنى أن المنطقة العربية ككل، ستخسر خسارة مؤكدة، وهى لم تمر فى مسيرتها التاريخية بمثل ماتمر به الآن من تفكك واهتراء. وستُزيد الأحداث الجارية من ضعفها وتفكك بنيتها، ومن تضارب المصالح، بل وتناقضها، بين مكوناتها وعناصر وحدتها!

أما أبرز الخاسرين فى هذه التراجيديا التى تجرى وقائعها أمام ناظرينا، هي، تلك الأطراف التى لم تتأخر عن ابتلاع الطُعم الأمريكى المُسمّى: "الخطر الشيعى"، ودق طبول الحرب للتصدى لهذا الخطر المزعوم، مُتجاهلةً لمغزى القصة الشهيرة المعروفة: "أُكلت يوم أُكل الثور الأسود".

فسواء انفجرت الحرب، أم انقشع الخطر ولو إلى حين، فالثابت أن هذا الأطراف ستخسر الكثير من ركائز استقرارها، وعناصر ازدهار أوضاعها، وسيقوم "الحامى" الأمريكى، كما عودنا "ترامب"، باستحلاب ثروات هذه الأطراف، وباعتصار خيراتها، لقاء الحِفاظ على أمنها، من تهديدات "الخطر المزعوم"!

وهناك ثمن آخر لا يقل فى خطورته وتأثيراته السلبيّة، وهو الانقسام، بل الشرخ، الذى يتسع ويتعمق يوماً بعد يوم، ناشراً روح الكراهية والريبة والعداء داخل مُكونات البيئة العربية، بين "السُنّة" و"الشيعة"، أبناء الدم الواحد، والدين الواحد، والذى أصبح يطال الجميع، ويُمزِّق لُحمة، ليس وحسب الدولة الواحدة، وإنما الأسرة الواحدة أيضاً.

أمّا الخاسر الآخر فى هذه الملهاة المأساوية، فهو الشعب الفلسطينى، الذى يتعرض، لفرض مشروع "ترامب" المُسمّى "صفقة القرن"، إلى حربٍ غير مسبوقة، تُستخدم فيها كل الأسلحة: القتل والعدوان والترويع والتجويع والحصار الاقتصادى، لكى يتخلى، ونهائياً، عن مطالبه التاريخية المشروعة، بحقوقه التى نهبتها الصهيونية، وبعودته إلى أرضه المستباحة، واسترداد وطنه السليب!

والأخطر فى هذا السياق هو انفضاض أغلبية الدول العربية عما كان يُنظر إليه باعتباره "القضية المركزية" للعرب: "قضية فلسطين"، سواء بالانشغال فى أشكال الاحتراب الداخلى، ومواجهة المؤامرات الخارجية: كسوريا، واليمن، وليبيا، وغيرها، أو بالهرولة إلى التطبيع "المجانى" مع "إسرائيل"، على نحو مانراه فى الفترة الأخيرة، من دول عربية عديدة.

أمّا آية هذا التحول، وقمة المأساة، فهو مانراه من انتقالٍ خطير للكثير من الأطراف العربية، من موقفٍ استمر لأكثر من مائة عام، كان فيه "الخطر الصهيونى ـ الاستعمارى" هو الخطر الرئيس، الذى اجتمعت عليه رؤية وإرادة غالبية العرب، إلى التحالف (المُعلن أو الخفى) مع ما كان يُطلق عليه "عدو الأمة"، "الصهيونى الاستعمارى"، فى مواجهة جزء من المُكَوِّن التاريخى للعرب المسلمين (الشيعة)، وللمنطقة الجغرافية المُسمّاه بـ "الشرق الأوسط": "إيران" الشيعية!

وقد أعلن "بنيامين نتنياهو"، أن (العرب)، "لم يعودوا يعتبرون أن إسرائيل عدواً لهم، فقد توحَّدوا معها فى مواجهة عدو واحد: هو إيران"!، والآن يتخذ الأمر شكل مؤسسى، فى صورة حلفٍ جديد هو "الناتو العربى"، أو"حلف الشرق الأوسط الاستراتيجى ـ ميسا"، الذى يجمع أعداء الأمس، فى مواجهة العدو الشيعى المُستَجد!

لـ "إيران" مطامح، بل و"مطامع" فى المنطقة العربية، ولكن وضع التناقض "التكتيكى" معها، الذى يُمكن حله بآليات عديدة، ليس من بينها الحرب التى لن تُبقى ولن تذر، فى محل التناقض "الاستراتيجى"، الذى لايُحل إلا بالحرب والدماء، خدمةً لمصالح أمريكا وإسرائيل، يعكس اختلاطاً فى الرؤية، سيندم الجميع بسببه، حين لا يعود هناك فائدة من البكاء على اللبن المسكوب!