الحريات الفردية في ظل الاجواء الحربية


سمير عادل
الحوار المتمدن - العدد: 6230 - 2019 / 5 / 15 - 01:35
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


عندما يتصاعد دق طبول الحرب وتفرض الاجواء الحربية والعسكرتارية على اي مجتمع، فأن الدوس على الحريات الديمقراطية والفردية وغض الطرف عليه، يكون مثل شرب الماء من قبل الانظمة الحاكمة، ومهما تشدقت بحقوق الانسان الى حد تشقق افواهها، وتمزق حنجرتها من تعالي صوتها على الديمقراطية، وذرف بحر من الدموع على الحريات حتى درجات العميان. فالمجتمع يكون حينه مشغول البال وقلق الى حد الرعب من ما ينتظره من ويلات الحرب وكوارثها وماساتها لو وقعت.
هذا ما يحدث هذه الايام في “العراق الديمقراطي”. فالتزامن بين ما حدث في الناصرية وبعد ذلك في كركوك ثم النجف، لم يكن صدفة، وهذا يكشف ان الاسلام السياسي والتيار القومي يتناغمان ويعزفان على وتر انتهاك الحريات وبشكل سافر ويقدمان نفس الجماهير التي تنتهك حرياتها قرابين على مذبح مصالحهما اذا اختلفا على تقاسم النفوذ والامتيازات. ففي الناصرية قلبوا الدنيا على تصريحات النائبة هيفاء الامين وهجموا على مقر الحزب الشيوعي العراقي لححج سخيفة وواهية، فهي لم تشتم الأئمة ولم تسب احد سوى انها وصفت حالة قد يتفق البعض معها او يختلف، بينما في كركوك تحاول قيادة الشرطة بدل من ان تحل الامن والامان في المدينة وتقضي بشكل نهائي على عصابات داعش تلعب دور شرطة الحسبة او تحول محل جماعة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحكم على شخص اخر في محافظة النجف لمدة ثلاث سنوات بحجة شتم احد الأئمة وهو حكم يضاهي احكام الكنيسة وحكم القساوسة والكهنة في القرون الوسطى في اوربا.
لم نسمع ولم تقوم الدنيا من اي طرف او جهة تنفيذية او قضائية او تشريعية عندما هدد البطاط وهو احد المعممين الحواسم القوات الامنية لانها ضبطت شحنة المخدرات مع رجل دين معمم، ولم يتحرك اي طرف ساكن عندما يتجرا عضو مجلس محافظة الناصرية بتفوه عبارات تحريضية على القتل والكراهية ويعيد الى الذاكرة فتوى القتل والدم ضد الشيوعيين )الشيوعية كفر والحاد( التي ساهمت ولعبت دورا في المجزرة الدموية في 8 شباط 1963 التي ارتكبها البعث والقوميين وبمباركة المرجعية من رجال الدين من طرفي للشيعة والسنة انتقاما من قانوني الاصلاح الزراعي الذي صادر اراضي الاقطاعيين وقانون الاحوال الشخصية الذي ساوى بين المرأة والرجل في الميراث وسمح بزواج المسلمة او المسلم من اصحاب الديانات الاخرى. لم تنقلب الدنيا على ذلك العضو عندما يخترق الدستور وكل القوانين المتعلقة بحقوق الانسان، ولم تحرك لا الشرطة ولا القضاء ولا الحكومة المحلية ولا حتى المركزية برفع الحصانة عن عضو مجلس المحافظة المذكور ويقدم الى المحاكمة كي يكون عبرة لمن اعتبر لحنثه اليمين بالحفاظ على “الدستور” الذي يتضمن المادة 50.
لنناقش هذه المحاكمة التي تسوقها الاجهزة التنفيذية والقضائية لسلطة الاسلام السياسي، الانسان هو الغاية والقيمة العليا، ليس فيه اي شيء مقدس بالنسبة لتلك الاطراف، بل هو مشروع للسلب والنهب والاستغلال والتحقير، سواء كان عاملا او طفلا او امرأة. ليس مهما ان يعمل 12 ساعة في اليوم ويتقاضى اجور بالكاد يكفي لسد بطنه من الجوع فما بالك اذا كان لديه اسرة، وليس مهما ان يتحول الى باعة في الشوارع ويحرم من طفولته ويتعرض الى استغلال العصابات والاعتداءات الجنسية، وليس مهما ان تتحول المرأة الى سلعة رخيصة يتاجر بها سماسرة المجتمع، لكن المهم بالنسبة للقوى الحاكمة، ان يكون الانسان خاشعا وخنوعا وعليه القبول بكل جرائم الحكومات المحلية والمركزية من النهب والسلب، وعليه اي الانسان ان لا يعبر عن غضبه وألمه او حتى يرتدي ما يشاء، كي يكون سهل المطاوعة.
ما فعله عضو مجلس المحافظة في البصرة او حزب الفضيلة او ما فعلته السلطة القضائية والتنفيذية في النجف او شرطة كركوك التي تصب في محتوى واحد ويحمل نفس المنطق وهو جرح مشاعر جماهير الجنوب او جرح مشاعر المسلمين او خدش الذوق العام، وكلها احكام اخلاقية الا انه ليس له اية علاقة بالاحكام الاخلاقية الانفة لاذكر، بل انها تحتمي وتحمي نفسها اي السلطة السياسية الحاكمة بكل تلاوينها وراء تلك الاحكام، ومحاولاتها تلك هي اضفاء القدسية والالوهية على تلك الاحكام و بالتالي اضفاء تلك القدسية على وجودها التي فوضت نفسها ان تكون شرطة الاخلاق او شرطة الحسبة او جماعة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ان مقولة سلطة الاسلام السياسي اليوم مرادفة للقتل والسلب والنهب والسرقة، وهذا يفسر سر الانتفاضة في تموز العام المنصرم في البصرة وبقية المحافظات الجنوبية، وان الاحزاب الاسلامية تدرك عمق الدرك التي وصلت اليه، ولذلك تحاول اعادة انتاج نفسها بأكثر المسرحيات الهزيلة التي نشاهدها.
ان التيار القومي العروبي الذي كان يلاحق شباب مدينة الثورة على لبس الجينز وما سمي او قصة الشعر او لبس“البريكية” ايام الثمانينات عندما شغل سمير الشيخلي وزير الداخلية هو امتداد لنفس التيار الحاكم في كركوك الذي يلاحق من يلبس “برمودا” من الشباب. وهكذا نستخلص بسهولة نفس المحتوى السياسي والماهية المعادية للانسان لحد النخاع بالرغم من المفارقات بين التيار القومي والاسلام السياسي. فالتيار القومي العروبي اضاف إلوهية على صدام حسين، وكان من يتفوه بكلمة واحد عليه حتى ولو بأشارة او ايحاء او عبارة قابلة للتأويل يمس الذات القومية “صدام حسين” او مقدسات الامة العربية او حتى حكام مجلس التعاون العربي، ،كان يحاكم ويلقى بالسجن. وصدام حسين بنى القصور والجوامع على بطون الملايين الخاوية بسبب الحصار، وعين نفسه اميرا للمؤمنين وحارس الله في الارض وفرض الحملة الايمانية على جماهير العراق، كما يفعل اليوم الحراس الجدد لمقدسات و”مشاعر الجماهير”
ان قوة الاسلام لاسياسي لا تكمن بمليشياته واستحواذه على كل ثروات المجتمع دون وجه حق بقدر ضعف جبهة التمدن والتحرر التي ليس امامها الا ان تتضافر جهودها لصد موجة اعادة المجتمع الى القرون الوسطى مستغلة الاجواء الحربية والعسكرتارية التي تفرضها الهمجية الامريكية على المنطقة.