انتفاضة نيسان.. نقد ذاتي وتلمّس لجدول أعمال المرحلة


سعود قبيلات
الحوار المتمدن - العدد: 6216 - 2019 / 4 / 30 - 01:49
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

انتفاضة نيسان.. نقد ذاتي وتلمّس لجدول أعمال المرحلة*
 

 
لماذا نلتقي هنا اليوم؟ هل هو لقاء احتفاليّ شكليّ؟ أم لنأخذ العِبَر ونلقي الضوء على أدائنا فنعرف أين أصبنا وأين أخطأنا وماذا يجب أنْ نفعل ونعدّ للمرحلة القادمة؟
 
بالنسبة لي، أعتقد بأنَّ هذا اللقاء يكتسي أهمّيّة خاصّة إذا ما كان الهدف منه هو أخذ العِبَر. فبعد ثلاثين عاماً مرَّتْ على انتفاضة نيسان، آن الأوان لمراجعة الكيفيّة التي تعاملتْ بها قوى المعارضة اليساريّة والقوميّة مع تلك الانتفاضة وما ترتَّب عليها.
 
أوَّلاً، درج العديد مِنْ قوى المعارضة على تسمية انتفاضة نيسان بـ«الهبّة». ومن المعروف أنَّ مثل هذه التسمية لا وجود لها في الأدب السياسيّ، والتسمية الصحيحة هي الانتفاضة.
 
واختيار التسمية، في شأنٍ سياسيّ، ليس أمراً شكليّاً؛ فهو بالضرورة يعبِّر عن موقف، كما أنَّه يُراد منه إيصال رسالة. لذلك، يحار المرء في الموقف والرسالة اللذين كانا وراء اللجوء إلى تسمية غير مصنَّفة كهذه؟ هل هما التقليل مِنْ شأن الحدث؟ أم الخضوع لسطوة الأحكام العرفيّة التي كانت سائدة آنذاك.. ما اقتضى اللجوء إلى تسمية تخفيفيّة مداورة؟
 
إنَّ أيّ متابع عربيّ أو أجنبيّ لن يفهم شيئاً عندما يجد أمامه مفردة «هبّة»، وسيحار في الرسالة التي نريد إيصالها بها إليه. أمَّا مفردة انتفاضة فسيجد كمّاً هائلاً من الكتابات السياسيّة التي كُتِبَت عنها طوال القرنين الماضيين على الأقلّ في مختلف أنحاء العالم.
 
ثانياً، كشفت انتفاضة نيسان عن بدء تآكل القاعدة الاجتماعيّة للنظام التي أصبحت الآن في الحضيض، ولم يعبِّر تعامل القوى الوطنيّة مع نتائج هذا الحدث الكبير عن إدراكٍ كافٍ لهذه الحقيقة. حيث كان يجب تشديد النضال مِنْ أجل تحوّلٍ ديمقراطيٍّ حقيقيّ. ولكن، بدلاً مِنْ ذلك، تمَّ السماح للنظام بالالتفاف على واقعه الصعب عن طريق الذهاب إلى «لجنة الميثاق الوطنيّ»، التي شاركت فيها أحزاب المعارضة ونتج عنها نصّ إنشائيّ فضفاض لا سمة ميثاقيّة له، وسرعان ما وُضِع هذا النصّ في دُرج النظام مِنْ يوم ذاك وحتّى الآن.
 
ثالثاً، في كلّ الانفراجات والتحوّلات التي شهدتها البلدان التي ابتُلِيَتْ بالديكتاتوريّة، تمّ اللجوء إلى نوع من «العدالة الانتقاليّة»، وشُكِّلت ما تُسمَّى لجان «الحقيقة والمصالحة»؛ حيث بوساطتها أُعيد الاعتبار لكلّ الذين تعرَّضوا للاضطهاد وتمَّ تعويضهم مادّيّاً ومعنوياً عن الأضرار التي لحقتْ بهم.
 
في بلادنا، تمّ اللجوء ضمنيّاً إلى ما يمكن تسميته «عفا الله عن ما سبق»، ووُضع النظام القمعيّ وأحزاب المعارضة التي كانت مقموعة على قدم المساواة في تحمّل المسؤوليّات عن الأخطاء والخطايا، ثمّ أنَّ كلّاً من الطرفين سامح الآخر (ضمناً، على الأقلّ) وتوافقا على طيّ الصفحة. لكن، في حين طوت أحزاب المعارضة الصفحة فعلاً، ظلّت ملفّات النظام الأمنيّة محفوظة (بل ومفتوحة أيضاً)، ثمّ سرعان ما عاد إلى سيرته القمعيّة القديمة.
 
رابعاً، في رسالة الدعوة التي وُجِّهتْ إلينا للمشاركة في هذا اللقاء، ثمّة حديث عن «الطريق المسدود الذي بلغه الأردن بفعل النهج الاقتصاديّ والسياسيّ الذي يعبِّر حصراً عن مصالح الشرائح البرجوازيّة الطفيليّة والكومبرادوريّة والبيروقراطيّة»!
 
هنا، نحتاج إلى أنْ نعرف، بصورة دقيقة، ما هي طبيعة النظام الممسك بدفّة السلطة في بلادنا.. هل ينطبق عليه هذا التوصيف الطبقيّ المبسَّط؟
 
برأيي، النظام القائم في بلادنا هو «نظام أوتوقراطيّ وظيفيّ تبعيّ». وهو، لشدّة أوتوقراطيّته، يمكن أنْ يوصم بسهولة بأنَّه قروسطيّ. وهنا، أقول بثقة إنَّ مستوى تحضّر الشعب (على كلّ علّاته) أكبر بكثير مِنْ مستوى تحضّر النظام. وهذه هي إحدى سمات التناقض القائم في البلاد يجهلها كثيرون ولا يدركها النظام ولا يبدو أنَّه يريد أنْ يسلِّم بها. وبالأحرى، هو لا يدرك أنَّ هذا النمط المتخلِّف من ممارسة السلطة قد تجاوزه الزمان ولم يعد مناسباً للشعب أو مقبولاً منه.
 
أمَّا في ما يخصّ السمة الوظيفيّة، فيختلط الأمر على كثيرين فينسبونها إلى الدولة أو الكيان أو البلاد. بينما هي، في الواقع، سمة تخصّ النظام، وحده، منذ ذهب عبد الله الأوَّل إلى القدس والتقى هناك بوزير المستعمرات البريطانيّ ونستون تشرتشل فأبلغه الأخير أنَّه تقرَّر تنصيبه حاكماً للأردن تحت التجربة لمدّة ستّة أشهر، مقابل شروط لم تُعلَن في حينه وإنْ أصبحت معلومة الآن.
 
أمّا البلاد وأهل البلاد، فكانوا ضدّ الاستيطان الصهيونيّ وضدّ المشروع الصهيونيّ، منذ البداية. هذا واضح في مقرّرات مؤتمر «قم» (الذي سبق قيام الدولة الحاليّة)، وكذلك في الميثاق الوطنيّ الأردنيّ الصادر عن المؤتمر الوطنيّ الأردنيّ الأوّل. بل إنَّه، قبل لقاء عبد الله الأوّل تشرتشل، في القدس، كان الشيخ ماجد العدوان قد رفض عرضاً إنجليزيّاً بأنْ يكون حاكماً للأردن مقابل سكوته عن الاستيطان الصهيونيّ والمشروع الصهيونيّ في فلسطين.
 
خامساً، يكثر الحديث الآن عن «النهج». وهذه كلمة غامضة؛ فما هو هذا النهج؟
 
في كلّ الأحوال، النهج – برأيي – عَرَض وليس علّة؛ العلّة (أو بالأحرى المرض – وهو هنا مرض مزمن) هي طبيعة النظام الأوتوقراطيّة الوظيفيّة التبعيّة. وهذه السمات المرضيّة الثلاث مترابطة وتشكِّل بنيةً واحدة، بحيث أنَّه لا يمكن فصلَ أيٍّ منها عن الأخرى. وبناء عليه، لا نستطيع أنْ نصف هذا النظام بأنَّه نظام تبعيّ فقط، أو بأنَّه نظام وظيفيّ فقط، أو بأنَّه نظام أوتوقراطيّ فقط. ولذلك، فهو أيضاً ليس مجرَّد نظام تبعيّ مثله مثل باقي الأنظمة التابعة.
 
أمّا التركيبة الطبقيّة المحلِّيّة – سواء أاتّفقنا في تصنيفاتها أم اختلفنا – فهي ليست مستقلّة ولا تتطوّر بشكل طبيعيّ، بل خاضعة تماماً للدور الوظيفيّ للنظام ولسمته الأوتوقراطيّة القروسطيّة ولتبعيّته. لذلك، جرى دائماً (ويجري) إعادة تركيبها وتشكيلها بما يتَّفق مع تحوّلات وظيفة النظام في كلّ مرحلة من المراحل وبما يخضع أيضاً لشروط سِمته الأوتوقراطيّة. بل إنَّنا نعرف أنَّه، في هذا السياق نفسه، جرى، بشكلٍ منهجيّ، تعطيل عجلة التنمية في البلاد، وتدمير اقتصادها الزراعيّ، وإعاقة تطوّرها الاقتصاديّ الطبيعيّ، مع كلّ ما استلزمه هذا مِنْ تحوّلات طبقيّة مصطنعة بشكلٍ مدروس.
 
والآن، ما هو العنوان الرئيس لجدول أعمال المرحلة التاريخيّة التي تعيشها بلادنا؟
 
يتحدَّث كثيرون عن «الإصلاح»!
 
الإصلاح يعني تصحيح بعض جوانب الخلل، التي من الممكن أنْ تكون في بنية ما، مع الحفاظ على جوهر هذه البنية كما هو.
 
وإذاً، فما الذي يمكن أنْ نصلحه إذا ما بقي الجوهر التبعيّ والأوتوقراطيّ الوظيفيّ للنظام كما هو؟
 
هنا، ثمَّة وهم غير مبدئيّ بأنَّنا يمكن أنْ نحصل على بعض المكاسب الشكليّة على صعيد الحريّات والأحوال المعيشيّة مع بقاء السمات الجوهريّة للنظام على حالها.
 
لذلك، برأيي، العنوان الرئيس لجدول أعمال هذه المرحلة هو التغيير وليس الإصلاح؛ أي أنَّ المطلوب هو إجراء تحوّلات جذريّة على النظام تُنهي سماته الرئيسة الثلاث التي سبق ذكرها، وهي: الأوتوقراطيّة، والتبعيّة، والدور الوظيفيّ.
 
أي، بوضوح أكثر، المطلوب هو الوصول إلى حكم وطنيّ ديمقراطيّ، يفتح الآفاق أمام التنمية المتمحورة على المصالح الوطنيّة ومصالح الطبقات الشعبيّة العريضة، وينهي التبعيّة، ويكون فيه رأس الدولة (الملك) رمزاً للسلطات، وحكماً بينها، ويقف على الحياد بين جميع القوى السياسيّة، وليس صاحب قرار؛ وبالأحرى، ليس صاحب القرار المطلق.. كما هو الحال الآن؛ أمّا الولاية العامّة، فتكون للحكومة وحدها. وهذه تكون منبثقة مِنْ مجلس نيابي منتخب انتخاباً ديمقراطيّاً نزيهاً يحقِّق التمثيل الصحيح للشعب الأردنيّ.
 
وهذا كلّه يحتاج إلى جبهة وطنيّة شعبيّة عريضة تقود هذه الجموع الكبيرة، التي انفضَّتْ مِنْ حول النظام ولكنّها لا تزال معتصمة في بيوتها، تقودها إلى الشارع لفرض التغيير الوطنيّ الديمقراطيّ المنشود.
 
والكُرَة، الآن، في مرمى جميع الوطنيين الأردنيين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مداخلة مكتوبة قدّمتُها في «الملتقى الوطنيّ للأحزاب القوميّة واليساريّة»، الذي عُقِد مساءَ يوم 24 نيسان 2019، في مقرّ الحزب الشيوعيّ الأردنيّ في عمَّان، بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على انتفاضة نيسان 1989 المجيدة.