فاشي في دمشق، وأشرار آخرون


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 6208 - 2019 / 4 / 22 - 17:13
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

مقابلة في لكسبريسو الإيطالية، أسئلة ساره لوكاروني

الثورة
- هل فشلت الثورة السورية، أم أنها غيرت قلب السوريين إلى الأبد؟
خسرنا الثورة بفعل التكوين الإبادي للحكم الأسدي وثقل النير الجيوسياسي الذي يخنق المجتمع السوري و"الشرق الأوسط" منذ عقود. هناك اليوم تمزقات كبيرة وآلام خاصة وعامة لا تطاق. لكن سورية تغيرت، ولم تعد أرض الخوف والصمت التي كانتها قبل 2011. هناك حس قوي بالكرامة ولّده الانخراط في صراع بطولي والمعاناة الرهيبة، وهناك سيرورة تعلم وتغير أطلقتها الثورة وستستمر لسنوات طويلة.

- كيف اقتحم السلاح انتفاضة سلمية؟
أراد السوريون امتلاك السياسة سلماً طوال شهور، لكن ووجهوا بالحرب منذ البداية، فصار امتلاك الحرب شرطا لامتلاك السياسة، وللدفاع عن الحياة. خلق التحول العسكري للثورة ديناميكيات تتعذر السيطرة عليها، لكن إسقاط النظام بالقوة كان ممكناً لو بقي الصراع سورياً سورياً. حكم السلالة الأسدية الذي مارس العنف منذ البداية والطائفية منذ البداية هو أيضاً من لجأ إلى طلب تدخلات خارجية داعمة له، وزج البلد في محنة تاريخية ستدوم لزمن طويل. اللجوء إلى السلاح لم يكن تفضيل السوريين، كان اضطرارهم.

- ما الرابط بين الأسد والدولة الإسلامية؟

تجمع بين داعش والأسديين مشتركات العدمية، أو عبادة القوة المطلقة. وثانيها الأبد، أي إرادة فرض أوضاع نهائية لا تتغير على المحكومين. ثم الفاشية. الأسد فاشي بربطة عنق وداعش فاشيون بلحى طويلة. الفرق أن أسرة الفاشي بربطة عنق تحكم سورية منذ نصف قرن، فيما عاش فاشيو اللحية بالكاد خمس سنوات. داعش حاربت الثورة في سورية أساساً، وأقل منها بكثير النظام. أخي فراس وأصدقاء كثيرين معارضين للنظام، منهم الأب باولو دالوليو، اختطفتهم وغيبتهم داعش منذ عام 2013. والنظام فضل ظهور داعش لأنها ضد الثورة، ولأنها تسهل له تسويق الثورة بالذات كإرهاب.

- ما الدور الذي لعبه المسيحيون؟ هل استغلوا من طرف النظام؟
بالتأكيد. النظام يريد أن يبيع للقوى الغربية أنه حامي الأقليات ضد الأكثرية العربية المسلمة السنية التي يناسبه أن يظهر بينها متطرفون. القضية في كل حال سياسية وليست دينية، هذا عرفه باولو دالوليو جيداً. ويؤسفني أن في الغرب كثيرون من اليمين المسيحي يساندون النظام الطائفي في سورية لأنهم هم أنفسهم إسلاموفوبيون. عليهم أن يعرفوا أن المسيحيين سوريين، وليسوا أسديين (وإن كان بعضهم كذلك للأسف)، وأنهم صاروا أضعف وليس أقوى في سورية خلال نصف قرن من حكم السلالة الأسدية، وأن النظام ألأسدي يحتمي بالأقليات ولا يحميها.

- كان استخدام الأسلحة الكيماوية علامة على انتهاء القانون الدولي؟ هل توافق على ذلك؟
بل أسوأ، وبتواطؤ من القوى القائدة في النظام الدولي. تخيلي لو أن النظام في آب 2013 أطلق حملة كبيرة جداً للعلاقات العامة، وأنفق عليها الملايين في الغرب وعلى مستوى العالم، هل كان يمكن أن يكون أكثر نجاحاً من ارتكابه مذبحة كيماوية سقط فيها 1466 إنساناً خلال ساعتين، وأصيب عشرة آلاف؟ بعد المذبحة، كوفئ النظام باعتباره شريكاً سياسياً في نزع سلاحه الكمياوي (الذي لم ينزع فعلاً، رغم منح اللجنة الدولية للأسلحة الكيماوية جائزة نوبل بعد شهرين من الصفقة الكمياوية بين الروس والأميركيين، يا له من عار!) وصار عضواً في نادي "الحرب ضد الإرهاب". أخشى أن العالم تغير نهائياً منذ ذلك اليوم المشؤوم. لقد قيل لنا بوضوح أن موتنا غير مهم، وإن حياتنا غير مهمة كذلك. هناك عدمي ثالث غير الأسديين والسلفية الجهادية: النظام الدولي.

- لماذا يتعاطف الفاشيون الأوربيون مع الأسد؟
لدينا في العربية مثل يقول: إن الطيور على أشكالها تقع. فاشيوكم يتعرفون في فاشيّينا الحاكمين على أشباه لهم. في سجل بشار تعذيب ومجازر يذكر الفاشيين الأوربيين بتاريخهم الخاص. ويشترك الطرفان في الطائفية والإسلاموفوبيا. هذا عنصر مهم. أظنهم كذلك يحلمون بيوم يستطيعون فيه تعذيب وقتل وقصف "العالم الثالث الداخلي" من مهاجرين وملونين في بلدانهم الأوربية بالطريقة التي قام بها "السوريون البيض" أو نخبة "العالم الأول الداخلي" في سورية بحق "السوريين السود"، عموم السورين الثائرين. أو ربما بالطريقة التي قتل بها النازيون اليهود والغجر وغيرهم في ألمانيا أثناء الحرب العالمية ألثانية. البراميل والمذابح الكمياوية ومعسكرات التعذيب أحلام مشتركة للفاشين على ضفتي المتوسط.
أضيف أن الفاشيين الأوربيين يعرفون أن الحكومات في بلدانهم معادية للديمقراطية في بلدان "الشرق الأوسط"، وتفضل لحكم مجتمعاتنا طغاة يشكلون استمراراً لحكمها الكولونيالي في زمن سبق. أخشى أن الفرق بين الفاشيين والوسط في الغرب ليس كبيراً حين يخص الأمر العدالة والحرية للسوريين والفلسطينيين والمصريين والعراقيين وغيرهم. ليس في أوربا والغرب قوة منظمة تساند الديمقراطية في منطقتنا، هناك أفراد فقط.

- هل ستجري في أي وقت محاكمة الأسد على جرائمه ضد الإنسانية؟
أتمنى ذلك، لكن آمالي ليست قوية. هناك مجرمون على رأس النظام الدولي من أبرزهم فلاديمير بوتين، حامي بشار. هناك صعود للشعبوية والقومية اليمينية في الغرب. والديمقراطية وحكم القانون في أزمة على مستوى العالم. من جهتي أريد تجريماً للقتلة، أن تكون ثمة آلية دولية للقول إن حكم الأسديين إجرامي ومعاد للإنسانية، ولعزله مثلما عزل نظام جنوب أفريقيا العنصرية قبل ثلاثة عقود. ولا أبالي بعد ذلك إن حُبس بشار الأسد أو أعدم.

سميرة
- متى رأيت سميرة لآخر مرة؟
ودعتها مساء يوم 10 تموز 2013، وقت خرجت من الغوطة الشرقية إلى الرقة. لكن كنا نتحدث عبر سكايب خلال الشهور الخمسة التي سبقت خطفها مع رزان ووائل وناظم في مساء 9 كانون الأول 2013.

- سميرة ورزان كانتا تعيشان وتعملان في دوما. لماذا اختطفتا؟
لأنهما، مع وائل زوج رزان، وناظم الشاعر والمحامي، ثائرون مستقلون وخارج سيطرة التشكيل السلفي الذي خطفهم. السلفيون العسكريون يشبهون النظام من حيث عبادة القوة والعدمية، وغياب البعد الأخلاقي في سياستهم. المسألة هنا أيضاً السلطة ضد الحرية، والامتياز ضد العدالة.

- من هي سميرة؟ ما هي مثلكما؟ من أجل ماذا تقاتلان؟
سميرة معتقلة سياسية سابقة بين 1987 و1991، كانت عضوة في تنظيم شيوعي معارض مثلي. ومذ عام 2000 هي ناشطة ضمن الطيف الديمقراطي السوري. لجأت إلى الغوطة الشرقية التي كانت خارج سيطرة النظام في أيار 2013، وهذا بعد أن صارت مطلوبة للنظام من جديد.
أتطلع إلى العدالة في بلدي وفي العالم، إلى أن يعيش السوريون والبشر حياة كريمة، لا تعذيب فيها ولا إذلال ولا تغيبب. أريد في بلدي وفي العالم سِلماً يقوم على العدل والمساواة. سميرة شريكة لي في ذلك وفي غيابها هي اليوم مصدر إلهام ودافع للاستمرار.
أقاتل من أجل سميرة كقضية مباشرة، ومن أجل سورية. أدرك كذلك أن ما تعاني منه سميرة وسورية هي أوجه لعالم غير عادل ويقل عدلاً وإنسانية. ولذلك أشارك في النضال من أجل التغيير في العالم، وكذلك من أجل تغيير أنفسنا كي نصير مؤهلين للعمل على تغيير العالم.

- كيف التقيت بها؟ ما الذي أوقعك في حبها؟
كان هناك مجتمع معتقلين سياسيين يساريين سابقين في سورية في أوخر التسعينات، مكون من نساء ورجال خرجوا من السجن قبل شهور أو أعوام قليلة. وكانت سميرة، مثلما كنت أنا، جزءاً من هذا المجتمع. التقينا أول مرة عام 1999، وفي عام 2000 بدأت علاقتنا وتزوجنا في أيلول 2002.
إنسانية سميرة وروحها المحبة الكريمة هي ما أوقعني في حبها. سميرة أمرأة نادرة المثال.

السجن
- لماذا يعتقل النظام الناس؟ من التقيت في السجن، وماذا جرى لك في معتقل تدمر؟
كنت عضواً في تنظيم شيوعي معارض يناضل من أجل الديمقراطية. كنا مستقلين عن الاتحاد السوفييتي ومنفتحين على الشيوعية الأوربية في أواخر سبعينات القرن الماضي، وكان اسم إنريكو برلنغوير مألوفاً بيننا.
كنت في السجن بين رفاق لي وبين معتقلين من أحزاب أخرى ومن عموم الناس. كنت شاباً في العشرين، ولم يكن بيننا أشخاص معروفون من قبل. لكن كانت سنوات السجن الستة عشر سيروة تعلم وتغير لي مثلما الثورة والصراع السوري خلال ثماني سنوات.
في تدمر تعرضت للتعذيب، وعشت حياة خوف وجوع مثل رفاقي وزملائي الآخرين. ولحسن الحظ السيء قضيت في معسكر التعذيب ذاك عاماً واحداً فقط.

- ما معنى التعذيب بالنسبة لنظام الأسد؟

للتعذيب هدفان. أولاً إثارة حرب أهلية في داخل كل معتقل بين واجبه في أن يصمد ويحمي رفاقه، وبين نازعه الطبيعي إلى أن يتجنب الألم ويحمي جسده وحياته. دولة الأسديين دولة حرب أهلية داخل الأفراد وداخل المجتمع.
الهدف الثاني هو ترويع المجتمع ككل. عند وجود سجن تعذيب ومقرات أمنية مختصة بالتعذيب يجري فيها تحطيم عد كبير من الأفراد، فإن المقصود أن يبقى من هم خارج السجون مرتاعين مشلولي الإرادة. أي أن الأمر يتعلق بتعذيب المجتمع وليس الأفراد فقط. سورية طوال نصف قرن فضاء استثناء يعيش حالة استثناء مستمرة منذ عام 1963، تحول السوريون في ظلها إلى ما يسميه جيرجيو أغامبين Homo Sacer أناس مباحين للقتل دون أن يكون قتلهم جريمة أو يكون لموتهم قيمة تضحوية. وبالفعل لم يحاسب يوماً أسدي واحد على جرائمه بحق السكان. ثورة السوريين هي بالفعل تمرد عبيد ضد سيد بالغ الوحشية. لقد عشنا لنصف قرن "حياة عارية"، بعبارة أغامبن أيضاً، دون حمايات قانونية ومحرومين من السياسة.

- هل يعذب الأسد الشيوعيين أكثر أم الإسلاميين؟
تعرضنا نحن الشيوعيين لتعذيب وحشي، لكن نال الإسلاميين تعذيب أكثر وحشية بكثير. سقط منا تحت التعذيب عدد محدود، ولم يعدم أحد، بينما قتل تحت التعذيب إسلاميون كثيرون وأعدم الألوف، ولم يكشف مصير كثير منهم إلى اليوم. قبل عامين نصف نشرنا في مجلة الجمهورية الإلكترونية https://www.aljumhuriya.net/ar التي ساهمت في إطلاقها شهادة لمعتقل سابق عند داعش عن جلاد داعشي كان يعذب معتقلاً آخر، ويقول له: هذا ربع ما عانيناه في صيدنايا! صيدنايا هي تدمر بشار الأسد، وصفتها أمنستي إنترناشنال بأنها "مسلخ بشري".

- كيف غيرتك تجربة السجن؟
غيرتني كثيراً، وأردت أن أتغير. كنت شاباً وراغباً في التعلم من زملائي ومن الكتب التي توفرت لنا لحسن الحظ خلال 13 عاماً ونصف من 16 عاماً قضيتها في السجن. في المحصلة كان السجن تجربة انعتاق تحررت فيها من سجون داخلية. كان أيضاً تطعيماً ضد اليأس. كان يمكن لتغييب سميرة أن يكون تجربة محطمة لولا ذلك التطعيم المبكر.

المثقفون ومستقبل سورية
- ما هو دور المنشقين والمثقفين السوريين؟
أعتقد أنهم بمجموعهم أسهموا بإنقاذ كرامة الشعب السوري خلال عقود سوداء قاسية. هذا مهم. لكن هذا لا يجعل من المنشقين معارضة منظمة مؤثرة. ليس هناك معارضات لنظم الجينوسايد المستعدة لقتل مئات الألوف وملايينهم. هناك منشقون فقط. كان أفضل لو التزم المنشقون السوريون بدور المعبرين عن المأساة السورية بدل الضياع على أعتاب قوى إقليمية ودولية كانت دوماً معادية للديمقراطية في منطقتنا البائسة.

- كيف ترى موقف اليسار الغربي بشأن سورية؟
هناك كثير من الأشخاص المحترمين. لكني كنت ولا أزال مصدوماً من موقف الطيف الواسع من اليسار الغربي. يعرفون القليل، ويشعرون بالقليل، ومتعجرفون فوق ذلك، لا يكفون عن إعطاء الدروس بخصوص الموقف الصحيح في القضية السورية. وهم متمركزن حول الغرب، يميلون إلى إلحاق صراعنا من أجل الحق في الحياة والحق في امتلاك بلدنا بصراع ضد الامبريالية، لا يخوضونه فوق ذلك. إنهم امبرياليون بطريقتهم الخاصة.

- هل من مستقبل لسورية مع نظام الأسد؟
بالقطع لا. الدستور الضمني لدولة الأسديين هو توريث الحكم ضد السلالة، بحيث نعيش سياسياً في حاضر أبدي. سورية تعيش منذ نصف قرن في الأبد، وهو ما يعني حرباً مستمرة ضد التغيير وضد المستقبل. شعار: الأسد أو لا أحد أتى من هذه البنية المضادة للتغيير. ومنها أتت الإبادة. بالمناسبة هناك رابط اشتقاقي في العربية بين الأبد وإلابادة. الإبادة هي استمرار للحكم الأبدي بوسائل أخرى، أشد وحشية.